بقلم: سندس بكار *
- ابكوا، انتحبوا، تباعدوا...
زعق رجل ضخمٌ بزيّ شبيه الى حدّ بعيد ببدلة رائد فضاء. رافعا يديه الى السماء، فارتجت كل الزوايا السّاكتة بمقبرة "الجناح الأخضر" ¹
سيارة إسعاف بيضاء تجشأت ما فيها بعد ان اجتازت الباب المهترئ والساحة الخالية الاّ من بعض أعوان الدفن...
من بعيد، انبعث صوت مرتجف مكبّرا،محوقلا...
كنّا أربعة خامسنا كيس أسود كبير
صفاء البنت ألكبري لعمي سالم، وقفت بجانب سيّارتها، أحنت رأسها وقوّست ظهرها ثم غرزت أظافرها في ركبتيها و راحت تخبط بكلتا كفيها، تفتح فمها وتغلقه دون أن أسمع لها صوتا، الضربات على فخذيها، على صدرها، على وجهها، تتسع وتعلو، تكسّر الصّمت، عيناها تخرج من وجهها مع كل لطمة، بينما ظَل صوتها غائبا شاحبا...
أحمد الابن الأكبر لعمي الناصر ،كان يلبس كسوة سوداء وقميصا أبيض وربطة عنق خضراء، مستندا الى شجرة الصنوبر العجوز والهاتف الجوال بيده، يهمس وأسمع كل ما يقوله، إنه ينقل مراسم ما قبل الدفن للغائبين عن الجنازة، ويصف بدقة طقوس العزل المسلط علينا ويتأفف...
كل حواسي متحفّزة في أول يوم من شهر رمضان الموافق للرابع عشر من أفريل 2021. لم أخبر أحدا أن عمتي ماتت بالكورونا..
اقترب منّي أحمد بخطوات واسعة ومدّ لي من بعيد هاتفه، رفعت كفّي في وجهه، وملت بظهري الى الوراء، فهم، تراجع ثلاث خطوات وواصل النّقل المباشر... ملامحه باردة، عيناه شاخصتان، وشفتاه يابستان تقرضان الكلام قرضا...
الرّجل الضخم المغلّف بزيّ رائد فضاء يقترب مرتعشا من الكيس الأسود الكبير وعلى ظهره آلة خضراء بمرشّ طويل أسود، يد تحرّك المقبض والأخرى تعقّم التّراب والأشجار و الأشياء والبشر.
سمعتُ صوت عمتي يخرج من داخل الكيس الأسود الكبير، يسأل بحشرجة خادشة :
- لماذا جئتم لتوديعي؟ لا أستحق ما تفعلونه من أجلي
قلتُ منتفضة :
- أنت ميّتة، لا تجادلي
- أنا ميّتة من خمسين سنة
- اسكتي
- لن أسكت، سأتكلم، ضقتُ بالصمت.
- كان عليك أن تتكلّمي من زمن طويل، الآن فات الأوان.
- أحببته، كان شامخا مثل شجرة سرو، مقرمشا كحبة لوز، لذيذا شبه مشمشة، تفوح من خلاياه رائحة تنفث الى قلبي وتبلل جسدي، حين يمر أمام بيتنا تنخطف روحي فأخرج الى السقيفة وأطل عليه من ثقب الباب.
- كفى، لا أريد أن أعرف، سجنتِ نفسك في هذا الحب.اخترت العيش في قبو الخوف
- لا أحد يرى المشاعر التي تجعلنا ما نحن عليه، لا نلمسها ولكنّنا نصدّق وجودها حتى لو كنّا لا نُصدّق وأنا صدقته وسلّمته روحي وقلبي، خانني وتركني.. اختنقت
- الحياة فتحت لك بابها أكثر من مرّة وأنت قابلتها بالرفض والصد أقمت في السقيفة تنظرين من ثقب الباب.
- كان لي الكون كلّه، هو فقط سبب وجودي، هو ضربات قلبي، وهو الضربة التي قضت عليّ، عندما حملت منه انتظرت خطوته لنكوّن عائلة، لكنّه تركني وتزوّج...
- الحياة لا تتوقّف على أحد، لو أردت لفتحت الباب وخرجت. لماذا قبعت تتلذّذين الموت؟
تنهدت.
