النقد ليس موهبة ولا يُكتسب، ولكنه علم وله آليات وقواعد...
خرجت بي المشاغل النقدية من عوالم السرد وحرمتني متعته.
صار لنا نقد أدبي مكتوب بالذكاء الاصطناعي.. يفتخر به البعض وينسبه البعض الآخر لنفسه.. وهذه ظاهرة خطيرة.
بدأ حياته المهنية معلماً بأحد أرياف سيدي بوزيد. كان طموحه الكبير اقتحام عالم الأدب والفكر والبحث في أسرار الكتابة من أوسع الأبواب... كسب الرهان، وكللت جهوده بالحصول على شهادة الدكتوراه في اللغة والآداب العربية، وهو ما عبّد له الطريق ليكون أحد الأسماء البارزة في النقد الأدبي بتونس وعلى المستوى العربي.
هو الباحث والدكتور رياض خليف الذي جمع في مسيرته بين الكتابة والنقد. التقيناه فكان هذا الحديث:
*أي سؤال مُلحّ دفعك لاقتحام عتبة النقد الأدبي؟
- في البداية أشير إلى أنّ «الصباح» تظلّ محطّة أولى في تجربتي، في البدايات في الصحافة الجهوية والثقافية في التسعينات... بدايات التلميذ والطالب عاشق الكتابة. وقد استمرّ هذا العشق وتصاعد بما خضته من تجارب لاحقة في بعض الصحف، وملتُ إلى الجانب الأدبي. وفي الحقيقة فلقد زاوجت في تجربتي الأدبية بين الكتابتين السردية والنقدية، لكن الكتابة النقدية انتصرت وحرمتني متعة السرد. لقد صار النقد شغلاً يومياً خدمة للأدب التونسي ولتجارب الأصدقاء المهملة نقدياً. ولا أخفيك أنّ تعلقي بهذا الأمر دفعني إلى مواصلة الدراسات العليا التي توّجتها بالدكتوراه، لا رغبة في التدريس في الجامعة في بداية الأمر، ولكن رغبة في التعمق في النقد واكتساب آليات جديدة تمكنني من كتابة نصوص أفضل. فالنقد ليس موهبة ولا يُكتسب، ولكنه علم ومعرفة بآليات وقواعد...
*لماذا تعتبر أنّ الكتابة النقدية حرمتك من لذة السرد؟
- نعم، لقد خرجت بي المشاغل النقدية من عوالم السرد، فلديّ أعمال سردية مختلفة لم أجد فرصة للعودة إليها لإكمالها أو مراجعتها، من ذلك رواية كتبت خطوطها الرئيسية منذ 2011 وقصص أخرى. أما عن اللذة والمتعة فمن الطبيعي أن يكون السرد فضاء حرية وإبداع يعبر عن الذات وما يراودها من أفكار، بل هو لحظة تنفّس في ظل ضيق الحياة وتأزّماتها. أما العمل النقدي فهو عمل مقيّد بقوانين أدبية وبنظريات مختلفة، وليس هناك للذات مجال كثير. أدين للسرد القصصي والروائي بأنه كان سندي في تلك السنوات التي تعرفها، سنوات البطالة والعطالة التي قضيتها أكتب وأكتب، ولعلّ أعمالي السردية التي صدرت في كتب أو في صحف حصيلة لسنوات الضياع في مقاهي المدينة...
* ولكن البعض يهاجم الأكاديميين ونقدهم؟
- هذا موضوع متشعب. الأكاديميون يكتبون نصوصاً صعبة وينتقون المدونات، ولكن ما يكتبونه ليس سحراً أو وحياً، هم يكتبون بأدوات علمية، وبالتالي لا يمكن القدح في العلمي والانتصار للرعواني.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنّ نزول بعض الجامعيين إلى الساحة وانخراطهم في كتابات مجاملة قد جلب الكثير من النقد، بل هناك مشكلة سوء فهم.
وأعتقد أن النقد الأكاديمي الموجّه للخارج الجامعي يجب أن ينزع العباءة الجامعية ويتخفّف قليلاً حتى يستجيب للذائقة الأدبية، فعندما تحاضر في ملتقى أدبي فأنت أمام مستويات مختلفة، قد لا يكون فيهم جامعيون وأكثرهم عصاميون، ولذا يجب تعديل الخطاب حتى يفهمه الناس...
