سرد بمثابة القراءة التاريخية والعلمية لما حدث من تحولات وأحداث كبرى في إدانة بينة للإنسان وعبثيته وتوحشه تجاه الطبيعة ..
شمس الدين العوني
تظل الكتابة عموما ومنها الكتابة الأدبية ذلك الفعل النبيل تجاه الذات والعالم وفق الوعي والرغبة في القول والإفصاح عن الدواخل حيث الفكرة المشيرة إلى الجمال الذي يكتب الكائنات والأشياء والعناصر والتفاصيل في تنوع أحوالها وتلوينات عوالمها وأمزجتها وتحولاتها ..إنها الكتابة الحالمة والمتقصدة في واقعها رغبة وإفصاحا و تشوفا...
والكتابة الأدبية، والتي نخص منها هنا الكتابة الابداعية وتحديدا الرواية، هي في هذه المناخات المعلومة زائد توقها إلى إبداعية مخصوصة تتطلبها استحقاقاتها الجمالية كجنس له ما يميزه كثيرا من شحنات السردية العالية والتي يتقبلها المتلقي على اختلاف درجات وعيه وثقافته باعتبار ما توفره له من سحر وبهاء في التناول والتعاطي سواء كان ذلك في لباسها الواقعي أو الوثائقي أو الكلاسيكي أو السيرذاتي أو الخيال علمي ...أو "الفانتاستيكي" ...و هكذا.
و لعل الرواية العربية التي هي حديثة كجنس أدبي فاق القرن على انبعاثه كأدب له فنياته قد مرت بمراحل متعددة لنشهد وإلى الآن تنوعا وتطورا في هذا النشاط الروائي نشرا وترجمة وبروزا للجوائز المهمة التي زادت من نسب نشرها وانتشارها حتى خيل للبعض بأنها حلت محل ديوان العرب الشعري في ترتيب أدبي متداول منذ القدم وهو أن الشعر ديوان العرب...
إلا أن هذا الفن الروائي شهد خاصة في السنوات الأخيرة و مع تصاعد وتيرة النشر بفعل الجوائز العربية والدولية تراجعا من حيث الجانب العميق والأصيل في الأسلوب وفي صياغة الأحداث وابتكار التيمات وما يسمى بفكرة الرواية ومسارات سردها وغلبت على عديد الروايات المنجزة حالات من التسرع والافتعال واللعب على اتجاهات واشتراطات الجوائز والمؤسسات المانحة لها وعلى غرار السينما تماما صارت الرواية بعيدة بل انحرفت عن بيئتها فكأننا أمام نصوص مبتورة وغريبة عن ذاتها ولا تمنحنا نحن نعالجها بالقراءة غير هذه النزعات المنبتة بدعوى العالمية وما إلى ذلك ولم يبق من تسميتها الروائية غير السرد ..إنها افتعالات وانفعالات متسرعة فقط..صحيح أن الكتابة تتطلب الانفعال و لكن لا بد لهذا الانفعال من أسس وتركيز جمالي في النص ومتعة شاملة تماما كالشعر..إن الرواية الحق هي التي تسرد أحوالها من شخصيات وأزمنة وأمكنة وتعقيدات وانتظارات وفق سحر بين الجمال...و ما إلى ذلك في عمق و وعي سردي جمالي فائق وبهاء كامن في عناصرها المذكورة بعيدا عن الافتعال المكشوف...وكل ذلك جميل أن يتوفر أيضا في شعرية هي صميم وجوهر العمل الروائي..
هذا كله ..وغيره، ولا نروم هنا التفصيل أكثر..يقودنا إلى محاولات البعض من الكتاب في مجال الرواية إلى تمثل طبيعتها كفن سردي والسعي للمضي في أرضها ضربا و تخييلا وكتابة ولكن بنوايا مختلفة مهمة للخروج عن المألوف والمعتاد من تعاطي بعض كتاب الرواية معه وذلك قولا بأن الإبداع في الكتابة الروائية هو شأن خاص و يكون خارج القطيع باعتبار روح المغامرة المعنية بها الكتابة الأدبية بصفة عامة ومنها الرواية .
