انتشرت الهجرة السرية في العديد من الدول الفقيرة نتيجة لما تشهده من تغيرات سياسية وأزمات اجتماعية زادت الطين بلة لتتحول هذه الآفة إلى ظاهرة جديرة بالدراسة لاسيما أنها تعاظمت في السنوات الثلاث الأخيرة نتيجة لتطلعات بعض الأفراد لحياة أفضل طالما حلموا بها خارج بلادهم ومدنهم التي ولدوا بها وترعرعوا فيها خاصة أنهم طالما عانوا من البطالة لتتحول هذه الظاهرة إلى مشكل كبير.
بعد ثورات الربيع العربي تغيرت عدة أمور لتدفع بالكثير من مختلف الأوساط العمرية إلى الهجرة السرية نحو الضفة الأخرى من المتوسط فمنهم من يرى أن الفقر والخصاصة التي فيها العائلة هما السبب الرئيسي للإبحار خلسة نحو عواصم النور لتحسين نمط عيشهم ومنهم من يرى أن العيش في تونس أصبح مستحيلا نتيجة الأوضاع التي أصبحت عليها البلاد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا إضافة إلى الغلاء المشط لكل ضروريات الحياة وتدهور المقدرة الشرائية لدى جميع شرائح المجتمع.
ومن الناس أيضا من وضعوا نصب أعينهم الهجرة فلم يفكروا أبدا في خطورة الحرقة.
عديد الشبان التونسيين يرون في أوروبا الجنة الموعودة وعليهم الهجرة عبر مختلف الطرق والوصول إليها للتمتع بمحاسن هذه الجنان، أما أوطانهم فقد استحالت فيها الحياة وهي في نظرهم مقبرة فسيحة، وعلى هذا يرون أن حلمهم مشروع الشيء الذي جعلهم لا يتوانون لحظة في ركوب المخاطر منهم من يصل فيصطدم بالواقع ومنهم من يقضي نحبه ليصبح طعما للحيتان فتضيع من بعده عائلات وتترمل أخرى لأن من كان لها سند ذات يوم رحل ولم يترك لهم غير صبية صغار ودموع غزار.
ومن هؤلاء أيضا من يكون الحظ إلى جانبهم فيصلون في أمان وإذا ما حالفهم الحظ في الوصول فأكثرهم لن يكون الحظ إلى جانبهم ليندمجوا في الحياة في الضفة الأخرى فيصنعون لأنفسهم مستقبلا بشتى الطرق حتى يظفروا بالمال الوفير الذي جاؤوا من أجله وركبوا البحار وشقوا البراري.
أغلبهم وصل إلى بعض الدول الأوروبية بعد معاناة مريرة لكنهم لم يكنوا يعلمون أنهم سيعيشون مأساة حقيقية لان طريقهم ليست مفروشة بالورود، وقد عاينا معاناة الحارقين التونسيين الجدد في عديد المدن الفرنسية وحدثونا عن الصعوبات التي يواجهونها، منهم من يجوب الشوارع ومنهم من يستعطف الناس للحصول على مساعدة ومنهم من ينام تحت الجسور وفي الحدائق في ظروف أقل ما يقال عنها أنها صعبة.
أحمد التقيته صدفة فحدثني عن مغامراته للوصول إلى فرنسا بعد أن خسر وظيفته في تونس لأنها لا تدر عليه الكثير وهو العائل لخمسة أنفار،قال:"كنت موظفا في وقت لا يجد فيه التونسي شغلا ومع ذلك فرطت في وظيفتي التي لم تكن تدر علي الكثير وحاولت الخروج بتأشيرة قانونية لكن مطلبي جوبه بالرفض فركبت عباب البحر بمعية عائلتي وها أنا هنا بفرنسا مرتاح البال والضمير رغم أني لا أعمل سوى بضعة أيام في الشهر ثم يضيف:"تونس أخذت مني ولم تعطني شيئا"،"تونس سجن كبير..تونس عزيزة لكن الضعيف فيها يداس على رقبته".
شاب آخر من إحدى مدن ولايات الشمال الغربي رفض ذكر اسمه أو المدينة التي ينتمي إليها قال وصلت إلى هنا بعد رحلة دامت حوالي عام كامل جبت فيها جبالا وسهولا ومررت بعديد الدول وأخيرا ها أنا هنا بلا شغل لأنني لا أعرف أحدا حتى قريبي الذي طمأنني قبل "الحرقة" غاب بل أكثر من ذلك غير رقم هاتفه حتى لا أقلق راحته ولم أجد سوى أحد الخيرين ليأويني لديه وقتيا بعد أن وجدني نائما تحت درج إحدى العمارات".