*أي تقنيات خاصة في دراستك للأعمال الأدبية؟
- أحاول في كتاباتي النقدية العادية وليس الأكاديمية أن أتجنب شيئين:
أولاً، النقد المدرسي، فهو متروك لحصص شرح النص أو حصص تطبيق المناهج النقدية.
وثانياً، النقد الشكلاني الذي يفصل النص الأدبي عن واقعه، قاصراً العملية النقدية على مظاهر فنية داخلية، قاتلاً بذلك روح النص وعازلاً له في مجال اللغة.
فأنا أريد أن أقتنص اللحظات الحيّة من النص الأدبي، أتجه إلى روح خطابه، وهذا يفسّر ميلي إلى الدراسات السوسيولوجية والسوسيونصية التي تحفر في الخطاب الاجتماعي والإيديولوجي... ولعلي قد أصبحت بحكم التخصص أميل إلى الدراسات المتعلقة بالسرد من قصة ورواية.
*هل من الضروري اقتصار الناقد على منهج واحد يطبّقه على النص الأدبي؟
- هذه الضرورة مدرسية أو جامعية فقط، حين يكون الباحث أو الطالب مطالباً بتطبيق منهج أدبي استجابة للمقررات التعليمية، أما حين يدرس الناقد خارج هذا المجال عملاً ما فهو حرّ في تنويع مناهجه، فالنص يقبل أن يتناوله أيّ منهج، بل إنّ الأبحاث الآن تتجه إلى نبذ المنهج الواحد واعتماد المنهج البيني الذي يتيح تطبيق مختلف المناهج في آن واحد، وهو ما أنتج ما يسمى بالدراسات البينيّة...
*هل يمكن أن يتصدى النقد الأدبي للظواهر الجديدة القادمة من المجال الرقمي؟
- هي ظاهرة خطيرة وخطيرة جداً، فلقد صار لنا نقد أدبي مكتوب بالذكاء الاصطناعي، يفتخر به البعض وينسبه البعض الآخر لنفسه، ولكنّ ذلك لن ينطلي إلا على المغفلين، فالقارئ الحصيف يدرك التزييف من خلال عدة مؤشرات، ولكننا جميعاً نصمت خجلاً أو لامبالاة، والناقد بوصفه محلل خطابات وباحثاً في أعماقها يمكنه اكتشاف هذه اللعبة، لكنه لا يمكن أن يحيط بمختلف التفاصيل، لذلك فالفرصة مواتية لظهور سلك أدبي آخر يبحث في قضايا انتحال النصوص الرقمية.
*يشتكي الأدباء العرب من النقد، فهل هناك أزمة نقد فعلاً؟**
- الناقد العربي أيضاً يعيش الأزمة. فهو يمارس النقد من باب الهواية والتطوع عادة، فليس هناك نقاد وظيفتهم النقد. فنحن نقتص أوقات النقد من حياتنا ومن ليلنا وأزمنة راحتنا. أما الفضاءات النقدية فغير متاحة، وأغلبها مجاني، هذا إن توفرت. وهذه أزمة تعمقت في بلادنا مع اختفاء الملاحق الثقافية القديمة وندرة المجلات الثقافية، فليس لنا غير مجلة «الحياة الثقافية»...
بهذا الضيق والاختناق لا يمكن لنا أن نتحدث عن تقصير نقدي ما دامت الظروف غير ملائمة للناقد كي ينطلق وينتظم، وهكذا تصبح ممارسته النقدية مهمشة. هذا من ناحية شكلية، أما من ناحية الممارسة فللأزمة وجه آخر...
*أي وجه آخر لأزمة النقد؟
- يختار الناقد عموماً تجارب يشعر بجودتها أو قدرتها على النجاح لاحقاً، فهو ليس مجبراً على الكتابة عن كل من هبّ ودبّ. فهذا القرار فردي وذاتي، ولكن البعض يريد أن يفرض نصوصه وإلا فلا معنى للناقد والمنقود ولحركة النقد عندهم. والحال أن الحركة النقدية مستمرة، وأن نقاداً وباحثين من مستويات مختلفة يشتغلون بشكل مستمر على قراءة النص الأدبي التونسي ودراسته رغم الظروف التي كنت بصدد ذكرها...
