تباينت المواقف حول ردود أفعال الهياكل المهنية والقطاعية وغيرها من الهيئات الدستورية والمنظمات الوطنية والدولية إضافة إلى المجتمع المدني والسياسيين والمجتمع الدولي حيال عمليات إعفاء قضاة من مهامهم من قبل سلطة الإشراف في حكومات ما بعد 2011. يأتي ذلك بعد التحركات والتنديدات الواسعة والتصعيد الذي شهدته تونس مؤخرا بعد قرار رئيس الجمهورية في بداية الشهر الجاري، القاضي بإعفاء 57 قاضيا في إطار سياسته لمواصلة مكافحة الفساد والمراهنة على القضاء كأداة وآلية مثلى لتنفيذ الإصلاحات الشاملة مثلما أعلن عن ذلك بقوله "قضاء مستقل خير من ألف دستور"، لتتبع عملية هذه الإقالة هبّة عديد الجهات على مستويين وطني ودولي في تفاعل مع هذا القرار بشكل غير مسبوق، رغم أنه ليس الأول الذي يتم فيه إعفاء قضاة.
القراءات والتأويلات اختلفت على نحو وسع وأثارت الجدل ليخرج في كثير من الأحيان عن سياقه حول مدى قانونية مسألتي آلية الإعفاء وإضراب القضاة عن العمل وتداعيات ذلك اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، ليأخذ الأمر منحى سياسيا بالأساس ويتحول إلى أداة توظيف في الصراع السياسي القائم اليوم بين المعارضين لمسار ما بعد 25 جويلية من ناحية ورئاسة الجمهورية والداعمين لما يعتبرونه مسارا إصلاحيا للتأسيس لجمهورية جديدة.
ويذكر أنه في سنتي 2011 و2012 سجل سلك القضاء "هزات" حاسمة تحت عنوان مقاومة الفساد وتطهير وتنقية مرفق العدالة من الفاسدين، نتج عن الأولى مباشرة بعد سقوط منظومة الراحل زين العابدين بن علي، إعفاء 6 قضاة في حكومة الباجي قائد السبسي وكان وزير العدل آنذاك لزهر القروي الشابي ورئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع، ليمر القرار وسط ترحيب وتهليل من قبل البعض دون تسجيل ردود أفعال رافضة أو منتقدة تذكر، ليسجل المنعرج الثاني سنة 2012 بعد إعفاء 82 قاضيا، بعد مباشرة الحكومة إثر الانتخابات التشريعية الأولى التي أسفرت عن فوز حركة النهضة بأغلبية المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي، وذلك من قبل وزير العدل والقيادي في نفس الحزب نورالدين البحيري. وهو قرار وضعه في سياق خطة وزارة العدل لإصلاح القضاء وتطهيره من الفساد. وأكد في نفس السياق في تصريح في برنامج بإحدى القنوات التلفزية الخاصة أن "قرار الإعفاء ذلك كان عن دراية وبعلم جمعية القضاة التونسيين وأن عملية التقصي وجمع الملفات دامت أربعة أشهر بعد أبحاث مستفيضة".
وبالعودة إلى رصد ردود الأفعال في التفاعل مع ذلك القرار، نجد أن جمعية القضاة التونسيين ممثلة في رئيستها كلثوم كنو، اكتفت باستنكار توقيت الإعلان عن ذلك الإجراء "في حين كان من الممكن انتظار تشكيل الهيئة الوقتية للقضاء لتقوم بهذه المهمة"، وفق ما كانت صرحت به حول المسألة، وتعبيرها عن خشيتها من الحياد بمسار الجهود الرامية إلى ضمان استقلالية القضاء.
كما تناقل موقف رئيسة النقابة التونسية للقضاة آنذاك روضة العبيدي، قولها "إن آلية الإعفاء لا تخول فتح ملفات الفساد لمن خالف القانون، كما لا تخول لمن تم إعفاؤه من مهامه من الدفاع عن نفسه مثل أي مواطن تنسب له أفعال مخالفة للقانون".
ولم تخرج مواقف وردود أفعال الجهات المدنية والسياسية عن التنديد والاستنكار والتهديد بتنفيذ إضراب، ليتخذ الأمر مجراه بعد أن اعتبره البعض خطوة أولى في سياسة حركة النهضة لتركيع القضاء والضغط على أهل هذه المهنة وضرب استقلاليته وتوظيفه لخدمة أجنداتها وضرب خصومها و"ترويضهم في مربع الطاعة" والتحكم في أجهزة الدولة. لتصبح بعد تلك المرحلة عبارة "قضاء البحيري" متداولة في العلن وليس داخل أوساط سلك القضاء ومرفق العدالة بمختلف اختصاصاته وهياكله فقط، خاصة بعد مسك النهضة بزمام منظومة الحكم خلال السنوات العشر الماضية.