لم أنته من الحديث إلى هذا الشخص حتى جاءني شاب يدعى فادي ليحدثني عن مغامراته للوصول إلى بر "الأمان" فقال لقد دفعت 10 ملايين وأبحرت نحو إيطاليا لأسجن هناك مدة شهر ولما ادعيت أنني سوري الجنسية أطلقوا سراحي لأنتقل بعدها إلى فرنسا والحمد لله أنني خرجت من تونس التي ذقت فيها العذاب ولم أجد عملا أحفظ به ماء الوجه ورغم أنني هنا عاطل أيضا فلست نادما عن "الحرقة"، ولو أنني أعيش اليوم صعوبات عديدة وأعاني لكن يبقى الأمل في الغد قد تتغير معه الأوضاع".
سفيان .ب. من بومهل هو صديق لي منذ كنت بتونس جاء بمعية ابنه الأصغر (10 سنوات) بحرا عن طريق أحد معارفه الذي أدخله إلى الباخرة بشارة (badge) بعد أن دفع له 1500 دينار.
سفيان قال لي حين وصلت إلى ميناء مرسيليا ركضت بعيدا عن أعين البوليس الفرنسي وخرجت دون التفاتة وانتحيت مكانا بعيدا عن الأعين ونمت ليلتي في العراء دون غطاء ولففت ابني بعباءة صغيرة حملتها معي للغرض حتى لا يلسعه البرد ومن الغد توجهت نحو الوسط الفرنسي وهاتفت أحد معارفي ليأتيني بعد حوالي ساعة ويصطحبني معه إلى منزله وإلى يوم الناس وأنا مقيم لديه على وجه الفضل في انتظار تسوية وضعيتي والعثور على شغل لحفظ ماء الوجه خصوصا وأني تركت زوجتي وابني الأكبر (14سنة) بتونس.
كثيرون هم الذين يجوبون الشوارع يوميا ويتواجدون بالأسواق وأمام الجوامع يستعطفون الناس وآخرون يستنجدون بالصليب الأحمر الفرنسي والمؤسسات الاجتماعية للظفر بما يسد رمقهم.
هذه هي حياة الكثيرين من القادمين الجدد أو بالأحرى "الحارقين الجدد" ومع ذلك فهم مرتاحون بل منهم من قال بطالة فرنسا ولا بطالة تونس، جوع فرنسا ولا جوع تونس.
مصطفى العرفاوي
انتشرت الهجرة السرية في العديد من الدول الفقيرة نتيجة لما تشهده من تغيرات سياسية وأزمات اجتماعية زادت الطين بلة لتتحول هذه الآفة إلى ظاهرة جديرة بالدراسة لاسيما أنها تعاظمت في السنوات الثلاث الأخيرة نتيجة لتطلعات بعض الأفراد لحياة أفضل طالما حلموا بها خارج بلادهم ومدنهم التي ولدوا بها وترعرعوا فيها خاصة أنهم طالما عانوا من البطالة لتتحول هذه الظاهرة إلى مشكل كبير.
بعد ثورات الربيع العربي تغيرت عدة أمور لتدفع بالكثير من مختلف الأوساط العمرية إلى الهجرة السرية نحو الضفة الأخرى من المتوسط فمنهم من يرى أن الفقر والخصاصة التي فيها العائلة هما السبب الرئيسي للإبحار خلسة نحو عواصم النور لتحسين نمط عيشهم ومنهم من يرى أن العيش في تونس أصبح مستحيلا نتيجة الأوضاع التي أصبحت عليها البلاد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا إضافة إلى الغلاء المشط لكل ضروريات الحياة وتدهور المقدرة الشرائية لدى جميع شرائح المجتمع.
ومن الناس أيضا من وضعوا نصب أعينهم الهجرة فلم يفكروا أبدا في خطورة الحرقة.
عديد الشبان التونسيين يرون في أوروبا الجنة الموعودة وعليهم الهجرة عبر مختلف الطرق والوصول إليها للتمتع بمحاسن هذه الجنان، أما أوطانهم فقد استحالت فيها الحياة وهي في نظرهم مقبرة فسيحة، وعلى هذا يرون أن حلمهم مشروع الشيء الذي جعلهم لا يتوانون لحظة في ركوب المخاطر منهم من يصل فيصطدم بالواقع ومنهم من يقضي نحبه ليصبح طعما للحيتان فتضيع من بعده عائلات وتترمل أخرى لأن من كان لها سند ذات يوم رحل ولم يترك لهم غير صبية صغار ودموع غزار.