*هل تريد القول إن هناك تحاملاً على النقد؟
- طبعاً، يريد البعض أن يقتصر على أعمالهم الفعل النقدي وتحويله إلى مدائح مجانية. لا يكون البعض راضياً عن نقدك لعمله ما لم تفرده بمديح جلي. عندما يقول البعض هناك أزمة نقد، فهم يتحدثون انطلاقاً من وضعيتهم الخاصة. ولكن مع هذا لا بد من القول بصوت عالٍ إن هناك الكثير من النصوص الجيدة أهملها النقد في مقابل الإعلاء من شأن نصوص أخرى يدرك القارئ منذ البداية ضعفها وأنها لا تستحق.
*كناقد، هل تضطرّ لمجاملة بعض النصوص؟
- لا أمارس فعل المجاملة، ولكني أمارس فعل رفع المعنويات. بعض الأصوات أرى فيها بوادر جدية أسعى لتشجيعها، لا بتأليهها والسمو بها، ولكن بدراسة جوانب من عملها رفعاً لمعنوياتها. وقد رفضت الكتابة عن أعمال أصدقاء مقرّبين لما ظهر في أعمالهم من رداءة أو ضعف.
*اهتممت في أطروحتك الصادرة تحت عنوان “الرواية وتشكيل التاريخ، بتخييل التاريخ روائياً”، فما هي أبرز الاستنتاجات التي عرضتها من خلال دراستك لروايات تونسية؟
- اخترنا المدوّنة الروائية المحلية الصادرة في السنوات الأخيرة لما فيها من حرص على إضفاء الطابع الإنشائي على الكتابة الروائية التي تنهل من التاريخ، وجعلها أكثر جمالية ومفارقة للخطاب التاريخي الرسمي، وأكثر تحرّراً من قيود التاريخ والسلطة والثقافة الرسمية، بما تحمله بين طياتها من تمرّد وتجاوز للخطاب الرسمي، وبما لاح فيها من تطور جمالي ونأي عن التأريخ. وقد قاربنا هذه المدوّنة مقاربة حوارية للكتابة الروائية الجديدة للتاريخ التي تتخلص من التاريخ الرسمي والسلطوي وتكتب تاريخاً جديداً يقتحمه الهامش بمختلف تجلياته ويفتح الباب للتخييلي.
اهتممنا في المدخل النظري بالرواية وإعادة تشكيل التاريخ، وأما الباب الأول فخصصناه للتشكيل السردي للتاريخ بما هو تعالق للتاريخي والتخييلي وسرد للتاريخ بأكثر من صوت وبأكثر من جنس، وأما الباب الثاني فخصصناه للتشكيل الإيديولوجي للتاريخ باعتباره تشكيلاً كرنفالياً ساخراً لا يخلو من البعد الإيديولوجي.
*ما هي الروايات التي تم الاهتمام بها في هذه الأطروحة؟
*ديوان المواجع (محمد الباردي)، مملكة باردو (عبد القادر بن الحاج نصر)، رواية العراء (حفيظة قارة بيبان)، حارة السفهاء (علي مصباح)، هل كان بورقيبة يخشى حقاً معيوفة بنت الضاوي؟ (منصف الوهايبي).
*أي سبب لتناولك لأعمال عبد القادر بن الحاج نصر نقدياً بشكل لافت، سيما وقد أصدرت مؤخراً كتاباً حول تجربته؟
- بالنسبة لي، د. عبد القادر بن الحاج نصر رمز أدبي في تونس، فتجربته ممتدة وعميقة وتحتاج إلى حفر كثير. كتبت عن أعماله ولا أعتقد أني كتبت كل ما تستحقه مسيرته الأدبية، بل أشعر بتقصير كبير نحو أعماله مني ومن الساحة النقدية والأكاديمية، رغم ما بادر به بعض الباحثين من إنجاز أطروحات قيّمة حول رواياته، على غرار د. لطفي زكري ود. فاضل نايلي وغيرهم. وكانت روايته مملكة باردو مكوناً من مكونات أطروحتي أيضاً. وقد سعيت بدوري، ذات تجربة جامعية، إلى تدريس قصصه في مادة النثر لطلبة المعهد العالي للإنسانيات بقفصة. إنه أقل واجب تجاه رجل كتب للذاكرة الوطنية، وجمعتني به صداقة متينة منذ بدايات اهتمامي بالعمل النقدي. فمنذ تلك السنوات البعيدة لا يفوّت عودة له إلى الجهة لزيارتي ومقابلتي في تواضع ووفاء نادر.
