إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قطة شارع لندن

بقلم : سندس بكار

القدر وحده قادني صغيرة جدا إلى هذه الشقّة المعلّقة في الطابق الرابع من بناية متداعية للسقوط شيّدها اليهود سنة 1810 بشارع لندن، تترنّح البناية مثل سكران آخر اللّيل، تتمايل مع هبّة الرّيح، تهتزّ مع كل صوت، تخلخلت أكثر في هذه الأيام الصّعبة من فترة الحجر الصحيّ بسبب صيحات سيارات الإسعاف وزعيق منبّهات الشرطة...

نظرتُ بحذر من الشّرفة متجنّبة استنشاق الهواء، ثبتّ مخالبي الأمامية على الإفريز الحديدي ووقفتُ على رجليّ الخلفيتين واضعة ذيلي بينهما. الشّوارع المحيطة بنا خالية، المباني ساكتة، متحفّزة، نوافذها مغلقة ،لاشيء يوحي بالحياة، وحدها روائح المعقّمات ومواد التنظيف تقتحم أنفي وتستقّرُ في صدري عنوة.

جوّ غريب يخيّم على المدينة، لا طائر يطير ولا سائر يسير، كان ذلك في السّابع من شهر أفريل  2020 زمن الوباء.

صاحبتي خمسينيّة بشعر أشعث نحاسي وعينين فزِعَتين جاحظتين، أنف كبير محشور بين كومتي عظم، تحته مباشرة شفتان رقيقتان منزلقتان نحو الذقن المُسودّ بسبب الشعر النابت فيه، لا تسكت ولا تضمّ فمها إلا لماما، تنام على فترات وتمضي وقتها في حرق السجائر ودفن سنوات عمرها في المرمدة، لم أرها يوما أمام المرآة، تتحاشى النظر إلى وجهها. يزعجني جُبنها.

على كرسي المطبخ تجلس دمية القماش "لولو" رفيقتي في هذا القفص  المعلق في الفراغ. أخبرتها بارتياب واضح والسّخط يتفجر من حلقي : حلم عجيب دكّ عظامي، أريد أن أحدّثك عنه.

لم تُكلّف نفسها عناء النّظر، حشرت رأسها في صدرها ونامت، أصبحت على هذه الحال منذ أصيبت بالزهايمر...

تهدّل صوتي وتجهّم وجهي وارتقيت  الكرسيّ المقابل لها حزينة لفشلي في تحفيز ذاكرتها... انبرى صوت الدّمية بعد أن هبّت واقفة :

- حقّا؟ بالتأكيد! بلهاء ؟ قمر، فارغ!

ثم واصلت بتنهيدة طويلة :أنفاس...

السّاعة تشير الى التاسعة والنّصف صباحا والعقارب تتحرّك ببطء مريب  والسّرير الغارق في الكآبة ساكن. من بعيد لمحتُ كومة تتحرّك تحت الغطاء الثّقيل.

قلت بصوت خفيض : أخيرا ستستيقظ السّيدة سعاد سردينة، أخيرا سنأكل..

انزلق الغطاء وظهر رأس مرتعش فوق بطن مقوّس ثم تدلّتْ رجلان غليظتان تبحثان في هياج بالغ عن "شلاكة" البيت، اصطدم  الإصبع الصغير لقدمها الأيسر فصاحت بسخط وقد انتفخت أوداجها : اللّعنة عليكم أيها الأوغاد الحمقى.. إسهال غزير من الشتائم، توتر وفوضى، اهتزت البناية فزعة و تناثرت رغوة  البصاق في كل مكان.

أوصدتُ حواسي كلّها بسرعة و همست دون أن أحرك شفتيْ : يوم آخر لجنون خريف العمر  وندب الحظ وعواصف الكبت الجنسي.

لملمت صاحبتي أشلاءها وزحفت نحو المطبخ، كل شيء فيها مهدود، وحده لسانها يولول ويؤذي.

دخلت المطبخ فتبعْتُها، فتحتْ الثلاّجة تمتمتْ: قطعة زبدة صغيرة، حبة تفّاح فاسدة، ربع علبة مربّي، نصف علبة سردين.

حدّقتْ دون تركيز وخرج صوتها حادا: ماذا سنأكل أيها الأوغاد الحمقى.