من ضمن هذه المحاولات الجادة التي أخذتنا طوعا وكرها إلى ما لمسناه فيها من سعي ورغبة في الخروج ونزوع نحو المبتكر وفق الواقعي والمربك فيه والمشير إلى ممكنات متخيلة بحسب الكاتب عبر استقرائه للأحوال في التاريخ والأحداث والأرقام ليكون كل هذا في سياق من شعرية النظر وغرائبية في التعاطي وذهاب في اتجاهات شتى يمتزج فيها الواقعي بالسياسي بالاجتماعي في تلوينات من الخيال والعلم والفنتازيا...وهكذا...
ونعني هنا رواية الشاعر والكاتب الهادي جابالله الصادرة مؤخرا عن دار عليسة للنشر والتوزيع وعنوانها "رواية "2160 " ..
في هذه الرواية يمضي الكاتب تجاه قارئه المهموم بأسئلة العالم في عقوده الأخيرة في تشوف نحو ممكنات حافة هي من قبيل القراءة التاريخية والعلمية لما حدث من تحولات وأحداث كبرى ليقول من خلالها بطبيعة الما يحدث ووحشيته لدى الكائن والطبيعة في سياق إدانة بينة للإنسان ..هذا الإنسان..إنسان هذه الأزمنة والمخاطر والممارسات التي تنسبها هذه الرواية اليه في مجالات الحياة بين السياسي والاجتماعي والحضاري عموما حيث أبرز هنا هذه الجناية على كل ما هو جميل وطبيعي ونعني الطبيعة بشكل عام..
يذهب الكاتب الهادي جاب الله هنا في روايته ووفق رمزية تخيرها إلى مسافات زمنية لحوالي قرن ونصف ليقول وفق العنوان الدال ودون تفصيل أو تفسير "2160" تاركا هذه العتبة بدلالاتها إلى القارئ الذي يعيش زمنه هذا ويتوغل في تفاصيل الرواية وشخصياتها وأحداثها فالمجال شاسع ليوائم بين الواقعي والخيالي وقد عايش جانبا مهما من تفاصيل واردة في هذا العمل السردي الذي يرمي من ورائه الهادي جاء بالله إلى محاولة الخلخلة في مستوى القيمة والنوع الكتابي بعيدا عن الاجترار والمسايرة لما يكتب فقد كانت رغبته بينة في الخروج عن المكتوب الروائي بروح فيها من مغامرات الكتابة الشعرية الكثير والموضوع المتعاطى معه من ذلك بساطة الحكاية المتخيلة والمبتكرة وشخصياتها وإطار حواراتها وحكاياتها وأحلامها وذاكراتها لتشمل تنوعا في الشكل والخطاب وهنا نشير إلى ما وقفت عنده الكاتبة والناقدة نور الهدى باديس تجاه الرواية قائلة بأنها "مختلفة عن السائد يحتار قارؤها في تصنيفها من حيث توارد الأشكال والأجناس الخطابية .."
كم من المعلومات والمعطيات والاحصائيات العلمية تزخر بها الرواية ويحسن مؤلفها استثمارها في كل مرة حيث يقدم لشخصياته وحكاياتهم المراوحة بين الواقعية والعجائبية وما هو علمي وانساني فالعالم يقبل على متغيرات رهيبة وبحسب الكاتب جاب الله وتبدلات عميقة هي من جوهر تعاطي انسانه ( انسان هذا العالم ) مع واقعه وأحواله يذهب به كل ذلك نحو الآلة بعيدا عن الحالة تجاه واقع الروبوت والبرمجيات بمختلف تفاصيلها وأدواتها وتمظهراتها..والكاتب هنا و هو يسرد صفحاته الـ 138 انطلاقا من كلمات هي " ماذا تعني لي عصارات الأسئلة ومعانيها والإجابات حول كل ما يدور برأسي و رؤوس الآخرين أشباهي الذين ينتسبون إلى الكائنات البشرية..." انتهاء إلى "وبهذه الكلمات" بالصفحة 138 "...غير أنهم صنفوها ضمن الوثيقة (إنها مدرجة في الخانة العجائبية التي تطرأ على كوكب الأرض ) وسماها آخرون ( انها نزر قليل من رائحة الأبدية زارت الأرض في لحظة خاطفة و فارقته قبل أن تعود أدراجها إلى مناخاتها الأصلية)...