تتعالى الاحتجاجات اليومية والأصوات عاليا في فرنسا هذه الأيام للمطالبة بتعديل النظام السياسي للجمهورية الخامسة ساري المفعول منذ 1962، بعد أن وصل إلى طريق مسدود بسبب الصراع الحالي المزمن بين رئيس الجمهورية والبرلمان، إثر رفضه المصادقة على قانون الترفيع في سن التقاعد إلى 64 سنة بزيادة سنتين إضافيتين، خاصة بعد تشبث الرئيس إيمانيال ماكرون بتمريره عبر آلية الفصل 49.3 الاقتحامية المنصوص عليها في الدستور، ووقوف المجلس الدستوري في الأخير إلى جانب موقف الرئيس .
ولازال الوضع الاجتماعي والسياسي متوترا حد الصدام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبينهما النقابات، خاصة وأن الرئيس ماكرون لا يملك أغلبية عادية أو مريحة في المجلس التشريعي. وهو مضطر إذا أراد نزع فتيل الأزمة اللجوء إلى خيار الاستفتاء حول الموضوع أو حل البرلمان وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها قد تأتي بأغلبية واضحة لهذا الطرف أو ذاك، مما يضطره في مثل هذا السيناريو المتوقع، إلى القبول بسياسة التعايش مع حكومة وبرلمان من المعارضة، كما جرى في السابق مع الرئيس الإشتراكي فرانسوا ميتران عام 1986 ثم مع الرئيس الديغولي اليميني جاك شيراك عام 1997 .
الرئيس في عزلة
حاليا يجد رئيس الجمهورية نفسه في وضع عزلة من الناحية الشعبية ولا سند حزبي له باعتباره وصل إلى دفة الحكم بفضل حركة سياسية جديدة تجميعية تنسيقية بين قوى ليبرالية جديدة لوسط اليمين واليسار. وقد حكم بها في الولاية الأولى منذ عام 2017 بأغلبية مطلقة في البرلمان حد الاندفاع والهيمنة على الساحة الحزبية المشتتة، إلى درجة أن أطلقت الصحافة على ماكرون الرئيس لقب "جوبيتار" إلاه القوة والجبروت عند الرومان، قبل أن تتراجع شعبيته في الولاية الثانية وتنحسر كتلته البرلمانية في تلك الولاية ويجد نفسه في مواجهة مصيره، بعد أن انحسر إشعاع حزبه بسبب الانشقاقات داخل تنسيقيات الحزب، مما حتم حتى تغيير اسمه من " حركة فرنسا للأمام" إلى " حركة النهضة الفرنسية".
وأطنبت الصحافة الفرنسية مؤخرا في الحديث بأسى وحرقة عن المأزق السياسي والدستوري الذي تردت فيه فرنسا، داعية إلى إصلاحات سياسية للجمهورية الخامسة التي "وصلت إلى مداها"، حسب كثير من المعلقين . وكتب المدير السابق ورئيس تحرير صحيفة "ليبيراسيون " اليسارية لأكثر من ثلاثين سنة، سارج جولي ، في مقال تحليلي يوم 24 أفريل الجاري بعنوان :"نهاية الملكية الجمهورية للجمهورية الخامسىة " يقول : "إن الرئيس ماكرون يجد نفسه وحيدا. وهو يتحرك في كل الاتجاهات بعد الأزمة التي افتعلها حول سن التقاعد . ورغم الدروس المستخلصة من ولايته الأولى، فإن نزعته الفوقية كأنه جوبيتار تجعل من الصعب مواصلة قبول هيمنة رئيس الدولة على الجمهورية الخامسة. ورغم تحركاته في كل الاتجاهات، في الخارج والداخل، فهو يبدو وحيدا في قصر الإيليزيه وفي شاشة التلفزيون. وهو وحيد أيضا في مسرح السياسة حيث لاسند له بين النخبة والمثقفين أصحاب الأفكار القوية غير المتحزبين. وهو في هذا النظام السياسي المتهالك لا يسائله أحد، وتلك نقطة ضعفه الأساسية، لأن أبرز من سبقه من الرؤساء، كلا من شارل ديغول وفرنسوا ميتران، كانوا محاطين بنخبة فرنسا من الرجال والنساء الفاعلين والفاعلات في المشهد الحزبي والجمعياتي، تتبعهم مجموعات من التكنوقراط أصحاب الأفكار المجددة للسياسة والمجتمع الفرنسي. وهذا ما ينقص ماكرون ضحية النظام السياسي القائم للجمهورية الخامسة ".
