في ظل تحولات عالمية متسارعة، يشهد قطاع النشر في تونس أزمة بنيوية مركبة تتشابك فيها التحديات الاقتصادية مع التغيرات الثقافية والتحولات التكنولوجية. فالكتاب التونسي، بوصفه حاملًا للمعرفة ومعبّرًا عن هوية وطنية، يجد نفسه اليوم عند مفترق طرق، بين واقع مأزوم ورهانات مستقبلية تفرض مقاربات جديدة وشجاعة.
تعاني دور النشر في تونس من ارتفاع حادّ في تكاليف الإنتاج، وهو ارتفاع لا يمكن عزله عن السياق العالمي، حيث أدّت التوترات الجيوسياسية، وتقلبات أسعار الطاقة، وتعقّد الإجراءات الجمركية إلى تضخّم أسعار المواد الأولية، لا سيما الورق والأحبار. هذا الواقع لم ينعكس فقط على كلفة الطباعة، بل شمل أيضًا خدمات التخزين والنقل، ما وضع الدور الصغيرة والمتوسطة في وضع هشّ بات يهدد استمراريتها، وأدى إلى تراجع قدرتها على المنافسة، سواء في السوق المحلية أو في مواجهة الكتب المستوردة التي غالبًا ما تتمتع بدعم أجنبي.
في محاولة لمجابهة هذه الصعوبات، اضطرت دور النشر إلى مراجعة أسعار كتبها، غير أن هذا التعديل اصطدم بواقع اقتصادي دقيق يجعل من الكتاب، بالنسبة لشريحة واسعة من التونسيين، منتجًا كماليًا لا يندرج ضمن أولوياتهم الحياتية. وهكذا تقلّص الطلب، وتراجع الإقبال على الشراء، مما أضعف حجم الطباعة وأثّر سلبًا على عائدات النشر، ليدخل القطاع في حلقة مفرغة تتطلب تدخّلًا هيكليًا عاجلًا. هذه الإشكاليات تطال بصفة خاصة المؤلفين الجدد والكتب التخصصية، التي تُعدّ رافعة ضرورية للابتكار المعرفي والتجديد الفكري، لكنها في الغالب تواجه صعوبات في التمويل والنشر والتوزيع.
وإذا كانت أزمة الإنتاج تشكّل أحد أوجه المعضلة، فإن معضلة التوزيع لا تقلّ عنها أهمية. ففي تونس، يفتقر الفضاء الثقافي إلى شبكة توزيع عادلة وفعّالة، خصوصًا خارج المدن الكبرى، حيث تقل المكتبات وتندر نقاط البيع. غياب هذه الشبكة يزيد من تعميق الفجوة بين المركز والجهات، ويحدّ من انتشار الكتاب في مختلف أنحاء البلاد، ويُكرّس – في نهاية المطاف – تفاوتًا ثقافيًا يتعارض مع مبدأ العدالة في الوصول إلى المعرفة.
وفي السياق ذاته، يُلاحظ تراجع مقلق في نسب القراءة، خاصة في صفوف الشباب. عزوف غذّته هيمنة وسائل الترفيه الرقمي من جهة، وغياب البرامج التربوية المحفّزة من جهة أخرى. فالمدرسة، في صيغتها الحالية، لا تُشجّع على القراءة الحرة، بل تُركّز على المقررات الأكاديمية، ما يُضعف العلاقة العضوية بين التلميذ والكتاب، ويحرم الأجيال الجديدة من متعة الاكتشاف وسحر المطالعة.
يُضاف إلى ذلك آفة القرصنة، التي باتت تهدد استدامة قطاع النشر في تونس بشكل مباشر. فالكتب المقرصنة، سواء بنسخها الورقية أو الرقمية، تنتشر بشكل واسع، مدفوعةً بغياب تطبيق فعّال للقوانين، وغياب حملات التوعية المجتمعية. وللأسف، أصبحت تونس تُوصَف دوليًا كمركز لتفشي النسخ غير القانونية، سواء في المعارض أو الأسواق أو على الإنترنت. هذه الظاهرة لا تضر فقط بالناشرين، بل تمسّ المؤلفين أنفسهم، وتحرمهم من حقوقهم، وتُضعف من جودة الإنتاج الثقافي المحلي.