فانه يفصح عن شواسع الحيرة والأسئلة والقلق الناجم عن هذا الذي يدور بخلد الإنسان المتجه إلى أزمنة 2160 كما أرادت الرواية في نهجها السردي الذي تضمنته وهو يعايش كما من الأحداث الدالة والأرقام المفزعة حيث الانطلاق من عوالم البيئة والمتغيرات المناخية في كل صلة بالإنسان المعاصر فـ"خالد" من شخصيات الرواية و هو رجل 170 سنة يأخذنا إلى كون الأسئلة في رواية 2160 ومنها مثلا : ماذا تعني الحقيقة بالنسبة إلي، مقارنة بهذا الرصيد الضخم للبشرية وأفعالها التي تأسست منذ أول ظهور للإنسان المفكر قبل ملايين السنين أسئلة تفضي إلى أسئلة أخرى تعري شيئا من حقيقة الواقع لتدين بعضه وتتنوع بتنوع شخصيات الرواية في أسلوب يمزج بين الخيال العلمي والواقعي والطريف في نسيج درامي قدام زمن "2160" الذي يشهد تغيرا في الحياة وتفاصيلها كغيرها من أحداث قديمة عبر العصور وفق ما ذكره الكاتب بناء على تحولات شتى وتداعيات مربكة و منها حدوث "الكارثة الكبرى" بمدينة "رودة" ويأخذنا جاب الله وبحسب سرديته هذه إلى ما يقوله مثلا : …) لقد أكدت مخابر العلوم الطبية منذ النصف الأول للقرن التالي للحادثة أن إفرازات الحادثة الكبرى الانفجارية في أجزاء مهمة من شمال الكرة الأرضية تمثلت في مادة نتجت من جراء التفاعل الكبير الذي تداخل وفقه الفضاء الخارجي وجزء من باطن الأرض وعمق البحار. هذا التداخل العجيب أنتج مناخا هوائيا جديدا احتوى على مادة جديدة توسطت "الإيدروجان والأكسيجان" وهي المادة التي استنشقتها الكائنات التي بقيت على قيد الحياة والتي كانت مادة وراء تغيير كلي لجسم الإنسان وغرائزه ومذاقاته وجسر حياته المفترض..)
هي فكرة الكاتب ضمن لعبة السرد والأزمنة الغابرة والراهنة والمقبلة ليقول بهذا الانسان المأزوم الذي يعيش حال و وضع الضحية ولما نجم عنه وعن سابقيه من تعد على الطبيعة ليعايش بالتالي وبالنتيجة مآلات الصنيع والسلوك ولكل ذلك ارتداداته و منها الأمراض والمآسي والأوبئة والكوارث ...انه العجز حيث يقف الإنسان حائرا أمام الكوارث والأرقام والتقنية ...لينعدم المعنى والإحساس وما هو رمزي و قيمي...
و أمام كل حالات التدهور والفراغ لم تعد تنفع المكتشفات ومنها دواء "السال سال" ففي هذه السردية ورمزيتها العالية يأخذنا إلى الفكرة وهي الإنسان في أزمنته بين الحالة والآلة..بين الوردة والسكين...
أسئلة حافلة بسردية ممتعة تذهب إلى الجوهر والكنه وما في أعماق الانسان خوفا عليه ومنه ومن أن يناله الانقراض والاندثار لفعله المشين المنكل بالطبيعة في إحالة إلى الانقراضات بكوكب الأرض: انقراض العصر الأردوفيسي وانقراض الديفوني المتأخر وانقراض العصر البرمي المتوسط والمتأخر وانقراض العصر الترياسي المتأخر..الروائي والشاعر الهادي جاب الله في هذا العمل السردي لم يعنه حجم الرواية ليكتفي بحوالي 140 صفحة ايمانا منه بكون الكتابة ليست بالكم بل بالفكرة والجوهر وذلك قطعا مع الموضة الوافدة من حيث الروايات ذات مئات الصفحات أيضا هو كتب رواية بقلق مخصوص هو قلق الشعر والشعراء ليضع كل ذلك في اطار جامع لشخصيات وأسماء تبدو غير نمطية على غرار روايات أخرى دارجة وهذه من لعب الشعر والكتابة الشعرية التي تذهب في ثنايا البحث والسعي للابتكار والخروج عن الطرقات الآمنة والمطمئنة.. مناطق الرعب على عبارة الدكتور محمد لطفي اليوسفي..
