"هذه خيمة ليست لمخزن حفظ مخلفات المنازل. إنما عيادة نساء وولادة أقيمت في مواصي خانيونس..
تخيلوا المشهد وكيف حال الحوامل اللواتي بحاجة لرعاية خاصة بمكان يحفظ خصوصيتهن.. ورغم ذلك وظروف الحرب استطاع الدكتور سليم بربخ التغلب على الصعوبات بإنجاز عيادته الميدانية بعد تدمير عيادته الرسمية."
هذا ما كتبه الصحفي فتحي قديح على صفحته في محاولة منه ليقول للعالم أين وصل الحال بنساء غزة وحال مراكز الرعاية الصحية ومدى ملاءمتها للنساء النازحات في كل مناطق قطاع غزة، هذه الخيمة المصنوعة من أقمشة وبها بعض الأعمدة الخشبية لتقف وتشد عودها كما نساء غزة الآن، تحتضن المريضات والحوامل ..!
إذا كانت هذه الخيمة أصبحت مركزا صحيا، فما الذي يتوفر من أدوية وأجهزة فحص وأدوات تعقيم ونظافة؟.. ولمن لا يعرف المنطقة جيدا، فهي عبارة عن رمال ناعمة تجد طريقها لعيونك وأنفك بمجرد ريح خفيفة جاءت من البحر.. طبيب يستقبل مريضاته والنساء في أشهر الحمل ليتحايل على فقدان كل شيء في غزة أهمها تدمير المستشفيات والمراكز الصحية، فهنالك 33 مستشفى تم تدميرها في قطاع غزة منذ بدء الحرب، و55 مركزا للرعاية الصحية خرجت عن الخدمة إما بفعل التدمير الكلي أو الجزئي أو محاصرتها وإجبار طواقمها على إخلائها أو مواجهتهم الاعتقال، ماذا تفعل النساء الحوامل والنساء المريضات ومن هن بحاجة لرعاية صحية في الحرب؟ أين يتجهن ومن يخاطبن؟ وحدهن.. نعم هن الآن وحدهن يواجهن مصيرا مخيفا وحيدات...!
ما هي الخدمات التي تتوقعون أن يجدها النسوة سوى أيد فلسطينية خالصة بالمحبة وأطباء لم يتمكنوا من الوقوف صامتين أمام المذبحة ليحاولوا أن يصنعوا من اللاشيء حياة، وليتحايلوا على عجز المنظمات الصحية التي صدعت رؤوسنا على مدار سنوات شبابنا وعملنا بأن حصول النساء على الخدمات الصحية أمر واجب ومقدس حتى في الحروب؟؟!! الخطاب الدولي العاجز عن تقديم شيء للنساء المطحونات في غزة من يقدم لهن العون هو طبيب عاهد الله بقسمه أن يخدم مرضاه حتى في أحلك الظروف..!!
هنالك ما يقارب الـ60 ألف امرأة حامل يفتقدن لأدنى مقومات الرعاية الصحية، يعشن ظروفا لا إنسانية في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، يواجهن موتا بطيئا لهن ولأجنتهن، الخدمات الصحية التي بالكاد يحاول الطبيب سالم أن يقدمها هي أقصى ما يمكنه تقديمه لهن، فهن في حالة قاسية لا عناية طبية متوفرة ولا إمكانية للوصول لمستشفيات غزة بسبب تقطع الطرق بين محافظات قطاع غزة، وبسبب تدمير أغلب المشافي والمراكز الصحية وحتى المشافي والعيادات الخاصة التي تدمرت أيضا بما فيها من أجهزة ومعدات لخدمة النساء الحوامل والعناية بهن، نساء وجدن أنفسهن وحيدات فعدن لطرق بدائية مطلقة للعناية بأنفسهن لكن لا طعام صحي متوازن ولا خضراوات ولا فواكه متوفرة وإن توفرت فهي بأثمان باهظة جدا لا يمكن لنازحة لا تملك شيئا أن تشتريها لتهتم بصحتها، فكيف إذا تساءلنا عن الفيتامينات والمقويات، فهي تعد ترفا لا يصلح لنازحة حامل ولا يتوفر مثلها في مناطق النزوح ولا على رفوف الصيدليات الفارغة..!
