تونس – الصباح
مذنبون أم ضحايا..، جناة أم مجني عليهم..، وهل من الحظ أن تكون ابن رئيس أو زعيم أم هو عبء يحمله الأبناء على كاهلهم ويرسم ويحدّد مسارات حياتهم بمعزل عن رغبتهم وخياراتهم؟..
وهل لمن وُلد وتربّى في حضن السلطة وكواليسها ومؤامراتها أن يعيش بعيدا عن ألاعيب السياسية وتدابيرها وأن يقبل أن يبقى بعيدا عن الأضواء مجرّدا من كل المطامع والمطامح التي تحوم حول الحكم والنفوذ؟.. وهل تحكم العلاقة بين الابن والرئيس، مشاعر الأبوة العادية أم أن الأمر يمكن أن يتحوّل مع الوقت على علاقة تنافس وصراع معلن وخفي على السلطة؟
هذه الأسئلة وغيرها قد تتبادر إلى الأذهان عند تشخيص علاقة ليست غريبة أبدا على أغلب بلاطات الحكم، في كل دول العالم..، علاقة الابن أو الابنة بالرئيس أو الزعيم السياسي..، ولئن كانت توضع قواعد وضوابط لهذه العلاقة في الدول الديمقراطية حتى لا تتداخل علاقات القرابة بالأسس المؤسساتية في إدارة شؤون الحكم..، فان الأمر مختلف تماما في العالم العربي حتى في ظل الأنظمة الجمهورية السائدة في المنطقة..، حيث تتحوّل هذه العلاقة إلى جزء وامتداد لممارسة الحكم والسلطة حتى دون مواقع رسمية في الدولة.
وإذا كانت الأنظمة الديمقراطية استنبطت كل الآليات الممكنة للحد من مخاطر علاقات القرابة، ومنها ترسيخ الزبونية السياسية والمحسوبية والحكم الموازي في إدارة شؤون الدولة، ونجحت في ذلك إلى حدّ بعيد، فان الأمر بدا مختلفا في العالم العربي..، فالأحداث والوقائع وحتى التاريخ يخبرنا، قصصا مثيرة حول هذه العلاقة بين الرئيس وأبنائه..، بعض هؤلاء الأبناء انقلبوا على آبائهم وأزاحوهم من على كرسي الحكم وأحيانا بتواطؤ من الأم، في تراجيديا عائلية غريبة تكشف جزءا من هذه العلاقة الشائكة التي تنتفي فيها أواصر القرابة ومشاعر الأبوة والبنوة لتتحوّل إلى نوع من الصراع على السلطة والنفوذ..
وقد أثّرت تصرفات الأبناء وسلوكياتهم العامة بشكل سلبي، على صورة آبائهم الرؤساء وأنهت أحيانا حكمهم عندما ثارت ثائرة الشعوب ضدّ تدخل العائلة وضد نظام التوريث الذي سعى له بعض القادة العرب، خاصّة وأن هؤلاء الأبناء ورغم أنه لم تكن لهم مواقع معروفة في الدولة إلا أن نفوذهم وسلطتهم كانت تتجاوز في أحيان كثيرة نفوذ الحكومة والوزراء وكانت كلمتهم مسموعة لدى كل موظفي الدولة.. بل أن وجودهم خلق بطانة فاسدة حول قصور الحكم تعتاش وتقتات من نفوذهم وسلطتهم.. خاصة أن أغلبهم كان يتحكم في كواليس المشهد السياسي في بلدانهم بشكل كامل وكانوا يستفيدون بشكل شخصي من قربهم من مواقع ودوائر القرار الرسمي..، وبسبب ذلك تكوّنت شبكات فساد مخيفة حول بلاطات الحكم وربما كانت من أبرز الأسباب التي أدت لاحقا لاندلاع الثورات العربية عندما سئمت الشعوب من تدخل العائلة في الحكم ونهبها لثروات تلك البلدان ومقدّراتها..
وفي ذروة ذلك نهايات مأساوية كثيرة لأنظمة حكم مختلفة، شاهدنا أبناء يقاتلون بيأس مع آباء مجردين من السلطة والنفوذ وبعضهم قاتل مع والده الرئيس والبعض الآخر هرب وابتعد على الأضواء أو تم تهريبه ليعيش في منفاه..، لا يملك من الحياة إلا ارث ماض ثقيل سيلازمه كل حياته حتى ولو لم يرد ذلك..
وتونس كغيرها من البلدان لم تخلو سياستها من معادلة الرئيس والابن..، بسيناريوهات مختلفة لحقب حكم مختلفة وكذلك بنهاية مختلفة لأبناء وورثة شرعيين لميراث "مسموم" تحوّل مع السنوات إلى وزر وخطيئة دفع ثمنها هؤلاء الأبناء حتى في غياب الآباء وفشلهم..، أغلبهم يجرّ خلفه فشل الأب وأخطائه..، والبعض الآخر جرّ مسيرة مشعة ضاع في وسطها ولم يستطع أن ينحت شخصيته بعيدا عنها..، والبعض الآخر مكبل بخيارات الأب وأفكاره وأيديولوجيته ومجبرا أن يتحمّل عواقب كل ذلك في حياة لم يخترها منذ البداية.