تطاير بُصاقها من بين فجوات أسنانها المخرّبة بسبب الإدمان على شرب القهوة المحلاة أكثر من اللازم بالسكّر وتدخين لفائف التبغ التي تلفّها بنفسها كل يوم، حيث تخصّص في المساء جلسة مزاج : تحضّرُ الورق المناسب وعلبة مستطيلة الشّكل ترصّفُ فيها بعناية لفائفها، تمزجُ في إناء خشبيّ أصنافا من التّبغ بمقادير متوافقة تفركها بأصابعها بمتعة فائقة، تتركها تتخمّرِ ثمّ تبدأ اللّفّ بانتعاش مبالغ فيه وتمرّر لسانها على حافة الورق بشبق غريب، تشتغل بهدوء بفم مطبق وعيون لامعة وقلب راض.

هذا هو وقتها الأثير وفرصتي للجلوس في حجرها في هدوء و سلام  ينفتح قلبي وتتحرك شواربي وأتشارك معها تبغها الصعلوك فأعدّل مزاجي وأمتلئ بهجة، أنتشي لنشوتها وأنشط بعطاسها ،ارتخي والتصق بها فتنهرني بقسوة وتدفعني إلى الأرض وكأنها تستكثر عليّ لحظات سعادة.

سمعتها تخبر أحدهم وهي تحدثه هاتفيا : متعتي حين أنغّصُ عليهم أوقاتهم، فأرغمهم على الاستماع لأحاديثي الفارغة المزعجة، أمسك بهم وأضغط بأظافري فأثبتهم أمامي وأستمتع بمحاولاتهم التخلّص مني، أنفث فيهم بصاقي المسموم وأفرّغ  فيهم  طاقتي  السلبية كلها، أمعن في إيذائهم، يسموني" لصقة" أعرف ذلك، ألتصق بأرواحهم و أنفاسهم وأفعصُ دون شفقة أو رحمة...

فتحتْ الثلاّجة مرّة أخرى، أقحمتْ فيها رأسها، تأملت جيدا، أخرجت رأسها وصعقت الباب بقوة فارتجت الشقة.قلت في نفسي :سيشتكينا اليهود.

أفرغت ما في حلقها من قبيح الكلام، ثم صبّت لنفسها كأس ماء تناولت منه جرعتين وصبّت الباقي على رأسها وراحت تطوف حول نفسها وهي تهذي : أشهر عديدة قضيتها معزولة في هذه الخرابة، عقّمتُ الأثاث والملابس والجدران والنوافذ، عقّمتُ الأواني والأحواض والصنابير، عقّمتُ اللّيالي والنهارات ،مزجتُ ضعفي بقوّتي وصبري بألمي وغيظي بحلمي، تابعت بذهن مشوّش اقتراب العدوّ ونفاذ الذخيرة التي كنت أملؤها من عذاب المحيطين بي، أمتص طاقاتهم وأدمّر نفسياتهم، انأ اليوم معزولة عن متعتي بعيدة عن ضحاياي، سأموت أقولها كل يوم وأنا أتفقد فمي و لساني.

سأموت أقولها وأنا أتذكّر صولاتي وجولاتي في ساحات النضال واجتماعات الرفاق والإخوان...

سكتتْ فجأة، اتكأت على الحائط واستلت لفافة تبغ من العلبة المستطيلة، أشعلتها واشتعلت معها، دخّنت بشراهة وعيناها شاخصتان في سقف المطبخ. مرت الصور أمامها فابتسمت، رأت فمها يقذف آلاف الكلمات يكرّرها، يردّدها يجترّها أمام آلاف العيون والآذان، صخب ثرثرة كلام بلا معنى.. انتكس رأسها وقالت دون وعي : فارغة، تافهة، حاقدة، هل هذه أنا حقا؟

نطقت دمية القماش : حقا؟ بلهاء؟ بالتأكيد، فارغ... ورق

الجوع يعصف بي، يمزق أمعائي، أسرعت لصاحبتي وتمسّحتُ  على أعتابها رافعة ذيلي الطويل الكثيف.