*نلاحظ أيضاً اهتمامك بالتجربة الروائية لنصر بالحاج طيب من خلال مقالات ومداخلات مختلفة؟
- الدكتور نصر بالحاج طيب صوت قصصي وروائي آخر لم ينل بعد المكانة التي يستحقها في المشهد الروائي التونسي. تناولت رواياته في مقالات مختلفة، وأنتظر أن أنهي قريباً كتاباً حول تجربته، ولكني لم ألتقِ به بعد ولو مرة واحدة. جاءتني أخباره وكتبه في البداية من أصدقاء ممن واكبوا تجربته جيداً، فاكتشفت أن الرجل ينهل من أرض بكر لم تطأها أقلام الروائيين، أرض دوز وما جاورها، وما فيها من ثراء حضاري ينبت في الصحراء.
*كيف يبدو لك المشهد الروائي في تونس اليوم؟
- لا يجب أن نكون سلبيين، فهناك أصوات كثيرة تنحت مجدها الروائي. فالرواية التونسية من ناحية الكيف والكم بخير، وهي تعيش تجايلاً طريفاً، كبار الروائيين يؤازرهم الروائيون الجدد، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن هناك تجارب متصنّعة ومفتعلة وثقيلة القراءة.
*كناقد ومتابع للشأن الأدبي، ما هي قراءتك للمسابقات الأدبية المعاصرة؟
- هذه المسابقات ظاهرة مشجعة في ظاهرها، ولكن إعلان نتائجها صار يُرفق بالعويل وبالصراخ الفيسبوكي، فمع كل مسابقة ينطلق البعض في التعبير عن الرفض والتشكي من اللجان، وهي ظاهرة أنانية فحسب. فهؤلاء لا يعتبرون أن هناك أفضل منهم، وأنّ عدم فوزهم يعدّ نوعاً من تزييف النتائج، وقد صارت بعض التشكيات مضحكة وجالبة للسخرية، مع أنّ لجان التحكيم كثيراً ما تفاجئنا بخيارات ليست محل إجماع ومثيرة للجدل.
*في رصيدك إلى جانب دراساتك النقدية روايتان: “علالة الزيني” و“أحاديث جانبية”. فهل يمكن الحديث عن صلة ما بين العملين؟
- الروايتان تنهلان من نهر سردي مازال بكراً، فلا أعتقد أن كاتباً ما قد غاص بسرده في واقع مدينة سيدي بوزيد وزواياها. مازالت هذه المدينة القابعة في الهامش تملأ الذاكرة بما رسخ عنها في تلك السنوات الطويلة. ففضاءات الروايتين تتشابه وتتواصل، هي المدينة ودورها ومقاهيها، ومن أشهرها مقهى سمرقند. ولا تقف صلة الروايتين عند هذا الحد، فالشخصيات المستمدة والمختلقة من واقع محلي تعيش حياة روائية ثانية وتعود لتظهر بشكل جديد أو تنكشف أسرارها في رواية أحاديث جانبية.
تعيش الرواية الأولى زمن ما قبل السابع عشر من ديسمبر بشيء من التحدي والأمل، لكن الرواية الثانية تعود بشيء من الانكسار لتكشف تهاوي الحقائق والأحلام، ولتمزق صور الشخصيات القديمة. فبين الروايتين قراءة للواقع المحلي والوطني ومحاولة لقول المسكوت عنه، ولكشف العباءة الممزقة مثلما اختار الأديب محمد الجابلي في تقديمه لـ «الأحاديث».
