إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تحويلات التونسيين بالخارج.. منوال تنموي جديد..

التحويلات المالية للمهاجرين حول العالم تعدّ المحرك الأبرز لعدد من الاقتصاديات

بقلم ريم بالخذيري

في ظل المتغيرات الحالية والمعطيات الواقعية التي تحكم الاقتصاد التونسي بات واضحا فشل مرتكزات المنوال الاقتصادي الذي لم يتغير منذ الاستقلال تقريبا والقائم على السياحة والفسفاط والنسيج . ويمكن القول انه استنفد كل طاقاته وبالتالي تراجع مخزون الدولة من العملة الصعبة ما أثّر على توريد الحاجيات الأساسية من القمح والقهوة والسكر وغيرها كما انه اثّر على فرصة التحصّل على قروض بالعملة الأجنبية .

ولوقت قريب وتحديدا ما قبل 2011 كانت السياحة في تونس أول مموّل للمالية العمومية من العملة الأجنبية وحتى المحلية حيث ساهمت مثلا في 2009 بأكثر من ملياري دينار وهو رقم يعدّ أكثر بكثير (باحتساب الفارق الزمني) من الرقم المسجل سنة 2023 والذي يفوق 4 المليار دينار.لكن الانكماش بدأ منذ 2011 خاصة مع تتالي العمليات الإرهابية في البلاد. ومع انحسارها بفضل المجهودات الأمنية الجبارة بين 2016 و2018 تلقى القطاع السياحي انتكاسة أخرى بعد التعافي النسبي في 2019 بسبب جائحة كورونا ليتأثر الاقتصاد برمته و يصل المخزون من العملة الأجنبية الى أدنى مستويات ب89 يوم توريد في 2020 بالتوازي مع تأثر الصادرات التقليدية الأخرى .

وخلال الفترة المذكورة كان للتونسيين بالخارج الدور الكبير في إنقاذ الاقتصاد التونسي عبر التحويلات المالية التي عوّضت الجزء الكبير من النقص في العملة الأجنبية وكذلك عبر المساعدات المباشرة للمستشفيات والمدارس .

ومع التضييق الممنهج على تونس في الحصول على قروض أجنبية وهبات بسبب خط السيادة الوطنية الذي برز كخيار سياسي ولاقى إجماعا شعبيا حوله لم تجد البلاد سوى أبناء البلد لإنعاش المالية العمومية فكانت هذه التحويلات خير معين وأفضل حل وتمكنت من تغطية ما كانت عائدات السياحة تغطيه خاصة فيما يخص تسديد القروض بالعملة الأجنبية .

منوال تنموي جديد

تعدّ تحويلات التونسيين بالخارج اليوم المصدر الأول من مخزون تونس من العملة الأجنبية. فقد تجاوزت هذه التحويلات 7 مليار دينار في 2023 . وغطت 65% من الدين الخارجي وساهمت في زيادة مدخرات البلاد من النقد الأجنبي.كما يتم ضخ مبلغ مثله كاستثمارات ومصاريف لعمالنا بالخارج خلال عودتهم النهائية أو قضاء عطلهم ببلادهم.

فقد بلغت هذه التحويلات إلى حدود 31 مارس 2024 ما يناهز 1810 مليون دينار مقابل 1738 مليون دينار في ذات التاريخ من سنة 2023.

وقد ساهمت هذه التحويلات الى جانب المداخيل السياحية التي بلغت 1225,8 مليون دينار في موفى مارس 2024 في دعم مدخرات تونس من العملة الصعبة التي تجاوزت نهاية الأسبوع الماضي 23 مليار دينار ما يعادل حوالي 106 أيام من التوريد.

غير أن ما يعيق الاستغلال الأمثل لهذه الأموال وتحويلها الى منوال تنموي جديد هو أن أغلبها يصرف في الاستهلاك اليومي وجلّها مساعدات عائلية لا يتمّ استثمارها في خلق الثروة كما أن الدولة لم تنتبه الى ضرورة ابتكار أفكار جديدة لتطوير هذه التحويلات والاستفادة القصوى منها .

فعبر هذه الأموال يمكن الولوج إلى أسواق السندات الدولية عن طريق تحسين استمرارية القدرة على تحمل الديون والتصنيف الائتماني السيادي. كما يمكن استخدام إيرادات التحويلات حينما تتضاعف كضمان للاقتراض.

أما في تونس فيمكن الاستفادة من هذه الأموال ومضاعفتها واستعمالها في خيارات تنموية من خلال تشجيع المحوّلين على الاستثمار وتسهيل إنشاء المشاريع والمؤسسات الصغرى ولو عن بعد وهو ما يجب أن تأخذه بعين الاعتبار مجلة الاستثمار الجديدة المنتظرة. كما يجب أن تشتمل مجلة الصرف المنتظرة أيضا على حوافز حقيقية ورؤية لحسن توظيف هذه الأموال وإخراجها من طابعها الاستهلاكي البحت كما هو الحال اليوم. وسيكون من الأفضل تحسين بيئة الأعمال في تونس حتى تشجع المواطنين على اختيار استثمار الأموال التي يتلقونها من أقربائهم من خارج البلاد بدل اسثمارها في شراء العقارات والأراضي وهي مشاريع لا قيمة مضافة تذكر فيها.

صعوبات تحد من التحويلات

تحويلات التونسيين في الخارج بإمكانها أن تتضاعف بتظافر كل الجهود وتدخل من وزارتي الخارجية ووزارة المالية وتنقيح بعض قوانين الصرف والتحويل وفتح الحسابات البنكية .