رمقتني دمية القماش بنظرة هازئة وقالت :

 - صنّارتك ألقيت جزافا ،انظري إنها لا تعبأ بشيء، لا تكاد تراك. خمّنتُ أنّ الدمية استرجعت بعض عقلها، فسألتها بخبث :

- هل سنموت جوعا؟

أجابت ساخرة :

- لا تقلقي، ستعمّرُ رأسها وتحكّ جلدها ثم تنقر هاتفها وتنطّ مثل ومضة لهب من حكاية إلى أخرى ومن رفيق إلى صديق ومن منظمة إلى جمعية إلى نقابة وسيسرعون إلينا بالمؤونة اللازمة.

- مرحبا بعلب السردينة وبأكياس الأرز.

ضحكت بتهوّر فاضح

- النقابية الباسلة لا تُغلبُ أبدا.

مرّت خمس ساعات بالتّمام والكمال ونحن نتلمظّ، والسيدة سعاد تمسك هاتفها بيديها وتتحدّث، ترصّف أحزانها وتفرّغ أشجانها وتتسكع في أزقة النميمة القاتمة وتروج القصص وتخترع التأويلات وتنبش الترهات، أطالت الكلام الطائش

الرصين والضاحك الباكي والمالح الحلو، أطالت فأصابني الضجر والتصقت معدتي ورحت أموء مواء أعرف أن صاحبتي تمقته، رفعتُ صوتي تدريجيا..

انتبهت اليّ.. كنتُ واقفة على رأس الكرسيّ بجانب الدمية، أرغت وركلت الكرسي فسقطت فوق الدمية، قفزت وفعصتنا برجليها ثم أمسكتني من ذيلي ولوّحت بي في الهواء، خبطتني على الحائط ثم التقطت الدمية من شعرها ومزّقت بعنف فستانها، ألحقتها بي. نطقت الدمية باكية : جوعانين

اهتز ذقنها بغضب وصاحت : أوه على سعدي، أوه على أيامي، ماناقصني كان همكم، ماتحشموش، أنا مصارني طالعة وأنت تقول لي هات شوية للقطوسة هذا كفويا معاك يا عروسة الشوالق.

ضممتُ الدمية الى صدري وبكل الغبن والظلم والقسوة والمهانة التي أحسستها شكوتها الله وطلبت القصاص. غبت عن الوعي....

استفقت على قرصات موجعة من لولو، فتحت عينيّ. كانت سعاد لصقة، معلّقة من شعرها إلى مسمار صدئ كبير مثبّت على الجدار، سمعتها تخبط برجليها عساها تمس الأرضية، بينما كان لسانها يطول ويتحرّك في كل اتجاه، جاذبا رأسها نحو الأسفل..

فزعتُ وأصابني الهلع، أمسكتُ الدمية، قرّبتها لي ومسّحت على شعرها لأهدأ وأسترجع طاقتي.

تمدّد اللسان الأزرق، لعق بلطف خوفي، ثم أسرّ لي بحنو كبير : اهدئي سأريحكم من عياطها وبصاقها، قرّرتُ أن أنقطع عن العمل معها.

ثم أضاف بمرح طافح : جاء وقت الراحة،

تابعت مندهشة حركة اللسان الأزرق  وانسيابه في اللامكان.

كانت سعاد المسكينة تتخبط محاولة كبح جماحه، قاومت، ناضلت، تصلّب وتمرّد أكثر فأكثر، ظل صاعدا نازلا يقصر ويطول مع كل رفة من عينيها، غلبها لم تعد قادرة على المقاومة، امتص طاقتها، ارتخت ثم استجمعت قواها، تأرجحت، رفعت رجليها، وحركت جسدها،  توجعت جلدة رأسها التهبت، تألمت واهتاجت وسحبت لسانها  دون حذر لكنه استطال والتوى بسرعة حول رجل الطاولة وقلبها فسقط كل شيء رأسا على عقب، تقطّع شعر رأسها وسال دمها وانزلقت مصطدمة بالسطح البارد اللزج، تركتْ نفسها مرمية ولسانها الأزرق يتنطط حولها مبتهجا ممعنا في إغاظتها.