كذلك التعاطي الذي انتهجه الكاتب في هذه الرواية مع ما هو من الأحداث السياسية والاجتماعية حيث ابتعد عن المباشراتية ليرصد فقط ما تناغم مع نهجه الروائي وبذكاء السارد والكاتب.. وجملة عناصر لم نأت عليها جعلت من رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله محاولة نحو الخصوصية والجدية في النظر والوعي والتخييل ضمن الكتابة الروائية الراهنة في تونس فغنم الكاتب عموما والمسكون بهاجس الابداع خصوصا هو السير في نهج فني أدبي مختلف ترنو فيه الذات الكاتبة الحالمة القلقة الى الامتاع والاشباع وهي تواجه قارئها.. قارئها الشغوف بالجديد..وما هو متجدد مستفز ومربك ومحير ولكن في غير تكلف وافتعال..
ان الكتابة حية تتطلب النظر بعين القلب لا بعين الوجه حيث الحواس والعناصر والأشياء في تمام يقظتها ووعيها بالعالم وبالإنسان وبما هو بينهما من أحوال. والكتابة هنا وفي رواية الحال التي نحن بصددها أبانت عن تزاحم أسئلة عند السارد في متن"2160" وهي أسئلة باعثة على القلق ودالة علية حيث الاشارة الى صعوبة الامساك بهذا الواقع المتحرك عند الانسان للنأي به عن عواقبه الوخيمة ولكن قدر الانسان هو السيطرة على ذلك حفاظا على طبعته وطبيعة الأشياء والحياة قتلا للتوحش وما به ومعه وفيه ينتهي الانسان الى رقم ..الىمجرد أرقام بلا روح وهوية وذات.. رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله هي سفر سردي يروم الاختلاف قولا بالانسان وهو ينتصر للحالة...لا للآلة.
سرد بمثابة القراءة التاريخية والعلمية لما حدث من تحولات وأحداث كبرى في إدانة بينة للإنسان وعبثيته وتوحشه تجاه الطبيعة ..
شمس الدين العوني
تظل الكتابة عموما ومنها الكتابة الأدبية ذلك الفعل النبيل تجاه الذات والعالم وفق الوعي والرغبة في القول والإفصاح عن الدواخل حيث الفكرة المشيرة إلى الجمال الذي يكتب الكائنات والأشياء والعناصر والتفاصيل في تنوع أحوالها وتلوينات عوالمها وأمزجتها وتحولاتها ..إنها الكتابة الحالمة والمتقصدة في واقعها رغبة وإفصاحا و تشوفا...
والكتابة الأدبية، والتي نخص منها هنا الكتابة الابداعية وتحديدا الرواية، هي في هذه المناخات المعلومة زائد توقها إلى إبداعية مخصوصة تتطلبها استحقاقاتها الجمالية كجنس له ما يميزه كثيرا من شحنات السردية العالية والتي يتقبلها المتلقي على اختلاف درجات وعيه وثقافته باعتبار ما توفره له من سحر وبهاء في التناول والتعاطي سواء كان ذلك في لباسها الواقعي أو الوثائقي أو الكلاسيكي أو السيرذاتي أو الخيال علمي ...أو "الفانتاستيكي" ...و هكذا.
و لعل الرواية العربية التي هي حديثة كجنس أدبي فاق القرن على انبعاثه كأدب له فنياته قد مرت بمراحل متعددة لنشهد وإلى الآن تنوعا وتطورا في هذا النشاط الروائي نشرا وترجمة وبروزا للجوائز المهمة التي زادت من نسب نشرها وانتشارها حتى خيل للبعض بأنها حلت محل ديوان العرب الشعري في ترتيب أدبي متداول منذ القدم وهو أن الشعر ديوان العرب...