- لا تعرفين الجُرم الذي اقترفته، لن أسامح نفسي...
- لا معنى للمسامحة الان، استريحي. حلّقي.
- لم أعد خائفة، جاء وقت الحفر، مللت اجترار قصّتي...
- خمسون سنة من مضغ علكة الأشواك وتجرّع النزيف ، حملت عذابك فوق ظهرك مثل سلحفاة، ثقيل جدا هذا الحزن.
- فرّطتُ في ولدي، نزعته مثلما انتزعني أبوه من الحياة ، تعبت، متّ، أخبرتك...
- لو أنّك فتحت قلبك وعينيك وضممت ذاك الطفل بكل حب لنجوت من قبضة اللاشيء.
تشهق بمرارة :
- ليس لنا نصيب.
فجأة، يندفع الرجل الضخم بزيه الأبيض، يشق الكيس الأسود الكبير، الملقى في جوف صندوق خشبي بارد. يمزّق بعنف ذاك الزّي الذي يختفي فيه، يُخرج الجثّة يلتهمها بعينيه ، يحضنها بقلبه ، يدسّ أنفه في رقبتها، يتشمّمها، يقبّلها ويجهش بالدمع متمتما ساخطا :
- عزلة، منفى، موت، سامحيني ، سمعت ما يكفي حبيبتي.
- ابحث عن الحقيقة لنفسكَ، همستْ
- قضيتُ حياتي بين القبور، أخطو فوق الشواهد هاربا من حقيقتي، الموت هو الضوء الوحيد الذي قِستُ به حياتي كلّها. تجنّبُ كلّ ما هو مزعج جعلني ميّتا.
- قتلتني
- خُذيني اليك...
صمت كبير يلفّ مقبرة "الجناح الأخضر"
التحم الجسدان وطارت غيمتان.
أومأتُ لصفاء و لأحمد ، تبادلنا ما يكفي من نظرات الحزن،ثم أخذ كل منّا طريقه، غمغمت من تحت الكمامة التي تغطي نصف وجهي :
- الموت يمنحنا الإذن لأن نعيش
جاءني صوت من بعيد :
- سنعيش
* شاعرة وقاصة
بقلم: سندس بكار *
- ابكوا، انتحبوا، تباعدوا...
زعق رجل ضخمٌ بزيّ شبيه الى حدّ بعيد ببدلة رائد فضاء. رافعا يديه الى السماء، فارتجت كل الزوايا السّاكتة بمقبرة "الجناح الأخضر" ¹
سيارة إسعاف بيضاء تجشأت ما فيها بعد ان اجتازت الباب المهترئ والساحة الخالية الاّ من بعض أعوان الدفن...
من بعيد، انبعث صوت مرتجف مكبّرا،محوقلا...
كنّا أربعة خامسنا كيس أسود كبير
صفاء البنت ألكبري لعمي سالم، وقفت بجانب سيّارتها، أحنت رأسها وقوّست ظهرها ثم غرزت أظافرها في ركبتيها و راحت تخبط بكلتا كفيها، تفتح فمها وتغلقه دون أن أسمع لها صوتا، الضربات على فخذيها، على صدرها، على وجهها، تتسع وتعلو، تكسّر الصّمت، عيناها تخرج من وجهها مع كل لطمة، بينما ظَل صوتها غائبا شاحبا...
أحمد الابن الأكبر لعمي الناصر ،كان يلبس كسوة سوداء وقميصا أبيض وربطة عنق خضراء، مستندا الى شجرة الصنوبر العجوز والهاتف الجوال بيده، يهمس وأسمع كل ما يقوله، إنه ينقل مراسم ما قبل الدفن للغائبين عن الجنازة، ويصف بدقة طقوس العزل المسلط علينا ويتأفف...
كل حواسي متحفّزة في أول يوم من شهر رمضان الموافق للرابع عشر من أفريل 2021. لم أخبر أحدا أن عمتي ماتت بالكورونا..
اقترب منّي أحمد بخطوات واسعة ومدّ لي من بعيد هاتفه، رفعت كفّي في وجهه، وملت بظهري الى الوراء، فهم، تراجع ثلاث خطوات وواصل النّقل المباشر... ملامحه باردة، عيناه شاخصتان، وشفتاه يابستان تقرضان الكلام قرضا...
