إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

إثر انعقاد الدورة الثانية من المشاورات السياسية بين البلدين.. تونس والعراق.. من مباحثات ثنائية إلى رؤية عربية موحَّدة

في زمن تعيد فيه الدبلوماسية العربية ترتيب دفاترها على إيقاع التحوّلات الإقليمية، جاءت زيارة وكيل وزارة الخارجية العراقية محمد حسين بحر العلوم إلى تونس، لعقد الدورة الثانية من المشاورات السياسية بين تونس والعراق، لتشكّل علامة جديدة في مسار العلاقات التونسية- العراقية.

زيارة اختزلت في مضمونها رسائل ثقة متبادلة، وأعادت تسليط الضوء على علاقة تاريخية تعود اليوم بزخم متجدِّد يترجم رغبة ثنائية في بناء جسور تعاون عربي واقعي يستجيب لرهانات الحاضر، إلى إرادة قيادتي البلدين في تحويل الروابط التاريخية إلى شراكة استراتيجية متجدِّدة.

فاللقاءات التي جمعت المسؤول العراقي بكل من وزير الشؤون الخارجية محمد علي النفطي وكاتب الدولة محمد بن عياد جاءت لتكرِّس هذا التوجه، ولتؤكد من جديد عمق الروابط الأخوية الضاربة جذورها في التاريخ بين الشعبين التونسي والعراقي، وتعكس إرادة سياسية واضحة للمضيِّ في مسار تعزيز التعاون الثنائي على أسس الشراكة الفاعلة والتضامن العربي الحقيقي، بما يعكس ديناميكية دبلوماسية متصاعدة أعادت للواجهة علاقات اتَّسمت لعقود بالاحترام المتبادل والتطابق في الرؤى والمواقف.

وفي هذا الخصوص، جاءت جلسة المباحثات التي التأمت بحر الأسبوع الجاري بمقر الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بتونس لتضع تصوّرا عمليّا لتفعيل هذه الرؤية من خلال استعراض أوجه التعاون القائم وتحديد آفاقه المستقبلية.

وقد شدّد الطرفان على أهمية تنويع مجالات التعاون لتشمل قطاعات الطاقة، والصناعة، والنقل، والسياحة، والزراعة، وهي مجالات حيوية تعبِّر عن رغبة حقيقية في تحويل العلاقات من بعدها السياسي إلى تعاون تنموي ملموس يشمل قطاعات تعتبر روافد للتنمية. فهذه المجالات التي تمَّ الاتفاق عليها يمكن أن تشكّل رافدا محوريّا للتنمية المشتركة، بما من شأنه تعزيز فرص الاستثمار وخلق مساحات أوسع للتبادل الاقتصادي والتكنولوجي بين تونس والعراق.

توازن إقليمي وتنسيق سياسي

من جانب آخر، فإن اللافت في هذه الزيارة كونها لم تقتصر على الملفات الثنائية، بل انفتحت على القضايا الإقليمية والدولية الراهنة، في ظل تطوُّرات متسارعة في المنطقة العربية. وقد شكَّلت المشاورات مناسبة للتأكيد على تطابق الرؤى بين تونس والعراق بشأن عدد من الملفات الجوهرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

وفي هذا السياق، جدّد كاتب الدولة لدى وزير الخارجية موقف تونس الثابت الداعم لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على كامل أرضه وعاصمتها القدس الشريف، وهو موقف يجد صداه في الموقف العراقي الذي ظلَّ وفيًّا للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب المركزية.

ويعكس هذا التطابق في المواقف رغبة البلدين في إحياء قيمة التضامن العربي القائم على المبادئ لا على الاصطفافات، وهو ما ينسجم مع الجهود التونسية الأخيرة الهادفة إلى ترسيخ العمل المتعدد الأطراف وتعزيز التنسيق مع الدول العربية ذات التوجه المستقل والمتوازن.