ومن جهتها قالت سيغولان روايال المرشحة السابقة للرئاسة ووزيرة البيئة سابقا، أن على ماكرون التراجع وسحب قانون التقاعد، لأن نظام التقاعد والحماية الاجتماعية لا يشكو عجزا بل هو متوازن من الناحية المالية. ولكن ماكرون يريد تطبيق "إملاءات" وتعليمات المجلس الأوروبي التي يندرج في سياسة قضم مزايا نظام التغطية الاجتماعية العادلة التي تتميز بها فرنسا عن غيرها من دول الاتحاد الأوروبي".
خطر اضمحلال الأحزاب الكبرى
هكذا أمام اضمحلال الأحزاب الكبرى التي كانت العمود الفقري للجمهورية الخامسة، تجد هذه الأخيرة نفسها في هيكلة جديد للمشهد السياسي المفتقر إلى قوى توجه الدفة والبوصلة، بعد أن ظلت قائمة منذ عقود على ثنائية الحزب الديغولي اليميني والحزب الاشتراكي اليساري. وهي تجد نفسها دون ذلك في مهب الريح وفي مواجهة ساعة الحقيقة بوصولها إلى الطريق المسدود . فهي جمهورية تعطي لسلطة رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة أمام السلطات التشريعية والقضائية والاعلامية إلى درجة أن أطلقت عليها الصحافة تعبير " الملكية الجمهورية" أو "الجمهورية الملكية ".
وفي نظر كثير من صانعي الدساتير في فرنسا فان دستور الجمهورية الخامسة المتواصل منذ أكثر من ستين سنة، يتضمن آليات لفض النزاعات بين السلطات وتجاوز الإشكاليات الدستورية الناشبة خلال العقود الأخيرة . وقد سمح ذلك بطول عمر هذا النظام الدستوري الذي يتمتع أيضا بخصوصية النظام الفرنسي المرتكز على قوة الإدارة المنفذة لاستراتيجيات السياسيين. وهو نظام سياسي في نظر عالم السياسة الفرنسي ستانلي هوفمان في كتابه "سِيرْ لا فْرانْس" (حول فرنسا) ص50 تملك فيه الدولة اليوم سلطة نافذة وهي إدارتها المركزية التي تتمتع بقدر كبير من التأثير والنجاعة، رغم التطور الحاصل في الأنظمة السياسية المتلاحقة فيها منذ قرون وفي الدول المجاورة لها. وقد نقلت هذه القوة الضاربة للإدارة الفرنسية نموذجها المتضخم ونظامها السياسي إلى الدول التي استعمرتها مثل بلدان المغرب العربي أو القارة الإفريقية ، وهي دول تشكو من قوة وثقل جهاز الإدارة المتشابك مع دواليب الدولة وتفرعات السلطة فيها ، بشكل يعيق حتى قيام نظام ديمقراطي ناجح فيها . ويضيف :" لقد ظل التوازن قائما حول الدولة التي يتمثل دورها في خنق كل الأزمات المهددة بالنشوب، ليس فقط من خلال القضاء على مصادر استقلال السلطة، ولكن أيضا من خلال تطويع فئة المؤثرين في المجتمع وضمان حد أدنى من التحرك الاجتماعي، ومن خلال ممارسة أشكال عدة من الرقابة المادية والمعنوية على جمهور الشعب."
ورغم إشادة الكثيرين من واضعي الأنظمة، بالنظام السياسي المتوازن للجمهورية الخامسة، ، فان المطالب مازالت ترتفع بسهام النقد ونداءات الإصلاح والتغيير علي غرار عالم الاجتماع الفرنسي بيار ميرماي، في الكتاب الذي أصدره عام 2014 بعنوان "إعادة بناء فرنسا: نداء من أجل ديمقراطية إيجابية"، وفيه ينتقد بشدة واقع الحياة السياسية في فرنسا التي يصفها بأنها تعيش "احتضار النموذج الجمهوري" وتعطل الديمقراطية بسبب أزمة الثقة في الدولة والسلطة وتفاقم الفروقات الاجتماعية والتوترات والمخاطر داخل مجتمع أصبح "أحادي التوجه وعمودي المنهج ". والمطلوب في نظره، أن تعود الدولة "تعددية التوجه وأفقية المنهج" في عملية بنائها. ويقترح للخروج من الأزمة "إرساء ديمقراطية إيجابية تندرج في إطار عقد اجتماعي يقوم على مجتمع أفقي وتعاوني".