أما التحدي الأكبر الذي يلوح في الأفق، فهو التحوّل الرقمي، الذي غدا ضرورة وجودية لا خيارًا ظرفيًا. ورغم التقدّم الكبير الذي تشهده صناعة النشر العالمية في هذا المجال، لا يزال القطاع التونسي متأخرًا، في ظل ضعف البنية التحتية، ومحدودية الاستثمار في الحلول الرقمية، ونقص الكفاءات التقنية. وإذا لم يتم تسريع الانتقال إلى العصر الرقمي، عبر الاستثمار في التكوين، والتجهيزات، وحماية حقوق النشر الإلكترونية، فإن قطاع النشر في تونس سيظل هامشيًا وغير قادر على التفاعل مع المتغيرات العالمية.
إن الخروج من هذا النفق لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال رؤية وطنية شاملة تُعيد الاعتبار للكتاب وتضعه في قلب السياسات الثقافية. مطلوب اليوم دعم مالي فعلي لدور النشر، يتجسّد في إعانات مباشرة، وقروض ميسّرة، إلى جانب إصلاحات ضريبية تمس المواد الأولية الأساسية. كما أن تطوير شبكة توزيع وطنية عادلة، وإطلاق حملات وطنية لتشجيع المطالعة، وتشديد العقوبات ضد القرصنة، تُعدّ خطوات ضرورية لا بدّ منها لإنقاذ القطاع.
الدولة، بمختلف مؤسساتها، مدعوّة إلى لعب دور محوري في هذه العملية. فدون تدخّل سياسي واضح المعالم، لن يكون ممكنًا تغيير الواقع. يجب على الدولة أن تضع إستراتيجية وطنية للكتاب، تُؤسَّس من خلالها مراكز تكوين للمشتغلين في قطاع الكتاب، وتدعم مشاركة الناشرين في المعارض الدولية، وتشجع الترجمة من وإلى العربية، في إطار انفتاح ثقافي يعزّز التبادل ويغني المشهد المحلي.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال الدور الرمزي لمعرض تونس الدولي للكتاب، الذي يُعدّ أهم تظاهرة ثقافية سنوية في البلاد. هذا المعرض، الذي ظلّ لعقود تظاهرةً محورية، بات اليوم مرآة صادقة لما آل إليه حال قطاع النشر، أكثر من كونه مجرد مناسبة احتفالية. فرغم رمزيته ومكانته في الذاكرة الثقافية الوطنية، لم يعد المعرض في الكثير من دوراته الأخيرة ذلك الفضاء الملهم الذي يُنتظر بفارغ الصبر من المثقفين والناشرين والقراء، بل أصبح يواجه تحديات تنظيمية ومهنية جدّية تهدد روحه الأصلية ومصداقيته.
لقد انزاحت التظاهرة شيئًا فشيئًا عن هدفها الجوهري: دعم النشر الجادّ، وتحفيز القراءة، وتعزيز الحضور الثقافي التونسي. وبدلًا من أن تكون منصة لإبراز الإبداع المحلي ومجالًا للحوار الفكري، أصبحت – في بعض دوراتها – سوقًا تجارية مفتوحة تسلّلت إليها دور نشر لا تحترم المعايير المهنية، وتفتقر إلى الحدّ الأدنى من الجودة الفكرية والأخلاقية. هذا التراخي في معايير الانتقاء فتح الباب أمام حضور عشوائي ومشوّش، أضعف من صورة المعرض، وأساء إلى سمعته الإقليمية والدولية.
وقد عبّر العديد من المهنيين والمثقفين عن قلقهم إزاء هذا الانزلاق، مطالبين بإعادة النظر في آليات تنظيم المعرض، وضبط معايير دقيقة وشفافة لاختيار العارضين، بما يضمن حضور دور نشر جادة تحترم القارئ وتقدّم محتوى يليق بالمشهد الثقافي التونسي. فغياب الحوكمة الرشيدة في إدارة المعرض لا يمسّ فقط بصورة الحدث، بل ينعكس سلبًا على مجمل سلسلة النشر: من المؤلف إلى الناشر، ومن الموزع إلى القارئ.
من جهة أخرى، يبقى الناشرون المستقلون والصغار الحلقة الأضعف في هذا المشهد، إذ يصطدمون بصعوبات جمّة للمشاركة في المعرض، إما بسبب التكاليف المرتفعة، أو بسبب غياب آليات دعم خاصة تراعي خصوصياتهم. ومن هذا المنطلق، فإن ضمان حضور عادل ومتكافئ لمختلف الفاعلين في القطاع يستوجب توفير دعم مالي ميسّر، وإطار تنظيمي مرن يُعيد الاعتبار لهؤلاء الناشرين، ويمنحهم الفرصة لعرض إنتاجاتهم ضمن إطار احترافي ومحفّز.