حوار: محسن بن أحمد
النقد ليس موهبة ولا يُكتسب، ولكنه علم وله آليات وقواعد...
خرجت بي المشاغل النقدية من عوالم السرد وحرمتني متعته.
صار لنا نقد أدبي مكتوب بالذكاء الاصطناعي.. يفتخر به البعض وينسبه البعض الآخر لنفسه.. وهذه ظاهرة خطيرة.
بدأ حياته المهنية معلماً بأحد أرياف سيدي بوزيد. كان طموحه الكبير اقتحام عالم الأدب والفكر والبحث في أسرار الكتابة من أوسع الأبواب... كسب الرهان، وكللت جهوده بالحصول على شهادة الدكتوراه في اللغة والآداب العربية، وهو ما عبّد له الطريق ليكون أحد الأسماء البارزة في النقد الأدبي بتونس وعلى المستوى العربي.
هو الباحث والدكتور رياض خليف الذي جمع في مسيرته بين الكتابة والنقد. التقيناه فكان هذا الحديث:
*أي سؤال مُلحّ دفعك لاقتحام عتبة النقد الأدبي؟
- في البداية أشير إلى أنّ «الصباح» تظلّ محطّة أولى في تجربتي، في البدايات في الصحافة الجهوية والثقافية في التسعينات... بدايات التلميذ والطالب عاشق الكتابة. وقد استمرّ هذا العشق وتصاعد بما خضته من تجارب لاحقة في بعض الصحف، وملتُ إلى الجانب الأدبي. وفي الحقيقة فلقد زاوجت في تجربتي الأدبية بين الكتابتين السردية والنقدية، لكن الكتابة النقدية انتصرت وحرمتني متعة السرد. لقد صار النقد شغلاً يومياً خدمة للأدب التونسي ولتجارب الأصدقاء المهملة نقدياً. ولا أخفيك أنّ تعلقي بهذا الأمر دفعني إلى مواصلة الدراسات العليا التي توّجتها بالدكتوراه، لا رغبة في التدريس في الجامعة في بداية الأمر، ولكن رغبة في التعمق في النقد واكتساب آليات جديدة تمكنني من كتابة نصوص أفضل. فالنقد ليس موهبة ولا يُكتسب، ولكنه علم ومعرفة بآليات وقواعد...
*لماذا تعتبر أنّ الكتابة النقدية حرمتك من لذة السرد؟
- نعم، لقد خرجت بي المشاغل النقدية من عوالم السرد، فلديّ أعمال سردية مختلفة لم أجد فرصة للعودة إليها لإكمالها أو مراجعتها، من ذلك رواية كتبت خطوطها الرئيسية منذ 2011 وقصص أخرى. أما عن اللذة والمتعة فمن الطبيعي أن يكون السرد فضاء حرية وإبداع يعبر عن الذات وما يراودها من أفكار، بل هو لحظة تنفّس في ظل ضيق الحياة وتأزّماتها. أما العمل النقدي فهو عمل مقيّد بقوانين أدبية وبنظريات مختلفة، وليس هناك للذات مجال كثير. أدين للسرد القصصي والروائي بأنه كان سندي في تلك السنوات التي تعرفها، سنوات البطالة والعطالة التي قضيتها أكتب وأكتب، ولعلّ أعمالي السردية التي صدرت في كتب أو في صحف حصيلة لسنوات الضياع في مقاهي المدينة...
* ولكن البعض يهاجم الأكاديميين ونقدهم؟
- هذا موضوع متشعب. الأكاديميون يكتبون نصوصاً صعبة وينتقون المدونات، ولكن ما يكتبونه ليس سحراً أو وحياً، هم يكتبون بأدوات علمية، وبالتالي لا يمكن القدح في العلمي والانتصار للرعواني.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنّ نزول بعض الجامعيين إلى الساحة وانخراطهم في كتابات مجاملة قد جلب الكثير من النقد، بل هناك مشكلة سوء فهم.
وأعتقد أن النقد الأكاديمي الموجّه للخارج الجامعي يجب أن ينزع العباءة الجامعية ويتخفّف قليلاً حتى يستجيب للذائقة الأدبية، فعندما تحاضر في ملتقى أدبي فأنت أمام مستويات مختلفة، قد لا يكون فيهم جامعيون وأكثرهم عصاميون، ولذا يجب تعديل الخطاب حتى يفهمه الناس...