تمنتْ وهي مرمية  في بركة من العرق والدم والبول أن يكون ماحدث مجرّد كابوس، غير أنها لمّا تحسّست فمها، غلبها الذعر واستبد بها اليأس، إنها الحقيقة، ضربت رأسها مرات على السطح الصلب في محاولة لتنشيط عقلها، عزمت على اتخاذ بعض الإجراءات، كان عقلها يدور ويدور.. ارتخت كليا، غابت عن الوعي.

مرّت أربع وعشرون ساعة أو أكثر. الفوضى على حالها، لمحتُها تدعوني، تشيرُ بيديها وتستجديني بعيونها، أشفقتُ عليها و نبتتْ في قلبي أشجار من الندم، وتدفقت من عيوني انهار من الدمع ثم غصّ حلقي بالأسئلة : هل أصابتني العدوى؟ كيف أتخلّص من شرور نفسي؟ كيف أسامح؟

داهمني ضيق شديد، أغمضت عينيْ وهتفت بكل جوارحي :

- يا أرواح القطط السبعة، تعاليْ، خلصيني ،ساعديني..

تردّد صوتي في الأقاصي البعيدة وسمعت أصوات المواء الساحر يستجيب، لملمت شجاعتي وقفزت ،بنطتين صرت قرب اللّسان المندلق، مدّدتُ يدي بحذر، حرّكته من أسفل فانقلب بسرعة وخبطني على رأسي، درتُ من الجانب الآخر وخمشته فتقلّص، أسعدتني النتيجة، تشجعت وواصلت، خمشته،تقلص  خبطني ،خمشته، تقلّص، خبطني بعنف تراجعتُ،. عدّل من استراتيجيته، تواصلت المعركة و تواصل الكرّ والفرّ، تقلص إلى أن  وصل إلى ذقنها. أراحتني النتيجة اقتربتُ لأكمل ما بدأته، نهرني وزمجر في وجهي مهدّدا : تراجعي، لا تخمشيني مرة أخرى وإلا قتلتك، كانت لهجته صارمة فانسحبت مثقلة بالكدمات. سمعته يقول بلهجة حكيم : على قدر كلامك يتمرّد لسانك، لسانك صوانك اذا صنتُو صانك واذا خُنتو خانك، هذه القبيحة المقرفة خانتني واتعبتني، مللتها... أركن الى البطالة، قرّرت.

شعرتُ اني  وحيدة ومنهكة، هربت إلي الشرفة، رميتُ نفسي على دثار من جلد، جعلتُ وجهي وأطرافي للشارع و تركت ظهري للشقة التي تفوح منها روائح بقايا المعركة، نمت نوما عميقا، عندما استيقظت كان الوقت ليلا، لم اكن اعرف أي يوم من الأسبوع كان، بقيت يقظة في مكاني، تذكرت لولو دمية القماش فلا احد يتكهن أفعالها وأقوالها، ناديتها، لم تُجب، قاومتُ رغبتي في النواح، غادرت مكاني الدافئ. دخلت الشقة الباردة وأنا ارتجف رعبا، اصطدمتُ بالدمية وانكفأت فوقها مستفهمة : هل عاد اللسان إلى عمله؟ هل تصالحا؟

صمت..

أضفت بعد ذلك حزينة : مهما يكن من الأمر علينا أن نتقبّل ما نحن فيه

غمغمت الدمية : أنفاس. بالتأكيد، قرار؟

سحبتُ الدمية بلطف وعدت إلى مكاني في الشرفة، نمنا متعانقين في انتظار يوم جديد.

كنا في نوبة من سحر، الشمس ترسل أشعتها المتلألئة بدلال شديد، بهجة صافية تغمر روحي، قلبي ينبض دما جديدا..

عرفتُ في ما بعد أن سعاد تمكّنت من لفّ لسانها بمتعة خالصة مثلما كانت تفعل مع تبغها الصعلوك، رتبتهُ بمهارة فائقة ووضعتْه في تجويف فمها المستطيل...

رأيتها واقفة أمام المرآة تحدث نفسها :

- منذ أغلقت فمي ورتّبتُ لساني داخله، أصبحتُ جميلة جدا، انتفخت خدودي وتورّدت وارتفع ذقني وكشط جلد وجهي ،أما عيناي فما عادتا جاحظتين بل ظهر جمالهما واتساعهما وبانت رموشي السوداء. وبرز فمي وبدا ممتلئا...