كما أن أحد التحديات الكبرى التي تواجه المعرض هو ضعف الخطة الاتصالية والتسويقية، حيث لا يزال يفتقر إلى أدوات تواصل فعّالة تواكب العصر الرقمي، ما يحدّ من إشعاعه، ويحول دون استقطاب فئات واسعة، خصوصًا من الشباب الذين باتوا يستهلكون الثقافة بطرق جديدة ومتنوعة. في المقابل، يُنتظر من القائمين على المعرض أن يستثمروا في الوسائط الحديثة، وأن ينوّعوا في برامجه الثقافية والفكرية المصاحبة، بما يجعل من هذه التظاهرة حدثًا جامعًا يجذب جمهورًا أوسع.
ومن المهم أيضًا أن نسجّل، بموضوعية، أن اللجنة التنظيمية للدورة الحالية قد تفطّنت إلى جملة من النقائص التي تمّت الإشارة إليها سابقًا، وقد عبّرت عن إرادتها في تلافيها من خلال تحسين ظروف العرض، وتنظيم الفضاء، وتطوير المحتوى الثقافي المصاحب. وهذا التوجّه الإيجابي يبعث على الأمل في أن يشهد المعرض خلال هذه الدورة نقلة نوعية على المستويين التنظيمي والمهني، بما يليق بمكانته وبأهمية دوره في دعم صناعة النشر والكتاب.
في سياق التفكير في رهانات قطاع النشر في تونس، لا يمكن أن تكتمل الصورة إذا اقتصرنا على الحديث عن المعرض الدولي للكتاب بتونس دون التوقّف عند الأهمية البالغة للمعرض الوطني للكتاب التونسي، هذه التظاهرة التي، رغم رمزيتها الثقافية ومكانتها الكبرى، تمّ تهميشها بشكل غير عادل خلال السنوات الأخيرة.
لقد انطلق هذا المعرض في بداياته كمبادرة رائدة من اتحاد الناشرين التونسيين على المستوى المغاربي والعربي والإفريقي، وكان يهدف إلى إبراز ثراء وتنوّع الكتاب التونسي. وقد تميّز المعرض الوطني عن غيره من التظاهرات بأصالته الوطنية، وبمهمّته الواضحة: توفير منبر حصري للناشرين والمبدعين التونسيين، في إطار مهني عادل ومحفّز. وعلى خلاف المعرض الدولي الذي يستقبل دور نشر أجنبية، وقد يُزاح فيه الإنتاج التونسي إلى الهامش، فقد مثّل المعرض الوطني فضاءً مركزيًا يُسلّط الضوء على الكتاب التونسي باعتباره منتجًا ثقافيًا متكاملًا، حاملًا للهوية والذاكرة والخيال الجمعي.
إن غيابه في السنوات الأخيرة – دون إعلان رسمي أو تبرير مقنع – يُعدّ خسارة فادحة لمنظومة الكتاب التونسي. فهو لم يحرم الكتّاب من فضاء طبيعي للتفاعل مع قرّائهم فحسب، بل أحدث فراغًا في الروزنامة الثقافية، لا سيّما في الجهات الداخلية التي كانت تنتظر هذه التظاهرة كنافذة للاطلاع على الإنتاج المحلي. فالمعرض الوطني لم يكن مقتصرًا على العاصمة، بل كان من المفترض أن يتوسّع ليشمل كامل تراب الجمهورية، من خلال دورات لامركزية، وجولات ثقافية، وشراكات مع المكتبات الجهوية ودور الثقافة، ما يساهم في دمقرطة الوصول إلى الكتاب وتنشيط الحركة القرائية.
بل أكثر من ذلك، فإن إعادة بعث هذا المعرض يمكن أن يحقّق عدة أهداف أساسية: أوّلًا، استعادة ثقة الناشرين التونسيين من خلال فضاء لا يُضطرّون فيه إلى منافسة غير متكافئة مع دور نشر أجنبية مدعومة. ثانيًا، تعزيز مكانة الكاتب التونسي وتمكينه من التفاعل المباشر مع جمهوره. وأخيرًا، دعم سياسة وطنية للكتاب أكثر انسجامًا وشمولًا، عبر تشجيع الإنتاج المحلي وتحفيز المطالعة من خلال برامج موجهة وفعالة.