*أي تقنيات خاصة في دراستك للأعمال الأدبية؟
- أحاول في كتاباتي النقدية العادية وليس الأكاديمية أن أتجنب شيئين:
أولاً، النقد المدرسي، فهو متروك لحصص شرح النص أو حصص تطبيق المناهج النقدية.
وثانياً، النقد الشكلاني الذي يفصل النص الأدبي عن واقعه، قاصراً العملية النقدية على مظاهر فنية داخلية، قاتلاً بذلك روح النص وعازلاً له في مجال اللغة.
فأنا أريد أن أقتنص اللحظات الحيّة من النص الأدبي، أتجه إلى روح خطابه، وهذا يفسّر ميلي إلى الدراسات السوسيولوجية والسوسيونصية التي تحفر في الخطاب الاجتماعي والإيديولوجي... ولعلي قد أصبحت بحكم التخصص أميل إلى الدراسات المتعلقة بالسرد من قصة ورواية.
*هل من الضروري اقتصار الناقد على منهج واحد يطبّقه على النص الأدبي؟
- هذه الضرورة مدرسية أو جامعية فقط، حين يكون الباحث أو الطالب مطالباً بتطبيق منهج أدبي استجابة للمقررات التعليمية، أما حين يدرس الناقد خارج هذا المجال عملاً ما فهو حرّ في تنويع مناهجه، فالنص يقبل أن يتناوله أيّ منهج، بل إنّ الأبحاث الآن تتجه إلى نبذ المنهج الواحد واعتماد المنهج البيني الذي يتيح تطبيق مختلف المناهج في آن واحد، وهو ما أنتج ما يسمى بالدراسات البينيّة...
*هل يمكن أن يتصدى النقد الأدبي للظواهر الجديدة القادمة من المجال الرقمي؟
- هي ظاهرة خطيرة وخطيرة جداً، فلقد صار لنا نقد أدبي مكتوب بالذكاء الاصطناعي، يفتخر به البعض وينسبه البعض الآخر لنفسه، ولكنّ ذلك لن ينطلي إلا على المغفلين، فالقارئ الحصيف يدرك التزييف من خلال عدة مؤشرات، ولكننا جميعاً نصمت خجلاً أو لامبالاة، والناقد بوصفه محلل خطابات وباحثاً في أعماقها يمكنه اكتشاف هذه اللعبة، لكنه لا يمكن أن يحيط بمختلف التفاصيل، لذلك فالفرصة مواتية لظهور سلك أدبي آخر يبحث في قضايا انتحال النصوص الرقمية.
*يشتكي الأدباء العرب من النقد، فهل هناك أزمة نقد فعلاً؟**
- الناقد العربي أيضاً يعيش الأزمة. فهو يمارس النقد من باب الهواية والتطوع عادة، فليس هناك نقاد وظيفتهم النقد. فنحن نقتص أوقات النقد من حياتنا ومن ليلنا وأزمنة راحتنا. أما الفضاءات النقدية فغير متاحة، وأغلبها مجاني، هذا إن توفرت. وهذه أزمة تعمقت في بلادنا مع اختفاء الملاحق الثقافية القديمة وندرة المجلات الثقافية، فليس لنا غير مجلة «الحياة الثقافية»...
بهذا الضيق والاختناق لا يمكن لنا أن نتحدث عن تقصير نقدي ما دامت الظروف غير ملائمة للناقد كي ينطلق وينتظم، وهكذا تصبح ممارسته النقدية مهمشة. هذا من ناحية شكلية، أما من ناحية الممارسة فللأزمة وجه آخر...
*أي وجه آخر لأزمة النقد؟
- يختار الناقد عموماً تجارب يشعر بجودتها أو قدرتها على النجاح لاحقاً، فهو ليس مجبراً على الكتابة عن كل من هبّ ودبّ. فهذا القرار فردي وذاتي، ولكن البعض يريد أن يفرض نصوصه وإلا فلا معنى للناقد والمنقود ولحركة النقد عندهم. والحال أن الحركة النقدية مستمرة، وأن نقاداً وباحثين من مستويات مختلفة يشتغلون بشكل مستمر على قراءة النص الأدبي التونسي ودراسته رغم الظروف التي كنت بصدد ذكرها...