بورقيبة الابن
ابن الرئيس الذي أصبح ابن الدولة..
الحبيب بورقيبة الابن أو "بيبي" كما كان يحلو للمقربين منه مناداته بتلك الكنية اللطيفة، هو الابن الوحيد لأول رئيس للجمهورية وزعيمها الخالد الحبيب بورقيبة..، الابن الذي عاش في ظل والد استثنائي وزعيم مهيمن، كان من الصعب أن يثبت نفسه بعيدا عن ظل الزعيم وأكبر دليل، انه عندما تخلّى عنه الزعيم الذي كان حبيس الدسائس والمؤامرات في قصر قرطاج والتي نجحت في حياكتها سعيدة ساسي، في جانفي 1986..، اختفى تماما من المشهد السياسي ولم نعد نسمع عن أخباره شيئا ولم يكن له أدنى حضور في الأحداث بعد ذلك.. إلى حين توفاه الأجل في ديسمبر 2009 دون أثر يكاد يذكر باستثناء تلك الشهادة التاريخية التي تحدّث فيها بورقيبة الابن عن حياته وعلاقته بوالده وكانت في شكل حوار مع الباحث التونسي المتميز في علم الاجتماع محمد كروّ والذي أصدرها بعد الثورة في كتاب بالفرنسية عن دار سيراس للنشر بعنوان"تاريخنا."
وذلك التاريخ كان يضجّ بالقصص والروايات كتب بعض تفاصيلها وأحداثها..»بيبي«.. أو فرضت عليه لأنه كان ابن الزعيم..، وماذا يمكن لابن في حضرة ذلك الأب أن يفعل ليسرق بعض الضوء أن يثبت وجوده بعيدا عن سيرة أبيه؟.. بورقيبة الابن ذو الثقافة المزدوجة، العربية والفرنسية، باعتباره ابن الزوجة الأولى الفرنسية الأولى ماتيلدا، التي أصبح اسمها فيما بعد مفيدة بورقيبة التي ارتبطت بالزعيم في منتصف عشرينات القرن الماضي وأنجبت الحبيب بورقيبة الابن سنة 1927 وشاركت الزعيم في دوره الوطني للتحرّر من الاستعمار الفرنسي.
وربما عكس بقية أبناء رؤساء تونس بعد ذلك، لم يكن حضور بورقيبة الابن في الدولة خفيا أو من خلف الكواليس..، حيث أنه بعد مرحلة الدراسات العليا في الحقوق في جامعات فرنسا، التحق بسلك المحاماة في تونس عام 1953، وبعدها انخرط في العمل الديبلوماسي الذي دخله من أوسع أبوابه بعد أن تمت تسميته سفيرا بواشنطن في سنة 1956 ثم بعد ذلك سفيرا بروما، وفي سنة 1958 تمت تسميته سفيرا في باريس وهو المنصب الذي استمر فيه إلى شهر جويلية 1961 ليعود إلى تونس بعد ذلك وفي سنة1964 سمي على رأس وزارة الشؤون الخارجية خلفا للمنجي سليم واستمر في هذا المنصب إلى عام 1970 وفي جوان من نفس السنة سمي وزيرا للعدل في عهد حكومة الباهي الأدغم واستمر في هذا المنصب إلى نوفمبر1970، ثم سمي في 26 ديسمبر1977 مستشارا خاصا لرئيس الجمهورية إلى تاريخ 1986 أين غادر قصر قرطاج دون رجعة بعد أن تم الانفراد بالزعيم بورقيبة من طرف بطانته الفاسدة وقتها.
والحبيب بورقيبة الابن كان عضوا مؤسسا في "نادي موناكو" الذي تأسس في شهر مارس 2002 والذي يضم شخصيات دولية من بينها الأمير ألبير الثاني، ويهدف إلى المساهمة في إرساء السلام في حوض البحر الأبيض المتوسط.
الابن الذي انفصل في حياته عن أبيه الزعيم بورقيبة، في أواخر سنوات حكمه وسنة قبل الإطاحة به في انقلاب 1987، انفصل عنه حتى في موته وعلى عكس بقية أفراد عائلة بورقيبة المدفونين بمقبرة العائلة بمدينة المنستير، دفن الحبيب الابن بمقبرة سيدي عبد العزيز بضاحية المرسى بعد وفاته سنة 2009.
محمد زين العابدين بن علي
طفل ولد في حضن السلطة وتشرّد بسببها!
كانت ولادة محمد زين العابدين بن علي في فيفري 2005 أشبه بالحدث الوطني وقتها، بسبب ذلك الاحتفاء الكبير بتلك الولادة وتهافت المهنيين للتعبير عن فرحتهم بقدومهم، وقد تم تداول وقتها أن هذه التهاني تمثلت في فتح أرصدة بنكية وبريدية باسم الطفل محمد بعد ساعات فقط من ولادته.. ولم يخف الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي فرحته الكبيرة بولادة ابنه الذكر الوحيد بعد زيجتين وقدوم وليّ عهده كما كان يعبّر عن ذلك في جلساته الخاصة.. ولكن فرحة والدته به ليلى الطرابلسي لم تكن توازيها أي فرحة.. فالطفل محمّد كان تأشيرتها لتثبيت نفسها جيدا في قلب زوجها الرئيس وهو الذي بدا متأثرا ومندهشا بتلك الأبوة المتأخرة، والأهم تثبيت نفسها في الحكم وكسب مساحات قوة أكبر في الدولة، خاصة وأن طموحها السياسي لم يعد خافيا..، فمنذ ولادة الطفل محمّد تغيّر شكل حضورها في الفضاء العام وباتت تُعامل وكأنها رئيسة ثانية للدولة أو ملكة أنجبت ولي العهد..، بات حضورها في الأنشطة العامة مدروسا ومكثفا حتى أنها حلّت محلّ الرئيس آنذاك في حضور بعض الأنشطة الحزبية أو الاجتماعية..