ومن هذا المنطلق، لا بدّ من دعوة الجهات الرسمية، وفي مقدّمتها وزارة الشؤون الثقافية، إلى مأسسة هذا المعرض، وتوفير الإمكانيات اللائقة به، وضمان انتظامه سنويًا. ولا ينبغي أن يقتصر إحياؤه على تظاهرة مناسباتية ظرفية، بل يجب أن يكون جزءًا من رؤية إستراتيجية شاملة لإعادة هيكلة سلسلة الكتاب التونسي وإنعاشها.
وباختصار، فإن المعرض الوطني للكتاب التونسي ليس مجرد احتفال بالكتاب، بل هو فعل ثقافي وسياسي أساسي. إنّه تأكيد على أن الكتاب التونسي يستحق فضاءً خاصًا به، واعترافًا بدوره في بناء مواطنة مستنيرة، ومرافقة ملائمة للتحديات الخاصة التي يعرفها هذا القطاع. إن إعادة بعثه هو تأكيد جديد على التزام تونس بثقافتها، ومبدعيها، ومستقبلها المعرفي.
إنّ قطاع النشر التونسي يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، يفرض علينا، كمجتمع ومؤسسات، مواجهة الحقيقة بشجاعة ومسؤولية. لقد تجاوزت الأزمة التي يعيشها هذا القطاع حدود الظرفية أو التقلّبات الدورية، وأصبحت أزمة هيكلية تمسّ جوهر منظومة الإنتاج الثقافي في البلاد. إن مجرّد التشخيص لم يعد كافيًا، لأن عمق الأزمة وتعقّد أبعادها يتطلّب مقاربة إستراتيجية شاملة، تنطلق من إرادة سياسية حقيقية وصادقة، لا تكتفي بالوعود أو الحلول الظرفية، بل تبني سياسات ثقافية متكاملة وطويلة المدى، تجعل من النشر أولوية وطنية لا تقلّ أهمية عن التعليم أو الصحة.
لكن الإرادة السياسية، على أهميتها، لا تكفي وحدها. فنحن بحاجة إلى تضامن مجتمعي واسع يشمل الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع المدني، لنعيد للكتاب مكانته في وجدان الأفراد وفي السلوك الثقافي العام. المطلوب هو أن نعيد غرس فكرة الكتاب في عقول الناشئة، ليس كوسيلة مدرسية جافة، بل كنافذة مطلّة على العالم، وأداة لفهم الذات والواقع، ورافعة للتفكير النقدي والتحرّر المعرفي.
إنّ الرؤية المستقبلية التي ننشدها يجب أن تقوم على فهم عميق لطبيعة التحوّلات التكنولوجية والاجتماعية، وأن تتفاعل معها بذكاء ومرونة. علينا أن نواكب العصر دون أن نفرّط في خصوصيتنا الثقافية. أن نستثمر في النشر الرقمي دون أن نتخلى عن قيمة الكتاب الورقي. أن نشجّع الإنتاج المحلي دون أن نغلق الأبواب أمام التبادل الثقافي والتفاعل مع الآخر.
فالكتاب ليس مجرّد منتج استهلاكي، بل هو حامل لذاكرة الشعوب، ومرآة لهويتها، وتجسيد لقيمها الحضارية. هو أداة مقاومة ضد النسيان، وسلاح في وجه الجهل والانغلاق. ومن ثَمّ، فإن إنقاذ قطاع النشر ليس ترفًا فكريًا، بل هو استثمار في ذكاء الغد، وفي وعي الأجيال القادمة، وفي قدرتها على الفهم والإبداع.
إنّ بناء أية نهضة ثقافية حقيقية لا يمكن أن يتم دون إعادة الاعتبار للكتاب، باعتباره الركيزة الأولى لأي مشروع تنويري. فإذا أردنا أن نرى تونس تُنتج المعرفة، وتُصدّر الأفكار، وتُسهم في الحضارة الإنسانية، فلا بد أن نبدأ من هنا: من دعم الكاتب، وتمكين الناشر، وتحفيز القارئ، وبناء منظومة نشر وطنية متكاملة تُنقذ الحاضر وتُؤسس للمستقبل.