وفي محاولة الحصول على حليب أو لبن أو مشتقاته فهي رحلة أشد قسوة للنساء الحوامل، فإن حصلن عليه فشربه يكون لحينه ولا يمكن الاحتفاظ به لعدم توفر ثلاجات ولا تيار كهربائي ما يعني فساده وتلفه، أينما أدرت وجهك فالنساء هن الضحايا الأوائل والأطفال لحرب قذرة أكلت الأخضر واليابس، وغير خاف علينا أن أكثر من 72% من ضحايا هذه الحرب من النساء والأطفال في غزة.!
هذه الخيمة تمعنوا فيها جيدا ولنراجع آدميتنا. استعان الطبيب بيافطات لليونيسف وهذا ما توفر لديه في منطقة تخلو من الحياة، وأقمشة ودبابيس وبرابيش ليصنع الخيمة كمركز صحي ويستقبل النساء في خصوصية مفقودة كما العدالة مفقودة لنساء غزة..!
***
صديقتي الدكتورة الجامعية التي تعيش منذ شهرين في بركس حديدي في إحدى محافظات الجنوب بعد نزوحها عدة مرات من غزة إلى الوسط وصولا لرفح التي لم تعد آمنة بحال من الأحوال لكن لا خيارات للابتعاد والتنقل فلا مكان تتوفر فيه مقومات حياة إنسانية يمكن أن يبدأ نزوح جديد لها؟ كيف يمكن أن تعود الروح لأحبائنا وسط سلسلة من العذابات نعم المعذبون في الأرض هم أهل غزة الآن؟!
الموت يفتح فوهته من كل صوب فبعد النجاة من القصف وتدمير المنازل وبعد النجاة من صواريخ الاحتلال المتفجرة في اللحم الحي لأهلنا وأحبابنا وبعد النجاة من الرصاصات الغادرة لملاحقة طائرات "الكوادكابتر" التي تشبه ألعاب الجيمز.. فإصرارها على اقتناص الضحايا دون سبب، امرأة أو طفل أو شاب، إنما هي لعبة الموت في يد جنود الاحتلال معدومي الإنسانية، إلى النجاة من الخوف والصدمة والدمار الذي بات في قلوب أهالينا، إلى النجاة من الأمراض والأوبئة المنتشرة إلى النجاة من التجويع والتعطيش... إلى أشكال متعددة للموت، فالموت يفتح فمه واسعا ليبتلع المزيد من الأجساد الطرية المتبعة المنكوبة، لتتفاجأ صديقتي النازحة بأنها مريضة أيضا..!! اكتشاف أنك مريض في صحتك أثناء الحرب هو كارثة تشبه وجه الموت وفمه المفتوح...!! مصابة بسرطان الثدي...؟!! كيف يمكن أن تستقبل نازحة منهكة متعبة تعيش منذ 8 أشهر بين الخيام والبيوت المدمرة وآخرها بركس حديدي يشتعل صيفا ويلتهب ليتذوق كل نهار الكثير من دمها وجسدها وأعصابها؟؟!! وأين السبيل لمركز صحي آمن وتتوفر فيه الفحوصات والعلاجات المناسبة، وأين هي خصوصية النساء المريضات. هنالك عشرة آلاف مريض سرطان في غزة منذ ما قبل الحرب، أغلبهم يعانون في صمت يموتون في صمت.. أغلبهم لا يجد مكانا صحيا لا يتلقى علاجات ولا يجدها، فأساسا المتابعة كانت من خلال مستشفى الصداقة التركي لكنه خرج عن الخدمة الطبية بفعل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وبسبب الحرب...؟!! فمن لنا.؟ من لهن؟
أن تكوني امرأة جديدة تنضم لقائمة العشرة آلاف ليس إلا حظا عاثرا، في وقت يضج بالغبار والقهر والعذاب.. أين يمكن أن تجد امرأة، في وقت الحرب، مكانا خاصا لتبث فيه صدمتها بمرضها، ولتحاول أن تفصح عما لا يقال في الحرب؟ فكل شيء مهدور الخصوصية لا تعريف يوازي تعريفها الآن عمليا بغزة.! تلف شعر النساء بسبب أغطية الحجاب رغم أن الكثيرات قد قصصنه لعدم القدرة على العناية به فلا ماء نظيف للاستحمام ولا أغراض العناية الصحية للشعر..! تلفت شعورهن وأعصابهن، فارتدين الحجاب ليلا نهارا خشية من القصف المفاجئ ومن فتحات الخيمة القماشية ومن فكرة أن كل شيء بات مشاعا مستباحا.. حتى قدرتنا على البوح بمكنونات وجعنا النسوي باتت أمرا مستحيلا.. أين السبيل لمركز علاجي صحي به تحفظ خصوصية النساء؟ ما السبيل لمقاومة المرض الخبيث القادم في وقت خبيث ...!! بينما المراكز الصحية والمنظومة الصحية مدمرة بشكل كامل في قطاع غزة وبينما معبر رفح الشريان الوحيد المتبقي كنفس يتنفسه الغريق قبل أن يحيا أو يموت مغلقا منذ بدء اجتياح رفح...!! أين المفر من جحيم غزة وكما قال أحد الأصدقاء الشعراء، قيامة غزة نعم نعيش ونهذي في قيامة مصغرة اسمها غزة فهل هنالك جنة ستكون لغزة في يوم ما...؟!
