هل يكفي أن تستورد الإذاعات العربية برمجيات جاهزة أم أن عليها أن تصنع أدواتها الخاصة؟
المجتمعات العربية لا تملـــك ترف تجــــاهل الذكاء الاصطنـــــاعي
ضعف الموارد والبرمجيات العربية يجعل الثقافة والتراث غير ممثلين بالشكل المطلوب
شهد مقر اتحاد إذاعات الدول العربية بتونس، أمس الاثنين 22 سبتمبر 2025، انعقاد ورشة عمل حول «الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الإذاعي»، في إطار أعمال اللجنة الدائمة للإذاعة. لم يكن هذا اللقاء حدثًا تقنيًا عاديًا، بل فرصة لفتح نقاش واسع حول مستقبل الإذاعة العربية في زمن الذكاء الاصطناعي، حيث تداخلت الأسئلة المهنية مع القضايا الثقافية والقانونية، وبرزت الحاجة إلى توازن دقيق بين الاستفادة من قدرات الخوارزميات وحماية القيم الإنسانية التي صاغت الإعلام لعقود.
استعرضت الجلسة الأولى، التي جاءت تحت عنوان «رحلة إلى مستقبل العمل الإذاعي»، نماذج من الإدارة والتخطيط باستخدام الذكاء الاصطناعي في مؤسسات إعلامية عربية على غرار إذاعة السودان، إذاعة قطر وإذاعة الكويت، ومنها تُستخلص إشكالية على قدر من الأهمية والجدية: هل يكفي أن تستورد الإذاعات العربية برمجيات جاهزة، أم أن عليها أن تصنع أدواتها الخاصة؟
المشاركون أجمعوا على أن التجارب الناجحة، خاصة منها تجربة هيئة الإذاعة البريطانية BBC، لا تقوم فقط على استخدام الأدوات، بل على دمجها في منظومة قيمية ومؤسسية متكاملة. فالـ»بي بي سي» مثلاً طوّرت خوارزميات لمساعدة الصحفيين في أرشفة الصوت وضبط النشرات، لكنها في الوقت نفسه وضعت أدلة تحريرية واضحة تفرض مراجعة بشرية إلزامية قبل البث. وفي إحدى التجارب الغربية الأخرى، تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل اهتمامات المستمعين واقتراح محتوى شخصي، لكن الإدارة شددت منذ البداية على أن «الخوارزمية لا تحل محل المحرر».
في هذا السياق، شدّد الخبير المصري أحمد الشيخ، في تصريح لـ«الصباح»، على أن «المؤسسة الإعلامية لا بد أن تبدأ بسياسة واضحة تحدد متى وكيف ولماذا تستخدم الذكاء الاصطناعي». وأضاف: «الخطر الأكبر هو أن نكلّف الذكاء الاصطناعي بمهام اتخاذ القرار، بينما دوره الطبيعي أن يكون أداة لتسريع العمل وتوفير الوقت. القرار النهائي يظل بيد الإنسان.»
غير أن حديث الخبير المصري لم يقتصر على الجانب المهني، بل امتد إلى واحدة من أكثر القضايا حساسية اليوم: الملكية الفكرية. ففي رأيه، لا يمكن قبول أن تمنعنا بعض المنصات من توليد أصوات زعماء سياسيين عالميين، بينما تسمح بتقليد أصوات فنانين عرب أو إعلاميين محليين. «يجب أن تكون هناك مساواة في حماية الملكية الفكرية للأصوات والصور. الصوت، حتى بعد وفاة صاحبه، يظل ملكًا لعائلته. وأي استخدام غير مشروع يفتح الباب أمام فوضى أخلاقية وقانونية.»
أما الخبير التونسي وجدي الزغواني فقد ذهب في نفس الاتجاه، مؤكدًا أنّ المجتمعات العربية لا تملك ترف تجاهل الذكاء الاصطناعي، وقال: «لا يمكننا الهروب منه، بل يجب أن نستوعبه عبر التثقيف الرقمي منذ الطفولة. من رياض الأطفال إلى الجامعة، يجب أن يتعلم الجيل الجديد كيف يستخدم هذه الأدوات، لأن الذكاء الاصطناعي سيدخل حياتنا اليومية دون استشارة أحد.»
وأشار إلى أن «المشكلة في العالم العربي تكمن في غياب الوضوح القانوني: ما هو المسموح وما هو الممنوع؟ هل يجوز استخدام أصوات الفنانين بعد وفاتهم؟ من يملك بيانات المستمعين؟ وما هي حدود الخصوصية؟ في غياب هذه الأطر، تصبح المؤسسات الإعلامية مكشوفة أمام المخاطر.» وأضاف أن الدول الرائدة مثل قطر والكويت بدأت بالفعل في تطوير استراتيجيات رقمية توفر بنى تحتية للبيانات وتُدخل الذكاء الاصطناعي في إدارة المؤسسات الإعلامية، بينما ما تزال دول أخرى تعاني من غياب البيانات أصلاً، وهو ما يجعلها عاجزة عن اللحاق بالركب.
من جهته، أوضح باسل الزعبي، مدير إدارة التكنولوجيا في اتحاد إذاعات الدول العربية، أن الذكاء الاصطناعي يقوم على خوارزميات ونماذج تدريبية، لكن ضعف الموارد والبرمجيات العربية يجعل الثقافة والتراث غير ممثلين بالشكل المطلوب. وأكد أن الاتحاد يعمل على إنشاء مجموعة عربية للذكاء الاصطناعي، تكون مهمتها تطوير نماذج محلية وحماية الخصوصية والملكية الفكرية.
وشدّد الزعبي على ضرورة إعداد مدوّنات سلوك خاصة بالصحفيين، تراعي القيم العربية والإسلامية، وتضع حدودًا واضحة بين ما هو مقبول وما هو مرفوض. فالإذاعة ليست مجرد محتوى مسموع، بل فضاء ثقافي يعكس الهوية ويصوغ الوعي الجمعي. ومن هنا تأتي أهمية أن يكون للمنطقة صوتها الخاص في تحديد كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي.
وما يمكن استخلاصه من هذه الورشة أن مستقبل الإذاعة في المنطقة العربية لن يتحدد فقط بمدى سرعة اقتناء الأدوات، بل بمدى قدرة المؤسسات على صياغة أخلاقيات جديدة تحمي الثقافة وتحترم القوانين. فالذكاء الاصطناعي قادر على تحسين الأداء وتوسيع الخيارات، لكنه قد يهدد الثقة إذا لم تتم حوكمته.
الخبير أحمد الشيخ لخّص الفكرة قائلاً: «مع كل تطور تكنولوجي يكون هناك ضريبة، لكن المستفيد هو من يطور نفسه ويستشرف المستقبل. فالذكاء الاصطناعي لن يقضي على المهنة، بل سيغير طبيعتها. والخيار أمامنا: إما أن نواكب هذا التغيير ونضبطه بقوانين وأخلاقيات، أو نتركه يفرض قواعده علينا.»
الإذاعة، التي رافقت العالم منذ أكثر من قرن، تقف اليوم أمام مفترق طرق. التكنولوجيا تفتح لها آفاقًا جديدة، لكن هذه الآفاق مشروطة بوعي ثقافي وقانوني يضمن أن تظل وسيلة لصوت الإنسان، لا مجرد صدى للخوارزميات. وبين من يرى في الذكاء الاصطناعي تهديدًا ومن يعتبره فرصة، يبدو أن الجواب الوحيد الممكن هو أن تتبنى الإذاعة العربية استراتيجية مزدوجة: استثمار في التكنولوجيا، وحماية للقيم التي تجعل من الصوت أكثر من ذبذبات... تجعله حاملًا للمعنى والذاكرة والهوية.
إيمان عبد اللطيف
هل يكفي أن تستورد الإذاعات العربية برمجيات جاهزة أم أن عليها أن تصنع أدواتها الخاصة؟
المجتمعات العربية لا تملـــك ترف تجــــاهل الذكاء الاصطنـــــاعي
ضعف الموارد والبرمجيات العربية يجعل الثقافة والتراث غير ممثلين بالشكل المطلوب
شهد مقر اتحاد إذاعات الدول العربية بتونس، أمس الاثنين 22 سبتمبر 2025، انعقاد ورشة عمل حول «الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الإذاعي»، في إطار أعمال اللجنة الدائمة للإذاعة. لم يكن هذا اللقاء حدثًا تقنيًا عاديًا، بل فرصة لفتح نقاش واسع حول مستقبل الإذاعة العربية في زمن الذكاء الاصطناعي، حيث تداخلت الأسئلة المهنية مع القضايا الثقافية والقانونية، وبرزت الحاجة إلى توازن دقيق بين الاستفادة من قدرات الخوارزميات وحماية القيم الإنسانية التي صاغت الإعلام لعقود.
استعرضت الجلسة الأولى، التي جاءت تحت عنوان «رحلة إلى مستقبل العمل الإذاعي»، نماذج من الإدارة والتخطيط باستخدام الذكاء الاصطناعي في مؤسسات إعلامية عربية على غرار إذاعة السودان، إذاعة قطر وإذاعة الكويت، ومنها تُستخلص إشكالية على قدر من الأهمية والجدية: هل يكفي أن تستورد الإذاعات العربية برمجيات جاهزة، أم أن عليها أن تصنع أدواتها الخاصة؟
المشاركون أجمعوا على أن التجارب الناجحة، خاصة منها تجربة هيئة الإذاعة البريطانية BBC، لا تقوم فقط على استخدام الأدوات، بل على دمجها في منظومة قيمية ومؤسسية متكاملة. فالـ»بي بي سي» مثلاً طوّرت خوارزميات لمساعدة الصحفيين في أرشفة الصوت وضبط النشرات، لكنها في الوقت نفسه وضعت أدلة تحريرية واضحة تفرض مراجعة بشرية إلزامية قبل البث. وفي إحدى التجارب الغربية الأخرى، تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل اهتمامات المستمعين واقتراح محتوى شخصي، لكن الإدارة شددت منذ البداية على أن «الخوارزمية لا تحل محل المحرر».
في هذا السياق، شدّد الخبير المصري أحمد الشيخ، في تصريح لـ«الصباح»، على أن «المؤسسة الإعلامية لا بد أن تبدأ بسياسة واضحة تحدد متى وكيف ولماذا تستخدم الذكاء الاصطناعي». وأضاف: «الخطر الأكبر هو أن نكلّف الذكاء الاصطناعي بمهام اتخاذ القرار، بينما دوره الطبيعي أن يكون أداة لتسريع العمل وتوفير الوقت. القرار النهائي يظل بيد الإنسان.»
غير أن حديث الخبير المصري لم يقتصر على الجانب المهني، بل امتد إلى واحدة من أكثر القضايا حساسية اليوم: الملكية الفكرية. ففي رأيه، لا يمكن قبول أن تمنعنا بعض المنصات من توليد أصوات زعماء سياسيين عالميين، بينما تسمح بتقليد أصوات فنانين عرب أو إعلاميين محليين. «يجب أن تكون هناك مساواة في حماية الملكية الفكرية للأصوات والصور. الصوت، حتى بعد وفاة صاحبه، يظل ملكًا لعائلته. وأي استخدام غير مشروع يفتح الباب أمام فوضى أخلاقية وقانونية.»
أما الخبير التونسي وجدي الزغواني فقد ذهب في نفس الاتجاه، مؤكدًا أنّ المجتمعات العربية لا تملك ترف تجاهل الذكاء الاصطناعي، وقال: «لا يمكننا الهروب منه، بل يجب أن نستوعبه عبر التثقيف الرقمي منذ الطفولة. من رياض الأطفال إلى الجامعة، يجب أن يتعلم الجيل الجديد كيف يستخدم هذه الأدوات، لأن الذكاء الاصطناعي سيدخل حياتنا اليومية دون استشارة أحد.»
وأشار إلى أن «المشكلة في العالم العربي تكمن في غياب الوضوح القانوني: ما هو المسموح وما هو الممنوع؟ هل يجوز استخدام أصوات الفنانين بعد وفاتهم؟ من يملك بيانات المستمعين؟ وما هي حدود الخصوصية؟ في غياب هذه الأطر، تصبح المؤسسات الإعلامية مكشوفة أمام المخاطر.» وأضاف أن الدول الرائدة مثل قطر والكويت بدأت بالفعل في تطوير استراتيجيات رقمية توفر بنى تحتية للبيانات وتُدخل الذكاء الاصطناعي في إدارة المؤسسات الإعلامية، بينما ما تزال دول أخرى تعاني من غياب البيانات أصلاً، وهو ما يجعلها عاجزة عن اللحاق بالركب.
من جهته، أوضح باسل الزعبي، مدير إدارة التكنولوجيا في اتحاد إذاعات الدول العربية، أن الذكاء الاصطناعي يقوم على خوارزميات ونماذج تدريبية، لكن ضعف الموارد والبرمجيات العربية يجعل الثقافة والتراث غير ممثلين بالشكل المطلوب. وأكد أن الاتحاد يعمل على إنشاء مجموعة عربية للذكاء الاصطناعي، تكون مهمتها تطوير نماذج محلية وحماية الخصوصية والملكية الفكرية.
وشدّد الزعبي على ضرورة إعداد مدوّنات سلوك خاصة بالصحفيين، تراعي القيم العربية والإسلامية، وتضع حدودًا واضحة بين ما هو مقبول وما هو مرفوض. فالإذاعة ليست مجرد محتوى مسموع، بل فضاء ثقافي يعكس الهوية ويصوغ الوعي الجمعي. ومن هنا تأتي أهمية أن يكون للمنطقة صوتها الخاص في تحديد كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي.
وما يمكن استخلاصه من هذه الورشة أن مستقبل الإذاعة في المنطقة العربية لن يتحدد فقط بمدى سرعة اقتناء الأدوات، بل بمدى قدرة المؤسسات على صياغة أخلاقيات جديدة تحمي الثقافة وتحترم القوانين. فالذكاء الاصطناعي قادر على تحسين الأداء وتوسيع الخيارات، لكنه قد يهدد الثقة إذا لم تتم حوكمته.
الخبير أحمد الشيخ لخّص الفكرة قائلاً: «مع كل تطور تكنولوجي يكون هناك ضريبة، لكن المستفيد هو من يطور نفسه ويستشرف المستقبل. فالذكاء الاصطناعي لن يقضي على المهنة، بل سيغير طبيعتها. والخيار أمامنا: إما أن نواكب هذا التغيير ونضبطه بقوانين وأخلاقيات، أو نتركه يفرض قواعده علينا.»
الإذاعة، التي رافقت العالم منذ أكثر من قرن، تقف اليوم أمام مفترق طرق. التكنولوجيا تفتح لها آفاقًا جديدة، لكن هذه الآفاق مشروطة بوعي ثقافي وقانوني يضمن أن تظل وسيلة لصوت الإنسان، لا مجرد صدى للخوارزميات. وبين من يرى في الذكاء الاصطناعي تهديدًا ومن يعتبره فرصة، يبدو أن الجواب الوحيد الممكن هو أن تتبنى الإذاعة العربية استراتيجية مزدوجة: استثمار في التكنولوجيا، وحماية للقيم التي تجعل من الصوت أكثر من ذبذبات... تجعله حاملًا للمعنى والذاكرة والهوية.