تكذيب
وتداولت بعض الجهات ما أكده نورالدين البحيري وزير العدل السابق، كون جمعية القضاة على علم ودراية بقرار إعفائه للقضاة، فيما كذب أنس الحمادي رئيس جمعية القضاة، مؤخرا البحيري حول تورط الجمعية في تقديم قائمات اسمية بالقضاة لوزراء العدل السابقين في عمليتي الإقالة السابقتين سنتي 2011 و2012 أي لكل من لزهر القروي الشابي في حكومة الراحل الباجي قائد السبسي ونورالدين البحيري في حكومة حمادي الجبالي، رغم التضارب في مواقف البعض حول عمليتي الإعفاء التي تفصل بينهما عشر سنوات.
معركة سياسية
كان قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد في هذه الفترة الاستثنائية التي يتولى فيها قيادة البلاد منذ 25 جويلية إلى الآن، بعد صدور أمر رئاسي يتعلق بإعفاء 57 قاضيا، وذلك عملا بأحكام الفصل 20 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بعد تنقيحه، بمثابة الفتيل الذي فجر الأزمة التي يعيشها سلك القضاء خاصة بعد إجماع عديد الجهات على أهمية مرفق العدالة وضرورة تنقيته من شوائب الولاءات الحزبية والفساد والاختراق السياسي الذي بات يشكل خطرا حقيقيا لضرب استقلالية القضاء، خاصة أمام تواتر المستجدات والأحداث التي تؤكد ذلك، لعل من أبرزها عدم الحسم في بعض الملفات ذات الخلفية السياسية من قبيل ملف الجهاز السري والاغتيالات السياسية وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر والإرهاب وغيرها. وقد سبق لهيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي أن كشفت عديد المعطيات التي تؤكد تلاعب بعض القضاء بهذه الملفات.
ومنذ لحظة 25 جويلية طالب رئيس الجمهورية القضاة بضرورة التحرك في تنفيذ سياسته لمحاربة الفساد، باعتبارها من أبرز مطالب التحرك الشعبي في الذكرى الماضية لعيد الجمهورية، فضلا عن الحسم في القضايا التي طرحتها محكمة المحاسبات في علاقة بالتجاوزات المسجلة في انتخابات 2019 ولكن لم تجد تلك الدعوات المتكررة أي تجاوب أو صدى لدى هياكله بما في ذلك المجلس الأعلى للقضاء كهيئة دستورية، تمت المصادقة عليها في 2015 وباشرت مهامها سنة 2016، أي مبادرة إصلاح في الغرض، الأمر الذي دفع عديد القراءات تذهب إلى الجزم بتسييس مرفق العدالة بعد أن انخرطت هياكله في الصراع السياسي القائم في هذه المرحلة والاصطفاف مع الشقوق المعارضة لمسار ما بعد 25 جويلية، وهو العامل الذي دفع رئيس الجمهورية لإصدار مرسوم يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء في فيفري الماضي، وتكوين المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بعد شهر من ذلك التاريخ أي في مارس الماضي.
ولعل ما ميز التحركات الرافضة لقرار رئيس الجمهورية الأخير هو التفاف جهات حزبية ومدنية وسياسية حول هذه المسألة بشكل ملفت، اعتبره البعض فرصة للقوى المعارضة والرافضة لمسار ما بعد 25 جويلية للانقضاض على خصمهم السياسي قيس سيعيد في هذه المرحلة عبر التحرك الموسع في الداخل واستنهاض مواقف المنظمات والأنظمة الدولية والخارجية لدعمهم في الصراع ضد سعيد من خلال الترحيب والترويج بالبيانات والمواقف الصادرة وذات علاقة بهذه المسألة أو الحضور في التحركات والفضاءات التابعة لمرفق العدالة أو استقبال والقيام بالزيارات وتضمين عملية عزل القضاة هذه ضمن محاور اللقاءات سواء مع السفارات أو ممثلي المنظمات أو الهياكل القطاعية والمهنية.