*رئيس اتحاد الناشرين التونسيين
بقلم: محمد رياض بن عبد الرزاق*
في ظل تحولات عالمية متسارعة، يشهد قطاع النشر في تونس أزمة بنيوية مركبة تتشابك فيها التحديات الاقتصادية مع التغيرات الثقافية والتحولات التكنولوجية. فالكتاب التونسي، بوصفه حاملًا للمعرفة ومعبّرًا عن هوية وطنية، يجد نفسه اليوم عند مفترق طرق، بين واقع مأزوم ورهانات مستقبلية تفرض مقاربات جديدة وشجاعة.
تعاني دور النشر في تونس من ارتفاع حادّ في تكاليف الإنتاج، وهو ارتفاع لا يمكن عزله عن السياق العالمي، حيث أدّت التوترات الجيوسياسية، وتقلبات أسعار الطاقة، وتعقّد الإجراءات الجمركية إلى تضخّم أسعار المواد الأولية، لا سيما الورق والأحبار. هذا الواقع لم ينعكس فقط على كلفة الطباعة، بل شمل أيضًا خدمات التخزين والنقل، ما وضع الدور الصغيرة والمتوسطة في وضع هشّ بات يهدد استمراريتها، وأدى إلى تراجع قدرتها على المنافسة، سواء في السوق المحلية أو في مواجهة الكتب المستوردة التي غالبًا ما تتمتع بدعم أجنبي.
في محاولة لمجابهة هذه الصعوبات، اضطرت دور النشر إلى مراجعة أسعار كتبها، غير أن هذا التعديل اصطدم بواقع اقتصادي دقيق يجعل من الكتاب، بالنسبة لشريحة واسعة من التونسيين، منتجًا كماليًا لا يندرج ضمن أولوياتهم الحياتية. وهكذا تقلّص الطلب، وتراجع الإقبال على الشراء، مما أضعف حجم الطباعة وأثّر سلبًا على عائدات النشر، ليدخل القطاع في حلقة مفرغة تتطلب تدخّلًا هيكليًا عاجلًا. هذه الإشكاليات تطال بصفة خاصة المؤلفين الجدد والكتب التخصصية، التي تُعدّ رافعة ضرورية للابتكار المعرفي والتجديد الفكري، لكنها في الغالب تواجه صعوبات في التمويل والنشر والتوزيع.
وإذا كانت أزمة الإنتاج تشكّل أحد أوجه المعضلة، فإن معضلة التوزيع لا تقلّ عنها أهمية. ففي تونس، يفتقر الفضاء الثقافي إلى شبكة توزيع عادلة وفعّالة، خصوصًا خارج المدن الكبرى، حيث تقل المكتبات وتندر نقاط البيع. غياب هذه الشبكة يزيد من تعميق الفجوة بين المركز والجهات، ويحدّ من انتشار الكتاب في مختلف أنحاء البلاد، ويُكرّس – في نهاية المطاف – تفاوتًا ثقافيًا يتعارض مع مبدأ العدالة في الوصول إلى المعرفة.
وفي السياق ذاته، يُلاحظ تراجع مقلق في نسب القراءة، خاصة في صفوف الشباب. عزوف غذّته هيمنة وسائل الترفيه الرقمي من جهة، وغياب البرامج التربوية المحفّزة من جهة أخرى. فالمدرسة، في صيغتها الحالية، لا تُشجّع على القراءة الحرة، بل تُركّز على المقررات الأكاديمية، ما يُضعف العلاقة العضوية بين التلميذ والكتاب، ويحرم الأجيال الجديدة من متعة الاكتشاف وسحر المطالعة.
يُضاف إلى ذلك آفة القرصنة، التي باتت تهدد استدامة قطاع النشر في تونس بشكل مباشر. فالكتب المقرصنة، سواء بنسخها الورقية أو الرقمية، تنتشر بشكل واسع، مدفوعةً بغياب تطبيق فعّال للقوانين، وغياب حملات التوعية المجتمعية. وللأسف، أصبحت تونس تُوصَف دوليًا كمركز لتفشي النسخ غير القانونية، سواء في المعارض أو الأسواق أو على الإنترنت. هذه الظاهرة لا تضر فقط بالناشرين، بل تمسّ المؤلفين أنفسهم، وتحرمهم من حقوقهم، وتُضعف من جودة الإنتاج الثقافي المحلي.
