إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

نقص في الرقابة الصحية والبيطرية.. السلّ يهدّد البقر والبشر.. الإصابات في ارتفاع والمخلفات خطيرة

 

 

 معدل الإصابة في تونس مقدر منذ 2011 بـ3600 حالة سنويا ومعدل وفيات في حدود 2.7 %

 

تونس – الصباح

قبل ثلاث سنوات كنت أعاني من انتفاخ بكامل الساق وصعوبة في ارتداء الحذاء وتطورت الحالة إلى صعوبة في المشي والضغط على كامل قدمي..

كلها كانت أعراض ظنّها الأطباء الثلاثة الذين زرتهم أنها مجرد "كيس" يمكن إزالته عبر عملية جراحية بسيطة، لكن الأوجاع تطوّرت إلى أن نصحني بعض المقربين بزيارة طبيب مختص في جراحة العظام، والذي  خّير إجراء فحص بالرنين المغناطيسي على كامل أسفل الجسم، ثم أبلغني بأنه ينتظر أن تكون النتيجة إما إصابة بمرض السرطان، أو السل في العظام.. في هذه اللحظة دخلت في نفق مظلم نفق جعلني في حالة انهيار نفسي.

استجمعت قواي وقرّرت مواصلة الرحلة للوقوف على حقيقة مرضي وكانت المفاجأة بعد خمسة عشرة يوما حين جهز التقرير الطبي: كنت مصابة بمرض السلّ.. !؟

لم أكن اعرف من أين أصبت بالجرثومة، هل التقطتها من بعض الأشخاص المرضى، أم من تناول الحليب أو الجبن الطازج، أو من النقل العمومي؟

حملت أوجاعي وأفكاري السيئة، غادرت عيادة الطبيب وأنا منهكة تماما، لكن الأسوأ كان في انتظاري، فالحصول على الدواء والعلاج لم يكن بالأمر الهين، كنت أجهل تماما المسار الذي يجب أن أسلكه لمعالجة الداء الذي أصابني.

أخيرا تحصلت على العلاج والدواء، يمكنني أن اعترف أن مرحلة العلاج التي تواصلت لمدة تقارب العامين، كانت طويلة وصعبة، وقاسية، فقد كنت مضطرة إلى شرب من أربع إلى خمس كبسولات يوميا..

لم تنته المفاجآت حتى بعد نهاية مدة العلاج، إذ وجدت نفسي عاجزة عن الوقوف والمشي بصفة عادية، اضطررت إلى الاعتماد على العكازات الطبية، وتركيب مفصل اصطناعي حتى أتمكن من العودة إلى العمل.. ومازلت إلى حد اليوم أعاني من مخلفات إصابتي بهذا المرض..

 

إعداد: أميرة الدريدي

 

p4_n1.jpg

 

في الواقع، لم تكن تجربتي مع السل الوحيدة، فقد تواصلت مع عدد من المرضى التقيتهم بمركز العلاج المختص من مرض السل بجهة أريانة، وكان المركز يستقبل العشرات للحصول على الدواء والمتابعة الطبية، ومن بين الحالات التي تحدثت معها كانت السيدة "آمال" - هكذا أرادت أن نسميها لأنها تأمل أن تنجو من المرض وتسترجع عافيتها- فهي المرأة التي قضت سنوات بين الحافلات للوصول الى عملها لتكتشف قبل أشهر أنها تعاني من آلام وسعال وارتفاع في حرارة الجسم، فقرّرت مغادرة العمل وفتح محل للأكلة الخفيفة  وطهي الخبز طابونة..

ظنّت آمال في البداية انه مرض عادي على مستوى الصدر ولكنها تفاجأت بإصابتها بالسل بعد إجراء جملة من التحاليل، لتنطلق اليوم في رحلة العلاج التي ستتواصل تسعة  أشهر. هذا المرض جعلها تتوقف تماما عن العمل وتسلم محلها لأشقائها حتى تتمكن من توفير قوتها وقوت أبناءها .

آمال كانت تجهل سبب إصابتها لكنها أكدت أنها كانت تشتري الحليب واللبن خاصة في شهر رمضان من بقالة الجهة.. (من أحد الباعة المنتصبين بالجهة).

هؤلاء الباعة الذين يجمعون الحليب من الضيعات الفلاحية دون أي رقيب أو حسيب تبين أن عددا منهم لا تراقبهم أي جهة، وحتى إن كانت أبقارهم تعاني من إصابات بالسل فإنها إما لا تعالج  أو يتم ذبحها عشوائيا وبيعها  في شكل ما يعرف بـ"الحسبة" .

ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يتصدر السلّ قائمة الأمراض المعدية الأكثر فتكا في العالم، قبل وصول كوفيد-19، مع حصيلة وفيات تبلغ 1.5 مليون وفاة سنويا..

وأظهر أحدث تقرير للمنظمة إصابة أكثر من 7,5 مليون شخص بالسل حول العالم خلال سنة 2022، ما يجعله أعلى رقم يُسجَّل منذ أن شرعت المنظمة في الرصد العالمي للسل 1995، ويتوزع معظم المصابين في جنوب شرق آسيا (46%)، وإفريقيا (23%).

وتعتبر تونس من بين البلدان التي تسجل سنويا إصابات متفاوتة الخطورة بالسل، واعتمدت على برنامج وطني لمكافحة السل..

انطلقت تونس في تطبيق البرنامج الوطني لمكافحة السل منذ سنة 1959 بهدف القضاء على المرض، وحقق نتائج ايجابية بتسجيل انخفاض لافت في معدل الإصابة بالمرض من 48.6 لكل 100 ألف ساكن سنة 1975 إلى 20.6 سنة 2009.

وكان من المفترض أن تنزل تونس بهذا المعدل إلى أقل معدل ممكن إلى حين القضاء عليه نهائيا إلا أن إحصائيات العشرية الأخيرة تشير إلى عودة قوية لحالات الإصابة بداية من سنة 2011 وبلغت ذروتها خلال سنة 2016 بتسجيل 31 إصابة لكل 100 ألف ساكن، وفي 2017 بتسجيل 29 حالة بين كل 100 ألف ساكن، و27 حالة لكل 100 ألف ساكن سنة 2022، بواقع أكثر من 3264 إصابة منها 1237 إصابة بالسل الرئوي..

كما سجلت تونس عودة لظهور حالات مستعصية مقاومة للأدوية المتعددة وهي من أخطر وأشد أنواع السل فتكا بالإنسان، ما يطرح عديد التساؤلات بخصوص أسباب هذا الارتفاع الملحوظ في معدل الإصابة، ودلالاته، وهل يمكن أن يعكس عجز الدولة عن تحقيق تقدم مطمئن في مجال مكافحة المرض والتحكم في انتشاره؟

في هذا التحقيق الذي تمّ إنتاجه في إطار النسخة الثانية من مشروع أكاديمية الصحافة الاستقصائية لمنظمة المادة 19،  سنحاول إثبات فرضية أن الدولة التونسية تراجعت عن دورها الرقابي والصحي والتوعوي والردعي لمكافحة مرض السل وتفادي انتشاره، وتسببت بذلك في عودة الإصابات نحو الارتفاع خلال السنوات الأخيرة سواء بقطيع البقر، أو لدى المواطنين من خلال توفر بيئة ملوثة ومحيط خارج الرقابة ملائمة لانتشار المرض وتسهيل العدوى وانتقالها بين الناس. وذلك عبر ثلاثة محاور رئيسية، الأول يهتم بضعف الرقابة الصحية على قطيع الماشية وخاصة الأبقار، والمراقبة الصحية على منتجي الحليب الطازج ومشتقاته، والمحور الثاني يهم ضعف المراقبة البيطرية للحوم على مستوى الذبح والتصرف في الحالات المصابة خاصة في البلديات والمسالخ، والمحور الثالث، يهم طرق الرصد والتقييم والمعالجة على مستوى الإصابات البشرية والميزانيات المخصصة لذلك..

وفق بيانات إحصائية نشرتها وزارة الصحة، تسجل تونس سنويا أكثر من 6000 حالة إصابة بمرض السل سنويا في سنوات السبعينات، ونجحت في خفضها إلى 1800 حالة سنويا خلال فترة التسعينات والعشرية الأولى من القرن الحالي، إلا أن معدل الإصابات عاد للارتفاع مجددا ليبلغ قرابة 3600 حالة سنويا بعد سنة 2011، وبمعدل وفيات في حدود 2.7 بالمائة.