*هل تريد القول إن هناك تحاملاً على النقد؟
- طبعاً، يريد البعض أن يقتصر على أعمالهم الفعل النقدي وتحويله إلى مدائح مجانية. لا يكون البعض راضياً عن نقدك لعمله ما لم تفرده بمديح جلي. عندما يقول البعض هناك أزمة نقد، فهم يتحدثون انطلاقاً من وضعيتهم الخاصة. ولكن مع هذا لا بد من القول بصوت عالٍ إن هناك الكثير من النصوص الجيدة أهملها النقد في مقابل الإعلاء من شأن نصوص أخرى يدرك القارئ منذ البداية ضعفها وأنها لا تستحق.
*كناقد، هل تضطرّ لمجاملة بعض النصوص؟
- لا أمارس فعل المجاملة، ولكني أمارس فعل رفع المعنويات. بعض الأصوات أرى فيها بوادر جدية أسعى لتشجيعها، لا بتأليهها والسمو بها، ولكن بدراسة جوانب من عملها رفعاً لمعنوياتها. وقد رفضت الكتابة عن أعمال أصدقاء مقرّبين لما ظهر في أعمالهم من رداءة أو ضعف.
*اهتممت في أطروحتك الصادرة تحت عنوان “الرواية وتشكيل التاريخ، بتخييل التاريخ روائياً”، فما هي أبرز الاستنتاجات التي عرضتها من خلال دراستك لروايات تونسية؟
- اخترنا المدوّنة الروائية المحلية الصادرة في السنوات الأخيرة لما فيها من حرص على إضفاء الطابع الإنشائي على الكتابة الروائية التي تنهل من التاريخ، وجعلها أكثر جمالية ومفارقة للخطاب التاريخي الرسمي، وأكثر تحرّراً من قيود التاريخ والسلطة والثقافة الرسمية، بما تحمله بين طياتها من تمرّد وتجاوز للخطاب الرسمي، وبما لاح فيها من تطور جمالي ونأي عن التأريخ. وقد قاربنا هذه المدوّنة مقاربة حوارية للكتابة الروائية الجديدة للتاريخ التي تتخلص من التاريخ الرسمي والسلطوي وتكتب تاريخاً جديداً يقتحمه الهامش بمختلف تجلياته ويفتح الباب للتخييلي.
اهتممنا في المدخل النظري بالرواية وإعادة تشكيل التاريخ، وأما الباب الأول فخصصناه للتشكيل السردي للتاريخ بما هو تعالق للتاريخي والتخييلي وسرد للتاريخ بأكثر من صوت وبأكثر من جنس، وأما الباب الثاني فخصصناه للتشكيل الإيديولوجي للتاريخ باعتباره تشكيلاً كرنفالياً ساخراً لا يخلو من البعد الإيديولوجي.
*ما هي الروايات التي تم الاهتمام بها في هذه الأطروحة؟
*ديوان المواجع (محمد الباردي)، مملكة باردو (عبد القادر بن الحاج نصر)، رواية العراء (حفيظة قارة بيبان)، حارة السفهاء (علي مصباح)، هل كان بورقيبة يخشى حقاً معيوفة بنت الضاوي؟ (منصف الوهايبي).
*أي سبب لتناولك لأعمال عبد القادر بن الحاج نصر نقدياً بشكل لافت، سيما وقد أصدرت مؤخراً كتاباً حول تجربته؟
- بالنسبة لي، د. عبد القادر بن الحاج نصر رمز أدبي في تونس، فتجربته ممتدة وعميقة وتحتاج إلى حفر كثير. كتبت عن أعماله ولا أعتقد أني كتبت كل ما تستحقه مسيرته الأدبية، بل أشعر بتقصير كبير نحو أعماله مني ومن الساحة النقدية والأكاديمية، رغم ما بادر به بعض الباحثين من إنجاز أطروحات قيّمة حول رواياته، على غرار د. لطفي زكري ود. فاضل نايلي وغيرهم. وكانت روايته مملكة باردو مكوناً من مكونات أطروحتي أيضاً. وقد سعيت بدوري، ذات تجربة جامعية، إلى تدريس قصصه في مادة النثر لطلبة المعهد العالي للإنسانيات بقفصة. إنه أقل واجب تجاه رجل كتب للذاكرة الوطنية، وجمعتني به صداقة متينة منذ بدايات اهتمامي بالعمل النقدي. فمنذ تلك السنوات البعيدة لا يفوّت عودة له إلى الجهة لزيارتي ومقابلتي في تواضع ووفاء نادر.