أما التحدي الأكبر الذي يلوح في الأفق، فهو التحوّل الرقمي، الذي غدا ضرورة وجودية لا خيارًا ظرفيًا. ورغم التقدّم الكبير الذي تشهده صناعة النشر العالمية في هذا المجال، لا يزال القطاع التونسي متأخرًا، في ظل ضعف البنية التحتية، ومحدودية الاستثمار في الحلول الرقمية، ونقص الكفاءات التقنية. وإذا لم يتم تسريع الانتقال إلى العصر الرقمي، عبر الاستثمار في التكوين، والتجهيزات، وحماية حقوق النشر الإلكترونية، فإن قطاع النشر في تونس سيظل هامشيًا وغير قادر على التفاعل مع المتغيرات العالمية.
إن الخروج من هذا النفق لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال رؤية وطنية شاملة تُعيد الاعتبار للكتاب وتضعه في قلب السياسات الثقافية. مطلوب اليوم دعم مالي فعلي لدور النشر، يتجسّد في إعانات مباشرة، وقروض ميسّرة، إلى جانب إصلاحات ضريبية تمس المواد الأولية الأساسية. كما أن تطوير شبكة توزيع وطنية عادلة، وإطلاق حملات وطنية لتشجيع المطالعة، وتشديد العقوبات ضد القرصنة، تُعدّ خطوات ضرورية لا بدّ منها لإنقاذ القطاع.
الدولة، بمختلف مؤسساتها، مدعوّة إلى لعب دور محوري في هذه العملية. فدون تدخّل سياسي واضح المعالم، لن يكون ممكنًا تغيير الواقع. يجب على الدولة أن تضع إستراتيجية وطنية للكتاب، تُؤسَّس من خلالها مراكز تكوين للمشتغلين في قطاع الكتاب، وتدعم مشاركة الناشرين في المعارض الدولية، وتشجع الترجمة من وإلى العربية، في إطار انفتاح ثقافي يعزّز التبادل ويغني المشهد المحلي.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال الدور الرمزي لمعرض تونس الدولي للكتاب، الذي يُعدّ أهم تظاهرة ثقافية سنوية في البلاد. هذا المعرض، الذي ظلّ لعقود تظاهرةً محورية، بات اليوم مرآة صادقة لما آل إليه حال قطاع النشر، أكثر من كونه مجرد مناسبة احتفالية. فرغم رمزيته ومكانته في الذاكرة الثقافية الوطنية، لم يعد المعرض في الكثير من دوراته الأخيرة ذلك الفضاء الملهم الذي يُنتظر بفارغ الصبر من المثقفين والناشرين والقراء، بل أصبح يواجه تحديات تنظيمية ومهنية جدّية تهدد روحه الأصلية ومصداقيته.
لقد انزاحت التظاهرة شيئًا فشيئًا عن هدفها الجوهري: دعم النشر الجادّ، وتحفيز القراءة، وتعزيز الحضور الثقافي التونسي. وبدلًا من أن تكون منصة لإبراز الإبداع المحلي ومجالًا للحوار الفكري، أصبحت – في بعض دوراتها – سوقًا تجارية مفتوحة تسلّلت إليها دور نشر لا تحترم المعايير المهنية، وتفتقر إلى الحدّ الأدنى من الجودة الفكرية والأخلاقية. هذا التراخي في معايير الانتقاء فتح الباب أمام حضور عشوائي ومشوّش، أضعف من صورة المعرض، وأساء إلى سمعته الإقليمية والدولية.
وقد عبّر العديد من المهنيين والمثقفين عن قلقهم إزاء هذا الانزلاق، مطالبين بإعادة النظر في آليات تنظيم المعرض، وضبط معايير دقيقة وشفافة لاختيار العارضين، بما يضمن حضور دور نشر جادة تحترم القارئ وتقدّم محتوى يليق بالمشهد الثقافي التونسي. فغياب الحوكمة الرشيدة في إدارة المعرض لا يمسّ فقط بصورة الحدث، بل ينعكس سلبًا على مجمل سلسلة النشر: من المؤلف إلى الناشر، ومن الموزع إلى القارئ.
