بقلم:أحمد الجديدي(*)
*اليسار التونسي لم يستطع فهم واقعه أو تحيين بوصلته ومتطلبات الواقع الراهن
يبدو أنه بعد أكثر من عقد على الدينامية الثورية للانتفاضة ما تزال الحالة السياسية في تونس عصية على اكتمال وعي الإصلاح السياسي بما هو التغيير العميق في سياسة نظام الدولة ، متمنعة عن كل نقدٍ ذاتي أو الوقوف على تعثرات وأخطاء التعامل مع المرحلة، الشيء الذي أدى بدوره الى الوصول بنا اليوم نحو وجهة سياسية غير معلومة وحالة انسداد لكل أفق تغييري أو إصلاحي والمراوحة بين خطابات التصعيد والوعيد والتهديد من كل الأطراف التي من واجبها ومفروض عليها إيجاد تصور تقدمي للبلاد يخرجها من تفتتها الاجتماعي والاقتصادي المستمر، حالة سياسية بقيَ تصورها رهين الحلول الكلاسيكية والمقترحات المعتادة، حيث تقدم بدائل "الحوار الوطني" أو "التوافق الوطني" في كل تعقيد أو اختلاف يسود بين مختلف متصدري المشهد.
وعلى خلاف المشهد الديمقراطي الموضوعي الذي يستوعب الجدل والاختلاف السياسي بين السلطة والمعارضة على قاعدة برامج الإصلاح السياسي والاقتصادي وحماية الأمن الاجتماعي فإن المشهد التونسي يأتي بعجِيبه وتفرده في هذا المسار وخلافاً لحضور البرامج والتصورات والرؤى تحضر الشتائم والاتهامات من جميع الأطراف.
سريالية المشهد التونسي لامست العبثية بين سلطة تبحث لنفسها عن مبررات لطريقة حكمها باتهامها كل من يخالفها الرأي أنه متسبب في كل مشاكلها، معرقلاً لها، متأمراً عليها، ومعارضات تتحدث عن التغيير على قاعدة إرجاع من فشل في قيادة البلاد طيلة عقد من الزمن، نفس من فشل في الأمس يقدم اليوم نفسه كبديلٍ لمرحلة التأزم التي تعيشها تونس.
مشهد جعل من الشباب التونسي يتراجع عن المشاركة الفعالة في الفعل السياسي، تمكنت منه الخيبة و الإحباط بعد انتظارات وآمال كبيرة. لقد تكونت قناعة محتومة كوعي مجتمعي أن المشهد السياسي ومساحاته في كل الاتجاهات محكوماً من قبل دوائر صادرت هذا الحق المجتمعي وحولته إلى ملكية خاصة خارج التصور الديمقراطي والإيمان العميق بالانتخابات والتعددية والتنوع والمشاركة الجماعية في الشأن العام ، مشهد أوصدت أبوابه على طموحات الشباب التونسي، محكوم من أصحاب المصالح وبارونات وعائلات نافذة وتكتلات سياسية تدور في فلك دوائر صنع القرار والتحكم بالموازنات السياسية ، والبحث الدائم عن تموقعات جديدة للحفاظ على مصالحها.
نفس السياسات لم تتغير،أجهزة تمارس العملية السياسة عمودياً مستندة في ذلك على من قدم نفسه تحت الطلب أو "المقاولات السياسية" توكل لهم مهام صناعة الوعي الزائف ومطلوب منهم على الدوام تقديم، التقارير والتقييمات والمعلومات والتحركات والخلفيات...
هؤلاء يجتمعون حول تقييم المشهد يصفونه بالصعب والمتأزم لكن لا يستطيعون تغييره أو تقديم بدائلهم، ما يحيلنا أن المفهوم الديمقراطي ظل غائب في الذهنية السياسية وأن نتائج التوافقات والانتخابات ورسم الحكومات وسياسات الدولة معروفة مسبقاً، لنجد أنفسنا مجدداً في نقطة البداية وهي أن النظام لم يتغير بل غير فقط من لاعبيه وأدخل تشكيلة أكثر شراسة بنعومة زائدة ومنمقة في القول وممارسة موجعة في الفعل.