ولعل ذلك الحضور المكثّف للسيدة الأولى ليلى الطرابلسي وتداول أخبار حول اعتزامها الترشّح للرئاسة في 2014 أو ترشيح الشخصية التي تستطيع من خلالها إدارة الحكم من الكواليس، كان من بين أسباب الغضب الشعبي الذي قاد بعد ذلك إلى الثورة..
يوم 14 جانفي 2011، كان مختلفا في حياة الطفل محمد وهو الذي لا يكاد يبلغ السادسة من العمر.. ربما يومها لم يدر بخلده ووالدته تدفعه بسرعة ليركب في السيارة وينطلق بأقصى سرعة إلى مطار العوينة ومن ثمة في طائرة خاصة إلى مطار جدة، انه سيكون في رحلة ذهاب دون عودة ربما لآخر حياته.. وأنه سيعيش حياته ملاحقا بوصم استبداد والده وطغيانه مثله مثل أبناء كل الرؤساء المستبدين الذين أطاحت بهم الثورات العربية مثل أبناء القذافي الذين قتل بعضهم وسجن البعض الآخر أو هرب خارج ليبيا، وعاد البعض الآخر لمحاولة استئناف المسيرة السياسية لوالدهم مثل أبناء حسني مبارك الذين يبحثون اليوم عن مدخل للعودة إلى الحياة العامة من بوابة السياسة.
اليوم الطفل محمد هو شاب في مقتبل العمر، ما زال يعيش في السعودية مع والدته وهو ناشط على شبكات التواصل الاجتماعي ويحاول دائما أن يبقى على جسر يربطه بتونس، ويحظى بآلاف المتابعين على حساباته الخاصة..، ومن خلال تلك الحسابات الاجتماعية يسعى الابن محمد دائما إلى التذكير بانجازات والده، ولعل تلك الرسالة التي نشرها على صفحته على الفايسبوك بعد وفاة الرئيس الأسبق أكثر ما يلفت الانتباه حيث شكر كل من تفاعل مع مصاب وفاة والده، في نصّ مؤثر تذكر من خلاله طفولته المبكرة في تونس لكن الأهم انه نشر ما قال إنها رسالة تركها والده زين العابدين بن علي يشرح من خلالها أسباب الإطاحة به ويصف ما حصل بأنها مؤامرة عليه من أطراف أجنبية ومنها الولايات المتحدة الأمريكية حين رفض إعطائها القاعدة العسكرية ببنزرت!
حافظ قايد السبسي: أحب السلطة بجنون ورفضته بإصرار..
إذا كان بورقيبة الابن استطاع الوصول إلى مواقع الحكم وممارسة السلطة بمؤهلات مهمة ونجح في بعض المهام التي أسندت له فان حافظ قايد السبسي نجل الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، حلم بالسلطة وأحب الحكم والنفوذ وأراد ذلك بشدّة ولكن مؤهلاته لم تسمح أبدا بذلك، حافظ قايد السبسي الذي كان شاهدا على عودة والده لصولات وجولات السياسية وهو في سنّ متقدمة في حين كان هو كهلا لم ينجح أبدا في أن تكون له كاريزما ذلك الأب المخضرم الذي منحه القدر ما لا يمكن لسياسي آخر أن يحلم به..
عندما عاد الأب الباجي قايد السبسي إلى واجهة الأحداث كان يجر خلفه سنوات طويلة من الخبرة والممارسة السياسية، عكس الابن حافظ حيث وجد نفسه فجأة تحت الأضواء دون أي تاريخ يذكر.. كان فقط يتبع خطى الأب ويرافقه منذ 2012 في رحلة تكوين حزب نداء تونس وهو يتجول لحشد أنصاره بين المدن، كان حضور الأب الطاغي يحجبه تماما حتى أن وجود حافظ في تلك الاجتماعات لا يكاد يُلاحظ أصلا..