ومن رحم هذه المشاورات ولدت ملامح مرحلة جديدة في العلاقات التونسية- العراقية، عنوانها الإرادة المشتركة والرغبة في الانتقال من التنسيق إلى الإنجاز، لا سيما وأن العلاقات الثنائية بين تونس وبغداد شهدت خلال السنتين الأخيرتين زخما لافتا أعاد رسم ملامحها على أسس جديدة. فقد مثّل تبادل الزيارات على أعلى مستوى في البلدين، إلى جانب جملة الاتفاقيات الموقّعة في مجالات عديدة، نقطة تحوُّل في مسار العلاقات الثنائية بما يكرِّس إدراكًا مشتركًا بأن التعاون العربي لم يعد اليوم ترفا سياسيّا بل ضرورة ملحّة واستراتيجية تفرضها تحديات المنطقة.

وفي هذا الاتجاه، يرى متابعون للشأن العام أن زيارة وكيل وزارة الخارجية العراقية إلى تونس قد جاءت في ظرف دولي بالغ التعقيد يتّسم بعودة النزاعات وتغير موازين القوى الإقليمية، وهو ما يمنح هذه الزيارة بعدا استراتيجيّا يتجاوز مجرد التعاون الثنائي، إذ تندرج ضمن مساع تونسية حثيثة لتعزيز دورها كجسر تواصل بين المشرق والمغرب، وربط العواصم العربية المتقاربة في رؤاها الرامية إلى تعزيز التشاور لمواجهة التحديات المشتركة.

وفي هذا الإطار، تدرك تونس أن العراق بما يمثله من عمق حضاري واقتصادي، يمكن أن يكون شريكا محوريّا في بناء تعاون عربي جديد يستند إلى مبدأ التكامل، خصوصا في مجالات الطاقة وإعادة الإعمار والتبادل الأكاديمي والثقافي.

في المقابل، ينظر العراق إلى تونس باعتبارها بوابة مغاربية ومنصة مؤسساتية قادرة على تيسير انفتاحه على بلدان شمال إفريقيا، بما يعزّز اندماجه الاقتصادي والسياسي في محيطه العربي الأوسع.

جسور متجددة

من جهة أخرى، لا يمكن قراءة هذا الزخم في العلاقات الذي ترجمته السنوات الأخيرة دون استحضار الرصيد التاريخي الذي يجمع البلدين: بدءا من التعاون الثقافي الذي عرفته فترة الخمسينيات والستينيات، وصولا إلى التضامن السياسي في القضايا العربية الكبرى. فالعلاقة بين تونس والعراق لطالما كانت فضاء للتلاقي الفكري والإنساني،.

واليوم، وبين رهان العراق على استعادة إشعاعه ودوره الإقليمي، وسعي تونس إلى توسيع دائرة شراكاتها الاستراتيجية في إطار سياسة العمل المتعدد الأطراف، تعود العلاقات بين البلدين لتتخذ بعدا استشرافيّا يعيد للدبلوماسية العربية بريقها من خلال ترسيخ دبلوماسية المبادرة والتقارب والبناء المشترك، لتتجاوز الدورة الثانية من المشاورات السياسية بين تونس والعراق كونها مجرد حدث دبلوماسي لتمثل تجسيدًا لمرحلة جديدة من الواقعية السياسية العربية.

فالحركية التي تشهدها العلاقات التونسية- العراقية اليوم تعبّر عن وعي متجدّد بأهمية إعادة بناء الفضاء العربي على أسس التعاون والتكامل.

ومن رحم هذا الوعي تولد إرادة سياسية مشتركة تتجاوز حدود الجغرافيا، لتؤكد أن تونس وبغداد قادرتان على أن تكونا نموذجًا في الدبلوماسية الواقعية التي تجمع بين الثبات في المبادئ والمرونة في المقاربة، بما يجعل التعاون التونسي العراقي رافعة لوحدة الصف العربي وتجديده.