***
10018 شهيدة نعم، عشرة آلاف وثمانية عشر امرأة قتلن في غزة فكم أما، كم أختا، كم ابنة، كم عمة، كم خالة، كم حبيبة، كم جدة، كم بيتا أصبح يتيم الأم؟ وكم بيتا أصبح بلا أعمدة؟ وكم ابنا بات يتيما واحتضن أمه بين جدرانه الاحتضان والعناق الأخير؟
الملفات أمامي الآن.. الملف الأول يحمل أسماء شهيدات حرب الإبادة على غزة منذ السابع من أكتوبر...!! الأسماء أمامي تقفز واحدة تلو الأخرى كيف نقرأ أسماء اللاتي قتلن؟ كيف نجرؤ على أن نسأل أنفسنا كيف قتلن؟ وهل هن قطعة أو أكثر؟ هل تمكنوا من انتشالهن من بين الأنقاض؟ هل لهن قبر وشاهد؟؟ هل لازلن عالقات.. لا لا أعرف الإجابة هذا الملف يحمل أسماء من وصلت جثامينهن أو بقاياها مختلطة بجثامين عائلاتهن وصلن للمستشفى فقيدت أسماؤهن ضمن الشهيدات اللواتي وصلت بقايا أحلامهن المقتولة.. طلبت إحدى الصديقات ملفات الأسماء للشهيدات والأطفال وبادلتها الملفات...!
بعد برهنة طويلة وصمت مطبق ساد قلبينا وعيوننا تتابع الأسماء رويدا رويدا...!!
كتبت بأصابع مرتجفة تحمل الأحرف أكاد أشعر بها بجوارحي:
- بخنق بخنق تقرئي الأسماء...!!
تنهدت بيني وبيني تقف عيني عند الأسماء العشرة الأولى وتتقافز الوجوه التي لا أعرفها أمامي بكثرة وبسرعة وارتباك كأنهن يردن أن ينهضن من جديد لكن كبلتهن أسطر الموت..
كتبت لصديقتي بلا أصابع:
- كل اسم حياة
- كل اسم بيت
- كل اسم ضحكة
- كل اسم حكاية
- كل اسم ابتسامة
- غابت
- غابت
أعود لأغرق بين أسماء الشهيدات أتابع نغمة الاسم أعمارهن القصيرة تزيد لوعتي، أعلق في الصفحات الأولى والعيون تتكاثر في مخيلتي بعضهن دامعات العين، بعضهن فزعات، بعضهن غلب صراخهن على ملامحهن لكنه صراخ ممزق بلا صوت..
هل هنالك من يستمع لأنين نساء غزة ومعاناتهن في أماكن أصبحت قاحلة بلا مقومات حياة.! بلا ماء ولا ملابس ولا حياة تذكر؟! هل هنالك أحد حقا يدرك ما تعانيه النساء الناجيات الآن؟! ناجيات مع وقف التنفيذ فقد يكن في عداد قائمات الشهيدات بعد يوم أو يومين مادامت الحرب لازالت مستعرة.؟ هل يشعر أحد فعليا بالنساء الحوامل ومعاناتهن اللامتناهية؟! هل يشعر أحد فعليا بالنساء المريضات؟ كبيرات السن؟ ذوات الإعاقة؟ النساء العاديات الفتيات وأحلامهن.!! هل هنالك من يسمع الصوت؟!