رغم ذلك كانت رغبة حافظ قايد السبسي في التشبّه بوالده وأن يرثه في السياسة كما في الحياة كبيرة جدا، رغم أنه لم يرث عنه لا ملامحه ولا طلاقة لسانه ولا ذكائه ولا حضوره وقدرته العجيبة على لفت الانتباه أينما حلّ أو كلما ما تكلم ولا حتى المهنة الذي أراد بشدة الأب أن يورثها لابنه كما فعل أغلب المحامين، فحافظ قايد السبسي كان عكس والده تماما، لا يتمتع لا بروح الدعابة التي كان يملكها الباجي ولا بثقافته، كان أقرب إلى الخجل والانطوائية في شخصيته، وعدم ثقته في نفسه أمام الجماهير أو الكاميرا، لأنه يدرك في قرارة نفسه أن الجميع سيقارنه بوالده في نجاحه وتميزه واللذان لم ينل منهما حافظ أي شيء يذكر، فهو الذي سافر أواخر الثمانينات إلى فرنسا لاستكمال دراسته وعاد خائبا، ثم جرّب أن يمارس السياسة من بوابة الحزب الاجتماعي للتقدّم ولم يترك أي أثر يذكر.. وحتى عضويته في الهيئة المديرة لجميعة الترجي الرياضي التونسي، لم تحقق له أي بروز يذكر..
وبعد مغادرة الباجي قايد السبسي الحزب وانشغاله برئاسة الجمهورية رأى حافظ قايد السبسي انه الأحق برئاسة الحزب الذي كوّنه والده والذي ساهم هو أيضا في تكوينه منذ البداية..، ومن أجل تحقيق هدفه خاض معارك طاحنة مع كل قيادات الحزب..، ولكن أكبر معاركه وأكثرها ضراوة تلك التي خاضها ضدّ رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، الذي كان الإعلام يصفه بالابن الروحي للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي بعد أن راهن عليه ودفع به في وقت وجيز إلى قمة المجد السياسي، كانت معركة حافظ قايد السبسي ويوسف الشاهد، سببا مباشرة في نهاية حزب نداء تونس بذلك الشكل التراجيدي..، معركة انتهت أيضا بمغادرة حافظ قايد السبسي بعد وفاة والده تونس، في ظروف وملابسات اكتنفها الغموض الشديد.. واليوم هو مستقر في فرنسا بعد أن فقد كل أمل في أن يكون له أي دور سياسي يذكر بعد رحيل والده الباجي قايد السبسي..، ودون أن يوضّح أسباب خروجه من تونس أو أسباب عدم عودته.
معاذ راشد الغنوشي ... الابن سرّ أبيه!
لم يعرف لمعاذ الغنوشي، في العلن نشاط يذكر، إلا كونه مدير مكتب رئيس حركة النهضة والبرلمان سابقا، راشد الغنوشي الأب الذي منحناه هنا صفة "الرئيس" لأنه حكم تونس فعلا دون أن يدخل قصر قرطاج.. في الكواليس لم يكن معاذ الغنوشي مجرّد مدير مكتب، كان "سرّ أبيه " وكاتم أسراره وأكثر المطلعين على ما يحدث داخل الحزب وخارجه، فلا يمكن التواصل مع راشد الغنوشي أو الاقتراب منه دون موافقة ابنه معاذ الغنوشي الذي يلازم والده كظلّه، فهو الابن والمستشار ولاحقا مدير مكتبه.. ورغم تلك المكانة المميزة التي حظي بها معاذ فانه نجح في أن ينأى بنفسه عن الصراعات داخل حركة النهضة ولم يبرز اسمه يوما في أي صراع ولم ينحز إلى طرف دون آخر رغم التصاقه بوالده في كل شؤون إدارة الدولة والحزب..
ومنذ العودة من لندن حرص معاذ الغنوشي دون أن نعلم إذا كان ذلك برغبة منه أو بتعليمات من والده أن يظلّ بعيدا عن الأضواء والإعلام..، فلم يجر يوما مقابلة صحفية ولم يثر اهتمام الرأي العام رغم أهمية الأدوار التي كان يقوم بها في الكواليس وتأثيره الكبير على والده..
ولكن منذ فيفري الماضي اختلف الأمر كليا، فاسم معاذ الغنوشي بات يتداول علنا وتتناقله وسائل الإعلام بعد أن اتهمت هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في التاسع من شهر فيفري الماضي رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ونجله معاذ بتبييض الأموال والقيام بتحركات مالية مشبوهة مع أطراف مرتبطة بقطر قامت بتمويله بمبالغ مالية كبيرة من أجل تسفير شبان إلى سوريا للالتحاق بمعسكرات داعش. كما أعلنت هيئة الدفاع وقتها أنها تقدمت بشكاية ضد جمعية نماء.
وهي القضية التي ستفضي إلى تطورات درامية في علاقة بمعاذ الغنوشي بعد تسرّب خبر في جوان الماضي يفيد أن نجل الغنوشي في حالة فرار بعد أن أذنت النيابة العمومية بإدراجه في التفتيش على ذمة قضية جمعية "نماء تونس" من أجل جرائم تعلقت بتبييض وغسيل الأموال والاشتباه في تمويل أشخاص أو تنظيمات مرتبطة بالإرهاب سواء داخل التراب التونسي أو خارجه.
وفي إطار قضية جمعية نماء أصدرت، اللجنة التونسية للتحاليل المالية يوم 5 جويلية 2022 قرارا للبنوك التونسية والديوان الوطني للبريد يقضي تجميد أموال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وابنه معاذ وصهره رفيق عبد السلام والأمين العام السابق للحركة حمادي الجبالي وابنتيه.