إلا أن هذا الفن الروائي شهد خاصة في السنوات الأخيرة و مع تصاعد وتيرة النشر بفعل الجوائز العربية والدولية تراجعا من حيث الجانب العميق والأصيل في الأسلوب وفي صياغة الأحداث وابتكار التيمات وما يسمى بفكرة الرواية ومسارات سردها وغلبت على عديد الروايات المنجزة حالات من التسرع والافتعال واللعب على اتجاهات واشتراطات الجوائز والمؤسسات المانحة لها وعلى غرار السينما تماما صارت الرواية بعيدة بل انحرفت عن بيئتها فكأننا أمام نصوص مبتورة وغريبة عن ذاتها ولا تمنحنا نحن نعالجها بالقراءة غير هذه النزعات المنبتة بدعوى العالمية وما إلى ذلك ولم يبق من تسميتها الروائية غير السرد ..إنها افتعالات وانفعالات متسرعة فقط..صحيح أن الكتابة تتطلب الانفعال و لكن لا بد لهذا الانفعال من أسس وتركيز جمالي في النص ومتعة شاملة تماما كالشعر..إن الرواية الحق هي التي تسرد أحوالها من شخصيات وأزمنة وأمكنة وتعقيدات وانتظارات وفق سحر بين الجمال...و ما إلى ذلك في عمق و وعي سردي جمالي فائق وبهاء كامن في عناصرها المذكورة بعيدا عن الافتعال المكشوف...وكل ذلك جميل أن يتوفر أيضا في شعرية هي صميم وجوهر العمل الروائي..
هذا كله ..وغيره، ولا نروم هنا التفصيل أكثر..يقودنا إلى محاولات البعض من الكتاب في مجال الرواية إلى تمثل طبيعتها كفن سردي والسعي للمضي في أرضها ضربا و تخييلا وكتابة ولكن بنوايا مختلفة مهمة للخروج عن المألوف والمعتاد من تعاطي بعض كتاب الرواية معه وذلك قولا بأن الإبداع في الكتابة الروائية هو شأن خاص و يكون خارج القطيع باعتبار روح المغامرة المعنية بها الكتابة الأدبية بصفة عامة ومنها الرواية .
من ضمن هذه المحاولات الجادة التي أخذتنا طوعا وكرها إلى ما لمسناه فيها من سعي ورغبة في الخروج ونزوع نحو المبتكر وفق الواقعي والمربك فيه والمشير إلى ممكنات متخيلة بحسب الكاتب عبر استقرائه للأحوال في التاريخ والأحداث والأرقام ليكون كل هذا في سياق من شعرية النظر وغرائبية في التعاطي وذهاب في اتجاهات شتى يمتزج فيها الواقعي بالسياسي بالاجتماعي في تلوينات من الخيال والعلم والفنتازيا...وهكذا...
ونعني هنا رواية الشاعر والكاتب الهادي جابالله الصادرة مؤخرا عن دار عليسة للنشر والتوزيع وعنوانها "رواية "2160 " ..
في هذه الرواية يمضي الكاتب تجاه قارئه المهموم بأسئلة العالم في عقوده الأخيرة في تشوف نحو ممكنات حافة هي من قبيل القراءة التاريخية والعلمية لما حدث من تحولات وأحداث كبرى ليقول من خلالها بطبيعة الما يحدث ووحشيته لدى الكائن والطبيعة في سياق إدانة بينة للإنسان ..هذا الإنسان..إنسان هذه الأزمنة والمخاطر والممارسات التي تنسبها هذه الرواية اليه في مجالات الحياة بين السياسي والاجتماعي والحضاري عموما حيث أبرز هنا هذه الجناية على كل ما هو جميل وطبيعي ونعني الطبيعة بشكل عام..