بالعودة إلى تقرير الصحة العالمية يتضح أن لعدد الإجمالي للوفيات المرتبطة بالسل (ومنها الوفيات بين الأشخاص المتعايشين مع فيروس العوز المناعي البشري) بلغ 1,3 مليون حالة وفاة سنة 2022، بانخفاض عن الرقم المسجل في عام 2021 البالغ 1,4 مليون حالة وفاة. ومع ذلك، فخلال الفترة من 2020 إلى 2022، خلَّفت جائحة كوفيد-19 ما يناهز نصف مليون حالة وفاة إضافية بسبب السل الذي مازال سبب الوفاة الرئيسي بين الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة (السيدا). كما لا يزال السل المقاوِم للأدوية المتعددة يمثل واحدة من أزمات الصحة العامة...

 p4_n2.jpgp4_n3.jpg

 

 

عميد الأطباء البياطرة: 30 % من قطيع الأبقار مصاب بالسل

 

p4_n4.jpg

 

هذه المعطيات جعلتنا نتوجه الى عميد الأطباء البياطرة احمد بن رجب، الذي كشف في هذا الاتجاه أن 30 بالمائة من قطيع الأبقار في تونس مصاب بمرض السل، موضحا أن تونس تسجل إصابات بالسل اللمفاوية و80 بالمائة متأتية من الأبقار، كما أن الإصابات موجودة  ومنتشرة في 24 ولاية ولا وجود لأي ولاية في تونس خالية من مرض السل..

وأوضح أن السل نوعان: الأول سل رئوي ويصيب الرئة لدى البشر والمتسبب فيه جرثومة تسمى "ميكوباكتوريم تيبركيلوزيس" ، أما الثاني فهو سلّ خارج الرئة ويصيب العقد اللمفاوي (الولسيس) والجهاز الهضمي والجهاز العصبي والجهاز العظمي والجلد أي بمعنى أدق كل ماهو موجود خارج الرئة .

وقال بن رجب أن المنظمة العالمية للصحة أجرت دراسة عن السل الذي يصيب العقد اللمفاوية (الولسيس) أثبتت فيها أن 80 بالمائة من هذا السل من أصل حيواني. وقال إننا في تونس نسجل سنويا حوالي 1000 حالة من السل الذي يصيب الغدد اللمفاوية بمعنى ان 800 حالة على الأقل يكون مصدرها الحيوان..

وبالنسبة للسل لدى الأبقار اعترف بن رجب انه منتشر بين القطيع. مشددا على ضرورة التمييز بين السل كمرض والسل كإصابة، لان البقرة المريضة لا تنتج حليبا ولكن خطورتها تتمثل في الانتشار، والبقرة المصابة تكون حلوبا معلنا أن ما يقارب 4 بالمائة من الأبقار تفرز جرثومة السل في الحليب.

مضيفا أن عملية تجميع الحليب تتم في نفس الصهاريج، حيث أن عملية نقل الحليب في حد ذاتها تساهم في نشر الجرثومة وتكاثرها.

وكشف أن الخطورة تتمثل في الإصابات المنتشرة بين الأبقار، حيث أن العدوى تنتشر دون أي أعراض. والفرق بين الإصابة والمرض هي ظهور علامات الإصابة.

وأفاد بأن الإصابات تكون عادة إما عبر تناول الحليب غير المعقم ومشتقاته (الزبدة القوتة، الرايب، واللبن) وعند التعامل مع حيوان مصاب عبر اللمس أو التنفس ولكن أكثر لإصابات متأتية من تناول الحليب ومشتقاته .

ودعا عميد البياطرة الى تجنب استهلاك الحليب ومشتقاته من مسالك عشوائية غير نظيفة وغير خاضعة للرقابة، مع توفر إرادة سياسية لتطهير القطيع الخاضعة لتراتيب من بينها مرض السلّ.

وقال إن المنظمة العالمية للصحة أثبتت خلال الفترة ما بين 2013 و2019 أن 80 بالمائة من السل الذي يصيب العقد اللمفاوية متأتٍّ من أصل حيواني وبالتالي فانه من تحصيل الحاصل أن الإصابات من أصل حيواني.

وانتقد عميد الأطباء البياطرة بشدة ما أسماه بـ"تخاذل الدولة"، وقال إن الإرادة السياسية غائبة مما يهدد الأمن القومي الغذائي والصحي وانتشار الجراثيم منها السل.. وحجته في ذلك أننا "لازلنا نرى الأمراض المنسية منتشرة في تونس الى حد اليوم"، وقال:" مادمنا نسجل 800 حالة إصابة معلنة في تونس فان الاستهتار واضح."

ودعا بن رجب الى الرقابة على مستوى الحيوانات وتطهير القطيع ومراقبة المنتجات الغذائية من أصل حيواني خاصة أن مدة العلاج طويلة وتتراوح بين ستة أشهر وسنة و9 أشهر.

وقال محذرا:" في حال لم يتم اتخاذ الإجراءات الوقائية فإننا سندخل في إهدار المال العام باعتبار أن كل مريض يصاب تتكفل به الدولة من ناحية الأدوية ".

 

التحليل السريع حكر على الأطباء العموميين..

 

p4_n5.jpg

 

لم تكن تصريحات عميد الأطباء هي الوحيدة التي مثلت صدمة لما يحدث للقطاع الحيواني وخاصة الأبقار، بل ان تصريحات نائب رئيس عمادة الأطباء البياطرة الدكتور سفيان مخلوف، مثلت بدورها صدمة ثانية، حيث أكد في حديثه معنا، وجود برنامج  وطني تشرف عليه وزارة الفلاحة والموارد المائية، كان يمكّن للأطباء البياطرة الخواص أن يقتنوا ما يعرف بالتحليل السريع لتقصي مرض السل لدى الأبقار، لكنه اليوم أصبح غير متوفر لجميع الأطباء.

وأكد مخلوف أن استعمال التحاليل السريعة، أصبح حكرا على الأطباء البياطرة في القطاع العام، وفي حال لاحظ  الطبيب الخاص وجود علامات للإصابة بالمرض لدى بعض الأبقار فانه يقوم بإعلام الطبيب في القطاع العام. ولكن الإشكال الأكبر يتمثل في عدم إعلام الأطباء في القطاع العام حيث يقوم الفلاح ببيع الأبقار في ولايات أخرى أو ذبحها وعرضها للبيع.

وأفاد محدثنا أن القطاع الخاص للأطباء البياطرة يعاني من مشكل في مواجهة مرض السل للأبقار ومنها النقص الكبير في الأدوية المتوفرة للسّل، ونقص عدد الأبقار والأغنام وهو ما يؤثر على  الوضع المهني والاقتصادي للطبيب البيطري الخاص، فضلا عن التغيرات المناخية التي ساهمت في نقص  قطاع الماشية والأبقار وانتشار الأمراض.

تجدر الإشارة إلى أننا حاولنا الاتصال بوزارة الفلاحة للتحقق من المعطيات التي كشفت عنها عمادة الأطباء البياطرة، والتعرف على إستراتيجية الوزارة في مجال التوقي من مرض السل بين قطيع الأبقار والنتائج المحققة في ذلك.. ورغم مراسلتنا للمكلفة بالإعلام عبر البريد الالكتروني ووعدها لنا بتلبية مطالبنا وتكليف مسؤول بالوزارة للإجابة عن أسئلتنا، إلا أننا لم نحصل على أي رد.. مما اضطرنا إلى تقديم مطلب في النفاذ إلى المعلومة بتاريخ 14 نوفمبر 2023، ومازلنا بصدد انتظار الرد على المطلب والمتضمن لطلب معطيات وإحصائيات متعلقة بتطور مرض السل بين الأبقار على وجه الخصوص..

 

رئيسة قسم أمراض الرئة بمستشفى أريانة: التقصي والمتابعة غائبان

 

p5_n1.jpg

نفس التساؤلات حول عدم الجدية والتسيب في اتخاذ القرارات المناسبة لمواجهة مرض السل في تونس ومدى انتشاره لدى الإنسان، توجهنا بها الى رئيسة قسم أمراض الرئة بمستشفى أريانة، الدكتورة فاطمة تريتر، التي أكدت أن التوعية الموجهة للمواطن موجودة باعتبار أن السلط تقوم بتنظيم جملة من الحملات التوعوية لتحسيس المواطنين بخطورة انتشار المرض وطرق الوقاية منه، لكنها أقرت في نفس الوقت أن هذه التوعية منقوصة  وتتحمل مسؤوليتها وزارة الصحة فضلا عن نقص الإمكانيات.