(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة
هداية شمعون (*)
غزة-الصباح
"هذه خيمة ليست لمخزن حفظ مخلفات المنازل. إنما عيادة نساء وولادة أقيمت في مواصي خانيونس..
تخيلوا المشهد وكيف حال الحوامل اللواتي بحاجة لرعاية خاصة بمكان يحفظ خصوصيتهن.. ورغم ذلك وظروف الحرب استطاع الدكتور سليم بربخ التغلب على الصعوبات بإنجاز عيادته الميدانية بعد تدمير عيادته الرسمية."
هذا ما كتبه الصحفي فتحي قديح على صفحته في محاولة منه ليقول للعالم أين وصل الحال بنساء غزة وحال مراكز الرعاية الصحية ومدى ملاءمتها للنساء النازحات في كل مناطق قطاع غزة، هذه الخيمة المصنوعة من أقمشة وبها بعض الأعمدة الخشبية لتقف وتشد عودها كما نساء غزة الآن، تحتضن المريضات والحوامل ..!
إذا كانت هذه الخيمة أصبحت مركزا صحيا، فما الذي يتوفر من أدوية وأجهزة فحص وأدوات تعقيم ونظافة؟.. ولمن لا يعرف المنطقة جيدا، فهي عبارة عن رمال ناعمة تجد طريقها لعيونك وأنفك بمجرد ريح خفيفة جاءت من البحر.. طبيب يستقبل مريضاته والنساء في أشهر الحمل ليتحايل على فقدان كل شيء في غزة أهمها تدمير المستشفيات والمراكز الصحية، فهنالك 33 مستشفى تم تدميرها في قطاع غزة منذ بدء الحرب، و55 مركزا للرعاية الصحية خرجت عن الخدمة إما بفعل التدمير الكلي أو الجزئي أو محاصرتها وإجبار طواقمها على إخلائها أو مواجهتهم الاعتقال، ماذا تفعل النساء الحوامل والنساء المريضات ومن هن بحاجة لرعاية صحية في الحرب؟ أين يتجهن ومن يخاطبن؟ وحدهن.. نعم هن الآن وحدهن يواجهن مصيرا مخيفا وحيدات...!
ما هي الخدمات التي تتوقعون أن يجدها النسوة سوى أيد فلسطينية خالصة بالمحبة وأطباء لم يتمكنوا من الوقوف صامتين أمام المذبحة ليحاولوا أن يصنعوا من اللاشيء حياة، وليتحايلوا على عجز المنظمات الصحية التي صدعت رؤوسنا على مدار سنوات شبابنا وعملنا بأن حصول النساء على الخدمات الصحية أمر واجب ومقدس حتى في الحروب؟؟!! الخطاب الدولي العاجز عن تقديم شيء للنساء المطحونات في غزة من يقدم لهن العون هو طبيب عاهد الله بقسمه أن يخدم مرضاه حتى في أحلك الظروف..!!
هنالك ما يقارب الـ60 ألف امرأة حامل يفتقدن لأدنى مقومات الرعاية الصحية، يعشن ظروفا لا إنسانية في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، يواجهن موتا بطيئا لهن ولأجنتهن، الخدمات الصحية التي بالكاد يحاول الطبيب سالم أن يقدمها هي أقصى ما يمكنه تقديمه لهن، فهن في حالة قاسية لا عناية طبية متوفرة ولا إمكانية للوصول لمستشفيات غزة بسبب تقطع الطرق بين محافظات قطاع غزة، وبسبب تدمير أغلب المشافي والمراكز الصحية وحتى المشافي والعيادات الخاصة التي تدمرت أيضا بما فيها من أجهزة ومعدات لخدمة النساء الحوامل والعناية بهن، نساء وجدن أنفسهن وحيدات فعدن لطرق بدائية مطلقة للعناية بأنفسهن لكن لا طعام صحي متوازن ولا خضراوات ولا فواكه متوفرة وإن توفرت فهي بأثمان باهظة جدا لا يمكن لنازحة لا تملك شيئا أن تشتريها لتهتم بصحتها، فكيف إذا تساءلنا عن الفيتامينات والمقويات، فهي تعد ترفا لا يصلح لنازحة حامل ولا يتوفر مثلها في مناطق النزوح ولا على رفوف الصيدليات الفارغة..!