يذهب الكاتب الهادي جاب الله هنا في روايته ووفق رمزية تخيرها إلى مسافات زمنية لحوالي قرن ونصف ليقول وفق العنوان الدال ودون تفصيل أو تفسير "2160" تاركا هذه العتبة بدلالاتها إلى القارئ الذي يعيش زمنه هذا ويتوغل في تفاصيل الرواية وشخصياتها وأحداثها فالمجال شاسع ليوائم بين الواقعي والخيالي وقد عايش جانبا مهما من تفاصيل واردة في هذا العمل السردي الذي يرمي من ورائه الهادي جاء بالله إلى محاولة الخلخلة في مستوى القيمة والنوع الكتابي بعيدا عن الاجترار والمسايرة لما يكتب فقد كانت رغبته بينة في الخروج عن المكتوب الروائي بروح فيها من مغامرات الكتابة الشعرية الكثير والموضوع المتعاطى معه من ذلك بساطة الحكاية المتخيلة والمبتكرة وشخصياتها وإطار حواراتها وحكاياتها وأحلامها وذاكراتها لتشمل تنوعا في الشكل والخطاب وهنا نشير إلى ما وقفت عنده الكاتبة والناقدة نور الهدى باديس تجاه الرواية قائلة بأنها "مختلفة عن السائد يحتار قارؤها في تصنيفها من حيث توارد الأشكال والأجناس الخطابية .."
كم من المعلومات والمعطيات والاحصائيات العلمية تزخر بها الرواية ويحسن مؤلفها استثمارها في كل مرة حيث يقدم لشخصياته وحكاياتهم المراوحة بين الواقعية والعجائبية وما هو علمي وانساني فالعالم يقبل على متغيرات رهيبة وبحسب الكاتب جاب الله وتبدلات عميقة هي من جوهر تعاطي انسانه ( انسان هذا العالم ) مع واقعه وأحواله يذهب به كل ذلك نحو الآلة بعيدا عن الحالة تجاه واقع الروبوت والبرمجيات بمختلف تفاصيلها وأدواتها وتمظهراتها..والكاتب هنا و هو يسرد صفحاته الـ 138 انطلاقا من كلمات هي " ماذا تعني لي عصارات الأسئلة ومعانيها والإجابات حول كل ما يدور برأسي و رؤوس الآخرين أشباهي الذين ينتسبون إلى الكائنات البشرية..." انتهاء إلى "وبهذه الكلمات" بالصفحة 138 "...غير أنهم صنفوها ضمن الوثيقة (إنها مدرجة في الخانة العجائبية التي تطرأ على كوكب الأرض ) وسماها آخرون ( انها نزر قليل من رائحة الأبدية زارت الأرض في لحظة خاطفة و فارقته قبل أن تعود أدراجها إلى مناخاتها الأصلية)...فانه يفصح عن شواسع الحيرة والأسئلة والقلق الناجم عن هذا الذي يدور بخلد الإنسان المتجه إلى أزمنة 2160 كما أرادت الرواية في نهجها السردي الذي تضمنته وهو يعايش كما من الأحداث الدالة والأرقام المفزعة حيث الانطلاق من عوالم البيئة والمتغيرات المناخية في كل صلة بالإنسان المعاصر فـ"خالد" من شخصيات الرواية و هو رجل 170 سنة يأخذنا إلى كون الأسئلة في رواية 2160 ومنها مثلا : ماذا تعني الحقيقة بالنسبة إلي، مقارنة بهذا الرصيد الضخم للبشرية وأفعالها التي تأسست منذ أول ظهور للإنسان المفكر قبل ملايين السنين أسئلة تفضي إلى أسئلة أخرى تعري شيئا من حقيقة الواقع لتدين بعضه وتتنوع بتنوع شخصيات الرواية في أسلوب يمزج بين الخيال العلمي والواقعي والطريف في نسيج درامي قدام زمن "2160" الذي يشهد تغيرا في الحياة وتفاصيلها كغيرها من أحداث قديمة عبر العصور وفق ما ذكره الكاتب بناء على تحولات شتى وتداعيات مربكة و منها حدوث "الكارثة الكبرى" بمدينة "رودة" ويأخذنا جاب الله وبحسب سرديته هذه إلى ما يقوله مثلا : …) لقد أكدت مخابر العلوم الطبية منذ النصف الأول للقرن التالي للحادثة أن إفرازات الحادثة الكبرى الانفجارية في أجزاء مهمة من شمال الكرة الأرضية تمثلت في مادة نتجت من جراء التفاعل الكبير الذي تداخل وفقه الفضاء الخارجي وجزء من باطن الأرض وعمق البحار. هذا التداخل العجيب أنتج مناخا هوائيا جديدا احتوى على مادة جديدة توسطت "الإيدروجان والأكسيجان" وهي المادة التي استنشقتها الكائنات التي بقيت على قيد الحياة والتي كانت مادة وراء تغيير كلي لجسم الإنسان وغرائزه ومذاقاته وجسر حياته المفترض..)