ومن هؤلاء أيضا من يكون الحظ إلى جانبهم فيصلون في أمان وإذا ما حالفهم الحظ في الوصول فأكثرهم لن يكون الحظ إلى جانبهم ليندمجوا في الحياة في الضفة الأخرى فيصنعون لأنفسهم مستقبلا بشتى الطرق حتى يظفروا بالمال الوفير الذي جاؤوا من أجله وركبوا البحار وشقوا البراري.
أغلبهم وصل إلى بعض الدول الأوروبية بعد معاناة مريرة لكنهم لم يكنوا يعلمون أنهم سيعيشون مأساة حقيقية لان طريقهم ليست مفروشة بالورود، وقد عاينا معاناة الحارقين التونسيين الجدد في عديد المدن الفرنسية وحدثونا عن الصعوبات التي يواجهونها، منهم من يجوب الشوارع ومنهم من يستعطف الناس للحصول على مساعدة ومنهم من ينام تحت الجسور وفي الحدائق في ظروف أقل ما يقال عنها أنها صعبة.
أحمد التقيته صدفة فحدثني عن مغامراته للوصول إلى فرنسا بعد أن خسر وظيفته في تونس لأنها لا تدر عليه الكثير وهو العائل لخمسة أنفار،قال:"كنت موظفا في وقت لا يجد فيه التونسي شغلا ومع ذلك فرطت في وظيفتي التي لم تكن تدر علي الكثير وحاولت الخروج بتأشيرة قانونية لكن مطلبي جوبه بالرفض فركبت عباب البحر بمعية عائلتي وها أنا هنا بفرنسا مرتاح البال والضمير رغم أني لا أعمل سوى بضعة أيام في الشهر ثم يضيف:"تونس أخذت مني ولم تعطني شيئا"،"تونس سجن كبير..تونس عزيزة لكن الضعيف فيها يداس على رقبته".
شاب آخر من إحدى مدن ولايات الشمال الغربي رفض ذكر اسمه أو المدينة التي ينتمي إليها قال وصلت إلى هنا بعد رحلة دامت حوالي عام كامل جبت فيها جبالا وسهولا ومررت بعديد الدول وأخيرا ها أنا هنا بلا شغل لأنني لا أعرف أحدا حتى قريبي الذي طمأنني قبل "الحرقة" غاب بل أكثر من ذلك غير رقم هاتفه حتى لا أقلق راحته ولم أجد سوى أحد الخيرين ليأويني لديه وقتيا بعد أن وجدني نائما تحت درج إحدى العمارات".
لم أنته من الحديث إلى هذا الشخص حتى جاءني شاب يدعى فادي ليحدثني عن مغامراته للوصول إلى بر "الأمان" فقال لقد دفعت 10 ملايين وأبحرت نحو إيطاليا لأسجن هناك مدة شهر ولما ادعيت أنني سوري الجنسية أطلقوا سراحي لأنتقل بعدها إلى فرنسا والحمد لله أنني خرجت من تونس التي ذقت فيها العذاب ولم أجد عملا أحفظ به ماء الوجه ورغم أنني هنا عاطل أيضا فلست نادما عن "الحرقة"، ولو أنني أعيش اليوم صعوبات عديدة وأعاني لكن يبقى الأمل في الغد قد تتغير معه الأوضاع".
سفيان .ب. من بومهل هو صديق لي منذ كنت بتونس جاء بمعية ابنه الأصغر (10 سنوات) بحرا عن طريق أحد معارفه الذي أدخله إلى الباخرة بشارة (badge) بعد أن دفع له 1500 دينار.
سفيان قال لي حين وصلت إلى ميناء مرسيليا ركضت بعيدا عن أعين البوليس الفرنسي وخرجت دون التفاتة وانتحيت مكانا بعيدا عن الأعين ونمت ليلتي في العراء دون غطاء ولففت ابني بعباءة صغيرة حملتها معي للغرض حتى لا يلسعه البرد ومن الغد توجهت نحو الوسط الفرنسي وهاتفت أحد معارفي ليأتيني بعد حوالي ساعة ويصطحبني معه إلى منزله وإلى يوم الناس وأنا مقيم لديه على وجه الفضل في انتظار تسوية وضعيتي والعثور على شغل لحفظ ماء الوجه خصوصا وأني تركت زوجتي وابني الأكبر (14سنة) بتونس.
كثيرون هم الذين يجوبون الشوارع يوميا ويتواجدون بالأسواق وأمام الجوامع يستعطفون الناس وآخرون يستنجدون بالصليب الأحمر الفرنسي والمؤسسات الاجتماعية للظفر بما يسد رمقهم.
هذه هي حياة الكثيرين من القادمين الجدد أو بالأحرى "الحارقين الجدد" ومع ذلك فهم مرتاحون بل منهم من قال بطالة فرنسا ولا بطالة تونس، جوع فرنسا ولا جوع تونس.