وإذا ما تحدثنا عن دور المساحات الفعالة في النقد وتقديم البدائل والتفكير في الحاضر ورسم المستقبل، نجد أن المساحات الديمقراطية هي نفسها تحت الحصار والتدجين، إما بالبيروقراطية أو الإنتهازية أو الوصولية، فالحركة الشبابية لم تقدم أكثر من ما أفرزته في سياق الحركتين التلمذية والطلابية وحتى العمالية أو الشعبية انتهت في أغلب الأحيان بالقمع وإسالة الدماء والتشويه أو بالمهادنة والمساومة وعقد صفقات وتفاهمات من شأنها أن تخمد الحركة وتقتلها لتعيدها من جديد نحو المراكمة أو الوقوف تمنياً لحدوث معجزة.
واقع متعفن تحكمه عقيدة التآمر والبحث الدائم عن من يقود "الأطراح " حتى المعارضة الموهومة لم تقدم شيء من المنظور السياسي تدافع دائماً عن نفسها عوض الدفاع العام عن الشعب والمجتمع، تنصب نفسها مشرعاً ومانحاً لصكوك النضال والثورية، تتبنى بدورها منطق الاقصاء والاحتكار وحيازة المساحات الفعالة عبر شعاراتها الجوفاء التي ترفعها دون أية مضامين نضالية أو امتداد شعبي وزخم ميداني.
الغريب في كل هذا أنها تتبنى منطق التعددية والديمقراطية وأحزابها تشرع للدكتاتورية في مساحات يجدر بها ان تكون نواة الذهنية الديمقراطية ، إنه قمع من نوع اخر يراد به التزعم ومصادرة حق التفكير وفرض منطق التبعية والاصطفاف ضمن الطوابير المعتادة بعيداً عن الإبداع و إبداء النقد، وهذا ما نسميه محاربة الرأي الاخر وقتل الرأي الحر أو الرأي الجدلي .
حتى اليسار التونسي لم يستطع فهم واقعه أو تحيين بوصلته ومتطلبات الواقع الراهن، يسار يحتج، يتحدث ويجادل حول كل المسائل والقضايا إلا قضاياه والمهام الموكلة على عاتقه والمطروحة أمامه، تأسس في أسوار الجامعة التونسية وظل سجينها تحكمه واقعية الخلاف والتخوين حول مواضيع يكسوها التجريد ويدك مضجعها الوهم ويغوص جوهرها العبث، يغوص في جميع المسائل والمفاهيم والتفاصيل لكن دون التأسيس لذهنية التشارك والفعل الميداني كترجمة لتعبيرة سياسية واعية،أغلبية أطراف هذا اليسار انتهى بها الامر نحو الانحراف السياسي نظراً لاقتصار الدور داخل الحركة الطلابية وعدم وجود همزة وصل مع واقع الحركة العمالية والديمقراطية عموماً.
فالمهام الموكولة على عاتق الفاعلية السياسية للأحزاب التقدمية والديمقراطية بشكل عام هي التأطير والتكوين السياسي المستمر للشباب وترسيخ الروح النضالية لديهم وإنقاذهم من التهاوي داخل المستنقعات الفكرية الظلامية أو الانحراف نحو الجريمة وتعاطي المخدرات.
واقع شبابنا ظل يراوح بين خيارين إثنين وثالث تتحمله القلة القليلة منا؛ إما الانزلاق والانحراف السياسي أو السقوط في مستودعات الفكر الرجعي المتخلف بشتى تصوراته السياسية و الدينية، حيث يشرع لليأس والتطرف وزرع روح النقمة عوضاً عن روح الإبداع. وإما الانحراف الإجرامي الشبابي والانقطاع المبكر عن مقاعد الدراسة حيث يصاب شبابنا بحالة "تفكير قلقي"، ينتابه القلق الدائم وتصاب ملكاته الفكرية بالضمور وتنحصر داخل فكرة الهروب من وطنه التي ارتسمت في مخيلته "كجحيم".
أما الخيار الثالث فهو خيار المقاومة والنضال المستمر ضد الإقصاء والشطب والملاحقات بسبب النقد وفرض منطق التعددية والقطع الجذري مع ممارسات الواقع وسياساته، سواء في سلطته أو معارضاتها ،هو خيار رفع الحصار عن المساحات المصادرة وتحريرها لتكون فضاءات خلق وإبداع للشباب التونسي، هو الخيار الوحيد الذي بإمكانه كسر حالة اليأس والإحباط وإعادة رسم صورة وطن مغايرة لتلك الصورة التي تمكنت من عقول التونسيين.
*باحث وناشط في المجتمع المدني