اليوم تؤكد كل المصادر أن معاذ الغنوشي غادر تونس ربما هو أيضا في رحلة ذهاب دون عودة..، غادر مثقلا بالإرث السياسي والإيديولوجي لوالده الذي اعتبر أحد أبرز رموز التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وأبرز منظري الإسلام السياسي.. أغلب المعطيات تؤكد التحاقه بمقر إقامة زوجته هادية همت التي تملك محلات Bellissima Scarves لبيع الألبسة النسائية الشرعية..
وزوجة معاذ الغنوشي ليست إلا ابنه القيادي الاخواني السوري علي غالب محمود همت، وهو أحد أبرز القيادات الإخوانية المثيرة للجدل في كل العالم الذي تحدث عنه الصحفي الأمريكي ايان جونسون، والحائز على جائزة بوليتزر في 2011، بشكل مطول في كتابه الحدث "مسجد في مونيخ.. وصعود جماعة الإخوان المسلمين في الغرب"، حيث ذكر أن علي غالب همت خلف سعيد رمضان السكرتير الخاص السابق لحسن البنا ووالد الداعية طارق رمضان، على رأس التجمّع الإسلامي بألمانيا وهو رجل أعمال سوري الجنسية يحمل الجنسية الإيطالية، كما أشار الصحفي الأمريكي إلى أن علي غالب همت كشفته أجهزة المخابرات في الكثير من دول العالم بأن له علاقة بالشبكات إرهابية كثيرة حول العالم كتنظيم القاعدة وقد اعتبرته الولايات المتحدة الأمريكية أحد الممولين الرئيسيين للإرهاب.. وعلي غالب همت كان من بين المشتبه فيهم بكونهم من بين أولئك الذين حصلوا على الجنسية التونسية بطرق ملتوية كما أشار إلى ذلك وزير الداخلية توفيق شرف الدين في وقت لاحق وهي القضية التي شملت الأبحاث فيها نور الدين البحيري.
ثرواتهم.. شيء من الواقع، كثير من الخيال!
لا يمكن الحديث عن أفراد العائلات الحاكمة في أغلب دول العالم دون حديث عن أرقام فلكية وخيالية لثروات ضخمة وتترسّخ هذه الفكرة أكثر إذا كان الأمر يتعلق ببلاطات الحكم في العالم العربي، ولعل تلك الحسابات البنكية ذات الأرقام الفلكية التي تم اكتشافها بعد سقوط تلك الأنظمة العربية في الثورات يؤكد مرة أخرى هذه المقولة..
وفي تونس لا يبدو الأمر مختلفا في بعض الحالات، فالأبناء والعائلة يستفيدون بشكل أو بآخر من نفوذ الأب وموقعه في السلطة والحكم، ففي فيفري 2015 نشر القيادي بحزب المؤتمر والمحامي سمير بن عمر قائمة في أملاك نجل الرّئيس المخلوع محمد زين العابدين بن علي الذّي لم يتجاوز الخمس سنوات من العمر لحظة فرار والده من البلاد، وذلك في تدوينة له على صفحته الرسمية، حيث قال أن محمد زين العابدين بن علي ترك أملاكا هامة في تونس تتمثل في عقار كائن بالبحيرة موضوع الرسم العقاري عدد 130288 تونس وعقار كائن بحمام سوسة موضوع الرسم العقاري 100538 (قصر خليج الملائكة بالقنطاوي) وأربعة عقارات ببنزرت (موضوع الرسوم عدد 48217 - 37981 -35879-28458) ومنابات في عقار كائن بسيدي بوسعيد موضوع الرسم العقاري عدد 144998 (قصر سيدي الظريف) وعقار يسمّى»الورد «كائن في جهة أوتيك وهو عبارة عن ضيعة فلاحية يتقاسمها مع شقيقته نسرين وحساب بنكي بـ ATB مضمّن به مبالغ تبلغ قيمتها حوالي 3 مليارات وحساب بنكي ببنك الزيتونة مضمّن به مبالغ في حدود مليار و200 ألف دينار. كما تعود لنجل الرئيس الأسبق ملكية 100 سهم في البنك التونسي وألعاب بقيمة 400 ألف دولار (حوالي 800 مليون تونسية) وقع اقتناؤها من الخارج من اعتمادات وزارة البيئة!!!
وعلى عكس محمد زين العابدين بن علي، فان الحبيب بورقيبة الابن مات دون أن يترك أملاكا لافتة، باستثناء عقار في منطقة المرسى هو عبارة عن منزل حسب بعض المعطيات المتوفرة وشقة صغيرة في فرنسا كانت على ملك والدته ولكن لم يكن في حياته بذلك الثراء الفاحش الذي تعودنا عليه في علاقة بأبناء الرؤساء.
وإذا كان بورقيبة الابن اكتفى بحياة كانت منسجمة مع حياته العملية والمناصب العليا التي تقلدها في الدولة، فان حافظ قايد السبسي ظلت ثروته دائما كثروة والده الراحل الباجي قايد السبسي غامضة أو تحوم حولها ظلال كثيفة، حيث أن الكاتب العام والناطق الرسمي لمرصد الشفافية والحوكمة، العربي الباجي، اتهم في وقت سابق حافظ قايد السبسي وبشكل مباشر أنه جمع ثروة ضخمة من مصادر مشبوهة وبطرق غير شرعية.. وكان المحامي والناشط السياسي، لزهر العكرمي قد طلب في 2019، حافظ قايد السبسي، بإعادة الأموال التي نهبها وأخفاها في فرنسا وتركيا، متسائلا كيف جمع كل تلك الثروة وهو لا يشتغل في أي عمل معروف!