وفي غضون ذلك تجد فرنسا تجد نفسها في خضم التحولات الدولية للعولمة وسيطرة النظام الليبرالي الاقتصادي العالمي في الوقت الذي تراجعت فيه مكانة الأحزاب التقليدية وتركت فراغا في الساحة السياسية في البلدان الديمقراطية قام بملئه الشعبويون الذين سيطروا على عدة بلدان منذ عام 2015 مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحكم وما تبعه من وصول قوى شعبوية أخرى إلى الحكم في البرازيل وايطاليا والسويد والنمسا وعدة دول من أوروبا الشرقية وأوكرانيا، حاملة معها نذر مواجهات وحروب إقليمية تقليدية مدمرة وربما نووية ماحقة .
ويبدو أن الأحزاب التقليدية لم تعد قادرة على الصمود والتأثير، أمام تنامي وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت من كل فرد زعيما موهوما وصانع محتوى مزعوم تدغدغه الأفكار الإنشائية الشعبوية لليمين واليسار وللنزعات القومية العرقية التي تحاول إحياء أمجاد الماضي الامبراطوري السحيق. وتجد فرنسا نفسها مرشحة في قادم الانتخابات إلى صعود الشعبويين المتحالفين مع ائتلاف الشر العرقي وقوى اليمين المتطرف. وقد أفلتت فرنسا بمعجزة في أخر لحظة في الدور الثاني من هذا المصير الحالك الذي هز جارتها الرومانية إيطاليا. وكان المرشح ماكرون هو قارب النجاة من انتصار الشعبوية التقليدية التي لها في الحقيقة عدة أشكال منها شعبوية الليبرالية القاسية أو المتوحشة في خدمة الرأسمال وزيادة أرباح البنوك الجشعة التي أوصلت ماكرون إلى سدة الحكم في دورتين لا ثالث لهما حسب دستور الجمهورية الخامسة. وهذا الامر يجعله "يستميت حد الموت في تمرير قانون الزيادة في سن التقاعد رغم الاحتجاجات المليونية، حتى وإن احترقت باريس متجاوزا بذلك جوبيتار ونيرون"، حسب تعبير إحدى المواقع الالكترونية المناهضة لسياسات "الماكرونية البنكية"
*صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
بقلم: د. الصحراوي قمعون(*)
تتعالى الاحتجاجات اليومية والأصوات عاليا في فرنسا هذه الأيام للمطالبة بتعديل النظام السياسي للجمهورية الخامسة ساري المفعول منذ 1962، بعد أن وصل إلى طريق مسدود بسبب الصراع الحالي المزمن بين رئيس الجمهورية والبرلمان، إثر رفضه المصادقة على قانون الترفيع في سن التقاعد إلى 64 سنة بزيادة سنتين إضافيتين، خاصة بعد تشبث الرئيس إيمانيال ماكرون بتمريره عبر آلية الفصل 49.3 الاقتحامية المنصوص عليها في الدستور، ووقوف المجلس الدستوري في الأخير إلى جانب موقف الرئيس .
ولازال الوضع الاجتماعي والسياسي متوترا حد الصدام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبينهما النقابات، خاصة وأن الرئيس ماكرون لا يملك أغلبية عادية أو مريحة في المجلس التشريعي. وهو مضطر إذا أراد نزع فتيل الأزمة اللجوء إلى خيار الاستفتاء حول الموضوع أو حل البرلمان وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها قد تأتي بأغلبية واضحة لهذا الطرف أو ذاك، مما يضطره في مثل هذا السيناريو المتوقع، إلى القبول بسياسة التعايش مع حكومة وبرلمان من المعارضة، كما جرى في السابق مع الرئيس الإشتراكي فرانسوا ميتران عام 1986 ثم مع الرئيس الديغولي اليميني جاك شيراك عام 1997 .
الرئيس في عزلة
حاليا يجد رئيس الجمهورية نفسه في وضع عزلة من الناحية الشعبية ولا سند حزبي له باعتباره وصل إلى دفة الحكم بفضل حركة سياسية جديدة تجميعية تنسيقية بين قوى ليبرالية جديدة لوسط اليمين واليسار. وقد حكم بها في الولاية الأولى منذ عام 2017 بأغلبية مطلقة في البرلمان حد الاندفاع والهيمنة على الساحة الحزبية المشتتة، إلى درجة أن أطلقت الصحافة على ماكرون الرئيس لقب "جوبيتار" إلاه القوة والجبروت عند الرومان، قبل أن تتراجع شعبيته في الولاية الثانية وتنحسر كتلته البرلمانية في تلك الولاية ويجد نفسه في مواجهة مصيره، بعد أن انحسر إشعاع حزبه بسبب الانشقاقات داخل تنسيقيات الحزب، مما حتم حتى تغيير اسمه من " حركة فرنسا للأمام" إلى " حركة النهضة الفرنسية".