في سياق متصل اعتبر رابح الخرايفي، الباحث في القانون الدستوري والمحامي، التباين المسجل في ردود الأفعال حول عمليات الإقالة موضحا أن ما أقدم عليه سعيد يتنزل في سياق سياسة الدولة في مكافحة الفساد وتفكيك منظومة الفساد المتشابكة التي تم إرساؤها ما بعد 2011، خاصة بعد التنقيحات التي تم إدخالها على المرسوم المنظم لهذه العملية، فيما كان هدف البحيري تدجين مرفق العدالة وتركيع سلك القضاء. وبين أن ردود الأفعال حول العمليتين التي يفصل بينهما عقد، تخضع للموازنات السياسية خاصة أن الهياكل والمؤسسات التابعة لمرفق العدالة تم بعثها خلال العشرية الماضية وكانت نابعة من توافقات حزبية قوامها تبادل المنافع والمصالح، وهو المقياس الذي اعتمد في التعيينات في أغلبها، وأثر سلبيا على استقلاليتها وثقة المواطن فيها.
نزيهة الغضباني
--------------------------------
رئيس نقابة القضاة لـ"الصباح":
مع سعيد في الإصلاح ولسنا ضد المحاسبة.. ولكن نرفض "الآلية" والتسييس
*نحن قضاة دولة وليس هناك دولة قضاة
أكد أيمن شطيبة، رئيس نقابة القضاة، لـ"الصباح"، أن الاختلاف والتباين المسجل في ردود الأفعال حول العمليات التي حصلت فيها إقالة لقضاة ما بعد 2011 إلى اختلاف السياقات، رغم تأكيده على أنه لا يريد الخوض في المراحل السابقة وإنما الاكتفاء بموقف النقابة التي يمثلها منذ انتخابه على رأسها في مارس الماضي، موضحا أنه في سنتي 2011 و2012 كان ضمن القضاة الشبان وبعيدا عن دائرة التسييس والتنظيم.
مبينا أن وجود هياكل وقانون أساسي ينظم سلك القطاع، وتزامن القرار مع مرحلة انتقالية يخيم عليها الصراع السياسي، من العوامل التي دفعت عديد الجهات للدخول على خط التحرك القطاعي، معتبرا ذلك لا يخدم قضيتهم. وشدد في نفس السياق على تمسك نقابة القضاة بعد قبول "ركوب" أي جهة حزبية وسياسية ومدنية على الحدث، وقال: "الإضراب والتحرك الذي دعونا له نابع من إرادة القضاة ولا نريد أن تستثمر أي جهة في معركتنا، لأننا لسنا ضد قرار رئيس الجمهورية وإنما ضد الآلية التي نرفضها لأنها لا تؤسس لقضاء مستقل وقوي. فنحن لا نجرم رئيس الجمهورية وسياسته وإنما المشكل الأساسي قانوني لا يخدم سلك القضاء".
وشدد رئيس نقابة القضاة على رفض تسييس تحرك القضاة بعد إقالة مجموعة من المنتمين لهذا السلك، لأنه يعتبر في التفاف السياسيين والمنظمات على هذا التحرك والاحتجاج ساهم في تعويم القضية وإخراجها من سياقها القانوني والقطاعي. وأضاف قائلا: "نقابة القضاة ليست ضد المحاسبة ونحن مع رئيس الجمهورية في سياسة الإصلاح لمرفق العدالة بالأساس لأن خلاص تونس من أزماتها وخروجها من المرحلة الصعبة لا يتم إلا عن طريق مرفق عدالة مستقل بذاته وذلك بتأسيس مرفق جديد وفق آليات بناء وليس آليات هدم وزعزعة للثقة، وقادر على تحمل مسؤوليته دون خوف أو ضغط أو توظيف من أي جهة كانت".
وأكد أنه كرئيس لنقابة القضاة مع سياسة رئيس الجمهورية في الإصلاح ولكن ضد الممارسات التي تدفع لزعزعة الثقة في القضاة. ولم ينكر شطيبة الاختراق السياسي لقصور العدالة ولكنه شدد على أن نقابته حريصة على النأي بسلك القضاء خاصة بما يضمه من كفاءات شابة متشبعة بالاستقلالية، وفق تصريحه، عن أي توظيف يمكن أن يضرب ويهز الثقة في مرفق العدالة بشكل عام وسلك القضاء بشكل خاص. موضحا أن ذلك لا يتم إلا عبر وضع آليات تساعد على بناء قضاء محايد ومستقل مشددا على أن النقابة حريصة على البناء والإصلاح بقوله: "نحن نسعى لتكريس شعار قضاة دولة وليس دولة قضاة على أرض الواقع".