من جهة أخرى، يبقى الناشرون المستقلون والصغار الحلقة الأضعف في هذا المشهد، إذ يصطدمون بصعوبات جمّة للمشاركة في المعرض، إما بسبب التكاليف المرتفعة، أو بسبب غياب آليات دعم خاصة تراعي خصوصياتهم. ومن هذا المنطلق، فإن ضمان حضور عادل ومتكافئ لمختلف الفاعلين في القطاع يستوجب توفير دعم مالي ميسّر، وإطار تنظيمي مرن يُعيد الاعتبار لهؤلاء الناشرين، ويمنحهم الفرصة لعرض إنتاجاتهم ضمن إطار احترافي ومحفّز.
كما أن أحد التحديات الكبرى التي تواجه المعرض هو ضعف الخطة الاتصالية والتسويقية، حيث لا يزال يفتقر إلى أدوات تواصل فعّالة تواكب العصر الرقمي، ما يحدّ من إشعاعه، ويحول دون استقطاب فئات واسعة، خصوصًا من الشباب الذين باتوا يستهلكون الثقافة بطرق جديدة ومتنوعة. في المقابل، يُنتظر من القائمين على المعرض أن يستثمروا في الوسائط الحديثة، وأن ينوّعوا في برامجه الثقافية والفكرية المصاحبة، بما يجعل من هذه التظاهرة حدثًا جامعًا يجذب جمهورًا أوسع.
ومن المهم أيضًا أن نسجّل، بموضوعية، أن اللجنة التنظيمية للدورة الحالية قد تفطّنت إلى جملة من النقائص التي تمّت الإشارة إليها سابقًا، وقد عبّرت عن إرادتها في تلافيها من خلال تحسين ظروف العرض، وتنظيم الفضاء، وتطوير المحتوى الثقافي المصاحب. وهذا التوجّه الإيجابي يبعث على الأمل في أن يشهد المعرض خلال هذه الدورة نقلة نوعية على المستويين التنظيمي والمهني، بما يليق بمكانته وبأهمية دوره في دعم صناعة النشر والكتاب.
في سياق التفكير في رهانات قطاع النشر في تونس، لا يمكن أن تكتمل الصورة إذا اقتصرنا على الحديث عن المعرض الدولي للكتاب بتونس دون التوقّف عند الأهمية البالغة للمعرض الوطني للكتاب التونسي، هذه التظاهرة التي، رغم رمزيتها الثقافية ومكانتها الكبرى، تمّ تهميشها بشكل غير عادل خلال السنوات الأخيرة.
لقد انطلق هذا المعرض في بداياته كمبادرة رائدة من اتحاد الناشرين التونسيين على المستوى المغاربي والعربي والإفريقي، وكان يهدف إلى إبراز ثراء وتنوّع الكتاب التونسي. وقد تميّز المعرض الوطني عن غيره من التظاهرات بأصالته الوطنية، وبمهمّته الواضحة: توفير منبر حصري للناشرين والمبدعين التونسيين، في إطار مهني عادل ومحفّز. وعلى خلاف المعرض الدولي الذي يستقبل دور نشر أجنبية، وقد يُزاح فيه الإنتاج التونسي إلى الهامش، فقد مثّل المعرض الوطني فضاءً مركزيًا يُسلّط الضوء على الكتاب التونسي باعتباره منتجًا ثقافيًا متكاملًا، حاملًا للهوية والذاكرة والخيال الجمعي.
إن غيابه في السنوات الأخيرة – دون إعلان رسمي أو تبرير مقنع – يُعدّ خسارة فادحة لمنظومة الكتاب التونسي. فهو لم يحرم الكتّاب من فضاء طبيعي للتفاعل مع قرّائهم فحسب، بل أحدث فراغًا في الروزنامة الثقافية، لا سيّما في الجهات الداخلية التي كانت تنتظر هذه التظاهرة كنافذة للاطلاع على الإنتاج المحلي. فالمعرض الوطني لم يكن مقتصرًا على العاصمة، بل كان من المفترض أن يتوسّع ليشمل كامل تراب الجمهورية، من خلال دورات لامركزية، وجولات ثقافية، وشراكات مع المكتبات الجهوية ودور الثقافة، ما يساهم في دمقرطة الوصول إلى الكتاب وتنشيط الحركة القرائية.
بل أكثر من ذلك، فإن إعادة بعث هذا المعرض يمكن أن يحقّق عدة أهداف أساسية: أوّلًا، استعادة ثقة الناشرين التونسيين من خلال فضاء لا يُضطرّون فيه إلى منافسة غير متكافئة مع دور نشر أجنبية مدعومة. ثانيًا، تعزيز مكانة الكاتب التونسي وتمكينه من التفاعل المباشر مع جمهوره. وأخيرًا، دعم سياسة وطنية للكتاب أكثر انسجامًا وشمولًا، عبر تشجيع الإنتاج المحلي وتحفيز المطالعة من خلال برامج موجهة وفعالة.