الرّجل الضخم المغلّف بزيّ رائد فضاء يقترب مرتعشا من الكيس الأسود الكبير وعلى ظهره آلة خضراء بمرشّ طويل أسود، يد تحرّك المقبض والأخرى تعقّم التّراب والأشجار و الأشياء والبشر.
سمعتُ صوت عمتي يخرج من داخل الكيس الأسود الكبير، يسأل بحشرجة خادشة :
- لماذا جئتم لتوديعي؟ لا أستحق ما تفعلونه من أجلي
قلتُ منتفضة :
- أنت ميّتة، لا تجادلي
- أنا ميّتة من خمسين سنة
- اسكتي
- لن أسكت، سأتكلم، ضقتُ بالصمت.
- كان عليك أن تتكلّمي من زمن طويل، الآن فات الأوان.
- أحببته، كان شامخا مثل شجرة سرو، مقرمشا كحبة لوز، لذيذا شبه مشمشة، تفوح من خلاياه رائحة تنفث الى قلبي وتبلل جسدي، حين يمر أمام بيتنا تنخطف روحي فأخرج الى السقيفة وأطل عليه من ثقب الباب.
- كفى، لا أريد أن أعرف، سجنتِ نفسك في هذا الحب.اخترت العيش في قبو الخوف
- لا أحد يرى المشاعر التي تجعلنا ما نحن عليه، لا نلمسها ولكنّنا نصدّق وجودها حتى لو كنّا لا نُصدّق وأنا صدقته وسلّمته روحي وقلبي، خانني وتركني.. اختنقت
- الحياة فتحت لك بابها أكثر من مرّة وأنت قابلتها بالرفض والصد أقمت في السقيفة تنظرين من ثقب الباب.
- كان لي الكون كلّه، هو فقط سبب وجودي، هو ضربات قلبي، وهو الضربة التي قضت عليّ، عندما حملت منه انتظرت خطوته لنكوّن عائلة، لكنّه تركني وتزوّج...
- الحياة لا تتوقّف على أحد، لو أردت لفتحت الباب وخرجت. لماذا قبعت تتلذّذين الموت؟
تنهدت.
- لا تعرفين الجُرم الذي اقترفته، لن أسامح نفسي...
- لا معنى للمسامحة الان، استريحي. حلّقي.
- لم أعد خائفة، جاء وقت الحفر، مللت اجترار قصّتي...
- خمسون سنة من مضغ علكة الأشواك وتجرّع النزيف ، حملت عذابك فوق ظهرك مثل سلحفاة، ثقيل جدا هذا الحزن.
- فرّطتُ في ولدي، نزعته مثلما انتزعني أبوه من الحياة ، تعبت، متّ، أخبرتك...
- لو أنّك فتحت قلبك وعينيك وضممت ذاك الطفل بكل حب لنجوت من قبضة اللاشيء.
تشهق بمرارة :
- ليس لنا نصيب.
فجأة، يندفع الرجل الضخم بزيه الأبيض، يشق الكيس الأسود الكبير، الملقى في جوف صندوق خشبي بارد. يمزّق بعنف ذاك الزّي الذي يختفي فيه، يُخرج الجثّة يلتهمها بعينيه ، يحضنها بقلبه ، يدسّ أنفه في رقبتها، يتشمّمها، يقبّلها ويجهش بالدمع متمتما ساخطا :
- عزلة، منفى، موت، سامحيني ، سمعت ما يكفي حبيبتي.
- ابحث عن الحقيقة لنفسكَ، همستْ
- قضيتُ حياتي بين القبور، أخطو فوق الشواهد هاربا من حقيقتي، الموت هو الضوء الوحيد الذي قِستُ به حياتي كلّها. تجنّبُ كلّ ما هو مزعج جعلني ميّتا.
- قتلتني
- خُذيني اليك...
صمت كبير يلفّ مقبرة "الجناح الأخضر"
التحم الجسدان وطارت غيمتان.
أومأتُ لصفاء و لأحمد ، تبادلنا ما يكفي من نظرات الحزن،ثم أخذ كل منّا طريقه، غمغمت من تحت الكمامة التي تغطي نصف وجهي :
- الموت يمنحنا الإذن لأن نعيش
جاءني صوت من بعيد :
- سنعيش
* شاعرة وقاصة