منال الحرزي

إثر انعقاد الدورة الثانية من المشاورات السياسية بين البلدين..     تونس والعراق.. من مباحثات ثنائية إلى رؤية عربية موحَّدة

في زمن تعيد فيه الدبلوماسية العربية ترتيب دفاترها على إيقاع التحوّلات الإقليمية، جاءت زيارة وكيل وزارة الخارجية العراقية محمد حسين بحر العلوم إلى تونس، لعقد الدورة الثانية من المشاورات السياسية بين تونس والعراق، لتشكّل علامة جديدة في مسار العلاقات التونسية- العراقية.

زيارة اختزلت في مضمونها رسائل ثقة متبادلة، وأعادت تسليط الضوء على علاقة تاريخية تعود اليوم بزخم متجدِّد يترجم رغبة ثنائية في بناء جسور تعاون عربي واقعي يستجيب لرهانات الحاضر، إلى إرادة قيادتي البلدين في تحويل الروابط التاريخية إلى شراكة استراتيجية متجدِّدة.

فاللقاءات التي جمعت المسؤول العراقي بكل من وزير الشؤون الخارجية محمد علي النفطي وكاتب الدولة محمد بن عياد جاءت لتكرِّس هذا التوجه، ولتؤكد من جديد عمق الروابط الأخوية الضاربة جذورها في التاريخ بين الشعبين التونسي والعراقي، وتعكس إرادة سياسية واضحة للمضيِّ في مسار تعزيز التعاون الثنائي على أسس الشراكة الفاعلة والتضامن العربي الحقيقي، بما يعكس ديناميكية دبلوماسية متصاعدة أعادت للواجهة علاقات اتَّسمت لعقود بالاحترام المتبادل والتطابق في الرؤى والمواقف.

وفي هذا الخصوص، جاءت جلسة المباحثات التي التأمت بحر الأسبوع الجاري بمقر الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بتونس لتضع تصوّرا عمليّا لتفعيل هذه الرؤية من خلال استعراض أوجه التعاون القائم وتحديد آفاقه المستقبلية.

وقد شدّد الطرفان على أهمية تنويع مجالات التعاون لتشمل قطاعات الطاقة، والصناعة، والنقل، والسياحة، والزراعة، وهي مجالات حيوية تعبِّر عن رغبة حقيقية في تحويل العلاقات من بعدها السياسي إلى تعاون تنموي ملموس يشمل قطاعات تعتبر روافد للتنمية. فهذه المجالات التي تمَّ الاتفاق عليها يمكن أن تشكّل رافدا محوريّا للتنمية المشتركة، بما من شأنه تعزيز فرص الاستثمار وخلق مساحات أوسع للتبادل الاقتصادي والتكنولوجي بين تونس والعراق.

توازن إقليمي وتنسيق سياسي

من جانب آخر، فإن اللافت في هذه الزيارة كونها لم تقتصر على الملفات الثنائية، بل انفتحت على القضايا الإقليمية والدولية الراهنة، في ظل تطوُّرات متسارعة في المنطقة العربية. وقد شكَّلت المشاورات مناسبة للتأكيد على تطابق الرؤى بين تونس والعراق بشأن عدد من الملفات الجوهرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

وفي هذا السياق، جدّد كاتب الدولة لدى وزير الخارجية موقف تونس الثابت الداعم لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على كامل أرضه وعاصمتها القدس الشريف، وهو موقف يجد صداه في الموقف العراقي الذي ظلَّ وفيًّا للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب المركزية.

ويعكس هذا التطابق في المواقف رغبة البلدين في إحياء قيمة التضامن العربي القائم على المبادئ لا على الاصطفافات، وهو ما ينسجم مع الجهود التونسية الأخيرة الهادفة إلى ترسيخ العمل المتعدد الأطراف وتعزيز التنسيق مع الدول العربية ذات التوجه المستقل والمتوازن.

