إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مثل تونس في مهرجان البندقية السينمائي الدولي.. فيلم "عايشة" لمهدي البرصاوي.. سرد بصري مدهش تشابكت فيه حكاية البطلة مع قصة وطن

- أبطال مهدي البرصاوي من الطينة ذاتها.. شخوص تحمل هشاشة ورغبة في الانعتاق

- فاطمة صفر ونضال السعدي وتلبّس كامل بالشخصية

تونس - الصباح

تأسر الأسلاك العلم التونسي المرفوع على البوابة الرئيسية لمقر وزارة الداخلية في مشهد من فيلم "عايشة"، ثاني تجربة سينمائية روائية طويلة للمخرج مهدي البرصاوي .. لا يتعدى هذا المشهد الثواني في فيلم سريع الإيقاع ومتين الحبكة يأخذك في 123 دقيقة من الزمن لعوالم اجتماعية متعددة وشخوص متناقضة تنبض "واقعية" ... ومع ذلك تظل هذه اللقطة المثقلة برمزيتها عالقة في وجدان من عاش مرارة الظلم، وأفول الآمال وضياع الشباب في مجتمع فوضوي ينخره الفساد .. وكما تجسد هذه الصورة في استعارتها "علم" سجنته الأسلاك من جهة، ومن جهة أخرى تتمظهر حرية الإبداع في أرقى صورها في فيلم لمخرج شاب كان كغيره من شباب الوطن شاهدا على تغيرات 2011، حلم بالأفضل وتبخرت بعض آماله في ظل فوضى حملت أبعادا سياسية واقتصادية وثقافية، ورغم ذلك منحت السينما مهدي البرصاوي هوية وهامشا من الحرية مع بداياته الأولى في أفلام قصيرة أو في تجربته الروائية الطويلة البكر "بيك نعيش" (Un Fils) ليظل متاخما لراهنه التونسي في فيلمه الأحدث "عايشة".

الشخصية الوطن

"آية" عاملة بفندق بالجنوب التونسي تشتغل منذ كانت في الرابعة عشرة من العمر لمساعدة أبويها على خلاص ديونهما، ترتبط بعلاقة عاطفية مع مديرها المتزوج وتبحث عن مخرج للهروب من زواج مدبر برجل يكبرها سنا ليكون حادث حافلة العمل على الطريق الصحراوي وموت كل ركابه - ما عداها - فرصة لحياة أخرى بتونس العاصمة غير أن "آية" التي تتحول إلى شخصية تدعى "أميرة" في عالمها الجديد تجد نفسها في حياة الليل المثيرة وفي وسط معقد فينتهي بها المطاف طرفا في جريمة قتل.

يحاكي "عايشة" الراهن التونسي عبر رحلة "آية / أميرة" في عوالم اجتماعية متعددة كاشفا عن النضج العميق لصانع العمل على مستوى الكتابة والمعالجة السينمائية رغم حداثة تجربته ("عائشة" الروائي الطويل الثاني في رصيده) فقد تمكن مهدي البرصاوي من رصد "كل شيء" من هذه الحياة الضاغطة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا دون أن ينحرف عن مسار الحكاية الأساسية للفيلم فتعددت التفاصيل والاستعارات في سرد بصري مدهش يدمج حكاية البطلة بقصة وطن ..

لعّل بعضا ممّن شاهدوا فيلم "بيك نعيش" قد ينتابهم الشعور بأننا أمام سطور ورقة جديدة من قصة متواصلة يرويها مخرج تلامس أعماله الواقع في كل تفصيلة من العمل فصانع فيلم "عايشة" - كتابة وإخراجا- ينسج ملامح شخصياته من الطينة ذاتها .. شخوص تحمل الهشاشة بين ضلوعها والرغبة في التحرر من القيود البالية وضغوطات الحياة بمختلف أبعادها النفسية والعاطفية والاجتماعية..