قطة شارع لندن

بقلم : سندس بكار

القدر وحده قادني صغيرة جدا إلى هذه الشقّة المعلّقة في الطابق الرابع من بناية متداعية للسقوط شيّدها اليهود سنة 1810 بشارع لندن، تترنّح البناية مثل سكران آخر اللّيل، تتمايل مع هبّة الرّيح، تهتزّ مع كل صوت، تخلخلت أكثر في هذه الأيام الصّعبة من فترة الحجر الصحيّ بسبب صيحات سيارات الإسعاف وزعيق منبّهات الشرطة...

نظرتُ بحذر من الشّرفة متجنّبة استنشاق الهواء، ثبتّ مخالبي الأمامية على الإفريز الحديدي ووقفتُ على رجليّ الخلفيتين واضعة ذيلي بينهما. الشّوارع المحيطة بنا خالية، المباني ساكتة، متحفّزة، نوافذها مغلقة ،لاشيء يوحي بالحياة، وحدها روائح المعقّمات ومواد التنظيف تقتحم أنفي وتستقّرُ في صدري عنوة.

جوّ غريب يخيّم على المدينة، لا طائر يطير ولا سائر يسير، كان ذلك في السّابع من شهر أفريل  2020 زمن الوباء.

صاحبتي خمسينيّة بشعر أشعث نحاسي وعينين فزِعَتين جاحظتين، أنف كبير محشور بين كومتي عظم، تحته مباشرة شفتان رقيقتان منزلقتان نحو الذقن المُسودّ بسبب الشعر النابت فيه، لا تسكت ولا تضمّ فمها إلا لماما، تنام على فترات وتمضي وقتها في حرق السجائر ودفن سنوات عمرها في المرمدة، لم أرها يوما أمام المرآة، تتحاشى النظر إلى وجهها. يزعجني جُبنها.

على كرسي المطبخ تجلس دمية القماش "لولو" رفيقتي في هذا القفص  المعلق في الفراغ. أخبرتها بارتياب واضح والسّخط يتفجر من حلقي : حلم عجيب دكّ عظامي، أريد أن أحدّثك عنه.

لم تُكلّف نفسها عناء النّظر، حشرت رأسها في صدرها ونامت، أصبحت على هذه الحال منذ أصيبت بالزهايمر...

تهدّل صوتي وتجهّم وجهي وارتقيت  الكرسيّ المقابل لها حزينة لفشلي في تحفيز ذاكرتها... انبرى صوت الدّمية بعد أن هبّت واقفة :

- حقّا؟ بالتأكيد! بلهاء ؟ قمر، فارغ!

ثم واصلت بتنهيدة طويلة :أنفاس...

السّاعة تشير الى التاسعة والنّصف صباحا والعقارب تتحرّك ببطء مريب  والسّرير الغارق في الكآبة ساكن. من بعيد لمحتُ كومة تتحرّك تحت الغطاء الثّقيل.

قلت بصوت خفيض : أخيرا ستستيقظ السّيدة سعاد سردينة، أخيرا سنأكل..

انزلق الغطاء وظهر رأس مرتعش فوق بطن مقوّس ثم تدلّتْ رجلان غليظتان تبحثان في هياج بالغ عن "شلاكة" البيت، اصطدم  الإصبع الصغير لقدمها الأيسر فصاحت بسخط وقد انتفخت أوداجها : اللّعنة عليكم أيها الأوغاد الحمقى.. إسهال غزير من الشتائم، توتر وفوضى، اهتزت البناية فزعة و تناثرت رغوة  البصاق في كل مكان.

أوصدتُ حواسي كلّها بسرعة و همست دون أن أحرك شفتيْ : يوم آخر لجنون خريف العمر  وندب الحظ وعواصف الكبت الجنسي.

لملمت صاحبتي أشلاءها وزحفت نحو المطبخ، كل شيء فيها مهدود، وحده لسانها يولول ويؤذي.

دخلت المطبخ فتبعْتُها، فتحتْ الثلاّجة تمتمتْ: قطعة زبدة صغيرة، حبة تفّاح فاسدة، ربع علبة مربّي، نصف علبة سردين.

حدّقتْ دون تركيز وخرج صوتها حادا: ماذا سنأكل أيها الأوغاد الحمقى.