وبالنسبة لمعاذ الغنوشي الذي لم تُعرف له وظيفة غير إدارة مكتب والده، فان إشاعات كثيرة لاحقته بشأن ثروتها الخيالية والتي يتشاركها مع والده، ولكن إلى اليوم لم تؤكّد أي جهة الثروة التي يتوقع أن تكون العائلة جمعت القسط الأكبر منها عندما كانت في لندن، وحتى إن هناك من المناضلين القدامى بالحركة من يتهمون عائلة الغنوشي بسوء التصرّف بالأموال التي كانت تجمع وقتها من كل بقاع العالم لتُحوّل بعد ذلك إلى عائلات المساجين السياسيين في تونس، كما تحوم شبهات أخرى حول هذه الثورة المزعومة التي هي اليوم قيد التحقيق خاصة وأن هناك أطرفا داخل تونس مثل هيئة الدفاع عن الشهيدين قد اتهمت عائلة الغنوشي بتبييض الأموال وبالتخابر مع جهات أجنبية لقاء عمولات معتبرة..، ولكن كل هذه المعطيات تبقى دون أسانيد قوية في انتظار الحسم في هذا الملف قضائيا..، هذا بالإضافة إلى ثروة زوجة معاذ الغنوشي والتي تدير سلسة من محلات الملابس في أماكن مختلفة من العالم.
د. حافظ عبد الرحيم لـ"الصباح": لا يمكن نفي حضور الابن في مختلف تجارب الحكم..
د.حافظ عبد الرحيم هو أستاذ جامعي بجامعة صفاقس وهو من بين المختصين في علم الاجتماع السياسي من الذين اشتغلوا على علاقات القرابة في الحكم وهو صاحب كتاب»الزبونية السياسية في المجتمع العربي:قراءة اجتماعية - سياسية في تجربة البناء الوطني بتونس«، وهو كتاب طرح فيه الباحث سؤالا ما إذا كان عامل القرابة لا يزال حاضرا خلال ممارسة الفعل الاجتماعي والسياسي وهل ما زالت العصبية باعتبارها شكلا من أشكال التضامن تفعل فعلها؟ وقد توصل الباحث في كتابه إلى خلاصات واستنتاجات قيمة تشرح وتشخّص واقعا سياسيا لا يمكن أن نفصله تماما عن علاقات القرابة.
وفي هذا التصريح الخاص لـ"الصباح "قدم د.حافظ عبد الرحيم تحليله لمسألة وجود الأبناء في دائرة الحكم وتأثير ذلك على صنع القرار ويقول:"أولا لنتفق على أن الدولة الحديثة قامت على مبدأ الفصل بين مؤسسات الدولة والعلاقات العائلية والقرابة بكل أشكالها، الدموية وغيرها.. واعتبرت الدولة الحديثة انه لا يمكن مأسسة الدولة باعتبارها مجموعة مؤسسات خاصة الدولة الديمقراطية، إلا بضرورة الفصل بين مؤسسة الأسرة أو القرابة وكل ما هو مؤسسات دولة لان هذا الفصل يسمح بالتداول على السلطة".
ويضيف د.حافظ عبد الرحيم: "لكن في هذا الفصل كان هناك نجاح نسبي دائما ولا أدل على ذلك من تجارب الحكم حتى في الديمقراطيات العريقة..، هذه النسبية في الفصل تجعل حضور قريب الرئيس في الأنظمة الديمقراطية والرئاسية ليس بعيدا أو بمنأى عن السلطة حتى وإن سعى إلى ذلك..، نأتي إلى التجربة التونسية وبعد تأسيس الدولة الوطنية الحديثة بعد الاستقلال، وفي علاقة بتجربة حكم بورقيبة بابنه بورقيبة الابن وهو الذي كان جزءا من ممارسة الحكم حضورا وغيابا.. تجلى ذلك الغياب عندما تم إبعاد الابن تحت اكراهات توازنات سياسية بعينها..، ولكن حتى هذا الغياب لم يكن يفسّر بمنأى عن علاقة الأبوة التي تفرض على بورقيبة الابن كفاعل سلوك معين، كما في حضوره.. فبورقيبة الابن دعي لتولي وزارة الخارجية بعد فشل تجربة التعاضد ولكن هل لحضوره في الدولة كسفير أو كوزير وقربه من منظومة الحكم كان بسبب قربه الدموي أو لعلاقة مؤسساتية فرضتها مؤهلاته وكفاءته؟"
وفي كلا الحالتين فان الأمر يتداخل في حالة بورقيبة الابن..، فحتى في الدولة الحديثة المبنية على علاقات مؤسساتية منظمة،لا يمكن الجزم أن هذه العلاقات المؤسساتية غير متأثرة بهذه العلاقات الأسرية أو علاقات القرابة الدموية..".