في مشهد رقص "آية / أميرة" في الملهى الليلي وقبل وقوع جريمة القتل تنقل اللقطات المقربة والإضاءة ونظرة الممثلة - في أداء ملفت لفاطمة صفر - هذه الرغبة في الانعتاق والتي تشكلت ملامحها الأولى مع مشهد هروبها دون هوية بعد أن كانت شاهدة على جنازتها وهي تقف بعيدا مرتدية النقاب لتقطع بذلك مع "آية" وترتدي ثوب "أميرة" المتمرد ..

قصص من الواقع ..

في رؤية جريئة وعميقة للواقع تنتقل كاميرا مهدي البرصاوي بين شخصيات فيلم "عايشة" لكل بطل حكايته وكل شخصية تخفي جانبا من ملامحها (المحقق  فارس يجسده نضال السعدي ..فاطمة صفر في شخصية "آية") وقد أجاد صانع الفيلم لحظات الكشف عنها في حبكة جذابة متينة البناء لا تخلو من جرعة سياسية منحت الفيلم بعده الأهم .. الواقعية القادرة على التغيير .. لا يعترف مهدي البرصاوي بقدرة السينما على التغير رغم إيمانه بدورها الذي يتجاوز الترفيه ويعتقد أن صناعته للأفلام هي مساحته الأفضل ليروي قصصا تسلط الضوء على قضايا مجتمعنا ومع ذلك ففيلم "عايشة" من منظورنا يغوص عميقا عبر سيناريو تغذى من أحداث حقيقية لقضايا هزت المجتمع والإعلام في فترة سابقة منها قتل شاب في ملهى ليلي أو تزوير فتاة لموتها .. الأكيد أن "عايشة" فيلم يحرك السواكن ويثير أسئلة حول بعض أمراض المجتمع وخاصة منها مشكلة الفساد التي مست كل المجالات تقريبا  بما في ذلك  مجال  الشرطة، ومعضلة التستر على بعض جرائم القتل وإشكال تزوير الهويات بسبب ثغرات عديدة في القانون".

أكثر من وجه للمرأة وتونس ..

لا يشعر مشاهد "عايشة" بمدة عرض الفيلم (123 دقيقة) مع إيقاعه السريع وتعدد أحداثه المفصلية والحاسمة وغير المتوقعة فمع كل حياة جديدة للبطلة تأخذنا كاميرا مهدي البرصاوي لعالم جديد بسرده المختلف على أكثر من مستوى جمالي وتقني فبعد الهدوء الظاهري لحياة "آية" في الجنوب التونسي وسيطرة الديكور الصحراوي على المشاهد تتسارع الأحداث مع انتقالنا لإيقاع العاصمة الأكثر صخبا والشخصية الجديدة "أميرة" (بين حياة الليل في الملاهي والعمل صباحا في محل للمرطبات) .. يعكس الفيلم صعوبات أن تكوني "امرأة" في مجتمع متناقض، يسائل القانون، الساسة، الإعلام والمواطن عن ماهية هذه الحياة وهل يمكننا تغيرها إذ منحنا القدر فرصة ثانية ....بطلة مهدي البرصاوي "آية / أميرة" اختارت في المشهد الأخير من الفيلم أن تصبح "عايشة" في حياتها الجديدة.

للتذكير فإن فيلم "عايشة" للمخرج مهدي البرصاوي توج مؤخرا بجائزة أفضل فيلم متوسطي في الدّورة 81 من مهرجان البندقيّة السينمائي الدولي (من 28 أوت إلى 7 سبتمبر 2024) ويجسد بطولة هذا العمل كل من فاطمة صفر، نضال السعدي، ياسمين ديماسي، هالة عياد، والفيلم من إنتاج حبيب عطية "سينيتيليفيلم" ومارك إيرمر "دولتش فيتا فيلم" في إنتاج مشترك بين تونس وفرنسا وإيطاليا وقطر وحاز فيلم "عايشة" على دعم صندوق البحر الأحمر ومن المنتظر أن يعرض الفيلم في عدد من المهرجانات الدولية بعد عرضه العالمي الأول في فنيسيا.