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
تباينت المواقف حول ردود أفعال الهياكل المهنية والقطاعية وغيرها من الهيئات الدستورية والمنظمات الوطنية والدولية إضافة إلى المجتمع المدني والسياسيين والمجتمع الدولي حيال عمليات إعفاء قضاة من مهامهم من قبل سلطة الإشراف في حكومات ما بعد 2011. يأتي ذلك بعد التحركات والتنديدات الواسعة والتصعيد الذي شهدته تونس مؤخرا بعد قرار رئيس الجمهورية في بداية الشهر الجاري، القاضي بإعفاء 57 قاضيا في إطار سياسته لمواصلة مكافحة الفساد والمراهنة على القضاء كأداة وآلية مثلى لتنفيذ الإصلاحات الشاملة مثلما أعلن عن ذلك بقوله "قضاء مستقل خير من ألف دستور"، لتتبع عملية هذه الإقالة هبّة عديد الجهات على مستويين وطني ودولي في تفاعل مع هذا القرار بشكل غير مسبوق، رغم أنه ليس الأول الذي يتم فيه إعفاء قضاة.
القراءات والتأويلات اختلفت على نحو وسع وأثارت الجدل ليخرج في كثير من الأحيان عن سياقه حول مدى قانونية مسألتي آلية الإعفاء وإضراب القضاة عن العمل وتداعيات ذلك اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، ليأخذ الأمر منحى سياسيا بالأساس ويتحول إلى أداة توظيف في الصراع السياسي القائم اليوم بين المعارضين لمسار ما بعد 25 جويلية من ناحية ورئاسة الجمهورية والداعمين لما يعتبرونه مسارا إصلاحيا للتأسيس لجمهورية جديدة.
ويذكر أنه في سنتي 2011 و2012 سجل سلك القضاء "هزات" حاسمة تحت عنوان مقاومة الفساد وتطهير وتنقية مرفق العدالة من الفاسدين، نتج عن الأولى مباشرة بعد سقوط منظومة الراحل زين العابدين بن علي، إعفاء 6 قضاة في حكومة الباجي قائد السبسي وكان وزير العدل آنذاك لزهر القروي الشابي ورئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع، ليمر القرار وسط ترحيب وتهليل من قبل البعض دون تسجيل ردود أفعال رافضة أو منتقدة تذكر، ليسجل المنعرج الثاني سنة 2012 بعد إعفاء 82 قاضيا، بعد مباشرة الحكومة إثر الانتخابات التشريعية الأولى التي أسفرت عن فوز حركة النهضة بأغلبية المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي، وذلك من قبل وزير العدل والقيادي في نفس الحزب نورالدين البحيري. وهو قرار وضعه في سياق خطة وزارة العدل لإصلاح القضاء وتطهيره من الفساد. وأكد في نفس السياق في تصريح في برنامج بإحدى القنوات التلفزية الخاصة أن "قرار الإعفاء ذلك كان عن دراية وبعلم جمعية القضاة التونسيين وأن عملية التقصي وجمع الملفات دامت أربعة أشهر بعد أبحاث مستفيضة".
وبالعودة إلى رصد ردود الأفعال في التفاعل مع ذلك القرار، نجد أن جمعية القضاة التونسيين ممثلة في رئيستها كلثوم كنو، اكتفت باستنكار توقيت الإعلان عن ذلك الإجراء "في حين كان من الممكن انتظار تشكيل الهيئة الوقتية للقضاء لتقوم بهذه المهمة"، وفق ما كانت صرحت به حول المسألة، وتعبيرها عن خشيتها من الحياد بمسار الجهود الرامية إلى ضمان استقلالية القضاء.
كما تناقل موقف رئيسة النقابة التونسية للقضاة آنذاك روضة العبيدي، قولها "إن آلية الإعفاء لا تخول فتح ملفات الفساد لمن خالف القانون، كما لا تخول لمن تم إعفاؤه من مهامه من الدفاع عن نفسه مثل أي مواطن تنسب له أفعال مخالفة للقانون".
ولم تخرج مواقف وردود أفعال الجهات المدنية والسياسية عن التنديد والاستنكار والتهديد بتنفيذ إضراب، ليتخذ الأمر مجراه بعد أن اعتبره البعض خطوة أولى في سياسة حركة النهضة لتركيع القضاء والضغط على أهل هذه المهنة وضرب استقلاليته وتوظيفه لخدمة أجنداتها وضرب خصومها و"ترويضهم في مربع الطاعة" والتحكم في أجهزة الدولة. لتصبح بعد تلك المرحلة عبارة "قضاء البحيري" متداولة في العلن وليس داخل أوساط سلك القضاء ومرفق العدالة بمختلف اختصاصاته وهياكله فقط، خاصة بعد مسك النهضة بزمام منظومة الحكم خلال السنوات العشر الماضية.