ويتساءل د.حافظ عبد الرحيم قائلا: "هل يمكن لكل ذلك أن يدفعنا إلى القول والتسليم أن الأساس الدموي يطغى بالضرورة على الأساس المؤسساتي، ربما الإجابة عن هذا السؤال نجدها بشكل أوضح في تجربة بن على في الحكم وابنه محمد الذي كان حضوره منذ البداية مثيرا للغلط والجدل حتى وهو جنينا، حيث كان وجوده جوازا ربما لتثبيت حضور والدته في الحكم ودخولها إلى المشهد السياسي كفاعل رئيسي وتوسيع دائرة نفوذها وسلطتها في الدولة.. وخاصة وانه الابن الذكر للرئيس السابق والذي يمكن أن يكون حتى وريثا سياسيا..، ولكن ربما سنّه لم يسعفه أن تكون له أدوارا في الفعل السياسي. ولكن ربما تجربة حافظ قايد السبسي هي الأبرز في طرح هذا التداخل حيث كانت رغبته واضحة في أن يكون جزءا من هذا الفعل السياسي الذي يحتكره الأب..، حيث يقال ويتداول أن حافظ قايد السبسي وشبكة المحيطين به مثل والدته وزوجته ومن حوله هم من دفعوه وراهنوا عليه أن يكون جزءا من السلطة والفعل السياسي في عمقه وتجربته في محاولة ترؤس حزب نداء تونس عوض والده تدل على ذلك".
وفي قراءة لتجربة معاذ الغنوشي الذي يحمل أوزار الأيديولوجيا والحكم يقول د. حافظ عبد الرحيم أن "حضور شخصية راشد الغنوشي في المشهد تحمل بعدين، بعد سياسي لان والده كان سياسيا ورئيسا لحزبه وللبرلمان ولكنه أيضا هو شيخ يحمل مرجعية وإيديولوجية وخلفيات ستؤثر في محيطه دون شك وفي العائلة ككل..، والدليل أن من أبناء راشد الغنوشي ليس فقط معاذ من له حضور في المشهد العام، بل هناك أيضا ابنته وصهره حاولا أن يكونا فاعلين في المشهد..، وبالتالي عباءة الأب لبسها بالضرورة الأبناء والعائلة ككل ولا يمكن الفصل بينهما حيث هناك دائما خيط موجود في الحكم بين المؤسسة والعائلة. في الخلاصة هو أنه حتى في الأنظمة الأكثر ديمقراطية وعراقة لا يمكن نفي حضور الابن سواء بشكل إرادي وغير إرادي".
الباحث في علم الاجتماع السياسي فؤاد غربالي لـ"الصباح": تمت "خوصصة السلطة" لصالح عصبيات عائلية..
في قراءته لمسألة وجود الابن في نفس دائرة الحكم إلى جانب الأب الزعيم أو الرئيس من خلال تجارب الحكم المختلفة في تونس، يقول الباحث في علم الاجتماع السياسي فؤاد غربالي الأستاذ بجامعة سوسة، في تصريح خاص لـ"الصباح «أن القرابة تحتل مكانا مركزيا في دراسات الأنثروبولوجيا السياسية، وهو مكان يفرضه الإمكان الواقعي للمجتمعات التي هي ميادين بحث أنثروبولوجية. فالمواضيع التقليدية للبحوث الأنثروبولوجية مجتمعات تنتظم حول القرابة، وتقيم مؤسساتها على أساسها وتجعلها مصدرا لكل السلطات بما فيها السلطة السياسية.
ويضيف الباحث فؤاد غربالي "تظهر العلاقة بين القرابة والسلطة منذ اللحظة التي يبدأ فيها تعصب الجماعة القبلية لدفع خطر خارجي يهددها أو لجلب منفعة من الغير بالهجوم والمطالبة ويكون التحام أفراد القبيلة أولا على مستوى القرابات التي تكونها، ذلك"أن صلة الرحم طبيعة في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو يصيبهم هلكة فان القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو الاعتداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا«، هكذا فان التعصب إنما يكون أولا داخل القرابة، ثم ينطلق منها ليشمل جماعات أخرى خارج الأقارب. إذن، فالتعصب يشتد أو يخف بحسب درجة القرابة بحيث يكون أشد كلما كانت الوصلة ظاهرة لكون النسب قريبا، فإن النسب القريب يشكل قاعدة النسب البعيد، ويقوم على أساس ذلك الحلف والولاء. وإذا كان يتصور أن بعد النسب يشكل عصبية ضعيفة غير قادرة على المدافعة أو المطالبة، فإن هذه العصبية قابلة للاشتداد بالدعوة الدينية الخادمة لصالح الجماعة المكونة من أقارب بعيدين أو حلف أو ولاء.