وأعلنت تريتر انه في غضون الأشهر القادمة سيتم تنظيم حصص توعوية للمواطنين، مضيفة أن نسب الحالات المنتشرة الى حدود 2022 وخلال الخمس سنوات الأخيرة بقيت بنفس النسق، ولكن من المرجح أن تكون هناك حالات عدوى أو إصابات بالسل لم يتم اكتشافها.

وأضافت انه بعد انتشار مرض كورونا أو كوفيد 19 فقد لاحظ الأطباء بروز شكل جديد من المرض يعد مستعصيا ومتطورا أو أكثر خطورة من الإصابات التي تعود على استقبالها الهيكل الطبي موضحة في نفس النسق انه بالتوازي سل الرئتين انتشر بصفة كبيرة مرض سل الغدد والعمود الفقري، وهما نوعان من الإصابات المخطرة ويستقبل المستشفى في مراحل متقدمة من السل مرجحة أن يكون السبب أساسا هو التراخي في إجراء الفحوصات اللازمة. ويستقبل قسم أمراض الرئة بأريانة مصابين بنقص الوزن (بين 35/45 كلغ).

وحمّلت رئيسة قسم أمراض الرئة، المسؤولية الى تراخي المواطنين في القيام بالفحوصات اللازمة ونقص التوعية  وانتشار الكوفيد الذي قلص من اهتمام المواطن بأمراض أخرى .

وحول الإجراءات التوعوية، قالت الدكتورة تريتر أن التقصي العادي للمرض ينطلق بالفريق الطبي في الخط الأمامي وهو "المستوصف"، ثم المستشفى، ويتابع العاملون بالمستوصف التقصي ويكون أساسا بالمحيط العائلي المقرب من الشخص المصاب ولكن ذلك لا يحصل  كما أن بعض الأشخاص يتناسون مرض السل ويتم تبويبه في آخر مراحل التقصي من طرف الأطباء والمرضى.

 

أطباء الخطوط الأمامية في قفص الاتهام

وأضافت تريتر انه تقرر مؤخرا  تنظيم حملات توعوية للدعوة لإجراء التقصي حول مرض السل خاصة إذا ما تواصل السعال عند المريض لأكثر من 15 يوما حيث يتم عادة ربط هذا الأمر بكورونا.

وقالت بان التقصي المبكر مهم فضلا عن تحسيس المريض بضرورة مواصلة التقصي لعائلته المقربة والمحيطة به من اجل إجراء التحاليل اللازمة  خاصة وان مرض السل مرض معد عبر استنشاق الجرثومة ومن الممكن أن تبقى في جسم الإنسان لمدة طويلة حتى بعد سنوات.

وشددت على ضرورة إجراء المراقبة على المدى البعيد والقصير وتظهر الأعراض الأساسية وهي السعال ونقص كبير في الميزان دون مبرر .

وأكدت تريتر أن مؤتمرات تحسيسية انطلقت منذ فترة وتواصل إجراء مؤتمرات تحسيسية للأطباء وتم تنظيمها في كل من أريانة ومنوبة وسليانة وعدة ولايات أخرى ولكن الإشكال في تغيب بعض الأطباء..

وقالت إن إمكانيات الوزارة قليلة لتنظيم حملات تحسيسية أو الأيام المفتوحة للمواطنين أيضا. كما أن المواطن في حد ذاته يرفض الحضور لمواكبة تلك الحملات، مثل ما حصل مؤخرا في جهة منزل بورقيبة ببنزرت .

وحول ما يتم تداوله بخصوص إصابة بعض المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء بالسل وإمكانية نقلهم للعدوى، قالت الدكتورة فاطمة تريتر إن الوزارة تقوم بمجهودها من ناحية استقبالهم بالمستشفيات وتوفير الأدوية بالتعاون مع بعض المنظمات والمجتمع المدني الذين يتكفلون بتقديم الأدوية والأغذية اللازمة..

وأقرت تريتر بوجود نسبة ضئيلة لتأثير المرضى الأفارقة المصابين على استهلاك الأدوية الموجهة لمعالجة السل باعتبار أن علاج مرض السل مجاني فضلا عن تواجدهم لفتر إقامة طويلة بالمستشفى..

 

حالات مستعصية.. وأخرى محيّرة للأطفال

كشفت رئيسة قسم أمراض الرئة بمستشفى أريانة أن 30 بالمائة من المصابين بالسل في مستشفى أريانة والذين يأتون من جميع معتمديات الولاية، يعانون من مرض السل  "المستعصي" والذي يصيب الغدد والعمود الفقري.

كما أكدت أن هناك نوعا جديدا مستعصيا يصيب الأطفال أقل من خمس سنوات وخاصة الذي يصيب اللوزتين والرئتين حيث يستقبل المستشفى أطفالا مصابين بالمرض وباعتبار أن المرض معد، فمن المؤكد أن  تكون الجرثومة من أحد أطراف العائلة المقربة وهو ما يؤكد أن التقصي للعائلة لم يحصل .

وبمواجهة الدكتورة تريتر بما صرح به عميد الأطباء البياطرة الذي أكد أن 30 بالمائة من قطيعنا تحمل جرثومة السّل، لم تكذّب المعلومة المتداولة، بل ذهبت الى ابعد من ذلك لتؤكد أن النسبة ربما تكون أكثر من 30 بالمائة، وشددت على ضرورة الابتعاد عن الحليب و"الرايب" غير المعقم و"القوتة" باعتبارها من الأسباب الأساسية التي تسبب الإصابات الى أن تتوصل وزارة الفلاحة الى حلّ للقطيع..

 

بيع أبقار مصابة بالسل في شكل بتة..!؟

 

p5_n3.jpg

 

ونحن بصدد انجاز التحقيق، تفطنا - كما تفطن عدد من التونسيين- الى إعلان بتة للعموم ببيع لحم أبقار مصابة بالسلّ (الإعلان صدر في احدى الصحف اليومية منذ أشهر قليلة) من طرف المركب الفلاحي الأخماس من ولاية سليانة، وفي هذا السياق علّق عميد الأطباء البياطرة أحمد بن رجب أن القانون عدد 95 المؤرخ في 18 أكتوبر لسنة 2005 الذي يتعلق بتربية الماشية والمنتوجات الحيوانية وينص على الأمراض الحيوانية الخاضعة للتراتيب وهي الأمراض الحيوانية التي تتميز بسرعة العدوى أو إمكانية انتقالها للإنسان أو لن تتسبب في كوارث اقتصادية أو الأمراض الثلاثة معا.

وأضاف أن مرض السل سريع العدوى ويتسبب في خسائر اقتصادية فادحة وينتقل للإنسان، حيث من المؤكد أن 80 بالمائة من السل الذي يصيب العقد اللمفاوية  للإنسان هو من أصل حيواني وبالتالي فان هذا السل خاضع لتراتيب لأنه معد وينتقل الى الإنسان ويسبب خسائر فادحة .

وأضاف أن الفصل 28 من القانون 95 المؤرخ في 2005 ينص في نقطته الثانية انه: "يحجر على كل مالك أو مرب أن يتجّر في الحيوانات التي يعلم أنها مصابة بمرض حيواني خاضع للتراتيب" وبالتالي يحجر الفصل الاتجار بهذه الحيوانات .

وأفاد أن النقطة 4 من نفس الفصل تنص على انه "يحجر على كل مالك أن يتسبب عمدا في ظهور مرض حيواني خاضع للترتيب أو في تسربه للحيوانات السليمة"، وثالثا فان طريقة نقل الحيوانات المصابة يجب أن  تخضع لمواصفات معينة لنقل لحيوان المصاب وبالتالي فإن "الأمن الحيوي" في هذه الوضعية غائب ولم يتم احترامه .

أما بالنسبة للتمشي الذي من المفروض أن يحصل حاليا فقد أوضح محدثنا انه يجب أن يتم أولا نقل الحيوانات المصابة الى المسلخ وتتم معاينتها من طرف الأطباء البياطرة وبعد التثبت يمكن أن تكون الإصابة خفيفة ومستقرة في عضو وبقية الأعضاء سليمة فانه يتم إتلاف العضو المصاب وتبقى البقية صالحة للاستهلاك .