تكذيب
وتداولت بعض الجهات ما أكده نورالدين البحيري وزير العدل السابق، كون جمعية القضاة على علم ودراية بقرار إعفائه للقضاة، فيما كذب أنس الحمادي رئيس جمعية القضاة، مؤخرا البحيري حول تورط الجمعية في تقديم قائمات اسمية بالقضاة لوزراء العدل السابقين في عمليتي الإقالة السابقتين سنتي 2011 و2012 أي لكل من لزهر القروي الشابي في حكومة الراحل الباجي قائد السبسي ونورالدين البحيري في حكومة حمادي الجبالي، رغم التضارب في مواقف البعض حول عمليتي الإعفاء التي تفصل بينهما عشر سنوات.
معركة سياسية
كان قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد في هذه الفترة الاستثنائية التي يتولى فيها قيادة البلاد منذ 25 جويلية إلى الآن، بعد صدور أمر رئاسي يتعلق بإعفاء 57 قاضيا، وذلك عملا بأحكام الفصل 20 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بعد تنقيحه، بمثابة الفتيل الذي فجر الأزمة التي يعيشها سلك القضاء خاصة بعد إجماع عديد الجهات على أهمية مرفق العدالة وضرورة تنقيته من شوائب الولاءات الحزبية والفساد والاختراق السياسي الذي بات يشكل خطرا حقيقيا لضرب استقلالية القضاء، خاصة أمام تواتر المستجدات والأحداث التي تؤكد ذلك، لعل من أبرزها عدم الحسم في بعض الملفات ذات الخلفية السياسية من قبيل ملف الجهاز السري والاغتيالات السياسية وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر والإرهاب وغيرها. وقد سبق لهيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي أن كشفت عديد المعطيات التي تؤكد تلاعب بعض القضاء بهذه الملفات.
ومنذ لحظة 25 جويلية طالب رئيس الجمهورية القضاة بضرورة التحرك في تنفيذ سياسته لمحاربة الفساد، باعتبارها من أبرز مطالب التحرك الشعبي في الذكرى الماضية لعيد الجمهورية، فضلا عن الحسم في القضايا التي طرحتها محكمة المحاسبات في علاقة بالتجاوزات المسجلة في انتخابات 2019 ولكن لم تجد تلك الدعوات المتكررة أي تجاوب أو صدى لدى هياكله بما في ذلك المجلس الأعلى للقضاء كهيئة دستورية، تمت المصادقة عليها في 2015 وباشرت مهامها سنة 2016، أي مبادرة إصلاح في الغرض، الأمر الذي دفع عديد القراءات تذهب إلى الجزم بتسييس مرفق العدالة بعد أن انخرطت هياكله في الصراع السياسي القائم في هذه المرحلة والاصطفاف مع الشقوق المعارضة لمسار ما بعد 25 جويلية، وهو العامل الذي دفع رئيس الجمهورية لإصدار مرسوم يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء في فيفري الماضي، وتكوين المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بعد شهر من ذلك التاريخ أي في مارس الماضي.
ولعل ما ميز التحركات الرافضة لقرار رئيس الجمهورية الأخير هو التفاف جهات حزبية ومدنية وسياسية حول هذه المسألة بشكل ملفت، اعتبره البعض فرصة للقوى المعارضة والرافضة لمسار ما بعد 25 جويلية للانقضاض على خصمهم السياسي قيس سيعيد في هذه المرحلة عبر التحرك الموسع في الداخل واستنهاض مواقف المنظمات والأنظمة الدولية والخارجية لدعمهم في الصراع ضد سعيد من خلال الترحيب والترويج بالبيانات والمواقف الصادرة وذات علاقة بهذه المسألة أو الحضور في التحركات والفضاءات التابعة لمرفق العدالة أو استقبال والقيام بالزيارات وتضمين عملية عزل القضاة هذه ضمن محاور اللقاءات سواء مع السفارات أو ممثلي المنظمات أو الهياكل القطاعية والمهنية.