ومن رحم هذه المشاورات ولدت ملامح مرحلة جديدة في العلاقات التونسية- العراقية، عنوانها الإرادة المشتركة والرغبة في الانتقال من التنسيق إلى الإنجاز، لا سيما وأن العلاقات الثنائية بين تونس وبغداد شهدت خلال السنتين الأخيرتين زخما لافتا أعاد رسم ملامحها على أسس جديدة. فقد مثّل تبادل الزيارات على أعلى مستوى في البلدين، إلى جانب جملة الاتفاقيات الموقّعة في مجالات عديدة، نقطة تحوُّل في مسار العلاقات الثنائية بما يكرِّس إدراكًا مشتركًا بأن التعاون العربي لم يعد اليوم ترفا سياسيّا بل ضرورة ملحّة واستراتيجية تفرضها تحديات المنطقة.

وفي هذا الاتجاه، يرى متابعون للشأن العام أن زيارة وكيل وزارة الخارجية العراقية إلى تونس قد جاءت في ظرف دولي بالغ التعقيد يتّسم بعودة النزاعات وتغير موازين القوى الإقليمية، وهو ما يمنح هذه الزيارة بعدا استراتيجيّا يتجاوز مجرد التعاون الثنائي، إذ تندرج ضمن مساع تونسية حثيثة لتعزيز دورها كجسر تواصل بين المشرق والمغرب، وربط العواصم العربية المتقاربة في رؤاها الرامية إلى تعزيز التشاور لمواجهة التحديات المشتركة.

وفي هذا الإطار، تدرك تونس أن العراق بما يمثله من عمق حضاري واقتصادي، يمكن أن يكون شريكا محوريّا في بناء تعاون عربي جديد يستند إلى مبدأ التكامل، خصوصا في مجالات الطاقة وإعادة الإعمار والتبادل الأكاديمي والثقافي.

في المقابل، ينظر العراق إلى تونس باعتبارها بوابة مغاربية ومنصة مؤسساتية قادرة على تيسير انفتاحه على بلدان شمال إفريقيا، بما يعزّز اندماجه الاقتصادي والسياسي في محيطه العربي الأوسع.

جسور متجددة

من جهة أخرى، لا يمكن قراءة هذا الزخم في العلاقات الذي ترجمته السنوات الأخيرة دون استحضار الرصيد التاريخي الذي يجمع البلدين: بدءا من التعاون الثقافي الذي عرفته فترة الخمسينيات والستينيات، وصولا إلى التضامن السياسي في القضايا العربية الكبرى. فالعلاقة بين تونس والعراق لطالما كانت فضاء للتلاقي الفكري والإنساني،.

واليوم، وبين رهان العراق على استعادة إشعاعه ودوره الإقليمي، وسعي تونس إلى توسيع دائرة شراكاتها الاستراتيجية في إطار سياسة العمل المتعدد الأطراف، تعود العلاقات بين البلدين لتتخذ بعدا استشرافيّا يعيد للدبلوماسية العربية بريقها من خلال ترسيخ دبلوماسية المبادرة والتقارب والبناء المشترك، لتتجاوز الدورة الثانية من المشاورات السياسية بين تونس والعراق كونها مجرد حدث دبلوماسي لتمثل تجسيدًا لمرحلة جديدة من الواقعية السياسية العربية.

فالحركية التي تشهدها العلاقات التونسية- العراقية اليوم تعبّر عن وعي متجدّد بأهمية إعادة بناء الفضاء العربي على أسس التعاون والتكامل.

ومن رحم هذا الوعي تولد إرادة سياسية مشتركة تتجاوز حدود الجغرافيا، لتؤكد أن تونس وبغداد قادرتان على أن تكونا نموذجًا في الدبلوماسية الواقعية التي تجمع بين الثبات في المبادئ والمرونة في المقاربة، بما يجعل التعاون التونسي العراقي رافعة لوحدة الصف العربي وتجديده.

منال الحرزي