تطاير بُصاقها من بين فجوات أسنانها المخرّبة بسبب الإدمان على شرب القهوة المحلاة أكثر من اللازم بالسكّر وتدخين لفائف التبغ التي تلفّها بنفسها كل يوم، حيث تخصّص في المساء جلسة مزاج : تحضّرُ الورق المناسب وعلبة مستطيلة الشّكل ترصّفُ فيها بعناية لفائفها، تمزجُ في إناء خشبيّ أصنافا من التّبغ بمقادير متوافقة تفركها بأصابعها بمتعة فائقة، تتركها تتخمّرِ ثمّ تبدأ اللّفّ بانتعاش مبالغ فيه وتمرّر لسانها على حافة الورق بشبق غريب، تشتغل بهدوء بفم مطبق وعيون لامعة وقلب راض.

هذا هو وقتها الأثير وفرصتي للجلوس في حجرها في هدوء و سلام  ينفتح قلبي وتتحرك شواربي وأتشارك معها تبغها الصعلوك فأعدّل مزاجي وأمتلئ بهجة، أنتشي لنشوتها وأنشط بعطاسها ،ارتخي والتصق بها فتنهرني بقسوة وتدفعني إلى الأرض وكأنها تستكثر عليّ لحظات سعادة.

سمعتها تخبر أحدهم وهي تحدثه هاتفيا : متعتي حين أنغّصُ عليهم أوقاتهم، فأرغمهم على الاستماع لأحاديثي الفارغة المزعجة، أمسك بهم وأضغط بأظافري فأثبتهم أمامي وأستمتع بمحاولاتهم التخلّص مني، أنفث فيهم بصاقي المسموم وأفرّغ  فيهم  طاقتي  السلبية كلها، أمعن في إيذائهم، يسموني" لصقة" أعرف ذلك، ألتصق بأرواحهم و أنفاسهم وأفعصُ دون شفقة أو رحمة...

فتحتْ الثلاّجة مرّة أخرى، أقحمتْ فيها رأسها، تأملت جيدا، أخرجت رأسها وصعقت الباب بقوة فارتجت الشقة.قلت في نفسي :سيشتكينا اليهود.

أفرغت ما في حلقها من قبيح الكلام، ثم صبّت لنفسها كأس ماء تناولت منه جرعتين وصبّت الباقي على رأسها وراحت تطوف حول نفسها وهي تهذي : أشهر عديدة قضيتها معزولة في هذه الخرابة، عقّمتُ الأثاث والملابس والجدران والنوافذ، عقّمتُ الأواني والأحواض والصنابير، عقّمتُ اللّيالي والنهارات ،مزجتُ ضعفي بقوّتي وصبري بألمي وغيظي بحلمي، تابعت بذهن مشوّش اقتراب العدوّ ونفاذ الذخيرة التي كنت أملؤها من عذاب المحيطين بي، أمتص طاقاتهم وأدمّر نفسياتهم، انأ اليوم معزولة عن متعتي بعيدة عن ضحاياي، سأموت أقولها كل يوم وأنا أتفقد فمي و لساني.

سأموت أقولها وأنا أتذكّر صولاتي وجولاتي في ساحات النضال واجتماعات الرفاق والإخوان...

سكتتْ فجأة، اتكأت على الحائط واستلت لفافة تبغ من العلبة المستطيلة، أشعلتها واشتعلت معها، دخّنت بشراهة وعيناها شاخصتان في سقف المطبخ. مرت الصور أمامها فابتسمت، رأت فمها يقذف آلاف الكلمات يكرّرها، يردّدها يجترّها أمام آلاف العيون والآذان، صخب ثرثرة كلام بلا معنى.. انتكس رأسها وقالت دون وعي : فارغة، تافهة، حاقدة، هل هذه أنا حقا؟

نطقت دمية القماش : حقا؟ بلهاء؟ بالتأكيد، فارغ... ورق

الجوع يعصف بي، يمزق أمعائي، أسرعت لصاحبتي وتمسّحتُ  على أعتابها رافعة ذيلي الطويل الكثيف.