هي فكرة الكاتب ضمن لعبة السرد والأزمنة الغابرة والراهنة والمقبلة ليقول بهذا الانسان المأزوم الذي يعيش حال و وضع الضحية ولما نجم عنه وعن سابقيه من تعد على الطبيعة ليعايش بالتالي وبالنتيجة مآلات الصنيع والسلوك ولكل ذلك ارتداداته و منها الأمراض والمآسي والأوبئة والكوارث ...انه العجز حيث يقف الإنسان حائرا أمام الكوارث والأرقام والتقنية ...لينعدم المعنى والإحساس وما هو رمزي و قيمي...
و أمام كل حالات التدهور والفراغ لم تعد تنفع المكتشفات ومنها دواء "السال سال" ففي هذه السردية ورمزيتها العالية يأخذنا إلى الفكرة وهي الإنسان في أزمنته بين الحالة والآلة..بين الوردة والسكين...
أسئلة حافلة بسردية ممتعة تذهب إلى الجوهر والكنه وما في أعماق الانسان خوفا عليه ومنه ومن أن يناله الانقراض والاندثار لفعله المشين المنكل بالطبيعة في إحالة إلى الانقراضات بكوكب الأرض: انقراض العصر الأردوفيسي وانقراض الديفوني المتأخر وانقراض العصر البرمي المتوسط والمتأخر وانقراض العصر الترياسي المتأخر..الروائي والشاعر الهادي جاب الله في هذا العمل السردي لم يعنه حجم الرواية ليكتفي بحوالي 140 صفحة ايمانا منه بكون الكتابة ليست بالكم بل بالفكرة والجوهر وذلك قطعا مع الموضة الوافدة من حيث الروايات ذات مئات الصفحات أيضا هو كتب رواية بقلق مخصوص هو قلق الشعر والشعراء ليضع كل ذلك في اطار جامع لشخصيات وأسماء تبدو غير نمطية على غرار روايات أخرى دارجة وهذه من لعب الشعر والكتابة الشعرية التي تذهب في ثنايا البحث والسعي للابتكار والخروج عن الطرقات الآمنة والمطمئنة.. مناطق الرعب على عبارة الدكتور محمد لطفي اليوسفي..
كذلك التعاطي الذي انتهجه الكاتب في هذه الرواية مع ما هو من الأحداث السياسية والاجتماعية حيث ابتعد عن المباشراتية ليرصد فقط ما تناغم مع نهجه الروائي وبذكاء السارد والكاتب.. وجملة عناصر لم نأت عليها جعلت من رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله محاولة نحو الخصوصية والجدية في النظر والوعي والتخييل ضمن الكتابة الروائية الراهنة في تونس فغنم الكاتب عموما والمسكون بهاجس الابداع خصوصا هو السير في نهج فني أدبي مختلف ترنو فيه الذات الكاتبة الحالمة القلقة الى الامتاع والاشباع وهي تواجه قارئها.. قارئها الشغوف بالجديد..وما هو متجدد مستفز ومربك ومحير ولكن في غير تكلف وافتعال..
ان الكتابة حية تتطلب النظر بعين القلب لا بعين الوجه حيث الحواس والعناصر والأشياء في تمام يقظتها ووعيها بالعالم وبالإنسان وبما هو بينهما من أحوال. والكتابة هنا وفي رواية الحال التي نحن بصددها أبانت عن تزاحم أسئلة عند السارد في متن"2160" وهي أسئلة باعثة على القلق ودالة علية حيث الاشارة الى صعوبة الامساك بهذا الواقع المتحرك عند الانسان للنأي به عن عواقبه الوخيمة ولكن قدر الانسان هو السيطرة على ذلك حفاظا على طبعته وطبيعة الأشياء والحياة قتلا للتوحش وما به ومعه وفيه ينتهي الانسان الى رقم ..الىمجرد أرقام بلا روح وهوية وذات.. رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله هي سفر سردي يروم الاختلاف قولا بالانسان وهو ينتصر للحالة...لا للآلة.