 

رئيس برنامج مكافحة السل: تونس دائما في الوسط من ناحية الإصابات بالسل

 

p5_n2.jpg

 

جل هذه المعطيات وغيرها توجهنا بها إلى رئيس برنامج مكافحة السل بإدارة الرعاية الصحية الأساسية عبد الرؤوف المنصوري، الذي أوضح أن هناك نوعين من مرض السل، السل الرئوي الذي يعد معديا، والسل غير الرئوي ومنه العقدي الذي يتأتى أساسا من الحليب.

وقال إنه خلال فترة انتشار وباء "كوفيد 19" بتونس، عرفت معدلات الإصابة ارتفاعا، بما أن المواطنين تخلوا عن أدويتهم بفعل الإجراءات الوقائية المتخذة، ومنذ 2021 بدأت نوعية السل تتغير، إذ أصبح السل الرئوي في تراجع وارتفعت نسب الإصابة بالسل خارج الرئة الذي أصبح هو المسيطر بعد أن تم تطبيق الإجراءات الوقائية، لكن بعد نهاية فترة "الكوفيد" تم الانتقال الى الحالة الوبائية السابقة..

وفي هذا السياق، ووفق وثيقة صادرة عن إدارة رعاية الصحة الأساسية، تحصلنا على نسخة منها، تبين أن نسبة حدوث السل العقدي شهدت خلال السنوات الأخيرة تتزايدا ملحوظا للسل العقدي، واستنادا الى البحث الوطني 2013/2014  حول السل خارج الرئة العقدي، فان أكثر من 70 بالمائة من هذا النوع تسببت فيه بكتيريا السلّ البقريmicrobacterium bovis  المرتبطة باستهلاك الحليب غير المعقم ومشتقاته واللحوم الحمراء غير المطهية بشكل جيّد.

كما أكد رئيس برنامج مكافحة السلّ ما ورد في تصريحات الدكتورة تريتر رئيسة القسم بمستشفى أريانة، حول تفشي السل بين المهاجرين المتواجدين في تونس من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وأكد كثرة الإصابات بينهم.

وتحدث المنصوري عن أمل الوزارة في الوصول الى صفر حالة للإصابات بالسل وخاصة وان منظمة الصحة العالمية تطمح الى أن  يصل العالم الى صفر حالة  سنة 2050.

واعترف في نفس الوقت بأن التقارير الرسمية لا تقدم  صورة واضحة عن الوضع الحقيقي خاصة، أن من يتم احتسابهم هم فقط من يقومون بإعلام الجهات الصحية بإصابتهم بمختلف الولايات وخاصة أن فترة انتشار "فيروس الكوفيد 19" التي اتسمت بتطبيق إجراءات الحجر الصحي والتباعد شهدت سنة 2021 نسبة إصابة قدرت بـ22.46 إصابة بالسّل لكل 100 ألف ساكن، لكن النسبة عادت للارتفاع مجددا سنة 2022 لتبلغ 27.7 إصابة وبالتالي عادت البلاد الى نفس نسق الإصابات .

وحول ما تم التوصل إليه سابقا بخصوص عملية المتابعة والتقصي لبقية أفراد العائلة، أوضح الدكتور المنصوري أن التقصي لا يحصل عادة إلا للسل المعدي كالسل الرئوي .

وأوضح أن نسبة الإصابة بالسل لكل مائة ألف ساكن تحتسب انطلاقا من أول يوم للسنة الى حدود 31 ديسمبر، يتم احتساب عدد المرضى الجدد وتتم قسمة العدد المتحصل عليه على مائة ألف ساكن، وبما أن المريض يحصل على الدواء لفترة لا تقل عن 6 أشهر فانه يتم احتساب نسبة تواجد المرض حيث انه يتم احتساب المرضى في السنة الماضية مع المرضى المعلن عن إصابتهم انطلاقا من غرة جانفي للسنة الجديدة، وبالتالي تكون نسبة تفشي المرض مرتفعة .

وأكد محدثنا انه يتم تطبيق بروتوكول خاص بالمصابين بالسل حيث يتم تقصي الجرثومة في المحيط العائلي عبر تحول فريق من الصحة وإجراء تحاليل ومن يتبين انه ايجابي يدخل في دائرة المصابين ومن يكون سلبيا يطبق عليه بروتوكول وقائي لتفادي إصابته وهذا يطبق بصفة أوتوماتيكية على الفئة الأقل من 5 سنوات .

تجدر الإشارة الى أن أول بروتوكول صحي لمكافحة مرض السل في تونس انطلق سنة 1959 حيث كان أكثر من نصف التونسيين مصابين بالسل، قبل أن يتقلص عدد الإصابات شيئا فشيئا .

وأضاف أنه انطلاقا من 2018 تم انجاز تقرير جديدة وفقا لأرقام المعهد الوطني للإحصاء الذي يقدم العدد الرسمي للتونسيين، وتوقع ارتفاع نسبة الإصابة سنة 2023 باعتبار أننا تجاوزنا فترة الكوفيد، ولا وجود لأي إجراء يعرقل إعلان الإصابة بالمرض خاصة مع تأثير تواجد أفارقة مهاجرين بتونس يحملون إصابة فعلية بالسل الرئوي، وقدر وجود 80 حالة مصابة بين المهاجرين أكثر من 70 بالمائة منهم يعانون من السل الرئوي المعدي، مضيفا أن أغلب المصابين يصلون للمستشفيات في حالة متقدمة من المرض، ولكن السيطرة عليهم صعبة باعتبار أنهم يقدمون هويات مغلوطة  بالمستشفيات ومنهم من يتلقى العلاج في مرحلة أولى ويغادر بصفة سرية ويعود لممارسة أنشطته بصفة عادية وهو يحمل مرضا معديا..

وأقرّ بأن حلّ البلديات اثّر على عملية التقصي، حيث كانت تتولى مراقبة محلات بيع الحليب ومشتقاته وبما أن البلدية هي الطرف الوحيد الذي يقوم بتحليل الحليب لتبين احتوائه على السلّ من عدمه، كما حمل المسؤولية الى وزارة الفلاحة التي تتولى القيام بإجراءات الرقابة للأبقار تحديدا.

كما اقّر رئيس برنامج مكافحة السّل بان وزارة الصحة لا تملك السلطة على المواطن لتمنعه من اقتناء الحليب غير المعقم بل تقف مهامها في مرحلة التوعية بضرورة تغلية الحليب لمدة 20 دقيقة على الأقل وطهو مشتقات الحليب.

 

ميزانية هزيلة..

وفي ختام تصريحه، قال رئيس برنامج مكافحة السّل إن المسؤولية في تفشي مرض السلّ مشتركة بين عديد الأطراف باختلاف نوعية الإصابة حيث أن كلا من وزارة الفلاحة ووزارة الصحة والداخلية مطالبة بالقيام بدورها .

اما بالنسبة للميزانية المرصودة لمجابهة مرض السل، كشف المنصوري انه تم رصد ميزانية تقدر بثلاثة مليون دينار لسنة 2024 بعد ان كانت سنة 2023 في حدود 2.4 مليون دينار.

علما أنه بالعودة إلى ما نشر من بلاغات ومقالات سابقة بخصوص برنامج مكافحة السل في تونس، اتضح أن تونس استفادت من منظمة الصحة العالمية وتحديدا من الصندوق العالمي لمكافحة السل والسيدا والملاريا، بتمويل قدره 5 مليون دولار (ما يعادل 16 مليون دينار) للفترة الممتدة بين 2019 و2021 وبذلك بمقتضى تم امضائها بين المنظمة ووزارة الصحة بتاريخ 29 نوفمبر 2018.

ووفقا لتصريح صحفي لوزير الصحة الأسبق عبد الرؤوف الشريف، فقد تلقت تونس من نفس الصندوق ثلاثة منح مالية مماثلة خلال الفترة من 2007 إلى 2018.

وفي ظل ما خلص اليه تحقيقنا فان كل مواطن مطلوب منه، أولا ان يحمي نفسه بنفسه، وأن لا يعوّل على الدولة في حمايته من الإصابة بمرض السّل ثانيا..