نجلاء قموع

مثل تونس في مهرجان البندقية السينمائي الدولي..   فيلم "عايشة" لمهدي البرصاوي.. سرد بصري مدهش تشابكت فيه حكاية البطلة مع قصة وطن

- أبطال مهدي البرصاوي من الطينة ذاتها.. شخوص تحمل هشاشة ورغبة في الانعتاق

- فاطمة صفر ونضال السعدي وتلبّس كامل بالشخصية

تونس - الصباح

تأسر الأسلاك العلم التونسي المرفوع على البوابة الرئيسية لمقر وزارة الداخلية في مشهد من فيلم "عايشة"، ثاني تجربة سينمائية روائية طويلة للمخرج مهدي البرصاوي .. لا يتعدى هذا المشهد الثواني في فيلم سريع الإيقاع ومتين الحبكة يأخذك في 123 دقيقة من الزمن لعوالم اجتماعية متعددة وشخوص متناقضة تنبض "واقعية" ... ومع ذلك تظل هذه اللقطة المثقلة برمزيتها عالقة في وجدان من عاش مرارة الظلم، وأفول الآمال وضياع الشباب في مجتمع فوضوي ينخره الفساد .. وكما تجسد هذه الصورة في استعارتها "علم" سجنته الأسلاك من جهة، ومن جهة أخرى تتمظهر حرية الإبداع في أرقى صورها في فيلم لمخرج شاب كان كغيره من شباب الوطن شاهدا على تغيرات 2011، حلم بالأفضل وتبخرت بعض آماله في ظل فوضى حملت أبعادا سياسية واقتصادية وثقافية، ورغم ذلك منحت السينما مهدي البرصاوي هوية وهامشا من الحرية مع بداياته الأولى في أفلام قصيرة أو في تجربته الروائية الطويلة البكر "بيك نعيش" (Un Fils) ليظل متاخما لراهنه التونسي في فيلمه الأحدث "عايشة".

الشخصية الوطن

"آية" عاملة بفندق بالجنوب التونسي تشتغل منذ كانت في الرابعة عشرة من العمر لمساعدة أبويها على خلاص ديونهما، ترتبط بعلاقة عاطفية مع مديرها المتزوج وتبحث عن مخرج للهروب من زواج مدبر برجل يكبرها سنا ليكون حادث حافلة العمل على الطريق الصحراوي وموت كل ركابه - ما عداها - فرصة لحياة أخرى بتونس العاصمة غير أن "آية" التي تتحول إلى شخصية تدعى "أميرة" في عالمها الجديد تجد نفسها في حياة الليل المثيرة وفي وسط معقد فينتهي بها المطاف طرفا في جريمة قتل.

يحاكي "عايشة" الراهن التونسي عبر رحلة "آية / أميرة" في عوالم اجتماعية متعددة كاشفا عن النضج العميق لصانع العمل على مستوى الكتابة والمعالجة السينمائية رغم حداثة تجربته ("عائشة" الروائي الطويل الثاني في رصيده) فقد تمكن مهدي البرصاوي من رصد "كل شيء" من هذه الحياة الضاغطة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا دون أن ينحرف عن مسار الحكاية الأساسية للفيلم فتعددت التفاصيل والاستعارات في سرد بصري مدهش يدمج حكاية البطلة بقصة وطن ..

لعّل بعضا ممّن شاهدوا فيلم "بيك نعيش" قد ينتابهم الشعور بأننا أمام سطور ورقة جديدة من قصة متواصلة يرويها مخرج تلامس أعماله الواقع في كل تفصيلة من العمل فصانع فيلم "عايشة" - كتابة وإخراجا- ينسج ملامح شخصياته من الطينة ذاتها .. شخوص تحمل الهشاشة بين ضلوعها والرغبة في التحرر من القيود البالية وضغوطات الحياة بمختلف أبعادها النفسية والعاطفية والاجتماعية..