وأطنبت الصحافة الفرنسية مؤخرا في الحديث بأسى وحرقة عن المأزق السياسي والدستوري الذي تردت فيه فرنسا، داعية إلى إصلاحات سياسية للجمهورية الخامسة التي "وصلت إلى مداها"، حسب كثير من المعلقين . وكتب المدير السابق ورئيس تحرير صحيفة "ليبيراسيون " اليسارية لأكثر من ثلاثين سنة، سارج جولي ، في مقال تحليلي يوم 24 أفريل الجاري بعنوان :"نهاية الملكية الجمهورية للجمهورية الخامسىة " يقول : "إن الرئيس ماكرون يجد نفسه وحيدا. وهو يتحرك في كل الاتجاهات بعد الأزمة التي افتعلها حول سن التقاعد . ورغم الدروس المستخلصة من ولايته الأولى، فإن نزعته الفوقية كأنه جوبيتار تجعل من الصعب مواصلة قبول هيمنة رئيس الدولة على الجمهورية الخامسة. ورغم تحركاته في كل الاتجاهات، في الخارج والداخل، فهو يبدو وحيدا في قصر الإيليزيه وفي شاشة التلفزيون. وهو وحيد أيضا في مسرح السياسة حيث لاسند له بين النخبة والمثقفين أصحاب الأفكار القوية غير المتحزبين. وهو في هذا النظام السياسي المتهالك لا يسائله أحد، وتلك نقطة ضعفه الأساسية، لأن أبرز من سبقه من الرؤساء، كلا من شارل ديغول وفرنسوا ميتران، كانوا محاطين بنخبة فرنسا من الرجال والنساء الفاعلين والفاعلات في المشهد الحزبي والجمعياتي، تتبعهم مجموعات من التكنوقراط أصحاب الأفكار المجددة للسياسة والمجتمع الفرنسي. وهذا ما ينقص ماكرون ضحية النظام السياسي القائم للجمهورية الخامسة ".
ومن جهتها قالت سيغولان روايال المرشحة السابقة للرئاسة ووزيرة البيئة سابقا، أن على ماكرون التراجع وسحب قانون التقاعد، لأن نظام التقاعد والحماية الاجتماعية لا يشكو عجزا بل هو متوازن من الناحية المالية. ولكن ماكرون يريد تطبيق "إملاءات" وتعليمات المجلس الأوروبي التي يندرج في سياسة قضم مزايا نظام التغطية الاجتماعية العادلة التي تتميز بها فرنسا عن غيرها من دول الاتحاد الأوروبي".
خطر اضمحلال الأحزاب الكبرى
هكذا أمام اضمحلال الأحزاب الكبرى التي كانت العمود الفقري للجمهورية الخامسة، تجد هذه الأخيرة نفسها في هيكلة جديد للمشهد السياسي المفتقر إلى قوى توجه الدفة والبوصلة، بعد أن ظلت قائمة منذ عقود على ثنائية الحزب الديغولي اليميني والحزب الاشتراكي اليساري. وهي تجد نفسها دون ذلك في مهب الريح وفي مواجهة ساعة الحقيقة بوصولها إلى الطريق المسدود . فهي جمهورية تعطي لسلطة رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة أمام السلطات التشريعية والقضائية والاعلامية إلى درجة أن أطلقت عليها الصحافة تعبير " الملكية الجمهورية" أو "الجمهورية الملكية ".