رمقتني دمية القماش بنظرة هازئة وقالت :

 - صنّارتك ألقيت جزافا ،انظري إنها لا تعبأ بشيء، لا تكاد تراك. خمّنتُ أنّ الدمية استرجعت بعض عقلها، فسألتها بخبث :

- هل سنموت جوعا؟

أجابت ساخرة :

- لا تقلقي، ستعمّرُ رأسها وتحكّ جلدها ثم تنقر هاتفها وتنطّ مثل ومضة لهب من حكاية إلى أخرى ومن رفيق إلى صديق ومن منظمة إلى جمعية إلى نقابة وسيسرعون إلينا بالمؤونة اللازمة.

- مرحبا بعلب السردينة وبأكياس الأرز.

ضحكت بتهوّر فاضح

- النقابية الباسلة لا تُغلبُ أبدا.

مرّت خمس ساعات بالتّمام والكمال ونحن نتلمظّ، والسيدة سعاد تمسك هاتفها بيديها وتتحدّث، ترصّف أحزانها وتفرّغ أشجانها وتتسكع في أزقة النميمة القاتمة وتروج القصص وتخترع التأويلات وتنبش الترهات، أطالت الكلام الطائش

الرصين والضاحك الباكي والمالح الحلو، أطالت فأصابني الضجر والتصقت معدتي ورحت أموء مواء أعرف أن صاحبتي تمقته، رفعتُ صوتي تدريجيا..

انتبهت اليّ.. كنتُ واقفة على رأس الكرسيّ بجانب الدمية، أرغت وركلت الكرسي فسقطت فوق الدمية، قفزت وفعصتنا برجليها ثم أمسكتني من ذيلي ولوّحت بي في الهواء، خبطتني على الحائط ثم التقطت الدمية من شعرها ومزّقت بعنف فستانها، ألحقتها بي. نطقت الدمية باكية : جوعانين

اهتز ذقنها بغضب وصاحت : أوه على سعدي، أوه على أيامي، ماناقصني كان همكم، ماتحشموش، أنا مصارني طالعة وأنت تقول لي هات شوية للقطوسة هذا كفويا معاك يا عروسة الشوالق.

ضممتُ الدمية الى صدري وبكل الغبن والظلم والقسوة والمهانة التي أحسستها شكوتها الله وطلبت القصاص. غبت عن الوعي....

استفقت على قرصات موجعة من لولو، فتحت عينيّ. كانت سعاد لصقة، معلّقة من شعرها إلى مسمار صدئ كبير مثبّت على الجدار، سمعتها تخبط برجليها عساها تمس الأرضية، بينما كان لسانها يطول ويتحرّك في كل اتجاه، جاذبا رأسها نحو الأسفل..

فزعتُ وأصابني الهلع، أمسكتُ الدمية، قرّبتها لي ومسّحت على شعرها لأهدأ وأسترجع طاقتي.

تمدّد اللسان الأزرق، لعق بلطف خوفي، ثم أسرّ لي بحنو كبير : اهدئي سأريحكم من عياطها وبصاقها، قرّرتُ أن أنقطع عن العمل معها.

ثم أضاف بمرح طافح : جاء وقت الراحة،

تابعت مندهشة حركة اللسان الأزرق  وانسيابه في اللامكان.

كانت سعاد المسكينة تتخبط محاولة كبح جماحه، قاومت، ناضلت، تصلّب وتمرّد أكثر فأكثر، ظل صاعدا نازلا يقصر ويطول مع كل رفة من عينيها، غلبها لم تعد قادرة على المقاومة، امتص طاقتها، ارتخت ثم استجمعت قواها، تأرجحت، رفعت رجليها، وحركت جسدها،  توجعت جلدة رأسها التهبت، تألمت واهتاجت وسحبت لسانها  دون حذر لكنه استطال والتوى بسرعة حول رجل الطاولة وقلبها فسقط كل شيء رأسا على عقب، تقطّع شعر رأسها وسال دمها وانزلقت مصطدمة بالسطح البارد اللزج، تركتْ نفسها مرمية ولسانها الأزرق يتنطط حولها مبتهجا ممعنا في إغاظتها.