*نلاحظ أيضاً اهتمامك بالتجربة الروائية لنصر بالحاج طيب من خلال مقالات ومداخلات مختلفة؟
- الدكتور نصر بالحاج طيب صوت قصصي وروائي آخر لم ينل بعد المكانة التي يستحقها في المشهد الروائي التونسي. تناولت رواياته في مقالات مختلفة، وأنتظر أن أنهي قريباً كتاباً حول تجربته، ولكني لم ألتقِ به بعد ولو مرة واحدة. جاءتني أخباره وكتبه في البداية من أصدقاء ممن واكبوا تجربته جيداً، فاكتشفت أن الرجل ينهل من أرض بكر لم تطأها أقلام الروائيين، أرض دوز وما جاورها، وما فيها من ثراء حضاري ينبت في الصحراء.
*كيف يبدو لك المشهد الروائي في تونس اليوم؟
- لا يجب أن نكون سلبيين، فهناك أصوات كثيرة تنحت مجدها الروائي. فالرواية التونسية من ناحية الكيف والكم بخير، وهي تعيش تجايلاً طريفاً، كبار الروائيين يؤازرهم الروائيون الجدد، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن هناك تجارب متصنّعة ومفتعلة وثقيلة القراءة.
*كناقد ومتابع للشأن الأدبي، ما هي قراءتك للمسابقات الأدبية المعاصرة؟
- هذه المسابقات ظاهرة مشجعة في ظاهرها، ولكن إعلان نتائجها صار يُرفق بالعويل وبالصراخ الفيسبوكي، فمع كل مسابقة ينطلق البعض في التعبير عن الرفض والتشكي من اللجان، وهي ظاهرة أنانية فحسب. فهؤلاء لا يعتبرون أن هناك أفضل منهم، وأنّ عدم فوزهم يعدّ نوعاً من تزييف النتائج، وقد صارت بعض التشكيات مضحكة وجالبة للسخرية، مع أنّ لجان التحكيم كثيراً ما تفاجئنا بخيارات ليست محل إجماع ومثيرة للجدل.
*في رصيدك إلى جانب دراساتك النقدية روايتان: “علالة الزيني” و“أحاديث جانبية”. فهل يمكن الحديث عن صلة ما بين العملين؟
- الروايتان تنهلان من نهر سردي مازال بكراً، فلا أعتقد أن كاتباً ما قد غاص بسرده في واقع مدينة سيدي بوزيد وزواياها. مازالت هذه المدينة القابعة في الهامش تملأ الذاكرة بما رسخ عنها في تلك السنوات الطويلة. ففضاءات الروايتين تتشابه وتتواصل، هي المدينة ودورها ومقاهيها، ومن أشهرها مقهى سمرقند. ولا تقف صلة الروايتين عند هذا الحد، فالشخصيات المستمدة والمختلقة من واقع محلي تعيش حياة روائية ثانية وتعود لتظهر بشكل جديد أو تنكشف أسرارها في رواية أحاديث جانبية.
تعيش الرواية الأولى زمن ما قبل السابع عشر من ديسمبر بشيء من التحدي والأمل، لكن الرواية الثانية تعود بشيء من الانكسار لتكشف تهاوي الحقائق والأحلام، ولتمزق صور الشخصيات القديمة. فبين الروايتين قراءة للواقع المحلي والوطني ومحاولة لقول المسكوت عنه، ولكشف العباءة الممزقة مثلما اختار الأديب محمد الجابلي في تقديمه لـ «الأحاديث».