في مشهد رقص "آية / أميرة" في الملهى الليلي وقبل وقوع جريمة القتل تنقل اللقطات المقربة والإضاءة ونظرة الممثلة - في أداء ملفت لفاطمة صفر - هذه الرغبة في الانعتاق والتي تشكلت ملامحها الأولى مع مشهد هروبها دون هوية بعد أن كانت شاهدة على جنازتها وهي تقف بعيدا مرتدية النقاب لتقطع بذلك مع "آية" وترتدي ثوب "أميرة" المتمرد ..

قصص من الواقع ..

في رؤية جريئة وعميقة للواقع تنتقل كاميرا مهدي البرصاوي بين شخصيات فيلم "عايشة" لكل بطل حكايته وكل شخصية تخفي جانبا من ملامحها (المحقق  فارس يجسده نضال السعدي ..فاطمة صفر في شخصية "آية") وقد أجاد صانع الفيلم لحظات الكشف عنها في حبكة جذابة متينة البناء لا تخلو من جرعة سياسية منحت الفيلم بعده الأهم .. الواقعية القادرة على التغيير .. لا يعترف مهدي البرصاوي بقدرة السينما على التغير رغم إيمانه بدورها الذي يتجاوز الترفيه ويعتقد أن صناعته للأفلام هي مساحته الأفضل ليروي قصصا تسلط الضوء على قضايا مجتمعنا ومع ذلك ففيلم "عايشة" من منظورنا يغوص عميقا عبر سيناريو تغذى من أحداث حقيقية لقضايا هزت المجتمع والإعلام في فترة سابقة منها قتل شاب في ملهى ليلي أو تزوير فتاة لموتها .. الأكيد أن "عايشة" فيلم يحرك السواكن ويثير أسئلة حول بعض أمراض المجتمع وخاصة منها مشكلة الفساد التي مست كل المجالات تقريبا  بما في ذلك  مجال  الشرطة، ومعضلة التستر على بعض جرائم القتل وإشكال تزوير الهويات بسبب ثغرات عديدة في القانون".

أكثر من وجه للمرأة وتونس ..

لا يشعر مشاهد "عايشة" بمدة عرض الفيلم (123 دقيقة) مع إيقاعه السريع وتعدد أحداثه المفصلية والحاسمة وغير المتوقعة فمع كل حياة جديدة للبطلة تأخذنا كاميرا مهدي البرصاوي لعالم جديد بسرده المختلف على أكثر من مستوى جمالي وتقني فبعد الهدوء الظاهري لحياة "آية" في الجنوب التونسي وسيطرة الديكور الصحراوي على المشاهد تتسارع الأحداث مع انتقالنا لإيقاع العاصمة الأكثر صخبا والشخصية الجديدة "أميرة" (بين حياة الليل في الملاهي والعمل صباحا في محل للمرطبات) .. يعكس الفيلم صعوبات أن تكوني "امرأة" في مجتمع متناقض، يسائل القانون، الساسة، الإعلام والمواطن عن ماهية هذه الحياة وهل يمكننا تغيرها إذ منحنا القدر فرصة ثانية ....بطلة مهدي البرصاوي "آية / أميرة" اختارت في المشهد الأخير من الفيلم أن تصبح "عايشة" في حياتها الجديدة.

للتذكير فإن فيلم "عايشة" للمخرج مهدي البرصاوي توج مؤخرا بجائزة أفضل فيلم متوسطي في الدّورة 81 من مهرجان البندقيّة السينمائي الدولي (من 28 أوت إلى 7 سبتمبر 2024) ويجسد بطولة هذا العمل كل من فاطمة صفر، نضال السعدي، ياسمين ديماسي، هالة عياد، والفيلم من إنتاج حبيب عطية "سينيتيليفيلم" ومارك إيرمر "دولتش فيتا فيلم" في إنتاج مشترك بين تونس وفرنسا وإيطاليا وقطر وحاز فيلم "عايشة" على دعم صندوق البحر الأحمر ومن المنتظر أن يعرض الفيلم في عدد من المهرجانات الدولية بعد عرضه العالمي الأول في فنيسيا.

نجلاء قموع