في سياق متصل اعتبر رابح الخرايفي، الباحث في القانون الدستوري والمحامي، التباين المسجل في ردود الأفعال حول عمليات الإقالة موضحا أن ما أقدم عليه سعيد يتنزل في سياق سياسة الدولة في مكافحة الفساد وتفكيك منظومة الفساد المتشابكة التي تم إرساؤها ما بعد 2011، خاصة بعد التنقيحات التي تم إدخالها على المرسوم المنظم لهذه العملية، فيما كان هدف البحيري تدجين مرفق العدالة وتركيع سلك القضاء. وبين أن ردود الأفعال حول العمليتين التي يفصل بينهما عقد، تخضع للموازنات السياسية خاصة أن الهياكل والمؤسسات التابعة لمرفق العدالة تم بعثها خلال العشرية الماضية وكانت نابعة من توافقات حزبية قوامها تبادل المنافع والمصالح، وهو المقياس الذي اعتمد في التعيينات في أغلبها، وأثر سلبيا على استقلاليتها وثقة المواطن فيها.
نزيهة الغضباني
--------------------------------
رئيس نقابة القضاة لـ"الصباح":
مع سعيد في الإصلاح ولسنا ضد المحاسبة.. ولكن نرفض "الآلية" والتسييس
*نحن قضاة دولة وليس هناك دولة قضاة
أكد أيمن شطيبة، رئيس نقابة القضاة، لـ"الصباح"، أن الاختلاف والتباين المسجل في ردود الأفعال حول العمليات التي حصلت فيها إقالة لقضاة ما بعد 2011 إلى اختلاف السياقات، رغم تأكيده على أنه لا يريد الخوض في المراحل السابقة وإنما الاكتفاء بموقف النقابة التي يمثلها منذ انتخابه على رأسها في مارس الماضي، موضحا أنه في سنتي 2011 و2012 كان ضمن القضاة الشبان وبعيدا عن دائرة التسييس والتنظيم.
مبينا أن وجود هياكل وقانون أساسي ينظم سلك القطاع، وتزامن القرار مع مرحلة انتقالية يخيم عليها الصراع السياسي، من العوامل التي دفعت عديد الجهات للدخول على خط التحرك القطاعي، معتبرا ذلك لا يخدم قضيتهم. وشدد في نفس السياق على تمسك نقابة القضاة بعد قبول "ركوب" أي جهة حزبية وسياسية ومدنية على الحدث، وقال: "الإضراب والتحرك الذي دعونا له نابع من إرادة القضاة ولا نريد أن تستثمر أي جهة في معركتنا، لأننا لسنا ضد قرار رئيس الجمهورية وإنما ضد الآلية التي نرفضها لأنها لا تؤسس لقضاء مستقل وقوي. فنحن لا نجرم رئيس الجمهورية وسياسته وإنما المشكل الأساسي قانوني لا يخدم سلك القضاء".
وشدد رئيس نقابة القضاة على رفض تسييس تحرك القضاة بعد إقالة مجموعة من المنتمين لهذا السلك، لأنه يعتبر في التفاف السياسيين والمنظمات على هذا التحرك والاحتجاج ساهم في تعويم القضية وإخراجها من سياقها القانوني والقطاعي. وأضاف قائلا: "نقابة القضاة ليست ضد المحاسبة ونحن مع رئيس الجمهورية في سياسة الإصلاح لمرفق العدالة بالأساس لأن خلاص تونس من أزماتها وخروجها من المرحلة الصعبة لا يتم إلا عن طريق مرفق عدالة مستقل بذاته وذلك بتأسيس مرفق جديد وفق آليات بناء وليس آليات هدم وزعزعة للثقة، وقادر على تحمل مسؤوليته دون خوف أو ضغط أو توظيف من أي جهة كانت".
وأكد أنه كرئيس لنقابة القضاة مع سياسة رئيس الجمهورية في الإصلاح ولكن ضد الممارسات التي تدفع لزعزعة الثقة في القضاة. ولم ينكر شطيبة الاختراق السياسي لقصور العدالة ولكنه شدد على أن نقابته حريصة على النأي بسلك القضاء خاصة بما يضمه من كفاءات شابة متشبعة بالاستقلالية، وفق تصريحه، عن أي توظيف يمكن أن يضرب ويهز الثقة في مرفق العدالة بشكل عام وسلك القضاء بشكل خاص. موضحا أن ذلك لا يتم إلا عبر وضع آليات تساعد على بناء قضاء محايد ومستقل مشددا على أن النقابة حريصة على البناء والإصلاح بقوله: "نحن نسعى لتكريس شعار قضاة دولة وليس دولة قضاة على أرض الواقع".