وفي نظر كثير من صانعي الدساتير في فرنسا فان دستور الجمهورية الخامسة المتواصل منذ أكثر من ستين سنة، يتضمن آليات لفض النزاعات بين السلطات وتجاوز الإشكاليات الدستورية الناشبة خلال العقود الأخيرة . وقد سمح ذلك بطول عمر هذا النظام الدستوري الذي يتمتع أيضا بخصوصية النظام الفرنسي المرتكز على قوة الإدارة المنفذة لاستراتيجيات السياسيين. وهو نظام سياسي في نظر عالم السياسة الفرنسي ستانلي هوفمان في كتابه "سِيرْ لا فْرانْس" (حول فرنسا) ص50 تملك فيه الدولة اليوم سلطة نافذة وهي إدارتها المركزية التي تتمتع بقدر كبير من التأثير والنجاعة، رغم التطور الحاصل في الأنظمة السياسية المتلاحقة فيها منذ قرون وفي الدول المجاورة لها. وقد نقلت هذه القوة الضاربة للإدارة الفرنسية نموذجها المتضخم ونظامها السياسي إلى الدول التي استعمرتها مثل بلدان المغرب العربي أو القارة الإفريقية ، وهي دول تشكو من قوة وثقل جهاز الإدارة المتشابك مع دواليب الدولة وتفرعات السلطة فيها ، بشكل يعيق حتى قيام نظام ديمقراطي ناجح فيها . ويضيف :" لقد ظل التوازن قائما حول الدولة التي يتمثل دورها في خنق كل الأزمات المهددة بالنشوب، ليس فقط من خلال القضاء على مصادر استقلال السلطة، ولكن أيضا من خلال تطويع فئة المؤثرين في المجتمع وضمان حد أدنى من التحرك الاجتماعي، ومن خلال ممارسة أشكال عدة من الرقابة المادية والمعنوية على جمهور الشعب."
ورغم إشادة الكثيرين من واضعي الأنظمة، بالنظام السياسي المتوازن للجمهورية الخامسة، ، فان المطالب مازالت ترتفع بسهام النقد ونداءات الإصلاح والتغيير علي غرار عالم الاجتماع الفرنسي بيار ميرماي، في الكتاب الذي أصدره عام 2014 بعنوان "إعادة بناء فرنسا: نداء من أجل ديمقراطية إيجابية"، وفيه ينتقد بشدة واقع الحياة السياسية في فرنسا التي يصفها بأنها تعيش "احتضار النموذج الجمهوري" وتعطل الديمقراطية بسبب أزمة الثقة في الدولة والسلطة وتفاقم الفروقات الاجتماعية والتوترات والمخاطر داخل مجتمع أصبح "أحادي التوجه وعمودي المنهج ". والمطلوب في نظره، أن تعود الدولة "تعددية التوجه وأفقية المنهج" في عملية بنائها. ويقترح للخروج من الأزمة "إرساء ديمقراطية إيجابية تندرج في إطار عقد اجتماعي يقوم على مجتمع أفقي وتعاوني".
وفي غضون ذلك تجد فرنسا تجد نفسها في خضم التحولات الدولية للعولمة وسيطرة النظام الليبرالي الاقتصادي العالمي في الوقت الذي تراجعت فيه مكانة الأحزاب التقليدية وتركت فراغا في الساحة السياسية في البلدان الديمقراطية قام بملئه الشعبويون الذين سيطروا على عدة بلدان منذ عام 2015 مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحكم وما تبعه من وصول قوى شعبوية أخرى إلى الحكم في البرازيل وايطاليا والسويد والنمسا وعدة دول من أوروبا الشرقية وأوكرانيا، حاملة معها نذر مواجهات وحروب إقليمية تقليدية مدمرة وربما نووية ماحقة .
ويبدو أن الأحزاب التقليدية لم تعد قادرة على الصمود والتأثير، أمام تنامي وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت من كل فرد زعيما موهوما وصانع محتوى مزعوم تدغدغه الأفكار الإنشائية الشعبوية لليمين واليسار وللنزعات القومية العرقية التي تحاول إحياء أمجاد الماضي الامبراطوري السحيق. وتجد فرنسا نفسها مرشحة في قادم الانتخابات إلى صعود الشعبويين المتحالفين مع ائتلاف الشر العرقي وقوى اليمين المتطرف. وقد أفلتت فرنسا بمعجزة في أخر لحظة في الدور الثاني من هذا المصير الحالك الذي هز جارتها الرومانية إيطاليا. وكان المرشح ماكرون هو قارب النجاة من انتصار الشعبوية التقليدية التي لها في الحقيقة عدة أشكال منها شعبوية الليبرالية القاسية أو المتوحشة في خدمة الرأسمال وزيادة أرباح البنوك الجشعة التي أوصلت ماكرون إلى سدة الحكم في دورتين لا ثالث لهما حسب دستور الجمهورية الخامسة. وهذا الامر يجعله "يستميت حد الموت في تمرير قانون الزيادة في سن التقاعد رغم الاحتجاجات المليونية، حتى وإن احترقت باريس متجاوزا بذلك جوبيتار ونيرون"، حسب تعبير إحدى المواقع الالكترونية المناهضة لسياسات "الماكرونية البنكية"