وفي محاولة الحصول على حليب أو لبن أو مشتقاته فهي رحلة أشد قسوة للنساء الحوامل، فإن حصلن عليه فشربه يكون لحينه ولا يمكن الاحتفاظ به لعدم توفر ثلاجات ولا تيار كهربائي ما يعني فساده وتلفه، أينما أدرت وجهك فالنساء هن الضحايا الأوائل والأطفال لحرب قذرة أكلت الأخضر واليابس، وغير خاف علينا أن أكثر من 72% من ضحايا هذه الحرب من النساء والأطفال في غزة.!
هذه الخيمة تمعنوا فيها جيدا ولنراجع آدميتنا. استعان الطبيب بيافطات لليونيسف وهذا ما توفر لديه في منطقة تخلو من الحياة، وأقمشة ودبابيس وبرابيش ليصنع الخيمة كمركز صحي ويستقبل النساء في خصوصية مفقودة كما العدالة مفقودة لنساء غزة..!
***
صديقتي الدكتورة الجامعية التي تعيش منذ شهرين في بركس حديدي في إحدى محافظات الجنوب بعد نزوحها عدة مرات من غزة إلى الوسط وصولا لرفح التي لم تعد آمنة بحال من الأحوال لكن لا خيارات للابتعاد والتنقل فلا مكان تتوفر فيه مقومات حياة إنسانية يمكن أن يبدأ نزوح جديد لها؟ كيف يمكن أن تعود الروح لأحبائنا وسط سلسلة من العذابات نعم المعذبون في الأرض هم أهل غزة الآن؟!
الموت يفتح فوهته من كل صوب فبعد النجاة من القصف وتدمير المنازل وبعد النجاة من صواريخ الاحتلال المتفجرة في اللحم الحي لأهلنا وأحبابنا وبعد النجاة من الرصاصات الغادرة لملاحقة طائرات "الكوادكابتر" التي تشبه ألعاب الجيمز.. فإصرارها على اقتناص الضحايا دون سبب، امرأة أو طفل أو شاب، إنما هي لعبة الموت في يد جنود الاحتلال معدومي الإنسانية، إلى النجاة من الخوف والصدمة والدمار الذي بات في قلوب أهالينا، إلى النجاة من الأمراض والأوبئة المنتشرة إلى النجاة من التجويع والتعطيش... إلى أشكال متعددة للموت، فالموت يفتح فمه واسعا ليبتلع المزيد من الأجساد الطرية المتبعة المنكوبة، لتتفاجأ صديقتي النازحة بأنها مريضة أيضا..!! اكتشاف أنك مريض في صحتك أثناء الحرب هو كارثة تشبه وجه الموت وفمه المفتوح...!! مصابة بسرطان الثدي...؟!! كيف يمكن أن تستقبل نازحة منهكة متعبة تعيش منذ 8 أشهر بين الخيام والبيوت المدمرة وآخرها بركس حديدي يشتعل صيفا ويلتهب ليتذوق كل نهار الكثير من دمها وجسدها وأعصابها؟؟!! وأين السبيل لمركز صحي آمن وتتوفر فيه الفحوصات والعلاجات المناسبة، وأين هي خصوصية النساء المريضات. هنالك عشرة آلاف مريض سرطان في غزة منذ ما قبل الحرب، أغلبهم يعانون في صمت يموتون في صمت.. أغلبهم لا يجد مكانا صحيا لا يتلقى علاجات ولا يجدها، فأساسا المتابعة كانت من خلال مستشفى الصداقة التركي لكنه خرج عن الخدمة الطبية بفعل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وبسبب الحرب...؟!! فمن لنا.؟ من لهن؟
أن تكوني امرأة جديدة تنضم لقائمة العشرة آلاف ليس إلا حظا عاثرا، في وقت يضج بالغبار والقهر والعذاب.. أين يمكن أن تجد امرأة، في وقت الحرب، مكانا خاصا لتبث فيه صدمتها بمرضها، ولتحاول أن تفصح عما لا يقال في الحرب؟ فكل شيء مهدور الخصوصية لا تعريف يوازي تعريفها الآن عمليا بغزة.! تلف شعر النساء بسبب أغطية الحجاب رغم أن الكثيرات قد قصصنه لعدم القدرة على العناية به فلا ماء نظيف للاستحمام ولا أغراض العناية الصحية للشعر..! تلفت شعورهن وأعصابهن، فارتدين الحجاب ليلا نهارا خشية من القصف المفاجئ ومن فتحات الخيمة القماشية ومن فكرة أن كل شيء بات مشاعا مستباحا.. حتى قدرتنا على البوح بمكنونات وجعنا النسوي باتت أمرا مستحيلا.. أين السبيل لمركز علاجي صحي به تحفظ خصوصية النساء؟ ما السبيل لمقاومة المرض الخبيث القادم في وقت خبيث ...!! بينما المراكز الصحية والمنظومة الصحية مدمرة بشكل كامل في قطاع غزة وبينما معبر رفح الشريان الوحيد المتبقي كنفس يتنفسه الغريق قبل أن يحيا أو يموت مغلقا منذ بدء اجتياح رفح...!! أين المفر من جحيم غزة وكما قال أحد الأصدقاء الشعراء، قيامة غزة نعم نعيش ونهذي في قيامة مصغرة اسمها غزة فهل هنالك جنة ستكون لغزة في يوم ما...؟!