نقص في الرقابة الصحية والبيطرية..  السلّ يهدّد البقر والبشر.. الإصابات في ارتفاع والمخلفات خطيرة

 

 

 معدل الإصابة في تونس مقدر منذ 2011 بـ3600 حالة سنويا ومعدل وفيات في حدود 2.7 %

 

تونس – الصباح

قبل ثلاث سنوات كنت أعاني من انتفاخ بكامل الساق وصعوبة في ارتداء الحذاء وتطورت الحالة إلى صعوبة في المشي والضغط على كامل قدمي..

كلها كانت أعراض ظنّها الأطباء الثلاثة الذين زرتهم أنها مجرد "كيس" يمكن إزالته عبر عملية جراحية بسيطة، لكن الأوجاع تطوّرت إلى أن نصحني بعض المقربين بزيارة طبيب مختص في جراحة العظام، والذي  خّير إجراء فحص بالرنين المغناطيسي على كامل أسفل الجسم، ثم أبلغني بأنه ينتظر أن تكون النتيجة إما إصابة بمرض السرطان، أو السل في العظام.. في هذه اللحظة دخلت في نفق مظلم نفق جعلني في حالة انهيار نفسي.

استجمعت قواي وقرّرت مواصلة الرحلة للوقوف على حقيقة مرضي وكانت المفاجأة بعد خمسة عشرة يوما حين جهز التقرير الطبي: كنت مصابة بمرض السلّ.. !؟

لم أكن اعرف من أين أصبت بالجرثومة، هل التقطتها من بعض الأشخاص المرضى، أم من تناول الحليب أو الجبن الطازج، أو من النقل العمومي؟

حملت أوجاعي وأفكاري السيئة، غادرت عيادة الطبيب وأنا منهكة تماما، لكن الأسوأ كان في انتظاري، فالحصول على الدواء والعلاج لم يكن بالأمر الهين، كنت أجهل تماما المسار الذي يجب أن أسلكه لمعالجة الداء الذي أصابني.

أخيرا تحصلت على العلاج والدواء، يمكنني أن اعترف أن مرحلة العلاج التي تواصلت لمدة تقارب العامين، كانت طويلة وصعبة، وقاسية، فقد كنت مضطرة إلى شرب من أربع إلى خمس كبسولات يوميا..

لم تنته المفاجآت حتى بعد نهاية مدة العلاج، إذ وجدت نفسي عاجزة عن الوقوف والمشي بصفة عادية، اضطررت إلى الاعتماد على العكازات الطبية، وتركيب مفصل اصطناعي حتى أتمكن من العودة إلى العمل.. ومازلت إلى حد اليوم أعاني من مخلفات إصابتي بهذا المرض..

 

إعداد: أميرة الدريدي

 

p4_n1.jpg

 

في الواقع، لم تكن تجربتي مع السل الوحيدة، فقد تواصلت مع عدد من المرضى التقيتهم بمركز العلاج المختص من مرض السل بجهة أريانة، وكان المركز يستقبل العشرات للحصول على الدواء والمتابعة الطبية، ومن بين الحالات التي تحدثت معها كانت السيدة "آمال" - هكذا أرادت أن نسميها لأنها تأمل أن تنجو من المرض وتسترجع عافيتها- فهي المرأة التي قضت سنوات بين الحافلات للوصول الى عملها لتكتشف قبل أشهر أنها تعاني من آلام وسعال وارتفاع في حرارة الجسم، فقرّرت مغادرة العمل وفتح محل للأكلة الخفيفة  وطهي الخبز طابونة..

ظنّت آمال في البداية انه مرض عادي على مستوى الصدر ولكنها تفاجأت بإصابتها بالسل بعد إجراء جملة من التحاليل، لتنطلق اليوم في رحلة العلاج التي ستتواصل تسعة  أشهر. هذا المرض جعلها تتوقف تماما عن العمل وتسلم محلها لأشقائها حتى تتمكن من توفير قوتها وقوت أبناءها .

آمال كانت تجهل سبب إصابتها لكنها أكدت أنها كانت تشتري الحليب واللبن خاصة في شهر رمضان من بقالة الجهة.. (من أحد الباعة المنتصبين بالجهة).

هؤلاء الباعة الذين يجمعون الحليب من الضيعات الفلاحية دون أي رقيب أو حسيب تبين أن عددا منهم لا تراقبهم أي جهة، وحتى إن كانت أبقارهم تعاني من إصابات بالسل فإنها إما لا تعالج  أو يتم ذبحها عشوائيا وبيعها  في شكل ما يعرف بـ"الحسبة" .

ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يتصدر السلّ قائمة الأمراض المعدية الأكثر فتكا في العالم، قبل وصول كوفيد-19، مع حصيلة وفيات تبلغ 1.5 مليون وفاة سنويا..

وأظهر أحدث تقرير للمنظمة إصابة أكثر من 7,5 مليون شخص بالسل حول العالم خلال سنة 2022، ما يجعله أعلى رقم يُسجَّل منذ أن شرعت المنظمة في الرصد العالمي للسل 1995، ويتوزع معظم المصابين في جنوب شرق آسيا (46%)، وإفريقيا (23%).

وتعتبر تونس من بين البلدان التي تسجل سنويا إصابات متفاوتة الخطورة بالسل، واعتمدت على برنامج وطني لمكافحة السل..

انطلقت تونس في تطبيق البرنامج الوطني لمكافحة السل منذ سنة 1959 بهدف القضاء على المرض، وحقق نتائج ايجابية بتسجيل انخفاض لافت في معدل الإصابة بالمرض من 48.6 لكل 100 ألف ساكن سنة 1975 إلى 20.6 سنة 2009.

وكان من المفترض أن تنزل تونس بهذا المعدل إلى أقل معدل ممكن إلى حين القضاء عليه نهائيا إلا أن إحصائيات العشرية الأخيرة تشير إلى عودة قوية لحالات الإصابة بداية من سنة 2011 وبلغت ذروتها خلال سنة 2016 بتسجيل 31 إصابة لكل 100 ألف ساكن، وفي 2017 بتسجيل 29 حالة بين كل 100 ألف ساكن، و27 حالة لكل 100 ألف ساكن سنة 2022، بواقع أكثر من 3264 إصابة منها 1237 إصابة بالسل الرئوي..

كما سجلت تونس عودة لظهور حالات مستعصية مقاومة للأدوية المتعددة وهي من أخطر وأشد أنواع السل فتكا بالإنسان، ما يطرح عديد التساؤلات بخصوص أسباب هذا الارتفاع الملحوظ في معدل الإصابة، ودلالاته، وهل يمكن أن يعكس عجز الدولة عن تحقيق تقدم مطمئن في مجال مكافحة المرض والتحكم في انتشاره؟

في هذا التحقيق الذي تمّ إنتاجه في إطار النسخة الثانية من مشروع أكاديمية الصحافة الاستقصائية لمنظمة المادة 19،  سنحاول إثبات فرضية أن الدولة التونسية تراجعت عن دورها الرقابي والصحي والتوعوي والردعي لمكافحة مرض السل وتفادي انتشاره، وتسببت بذلك في عودة الإصابات نحو الارتفاع خلال السنوات الأخيرة سواء بقطيع البقر، أو لدى المواطنين من خلال توفر بيئة ملوثة ومحيط خارج الرقابة ملائمة لانتشار المرض وتسهيل العدوى وانتقالها بين الناس. وذلك عبر ثلاثة محاور رئيسية، الأول يهتم بضعف الرقابة الصحية على قطيع الماشية وخاصة الأبقار، والمراقبة الصحية على منتجي الحليب الطازج ومشتقاته، والمحور الثاني يهم ضعف المراقبة البيطرية للحوم على مستوى الذبح والتصرف في الحالات المصابة خاصة في البلديات والمسالخ، والمحور الثالث، يهم طرق الرصد والتقييم والمعالجة على مستوى الإصابات البشرية والميزانيات المخصصة لذلك..

وفق بيانات إحصائية نشرتها وزارة الصحة، تسجل تونس سنويا أكثر من 6000 حالة إصابة بمرض السل سنويا في سنوات السبعينات، ونجحت في خفضها إلى 1800 حالة سنويا خلال فترة التسعينات والعشرية الأولى من القرن الحالي، إلا أن معدل الإصابات عاد للارتفاع مجددا ليبلغ قرابة 3600 حالة سنويا بعد سنة 2011، وبمعدل وفيات في حدود 2.7 بالمائة.