وفي إجابة عن سؤال كيف يمكنه تقييم شخصية ابن الحاكم والزعيم من منظور سوسيولوجيا وهو الذي لا يكاد يكون له وجود خارج دائرة الأب.. فمهما فعل وأنجز في حياته فانه سيبقى ملتصقا بإرث ابيه ووزره ونجاحه وإخفاقاته.. وهل هؤلاء ضحايا في النهاية أم محظوظين؟
يقول فؤاد غربالي »هناك دائما علاقة ما مستترة أو جلية بين عائلة الحاكم (الزوجة، الابن أو الأقارب) والسلطة بما تعنيه من منافع مادية ورمزية. لا يحدث هذا في عالمنا العربي فقط بل حتى في البلدان الديمقراطية إلا أن في هذه البلدان كثيرا غالبا ما تكون مؤسسات الرقابة الديمقراطية قوية على نحو يحول دون الانحرافات التي قد تمس بالعلاقات التعاقدية التي تبنى عليها العلاقة بين السلطة والمجتمع في حين أن الأمر في عالمنا العربي يبدو مختلفا، حتى بعيد الربيع العربي، فالبنى التقليدية والعلاقات القرابية تتداخل بشكل كبير مع السلطة، التي من المفترض أن تكون متعالية عن تلك البنى، وهو ما يعطي للأبناء حظوة ومكانة والأمثلة في هذا الصدد كثيرة بدءا من صدام حسين وبشار الأسد وحسني مبارك ومعمر القذافي وصولا إلى الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي(الأخيران كانا نسبيا تحت رقابة ديمقراطية) وهذا أمر يحيلنا في الحقيقة إلى أمر يتعلق بعدم تجذر ''الحداثة السياسية'' في بلداننا بمعنى استقلالية النطاق السياسي كنطاق عمومي عن المجال العائلي كمجال خاص وغياب الحدود بين المجالين فتح المجال نحو تشكل ''لوبيات عائلية" تستثمر القرب من السلطة لمصالحها على نحو أدى إلى "خوصصة السلطة" لصالح العصبيات العائلية بالمعنى الخلدوني وإعطاء الأولوية للمقربين ''بما هم أولى بالمعروف" (يتعلق الأمر هنا ببنية ذهنية لها جذور ثقافية) وبالتالي لا يمكن القول أن ''الأبناء" هم ضحايا أو مستفيدون بل يتعلق الأمر أساسا بضعف مؤسسات الرقابة الديمقراطية وقوتها علاوة على شكل النظام السياسي نفسه الذي قد يتيح العلاقات الزبونية أو قد يعيقها ولا بد في هذا الصدد الإشارة إلى أن "الاستفادة من ريع السلطة" في العالم العربي وفي تونس قد تزامن مع ''فترة الانفتاح الليبرالي" واندراج الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد المعولم، ولكن دون رقابة ديمقراطية وهو ما دعم ما يسمى برأسمالية المحاسيب التي استفاد منها المقربون. أبناء مبارك والقذافي كانوا نموذجا في هذا الصدد وكذلك الأمر لعائلة الطرابلسي في تونس. بعد الثورات حدثت بعض التغييرات ولكن البنى القديمة بقيت تشتغل بنفس الوتيرة، وإن أصبح من الممكن فضحها، حيث واصل أبناء بعض الحكام الاستفادة من مواقع قربهم من السلطة وتوظيفها لصالحهم. يحيلنا هذا الأمر إلى ضعف الديمقراطية في مجتمعاتنا وعدم تجذر ثقافة المساءلة وأن منطق القبيلة والغنيمة لا يزال قائما وهو ما يعني أن أي تغيير يجب أن يشمل البنى الاجتماعية والذهنية القائمة."
وحول سؤال يتعلق بالثورات العربية وما إذا كانت نجحت في القطع مع حكم العائلة؟.. يقول الباحث فؤاد غربالي:"لا أخفيك سرا أن "الثورات العربية" قد عمقت المشكلة ولم تقطع مع الممارسات القديمة بل إنها فتحت الأبواب لمتنفذين جدد كانوا موضع مراقبة من الأنظمة الديكتاتورية السابقة في إطار ''احتكار الريع''. يفسر هذا الأمر بعدة عوامل متشابكة لعل أهمها أن النخب السياسية التي وصلت إلى السلطة بعد الثورات، والتي كانت تعارض الأنظمة التي أطاحت بها الثورات، تفتقد إلى رؤية ديمقراطية وإصلاحية جدية بل كان كل همها الوصول إلى السلطة وهو ما جعلها تعيد إنتاج ذات الممارسات. أنظري ماذا فعل مثلا الإسلاميون في تونس حيث تحالفوا مع أعتى قوى الفساد. طبعا كذلك القوى الحداثية والنقابية لا تقل فسادا وهي نفسها لا تمتلك أي مشروع مجتمعي وكل ما لديها هو فقط مجرد شعارات وادعاءات مزيفة وكاذبة. طبعا لا يمكن أن نعمم. فهناك "جيوب مقاومة" من هنا وهناك (حركات احتجاجية، شبان أحياء غاضبون، كتاب وفنانون مستقلون... إلخ) لكن لا تأثير يذكر لها فنحن مجتمعات ذات تاريخانية ضعيفة وفاعلو التغيير يعانون من حالة ضعف وهشاشة وهذا ما فتح الباب للنزعة التسلطية والشعبوية الرثة وهو أمر سيتعمق مع توصيات صندوق النقد الدولي التي تدفع نحو مزيد من الهشاشة المهنية وتخلي الدولة عن التزاماتها على نحو سيصبح فيه "الفقر حالة قانونية وممأسسة" وهذا أمر لن تستفيد منه سوى "الأوليغارشيات" والعائلات المتنفذة التي ستسعى بكل ما أوتيت من جهد نحو تدعيم مكاسبها".
منية العرفاوي