***
10018 شهيدة نعم، عشرة آلاف وثمانية عشر امرأة قتلن في غزة فكم أما، كم أختا، كم ابنة، كم عمة، كم خالة، كم حبيبة، كم جدة، كم بيتا أصبح يتيم الأم؟ وكم بيتا أصبح بلا أعمدة؟ وكم ابنا بات يتيما واحتضن أمه بين جدرانه الاحتضان والعناق الأخير؟
الملفات أمامي الآن.. الملف الأول يحمل أسماء شهيدات حرب الإبادة على غزة منذ السابع من أكتوبر...!! الأسماء أمامي تقفز واحدة تلو الأخرى كيف نقرأ أسماء اللاتي قتلن؟ كيف نجرؤ على أن نسأل أنفسنا كيف قتلن؟ وهل هن قطعة أو أكثر؟ هل تمكنوا من انتشالهن من بين الأنقاض؟ هل لهن قبر وشاهد؟؟ هل لازلن عالقات.. لا لا أعرف الإجابة هذا الملف يحمل أسماء من وصلت جثامينهن أو بقاياها مختلطة بجثامين عائلاتهن وصلن للمستشفى فقيدت أسماؤهن ضمن الشهيدات اللواتي وصلت بقايا أحلامهن المقتولة.. طلبت إحدى الصديقات ملفات الأسماء للشهيدات والأطفال وبادلتها الملفات...!
بعد برهنة طويلة وصمت مطبق ساد قلبينا وعيوننا تتابع الأسماء رويدا رويدا...!!
كتبت بأصابع مرتجفة تحمل الأحرف أكاد أشعر بها بجوارحي:
- بخنق بخنق تقرئي الأسماء...!!
تنهدت بيني وبيني تقف عيني عند الأسماء العشرة الأولى وتتقافز الوجوه التي لا أعرفها أمامي بكثرة وبسرعة وارتباك كأنهن يردن أن ينهضن من جديد لكن كبلتهن أسطر الموت..
كتبت لصديقتي بلا أصابع:
- كل اسم حياة
- كل اسم بيت
- كل اسم ضحكة
- كل اسم حكاية
- كل اسم ابتسامة
- غابت
- غابت
أعود لأغرق بين أسماء الشهيدات أتابع نغمة الاسم أعمارهن القصيرة تزيد لوعتي، أعلق في الصفحات الأولى والعيون تتكاثر في مخيلتي بعضهن دامعات العين، بعضهن فزعات، بعضهن غلب صراخهن على ملامحهن لكنه صراخ ممزق بلا صوت..
هل هنالك من يستمع لأنين نساء غزة ومعاناتهن في أماكن أصبحت قاحلة بلا مقومات حياة.! بلا ماء ولا ملابس ولا حياة تذكر؟! هل هنالك أحد حقا يدرك ما تعانيه النساء الناجيات الآن؟! ناجيات مع وقف التنفيذ فقد يكن في عداد قائمات الشهيدات بعد يوم أو يومين مادامت الحرب لازالت مستعرة.؟ هل يشعر أحد فعليا بالنساء الحوامل ومعاناتهن اللامتناهية؟! هل يشعر أحد فعليا بالنساء المريضات؟ كبيرات السن؟ ذوات الإعاقة؟ النساء العاديات الفتيات وأحلامهن.!! هل هنالك من يسمع الصوت؟!