بالعودة إلى تقرير الصحة العالمية يتضح أن لعدد الإجمالي للوفيات المرتبطة بالسل (ومنها الوفيات بين الأشخاص المتعايشين مع فيروس العوز المناعي البشري) بلغ 1,3 مليون حالة وفاة سنة 2022، بانخفاض عن الرقم المسجل في عام 2021 البالغ 1,4 مليون حالة وفاة. ومع ذلك، فخلال الفترة من 2020 إلى 2022، خلَّفت جائحة كوفيد-19 ما يناهز نصف مليون حالة وفاة إضافية بسبب السل الذي مازال سبب الوفاة الرئيسي بين الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة (السيدا). كما لا يزال السل المقاوِم للأدوية المتعددة يمثل واحدة من أزمات الصحة العامة...

 p4_n2.jpgp4_n3.jpg

 

 

عميد الأطباء البياطرة: 30 % من قطيع الأبقار مصاب بالسل

 

p4_n4.jpg

 

هذه المعطيات جعلتنا نتوجه الى عميد الأطباء البياطرة احمد بن رجب، الذي كشف في هذا الاتجاه أن 30 بالمائة من قطيع الأبقار في تونس مصاب بمرض السل، موضحا أن تونس تسجل إصابات بالسل اللمفاوية و80 بالمائة متأتية من الأبقار، كما أن الإصابات موجودة  ومنتشرة في 24 ولاية ولا وجود لأي ولاية في تونس خالية من مرض السل..

وأوضح أن السل نوعان: الأول سل رئوي ويصيب الرئة لدى البشر والمتسبب فيه جرثومة تسمى "ميكوباكتوريم تيبركيلوزيس" ، أما الثاني فهو سلّ خارج الرئة ويصيب العقد اللمفاوي (الولسيس) والجهاز الهضمي والجهاز العصبي والجهاز العظمي والجلد أي بمعنى أدق كل ماهو موجود خارج الرئة .

وقال بن رجب أن المنظمة العالمية للصحة أجرت دراسة عن السل الذي يصيب العقد اللمفاوية (الولسيس) أثبتت فيها أن 80 بالمائة من هذا السل من أصل حيواني. وقال إننا في تونس نسجل سنويا حوالي 1000 حالة من السل الذي يصيب الغدد اللمفاوية بمعنى ان 800 حالة على الأقل يكون مصدرها الحيوان..

وبالنسبة للسل لدى الأبقار اعترف بن رجب انه منتشر بين القطيع. مشددا على ضرورة التمييز بين السل كمرض والسل كإصابة، لان البقرة المريضة لا تنتج حليبا ولكن خطورتها تتمثل في الانتشار، والبقرة المصابة تكون حلوبا معلنا أن ما يقارب 4 بالمائة من الأبقار تفرز جرثومة السل في الحليب.

مضيفا أن عملية تجميع الحليب تتم في نفس الصهاريج، حيث أن عملية نقل الحليب في حد ذاتها تساهم في نشر الجرثومة وتكاثرها.

وكشف أن الخطورة تتمثل في الإصابات المنتشرة بين الأبقار، حيث أن العدوى تنتشر دون أي أعراض. والفرق بين الإصابة والمرض هي ظهور علامات الإصابة.

وأفاد بأن الإصابات تكون عادة إما عبر تناول الحليب غير المعقم ومشتقاته (الزبدة القوتة، الرايب، واللبن) وعند التعامل مع حيوان مصاب عبر اللمس أو التنفس ولكن أكثر لإصابات متأتية من تناول الحليب ومشتقاته .

ودعا عميد البياطرة الى تجنب استهلاك الحليب ومشتقاته من مسالك عشوائية غير نظيفة وغير خاضعة للرقابة، مع توفر إرادة سياسية لتطهير القطيع الخاضعة لتراتيب من بينها مرض السلّ.

وقال إن المنظمة العالمية للصحة أثبتت خلال الفترة ما بين 2013 و2019 أن 80 بالمائة من السل الذي يصيب العقد اللمفاوية متأتٍّ من أصل حيواني وبالتالي فانه من تحصيل الحاصل أن الإصابات من أصل حيواني.

وانتقد عميد الأطباء البياطرة بشدة ما أسماه بـ"تخاذل الدولة"، وقال إن الإرادة السياسية غائبة مما يهدد الأمن القومي الغذائي والصحي وانتشار الجراثيم منها السل.. وحجته في ذلك أننا "لازلنا نرى الأمراض المنسية منتشرة في تونس الى حد اليوم"، وقال:" مادمنا نسجل 800 حالة إصابة معلنة في تونس فان الاستهتار واضح."

ودعا بن رجب الى الرقابة على مستوى الحيوانات وتطهير القطيع ومراقبة المنتجات الغذائية من أصل حيواني خاصة أن مدة العلاج طويلة وتتراوح بين ستة أشهر وسنة و9 أشهر.

وقال محذرا:" في حال لم يتم اتخاذ الإجراءات الوقائية فإننا سندخل في إهدار المال العام باعتبار أن كل مريض يصاب تتكفل به الدولة من ناحية الأدوية ".

 

التحليل السريع حكر على الأطباء العموميين..

 

p4_n5.jpg

 

لم تكن تصريحات عميد الأطباء هي الوحيدة التي مثلت صدمة لما يحدث للقطاع الحيواني وخاصة الأبقار، بل ان تصريحات نائب رئيس عمادة الأطباء البياطرة الدكتور سفيان مخلوف، مثلت بدورها صدمة ثانية، حيث أكد في حديثه معنا، وجود برنامج  وطني تشرف عليه وزارة الفلاحة والموارد المائية، كان يمكّن للأطباء البياطرة الخواص أن يقتنوا ما يعرف بالتحليل السريع لتقصي مرض السل لدى الأبقار، لكنه اليوم أصبح غير متوفر لجميع الأطباء.

وأكد مخلوف أن استعمال التحاليل السريعة، أصبح حكرا على الأطباء البياطرة في القطاع العام، وفي حال لاحظ  الطبيب الخاص وجود علامات للإصابة بالمرض لدى بعض الأبقار فانه يقوم بإعلام الطبيب في القطاع العام. ولكن الإشكال الأكبر يتمثل في عدم إعلام الأطباء في القطاع العام حيث يقوم الفلاح ببيع الأبقار في ولايات أخرى أو ذبحها وعرضها للبيع.

وأفاد محدثنا أن القطاع الخاص للأطباء البياطرة يعاني من مشكل في مواجهة مرض السل للأبقار ومنها النقص الكبير في الأدوية المتوفرة للسّل، ونقص عدد الأبقار والأغنام وهو ما يؤثر على  الوضع المهني والاقتصادي للطبيب البيطري الخاص، فضلا عن التغيرات المناخية التي ساهمت في نقص  قطاع الماشية والأبقار وانتشار الأمراض.

تجدر الإشارة إلى أننا حاولنا الاتصال بوزارة الفلاحة للتحقق من المعطيات التي كشفت عنها عمادة الأطباء البياطرة، والتعرف على إستراتيجية الوزارة في مجال التوقي من مرض السل بين قطيع الأبقار والنتائج المحققة في ذلك.. ورغم مراسلتنا للمكلفة بالإعلام عبر البريد الالكتروني ووعدها لنا بتلبية مطالبنا وتكليف مسؤول بالوزارة للإجابة عن أسئلتنا، إلا أننا لم نحصل على أي رد.. مما اضطرنا إلى تقديم مطلب في النفاذ إلى المعلومة بتاريخ 14 نوفمبر 2023، ومازلنا بصدد انتظار الرد على المطلب والمتضمن لطلب معطيات وإحصائيات متعلقة بتطور مرض السل بين الأبقار على وجه الخصوص..

 

رئيسة قسم أمراض الرئة بمستشفى أريانة: التقصي والمتابعة غائبان

 

p5_n1.jpg

نفس التساؤلات حول عدم الجدية والتسيب في اتخاذ القرارات المناسبة لمواجهة مرض السل في تونس ومدى انتشاره لدى الإنسان، توجهنا بها الى رئيسة قسم أمراض الرئة بمستشفى أريانة، الدكتورة فاطمة تريتر، التي أكدت أن التوعية الموجهة للمواطن موجودة باعتبار أن السلط تقوم بتنظيم جملة من الحملات التوعوية لتحسيس المواطنين بخطورة انتشار المرض وطرق الوقاية منه، لكنها أقرت في نفس الوقت أن هذه التوعية منقوصة  وتتحمل مسؤوليتها وزارة الصحة فضلا عن نقص الإمكانيات.

وأعلنت تريتر انه في غضون الأشهر القادمة سيتم تنظيم حصص توعوية للمواطنين، مضيفة أن نسب الحالات المنتشرة الى حدود 2022 وخلال الخمس سنوات الأخيرة بقيت بنفس النسق، ولكن من المرجح أن تكون هناك حالات عدوى أو إصابات بالسل لم يتم اكتشافها.

وأضافت انه بعد انتشار مرض كورونا أو كوفيد 19 فقد لاحظ الأطباء بروز شكل جديد من المرض يعد مستعصيا ومتطورا أو أكثر خطورة من الإصابات التي تعود على استقبالها الهيكل الطبي موضحة في نفس النسق انه بالتوازي سل الرئتين انتشر بصفة كبيرة مرض سل الغدد والعمود الفقري، وهما نوعان من الإصابات المخطرة ويستقبل المستشفى في مراحل متقدمة من السل مرجحة أن يكون السبب أساسا هو التراخي في إجراء الفحوصات اللازمة. ويستقبل قسم أمراض الرئة بأريانة مصابين بنقص الوزن (بين 35/45 كلغ).

وحمّلت رئيسة قسم أمراض الرئة، المسؤولية الى تراخي المواطنين في القيام بالفحوصات اللازمة ونقص التوعية  وانتشار الكوفيد الذي قلص من اهتمام المواطن بأمراض أخرى .

وحول الإجراءات التوعوية، قالت الدكتورة تريتر أن التقصي العادي للمرض ينطلق بالفريق الطبي في الخط الأمامي وهو "المستوصف"، ثم المستشفى، ويتابع العاملون بالمستوصف التقصي ويكون أساسا بالمحيط العائلي المقرب من الشخص المصاب ولكن ذلك لا يحصل  كما أن بعض الأشخاص يتناسون مرض السل ويتم تبويبه في آخر مراحل التقصي من طرف الأطباء والمرضى.

 

أطباء الخطوط الأمامية في قفص الاتهام

وأضافت تريتر انه تقرر مؤخرا  تنظيم حملات توعوية للدعوة لإجراء التقصي حول مرض السل خاصة إذا ما تواصل السعال عند المريض لأكثر من 15 يوما حيث يتم عادة ربط هذا الأمر بكورونا.

وقالت بان التقصي المبكر مهم فضلا عن تحسيس المريض بضرورة مواصلة التقصي لعائلته المقربة والمحيطة به من اجل إجراء التحاليل اللازمة  خاصة وان مرض السل مرض معد عبر استنشاق الجرثومة ومن الممكن أن تبقى في جسم الإنسان لمدة طويلة حتى بعد سنوات.

وشددت على ضرورة إجراء المراقبة على المدى البعيد والقصير وتظهر الأعراض الأساسية وهي السعال ونقص كبير في الميزان دون مبرر .

وأكدت تريتر أن مؤتمرات تحسيسية انطلقت منذ فترة وتواصل إجراء مؤتمرات تحسيسية للأطباء وتم تنظيمها في كل من أريانة ومنوبة وسليانة وعدة ولايات أخرى ولكن الإشكال في تغيب بعض الأطباء..

وقالت إن إمكانيات الوزارة قليلة لتنظيم حملات تحسيسية أو الأيام المفتوحة للمواطنين أيضا. كما أن المواطن في حد ذاته يرفض الحضور لمواكبة تلك الحملات، مثل ما حصل مؤخرا في جهة منزل بورقيبة ببنزرت .

وحول ما يتم تداوله بخصوص إصابة بعض المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء بالسل وإمكانية نقلهم للعدوى، قالت الدكتورة فاطمة تريتر إن الوزارة تقوم بمجهودها من ناحية استقبالهم بالمستشفيات وتوفير الأدوية بالتعاون مع بعض المنظمات والمجتمع المدني الذين يتكفلون بتقديم الأدوية والأغذية اللازمة..

وأقرت تريتر بوجود نسبة ضئيلة لتأثير المرضى الأفارقة المصابين على استهلاك الأدوية الموجهة لمعالجة السل باعتبار أن علاج مرض السل مجاني فضلا عن تواجدهم لفتر إقامة طويلة بالمستشفى..

 

حالات مستعصية.. وأخرى محيّرة للأطفال

كشفت رئيسة قسم أمراض الرئة بمستشفى أريانة أن 30 بالمائة من المصابين بالسل في مستشفى أريانة والذين يأتون من جميع معتمديات الولاية، يعانون من مرض السل  "المستعصي" والذي يصيب الغدد والعمود الفقري.

كما أكدت أن هناك نوعا جديدا مستعصيا يصيب الأطفال أقل من خمس سنوات وخاصة الذي يصيب اللوزتين والرئتين حيث يستقبل المستشفى أطفالا مصابين بالمرض وباعتبار أن المرض معد، فمن المؤكد أن  تكون الجرثومة من أحد أطراف العائلة المقربة وهو ما يؤكد أن التقصي للعائلة لم يحصل .

وبمواجهة الدكتورة تريتر بما صرح به عميد الأطباء البياطرة الذي أكد أن 30 بالمائة من قطيعنا تحمل جرثومة السّل، لم تكذّب المعلومة المتداولة، بل ذهبت الى ابعد من ذلك لتؤكد أن النسبة ربما تكون أكثر من 30 بالمائة، وشددت على ضرورة الابتعاد عن الحليب و"الرايب" غير المعقم و"القوتة" باعتبارها من الأسباب الأساسية التي تسبب الإصابات الى أن تتوصل وزارة الفلاحة الى حلّ للقطيع..

 

بيع أبقار مصابة بالسل في شكل بتة..!؟

 

p5_n3.jpg

 

ونحن بصدد انجاز التحقيق، تفطنا - كما تفطن عدد من التونسيين- الى إعلان بتة للعموم ببيع لحم أبقار مصابة بالسلّ (الإعلان صدر في احدى الصحف اليومية منذ أشهر قليلة) من طرف المركب الفلاحي الأخماس من ولاية سليانة، وفي هذا السياق علّق عميد الأطباء البياطرة أحمد بن رجب أن القانون عدد 95 المؤرخ في 18 أكتوبر لسنة 2005 الذي يتعلق بتربية الماشية والمنتوجات الحيوانية وينص على الأمراض الحيوانية الخاضعة للتراتيب وهي الأمراض الحيوانية التي تتميز بسرعة العدوى أو إمكانية انتقالها للإنسان أو لن تتسبب في كوارث اقتصادية أو الأمراض الثلاثة معا.

وأضاف أن مرض السل سريع العدوى ويتسبب في خسائر اقتصادية فادحة وينتقل للإنسان، حيث من المؤكد أن 80 بالمائة من السل الذي يصيب العقد اللمفاوية  للإنسان هو من أصل حيواني وبالتالي فان هذا السل خاضع لتراتيب لأنه معد وينتقل الى الإنسان ويسبب خسائر فادحة .

وأضاف أن الفصل 28 من القانون 95 المؤرخ في 2005 ينص في نقطته الثانية انه: "يحجر على كل مالك أو مرب أن يتجّر في الحيوانات التي يعلم أنها مصابة بمرض حيواني خاضع للتراتيب" وبالتالي يحجر الفصل الاتجار بهذه الحيوانات .

وأفاد أن النقطة 4 من نفس الفصل تنص على انه "يحجر على كل مالك أن يتسبب عمدا في ظهور مرض حيواني خاضع للترتيب أو في تسربه للحيوانات السليمة"، وثالثا فان طريقة نقل الحيوانات المصابة يجب أن  تخضع لمواصفات معينة لنقل لحيوان المصاب وبالتالي فإن "الأمن الحيوي" في هذه الوضعية غائب ولم يتم احترامه .

أما بالنسبة للتمشي الذي من المفروض أن يحصل حاليا فقد أوضح محدثنا انه يجب أن يتم أولا نقل الحيوانات المصابة الى المسلخ وتتم معاينتها من طرف الأطباء البياطرة وبعد التثبت يمكن أن تكون الإصابة خفيفة ومستقرة في عضو وبقية الأعضاء سليمة فانه يتم إتلاف العضو المصاب وتبقى البقية صالحة للاستهلاك .

 

رئيس برنامج مكافحة السل: تونس دائما في الوسط من ناحية الإصابات بالسل

 

p5_n2.jpg

 

جل هذه المعطيات وغيرها توجهنا بها إلى رئيس برنامج مكافحة السل بإدارة الرعاية الصحية الأساسية عبد الرؤوف المنصوري، الذي أوضح أن هناك نوعين من مرض السل، السل الرئوي الذي يعد معديا، والسل غير الرئوي ومنه العقدي الذي يتأتى أساسا من الحليب.

وقال إنه خلال فترة انتشار وباء "كوفيد 19" بتونس، عرفت معدلات الإصابة ارتفاعا، بما أن المواطنين تخلوا عن أدويتهم بفعل الإجراءات الوقائية المتخذة، ومنذ 2021 بدأت نوعية السل تتغير، إذ أصبح السل الرئوي في تراجع وارتفعت نسب الإصابة بالسل خارج الرئة الذي أصبح هو المسيطر بعد أن تم تطبيق الإجراءات الوقائية، لكن بعد نهاية فترة "الكوفيد" تم الانتقال الى الحالة الوبائية السابقة..

وفي هذا السياق، ووفق وثيقة صادرة عن إدارة رعاية الصحة الأساسية، تحصلنا على نسخة منها، تبين أن نسبة حدوث السل العقدي شهدت خلال السنوات الأخيرة تتزايدا ملحوظا للسل العقدي، واستنادا الى البحث الوطني 2013/2014  حول السل خارج الرئة العقدي، فان أكثر من 70 بالمائة من هذا النوع تسببت فيه بكتيريا السلّ البقريmicrobacterium bovis  المرتبطة باستهلاك الحليب غير المعقم ومشتقاته واللحوم الحمراء غير المطهية بشكل جيّد.

كما أكد رئيس برنامج مكافحة السلّ ما ورد في تصريحات الدكتورة تريتر رئيسة القسم بمستشفى أريانة، حول تفشي السل بين المهاجرين المتواجدين في تونس من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وأكد كثرة الإصابات بينهم.

وتحدث المنصوري عن أمل الوزارة في الوصول الى صفر حالة للإصابات بالسل وخاصة وان منظمة الصحة العالمية تطمح الى أن  يصل العالم الى صفر حالة  سنة 2050.

واعترف في نفس الوقت بأن التقارير الرسمية لا تقدم  صورة واضحة عن الوضع الحقيقي خاصة، أن من يتم احتسابهم هم فقط من يقومون بإعلام الجهات الصحية بإصابتهم بمختلف الولايات وخاصة أن فترة انتشار "فيروس الكوفيد 19" التي اتسمت بتطبيق إجراءات الحجر الصحي والتباعد شهدت سنة 2021 نسبة إصابة قدرت بـ22.46 إصابة بالسّل لكل 100 ألف ساكن، لكن النسبة عادت للارتفاع مجددا سنة 2022 لتبلغ 27.7 إصابة وبالتالي عادت البلاد الى نفس نسق الإصابات .

وحول ما تم التوصل إليه سابقا بخصوص عملية المتابعة والتقصي لبقية أفراد العائلة، أوضح الدكتور المنصوري أن التقصي لا يحصل عادة إلا للسل المعدي كالسل الرئوي .

وأوضح أن نسبة الإصابة بالسل لكل مائة ألف ساكن تحتسب انطلاقا من أول يوم للسنة الى حدود 31 ديسمبر، يتم احتساب عدد المرضى الجدد وتتم قسمة العدد المتحصل عليه على مائة ألف ساكن، وبما أن المريض يحصل على الدواء لفترة لا تقل عن 6 أشهر فانه يتم احتساب نسبة تواجد المرض حيث انه يتم احتساب المرضى في السنة الماضية مع المرضى المعلن عن إصابتهم انطلاقا من غرة جانفي للسنة الجديدة، وبالتالي تكون نسبة تفشي المرض مرتفعة .

وأكد محدثنا انه يتم تطبيق بروتوكول خاص بالمصابين بالسل حيث يتم تقصي الجرثومة في المحيط العائلي عبر تحول فريق من الصحة وإجراء تحاليل ومن يتبين انه ايجابي يدخل في دائرة المصابين ومن يكون سلبيا يطبق عليه بروتوكول وقائي لتفادي إصابته وهذا يطبق بصفة أوتوماتيكية على الفئة الأقل من 5 سنوات .

تجدر الإشارة الى أن أول بروتوكول صحي لمكافحة مرض السل في تونس انطلق سنة 1959 حيث كان أكثر من نصف التونسيين مصابين بالسل، قبل أن يتقلص عدد الإصابات شيئا فشيئا .

وأضاف أنه انطلاقا من 2018 تم انجاز تقرير جديدة وفقا لأرقام المعهد الوطني للإحصاء الذي يقدم العدد الرسمي للتونسيين، وتوقع ارتفاع نسبة الإصابة سنة 2023 باعتبار أننا تجاوزنا فترة الكوفيد، ولا وجود لأي إجراء يعرقل إعلان الإصابة بالمرض خاصة مع تأثير تواجد أفارقة مهاجرين بتونس يحملون إصابة فعلية بالسل الرئوي، وقدر وجود 80 حالة مصابة بين المهاجرين أكثر من 70 بالمائة منهم يعانون من السل الرئوي المعدي، مضيفا أن أغلب المصابين يصلون للمستشفيات في حالة متقدمة من المرض، ولكن السيطرة عليهم صعبة باعتبار أنهم يقدمون هويات مغلوطة  بالمستشفيات ومنهم من يتلقى العلاج في مرحلة أولى ويغادر بصفة سرية ويعود لممارسة أنشطته بصفة عادية وهو يحمل مرضا معديا..

وأقرّ بأن حلّ البلديات اثّر على عملية التقصي، حيث كانت تتولى مراقبة محلات بيع الحليب ومشتقاته وبما أن البلدية هي الطرف الوحيد الذي يقوم بتحليل الحليب لتبين احتوائه على السلّ من عدمه، كما حمل المسؤولية الى وزارة الفلاحة التي تتولى القيام بإجراءات الرقابة للأبقار تحديدا.

كما اقّر رئيس برنامج مكافحة السّل بان وزارة الصحة لا تملك السلطة على المواطن لتمنعه من اقتناء الحليب غير المعقم بل تقف مهامها في مرحلة التوعية بضرورة تغلية الحليب لمدة 20 دقيقة على الأقل وطهو مشتقات الحليب.

 

ميزانية هزيلة..

وفي ختام تصريحه، قال رئيس برنامج مكافحة السّل إن المسؤولية في تفشي مرض السلّ مشتركة بين عديد الأطراف باختلاف نوعية الإصابة حيث أن كلا من وزارة الفلاحة ووزارة الصحة والداخلية مطالبة بالقيام بدورها .

اما بالنسبة للميزانية المرصودة لمجابهة مرض السل، كشف المنصوري انه تم رصد ميزانية تقدر بثلاثة مليون دينار لسنة 2024 بعد ان كانت سنة 2023 في حدود 2.4 مليون دينار.

علما أنه بالعودة إلى ما نشر من بلاغات ومقالات سابقة بخصوص برنامج مكافحة السل في تونس، اتضح أن تونس استفادت من منظمة الصحة العالمية وتحديدا من الصندوق العالمي لمكافحة السل والسيدا والملاريا، بتمويل قدره 5 مليون دولار (ما يعادل 16 مليون دينار) للفترة الممتدة بين 2019 و2021 وبذلك بمقتضى تم امضائها بين المنظمة ووزارة الصحة بتاريخ 29 نوفمبر 2018.

ووفقا لتصريح صحفي لوزير الصحة الأسبق عبد الرؤوف الشريف، فقد تلقت تونس من نفس الصندوق ثلاثة منح مالية مماثلة خلال الفترة من 2007 إلى 2018.

وفي ظل ما خلص اليه تحقيقنا فان كل مواطن مطلوب منه، أولا ان يحمي نفسه بنفسه، وأن لا يعوّل على الدولة في حمايته من الإصابة بمرض السّل ثانيا..