تمنتْ وهي مرمية  في بركة من العرق والدم والبول أن يكون ماحدث مجرّد كابوس، غير أنها لمّا تحسّست فمها، غلبها الذعر واستبد بها اليأس، إنها الحقيقة، ضربت رأسها مرات على السطح الصلب في محاولة لتنشيط عقلها، عزمت على اتخاذ بعض الإجراءات، كان عقلها يدور ويدور.. ارتخت كليا، غابت عن الوعي.

مرّت أربع وعشرون ساعة أو أكثر. الفوضى على حالها، لمحتُها تدعوني، تشيرُ بيديها وتستجديني بعيونها، أشفقتُ عليها و نبتتْ في قلبي أشجار من الندم، وتدفقت من عيوني انهار من الدمع ثم غصّ حلقي بالأسئلة : هل أصابتني العدوى؟ كيف أتخلّص من شرور نفسي؟ كيف أسامح؟

داهمني ضيق شديد، أغمضت عينيْ وهتفت بكل جوارحي :

- يا أرواح القطط السبعة، تعاليْ، خلصيني ،ساعديني..

تردّد صوتي في الأقاصي البعيدة وسمعت أصوات المواء الساحر يستجيب، لملمت شجاعتي وقفزت ،بنطتين صرت قرب اللّسان المندلق، مدّدتُ يدي بحذر، حرّكته من أسفل فانقلب بسرعة وخبطني على رأسي، درتُ من الجانب الآخر وخمشته فتقلّص، أسعدتني النتيجة، تشجعت وواصلت، خمشته،تقلص  خبطني ،خمشته، تقلّص، خبطني بعنف تراجعتُ،. عدّل من استراتيجيته، تواصلت المعركة و تواصل الكرّ والفرّ، تقلص إلى أن  وصل إلى ذقنها. أراحتني النتيجة اقتربتُ لأكمل ما بدأته، نهرني وزمجر في وجهي مهدّدا : تراجعي، لا تخمشيني مرة أخرى وإلا قتلتك، كانت لهجته صارمة فانسحبت مثقلة بالكدمات. سمعته يقول بلهجة حكيم : على قدر كلامك يتمرّد لسانك، لسانك صوانك اذا صنتُو صانك واذا خُنتو خانك، هذه القبيحة المقرفة خانتني واتعبتني، مللتها... أركن الى البطالة، قرّرت.

شعرتُ اني  وحيدة ومنهكة، هربت إلي الشرفة، رميتُ نفسي على دثار من جلد، جعلتُ وجهي وأطرافي للشارع و تركت ظهري للشقة التي تفوح منها روائح بقايا المعركة، نمت نوما عميقا، عندما استيقظت كان الوقت ليلا، لم اكن اعرف أي يوم من الأسبوع كان، بقيت يقظة في مكاني، تذكرت لولو دمية القماش فلا احد يتكهن أفعالها وأقوالها، ناديتها، لم تُجب، قاومتُ رغبتي في النواح، غادرت مكاني الدافئ. دخلت الشقة الباردة وأنا ارتجف رعبا، اصطدمتُ بالدمية وانكفأت فوقها مستفهمة : هل عاد اللسان إلى عمله؟ هل تصالحا؟

صمت..

أضفت بعد ذلك حزينة : مهما يكن من الأمر علينا أن نتقبّل ما نحن فيه

غمغمت الدمية : أنفاس. بالتأكيد، قرار؟

سحبتُ الدمية بلطف وعدت إلى مكاني في الشرفة، نمنا متعانقين في انتظار يوم جديد.

كنا في نوبة من سحر، الشمس ترسل أشعتها المتلألئة بدلال شديد، بهجة صافية تغمر روحي، قلبي ينبض دما جديدا..

عرفتُ في ما بعد أن سعاد تمكّنت من لفّ لسانها بمتعة خالصة مثلما كانت تفعل مع تبغها الصعلوك، رتبتهُ بمهارة فائقة ووضعتْه في تجويف فمها المستطيل...

رأيتها واقفة أمام المرآة تحدث نفسها :

- منذ أغلقت فمي ورتّبتُ لساني داخله، أصبحتُ جميلة جدا، انتفخت خدودي وتورّدت وارتفع ذقني وكشط جلد وجهي ،أما عيناي فما عادتا جاحظتين بل ظهر جمالهما واتساعهما وبانت رموشي السوداء. وبرز فمي وبدا ممتلئا...

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews