في شهر ديسمبر ومنذ تسعين سنة مضت، كانت تونس على موعد مع حدث فني هام وحاسم، حدث مثّل علامة فارقة في الإنتاج الموسيقي التونسي الأصيل، من خلال الإعلان الرسمي عن تأسيس فرقة الرشيدية. فرقة نراها اليوم تصارع من أجل البقاء في عصر غلبت عليه الفوضى الموسيقية على أكثر من مستوى.
في هذه الورقة، نتوقف عند لحظات الإعلان الرسمي عن تأسيس الرشيدية، لتكون بذلك أول خط دفاع عن الهوية الموسيقية التونسية الأصيلة. وكان ذلك منذ تسعين سنة.
*1934 صدور أول قانون أساسي
منذ تسعين سنة، اجتمع عدد من أهل الثقافة والفن والموسيقى في تونس، ليتم التوصل إلى قرار التصدي لموجة الموسيقى الهابطة التي اكتسحت البلاد، والعمل على إنقاذ الهوية الإبداعية التونسية الأصيلة من براثن التردي والرداءة. واستقر الرأي على بعث جمعية تعنى بالموروث الموسيقي وتحفظه.
وكان يوم السبت 22 ديسمبر 1934 – أي منذ تسعين سنة – بأيامه ولياليه، شاهدًا على الإعلان الرسمي لميلاد فرقة الرشيدية. كانت لحظة فارقة في مسيرة هذه الفرقة الموسيقية التونسية الأصيلة. في يوم 22 ديسمبر، كان شاهدًا على عرض مشروع النظام الأساسي لجمعية الرشيدية على مؤسسيها، من قبل اللجنة القانونية التي انكبّت طيلة أسبوع كامل على صياغة هذا المشروع.
وممّا جاء في أول قانون أساسي للرشيدية كما ورد في المؤلف القيم للأستاذ المختار المستيسر "نشأة الرشيدية... المعلن والمخفي"
الفصل الأول:
بعثت بتونس، وبين الأعضاء المؤسسين لاحقًا، جمعية ودية تهدف إلى:
الحفاظ على الموسيقى التونسية وإحيائها وتنميتها في إطار التقاليد الغنائية التونسية السليمة.
تشجيع تدريس ونشر هذا الفن بين كافة شرائح السكان.
ونقرأ في الفصل السابع من أول قانون أساسي:
تضاف إلى الهيئة ثلاث لجان تُنتخب لفترة أربع سنوات من قبل المجلس العام، وتختار من بين أعضائها رئيسًا وكاتبًا ومقررًا:
أ) لجنة فنية مكلفة بالدراسات الموسيقية.
ب) لجنة أدبية مكلفة بدراسة المواضيع الأدبية المتعلقة بالموسيقى.
ج) لجنة دعاية مكلفة بتأمين إشعاع الجمعية والدعاية لأهدافها.
ومنعت الفصل العاشر من أول قانون أساسي للرشيدية، منعا باتًا، كل المناقشات السياسية أو الدينية أو الخارجة عن أهداف الجمعية. كما بيّن الفصل الحادي عشر أن موارد الجمعية تتكون من الاشتراكات السنوية للأعضاء الناشطين، ومن الهبات والمنح الرسمية، ومداخيل الحفلات وغيرها.
وشهد اجتماع إعداد أول قانون أساسي في جانب آخر منه تحديد اسم الفرقة، وهو الاسم «الرشيدية جمعية للحفاظ على الأغاني التونسية». وكان من الضروري على مؤسسيها، أسوة بالتقليد المتبع، إطلاق اسم علم أو وصف فني يرمز إلى أهدافها، فكان اسم محمد الرشيد باي، الذي برره مصطفى صفر، اعتبارًا لجهوده طيلة ستة عشر سنة قضاها في الجزائر لتدوين وترتيب الأربع عشرة نوبة المتمثلة في أصول الغناء.
وكان محمد الرشيد باي، الذي اختار التنازل عن العرش لصالح شقيقه وولي عهده علي باي، قد برز خلال عهده القصير بملازمة أهل الأدب والفن، إذ كان يكتب الشعر ويسمع الموشحات الأندلسية ويتقن العزف على آلة الكمنجة.
جانفي 1935: أول حفل
كان الموعد يوم الأربعاء 2 جانفي 1935، كما ورد ذلك في كتاب الأستاذ المختار المستيسر "نشأة الرشيدية: المعلن والمخفي"، مع أول عرض موسيقي للرشيدية بعد تأسيسها، حفل احتضنه قصر الجمعيات الفرنسية (دار الثقافة ابن رشيق حاليًا). وتحدث الأستاذ المختار المستيسر في كتابه القيم عن هذا الحدث التاريخي في مسيرة الرشيدية، بالقول: "اعتمدت الهيئة الوقتية على النواة الصلبة لجوقتي البارون ومقهى المرابط، ونعني الفنانين محمد غانم وخميس الترنان، وأقنعت شافية رشدي، ثاني أشهر مطربة على الساحة، بالمساهمة في العرض، وأضيف إليهم الشيخ لالو بالشيشي، رغم تقدمه في السن، لضمان مساندة رموز الأقلية التونسية اليهودية".
تضمن أول حفل للرشيدية منذ تسعين سنة مداخلة لرئيس الجمعية مصطفى صفر، دعا فيها المثقفين بوجوب حفظ ذوق الشعب من أدران الإسفاف والضحالة والتقليد الأعمى، مؤكدًا على الأهداف النبيلة التي بعثت من أجلها الرشيدية، وتحديد الرصيد الثمين لتراث الموشحات والأغاني ذات الطابع الوطني الأصيل.
وقدم محمد الأصرم مسامرة حول تاريخ الموسيقى التونسية، كان يدعمها من حين إلى آخر بشواهد حية عن طبوع وأوزان المألوف التونسي. وانطلقت إثر ذلك السهرة الموسيقية بعزف وغناء نوبة الحسين، ثم بشرف «الببرز»، فقصيد من نغمة العود والسلافة، فأغنية «يا قداه انعاني».
وخصص الجزء الموسيقي الثاني للغناء البدوي من خلال فرقتين شعبيتين. المجموعة الأولى قدّمت وصلة رثاء للفنان الشعبي عبد القادر زغدودة، أما الفرقة الثانية فهي فرقة الفنان سيدي بوسعيد الشهير سالم بوذينة، التي قدمت في مقام العرضاوي «لا كنت نغني ولا نعرف الغنا»، أعقبتها ملزومة «تستاهلي خلخال يا شلبية». وعادت الفرقة الوترية لتصاحب شافية رشدي في وصلة من المالوف، ثم أغنية «كحلة لهذاب»، واختتم الحفل بالموشح الشهير «أليف يا سلطان».
علما أن الفرقة الوترية للرشيدية ضمت: خميس الترنان ولالو بالشيشي على العود التونسي، ومحمد غانم على آلة الرباب، ومحمد بن الحاج على آلة الكمنجة، ومحمد بن حسين على آلة الدف، الذي كان منشدا أيضًا، إلى جانب أحمد إدريس.
محسن بن أحمد
تونس – الصباح
في شهر ديسمبر ومنذ تسعين سنة مضت، كانت تونس على موعد مع حدث فني هام وحاسم، حدث مثّل علامة فارقة في الإنتاج الموسيقي التونسي الأصيل، من خلال الإعلان الرسمي عن تأسيس فرقة الرشيدية. فرقة نراها اليوم تصارع من أجل البقاء في عصر غلبت عليه الفوضى الموسيقية على أكثر من مستوى.
في هذه الورقة، نتوقف عند لحظات الإعلان الرسمي عن تأسيس الرشيدية، لتكون بذلك أول خط دفاع عن الهوية الموسيقية التونسية الأصيلة. وكان ذلك منذ تسعين سنة.
*1934 صدور أول قانون أساسي
منذ تسعين سنة، اجتمع عدد من أهل الثقافة والفن والموسيقى في تونس، ليتم التوصل إلى قرار التصدي لموجة الموسيقى الهابطة التي اكتسحت البلاد، والعمل على إنقاذ الهوية الإبداعية التونسية الأصيلة من براثن التردي والرداءة. واستقر الرأي على بعث جمعية تعنى بالموروث الموسيقي وتحفظه.
وكان يوم السبت 22 ديسمبر 1934 – أي منذ تسعين سنة – بأيامه ولياليه، شاهدًا على الإعلان الرسمي لميلاد فرقة الرشيدية. كانت لحظة فارقة في مسيرة هذه الفرقة الموسيقية التونسية الأصيلة. في يوم 22 ديسمبر، كان شاهدًا على عرض مشروع النظام الأساسي لجمعية الرشيدية على مؤسسيها، من قبل اللجنة القانونية التي انكبّت طيلة أسبوع كامل على صياغة هذا المشروع.
وممّا جاء في أول قانون أساسي للرشيدية كما ورد في المؤلف القيم للأستاذ المختار المستيسر "نشأة الرشيدية... المعلن والمخفي"
الفصل الأول:
بعثت بتونس، وبين الأعضاء المؤسسين لاحقًا، جمعية ودية تهدف إلى:
الحفاظ على الموسيقى التونسية وإحيائها وتنميتها في إطار التقاليد الغنائية التونسية السليمة.
تشجيع تدريس ونشر هذا الفن بين كافة شرائح السكان.
ونقرأ في الفصل السابع من أول قانون أساسي:
تضاف إلى الهيئة ثلاث لجان تُنتخب لفترة أربع سنوات من قبل المجلس العام، وتختار من بين أعضائها رئيسًا وكاتبًا ومقررًا:
أ) لجنة فنية مكلفة بالدراسات الموسيقية.
ب) لجنة أدبية مكلفة بدراسة المواضيع الأدبية المتعلقة بالموسيقى.
ج) لجنة دعاية مكلفة بتأمين إشعاع الجمعية والدعاية لأهدافها.
ومنعت الفصل العاشر من أول قانون أساسي للرشيدية، منعا باتًا، كل المناقشات السياسية أو الدينية أو الخارجة عن أهداف الجمعية. كما بيّن الفصل الحادي عشر أن موارد الجمعية تتكون من الاشتراكات السنوية للأعضاء الناشطين، ومن الهبات والمنح الرسمية، ومداخيل الحفلات وغيرها.
وشهد اجتماع إعداد أول قانون أساسي في جانب آخر منه تحديد اسم الفرقة، وهو الاسم «الرشيدية جمعية للحفاظ على الأغاني التونسية». وكان من الضروري على مؤسسيها، أسوة بالتقليد المتبع، إطلاق اسم علم أو وصف فني يرمز إلى أهدافها، فكان اسم محمد الرشيد باي، الذي برره مصطفى صفر، اعتبارًا لجهوده طيلة ستة عشر سنة قضاها في الجزائر لتدوين وترتيب الأربع عشرة نوبة المتمثلة في أصول الغناء.
وكان محمد الرشيد باي، الذي اختار التنازل عن العرش لصالح شقيقه وولي عهده علي باي، قد برز خلال عهده القصير بملازمة أهل الأدب والفن، إذ كان يكتب الشعر ويسمع الموشحات الأندلسية ويتقن العزف على آلة الكمنجة.
جانفي 1935: أول حفل
كان الموعد يوم الأربعاء 2 جانفي 1935، كما ورد ذلك في كتاب الأستاذ المختار المستيسر "نشأة الرشيدية: المعلن والمخفي"، مع أول عرض موسيقي للرشيدية بعد تأسيسها، حفل احتضنه قصر الجمعيات الفرنسية (دار الثقافة ابن رشيق حاليًا). وتحدث الأستاذ المختار المستيسر في كتابه القيم عن هذا الحدث التاريخي في مسيرة الرشيدية، بالقول: "اعتمدت الهيئة الوقتية على النواة الصلبة لجوقتي البارون ومقهى المرابط، ونعني الفنانين محمد غانم وخميس الترنان، وأقنعت شافية رشدي، ثاني أشهر مطربة على الساحة، بالمساهمة في العرض، وأضيف إليهم الشيخ لالو بالشيشي، رغم تقدمه في السن، لضمان مساندة رموز الأقلية التونسية اليهودية".
تضمن أول حفل للرشيدية منذ تسعين سنة مداخلة لرئيس الجمعية مصطفى صفر، دعا فيها المثقفين بوجوب حفظ ذوق الشعب من أدران الإسفاف والضحالة والتقليد الأعمى، مؤكدًا على الأهداف النبيلة التي بعثت من أجلها الرشيدية، وتحديد الرصيد الثمين لتراث الموشحات والأغاني ذات الطابع الوطني الأصيل.
وقدم محمد الأصرم مسامرة حول تاريخ الموسيقى التونسية، كان يدعمها من حين إلى آخر بشواهد حية عن طبوع وأوزان المألوف التونسي. وانطلقت إثر ذلك السهرة الموسيقية بعزف وغناء نوبة الحسين، ثم بشرف «الببرز»، فقصيد من نغمة العود والسلافة، فأغنية «يا قداه انعاني».
وخصص الجزء الموسيقي الثاني للغناء البدوي من خلال فرقتين شعبيتين. المجموعة الأولى قدّمت وصلة رثاء للفنان الشعبي عبد القادر زغدودة، أما الفرقة الثانية فهي فرقة الفنان سيدي بوسعيد الشهير سالم بوذينة، التي قدمت في مقام العرضاوي «لا كنت نغني ولا نعرف الغنا»، أعقبتها ملزومة «تستاهلي خلخال يا شلبية». وعادت الفرقة الوترية لتصاحب شافية رشدي في وصلة من المالوف، ثم أغنية «كحلة لهذاب»، واختتم الحفل بالموشح الشهير «أليف يا سلطان».
علما أن الفرقة الوترية للرشيدية ضمت: خميس الترنان ولالو بالشيشي على العود التونسي، ومحمد غانم على آلة الرباب، ومحمد بن الحاج على آلة الكمنجة، ومحمد بن حسين على آلة الدف، الذي كان منشدا أيضًا، إلى جانب أحمد إدريس.