ومن هذا المنطلق، لا بدّ من دعوة الجهات الرسمية، وفي مقدّمتها وزارة الشؤون الثقافية، إلى مأسسة هذا المعرض، وتوفير الإمكانيات اللائقة به، وضمان انتظامه سنويًا. ولا ينبغي أن يقتصر إحياؤه على تظاهرة مناسباتية ظرفية، بل يجب أن يكون جزءًا من رؤية إستراتيجية شاملة لإعادة هيكلة سلسلة الكتاب التونسي وإنعاشها.
وباختصار، فإن المعرض الوطني للكتاب التونسي ليس مجرد احتفال بالكتاب، بل هو فعل ثقافي وسياسي أساسي. إنّه تأكيد على أن الكتاب التونسي يستحق فضاءً خاصًا به، واعترافًا بدوره في بناء مواطنة مستنيرة، ومرافقة ملائمة للتحديات الخاصة التي يعرفها هذا القطاع. إن إعادة بعثه هو تأكيد جديد على التزام تونس بثقافتها، ومبدعيها، ومستقبلها المعرفي.
إنّ قطاع النشر التونسي يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، يفرض علينا، كمجتمع ومؤسسات، مواجهة الحقيقة بشجاعة ومسؤولية. لقد تجاوزت الأزمة التي يعيشها هذا القطاع حدود الظرفية أو التقلّبات الدورية، وأصبحت أزمة هيكلية تمسّ جوهر منظومة الإنتاج الثقافي في البلاد. إن مجرّد التشخيص لم يعد كافيًا، لأن عمق الأزمة وتعقّد أبعادها يتطلّب مقاربة إستراتيجية شاملة، تنطلق من إرادة سياسية حقيقية وصادقة، لا تكتفي بالوعود أو الحلول الظرفية، بل تبني سياسات ثقافية متكاملة وطويلة المدى، تجعل من النشر أولوية وطنية لا تقلّ أهمية عن التعليم أو الصحة.
لكن الإرادة السياسية، على أهميتها، لا تكفي وحدها. فنحن بحاجة إلى تضامن مجتمعي واسع يشمل الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع المدني، لنعيد للكتاب مكانته في وجدان الأفراد وفي السلوك الثقافي العام. المطلوب هو أن نعيد غرس فكرة الكتاب في عقول الناشئة، ليس كوسيلة مدرسية جافة، بل كنافذة مطلّة على العالم، وأداة لفهم الذات والواقع، ورافعة للتفكير النقدي والتحرّر المعرفي.
إنّ الرؤية المستقبلية التي ننشدها يجب أن تقوم على فهم عميق لطبيعة التحوّلات التكنولوجية والاجتماعية، وأن تتفاعل معها بذكاء ومرونة. علينا أن نواكب العصر دون أن نفرّط في خصوصيتنا الثقافية. أن نستثمر في النشر الرقمي دون أن نتخلى عن قيمة الكتاب الورقي. أن نشجّع الإنتاج المحلي دون أن نغلق الأبواب أمام التبادل الثقافي والتفاعل مع الآخر.
فالكتاب ليس مجرّد منتج استهلاكي، بل هو حامل لذاكرة الشعوب، ومرآة لهويتها، وتجسيد لقيمها الحضارية. هو أداة مقاومة ضد النسيان، وسلاح في وجه الجهل والانغلاق. ومن ثَمّ، فإن إنقاذ قطاع النشر ليس ترفًا فكريًا، بل هو استثمار في ذكاء الغد، وفي وعي الأجيال القادمة، وفي قدرتها على الفهم والإبداع.
إنّ بناء أية نهضة ثقافية حقيقية لا يمكن أن يتم دون إعادة الاعتبار للكتاب، باعتباره الركيزة الأولى لأي مشروع تنويري. فإذا أردنا أن نرى تونس تُنتج المعرفة، وتُصدّر الأفكار، وتُسهم في الحضارة الإنسانية، فلا بد أن نبدأ من هنا: من دعم الكاتب، وتمكين الناشر، وتحفيز القارئ، وبناء منظومة نشر وطنية متكاملة تُنقذ الحاضر وتُؤسس للمستقبل.