حيث يعاني محوّلو الأموال من الخارج الى تونس من صعوبات كثيرة وأهمها غلاء المبالغ المفروضة على هذه التحويلات وكذلك عقود الشراكة بين شركات تحويل الأموال والبنوك الوطنية ومكاتب البريد. فمثلا المهاجر في فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية مطالب بدفع ما لا يقل عن 7٪ من المبلغ المرسل اضافة الى التعطيل المتعمّد أحيانا في تحويل الحوالات خاصة في المناسبات .

وتشير دراسات في الغرض الى أنه من شأن تخفيض تكلفة تحويلات العاملين في الخارج بمقدار 5% فقط الحد من التكاليف عالميا بنحو 30 مليار دولار سنويا.

كما انه بات من الضروري فتح مكاتب خاصة في السفارات والقنصليات تتابع هذه التحويلات وتعمل على تطويرها وخاصة في الدول التي تعرف بكثافة تواجد التونسيين فيها فمثل هذه الخطوة تجعل تدفق التحويلات أسهل وأكبر وتجعل فتح الشركات والمشاريع أكثر سهولة .

ومن الإجراءات المهمة أيضا :

 - التشجيع على مضاعفة هذه الأموال والتشجيع على التحويلات البنكية والمرونة في فتح الحسابات البنكية الشخصية والتجارية وادراتها رقميا .

- اخراج هذه الأموال من طابعها الاستهلاكي وتوظيفها في التنمية والاستثمار والاقتراض .

- تشجيع المهاجرين على الاستثمار في البلاد ومنحهم امتيازات خاصة .وذلك بتنظيم معرض سنوي في تونس يسلّط الضوء على الامتيازات الممنوحة أو التي ستمنح للمهاجرين للاستثمار في البلاد وحسن توظيف هذه الأموال.

المستقبل..والمحرّك

مما لاشكّ فيه ان التحويلات المالية للمهاجرين حول العالم تعدّ المحرك الأبرز لعدد من الاقتصاديات وهي مستقبل الاقتصاد للدول التي تعرف بكثافة المهاجرين فيها . ووفق إحصائيات رسمية سجلت التحويلات العالمية رقما قياسيا بلغ 647 مليار دولار في عام 2022 ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم المساعدات الإنمائية الخارجية. وتتجاوز قيمة التحويلات هذا الرقم بكثير لأن عددا كبيرا من الأشخاص يرسلون الأموال عبر قنوات غير رسمية لا ترصدها الإحصائيات المعتمدة. وهي بالطبع كما قلنا تحتل المرتبة الأولى في حجم العملة الأجنبية بتونس.

 

 

 

تحويلات التونسيين بالخارج.. منوال تنموي جديد..

التحويلات المالية للمهاجرين حول العالم تعدّ المحرك الأبرز لعدد من الاقتصاديات

بقلم ريم بالخذيري

في ظل المتغيرات الحالية والمعطيات الواقعية التي تحكم الاقتصاد التونسي بات واضحا فشل مرتكزات المنوال الاقتصادي الذي لم يتغير منذ الاستقلال تقريبا والقائم على السياحة والفسفاط والنسيج . ويمكن القول انه استنفد كل طاقاته وبالتالي تراجع مخزون الدولة من العملة الصعبة ما أثّر على توريد الحاجيات الأساسية من القمح والقهوة والسكر وغيرها كما انه اثّر على فرصة التحصّل على قروض بالعملة الأجنبية .

ولوقت قريب وتحديدا ما قبل 2011 كانت السياحة في تونس أول مموّل للمالية العمومية من العملة الأجنبية وحتى المحلية حيث ساهمت مثلا في 2009 بأكثر من ملياري دينار وهو رقم يعدّ أكثر بكثير (باحتساب الفارق الزمني) من الرقم المسجل سنة 2023 والذي يفوق 4 المليار دينار.لكن الانكماش بدأ منذ 2011 خاصة مع تتالي العمليات الإرهابية في البلاد. ومع انحسارها بفضل المجهودات الأمنية الجبارة بين 2016 و2018 تلقى القطاع السياحي انتكاسة أخرى بعد التعافي النسبي في 2019 بسبب جائحة كورونا ليتأثر الاقتصاد برمته و يصل المخزون من العملة الأجنبية الى أدنى مستويات ب89 يوم توريد في 2020 بالتوازي مع تأثر الصادرات التقليدية الأخرى .

وخلال الفترة المذكورة كان للتونسيين بالخارج الدور الكبير في إنقاذ الاقتصاد التونسي عبر التحويلات المالية التي عوّضت الجزء الكبير من النقص في العملة الأجنبية وكذلك عبر المساعدات المباشرة للمستشفيات والمدارس .

ومع التضييق الممنهج على تونس في الحصول على قروض أجنبية وهبات بسبب خط السيادة الوطنية الذي برز كخيار سياسي ولاقى إجماعا شعبيا حوله لم تجد البلاد سوى أبناء البلد لإنعاش المالية العمومية فكانت هذه التحويلات خير معين وأفضل حل وتمكنت من تغطية ما كانت عائدات السياحة تغطيه خاصة فيما يخص تسديد القروض بالعملة الأجنبية .

منوال تنموي جديد

تعدّ تحويلات التونسيين بالخارج اليوم المصدر الأول من مخزون تونس من العملة الأجنبية. فقد تجاوزت هذه التحويلات 7 مليار دينار في 2023 . وغطت 65% من الدين الخارجي وساهمت في زيادة مدخرات البلاد من النقد الأجنبي.كما يتم ضخ مبلغ مثله كاستثمارات ومصاريف لعمالنا بالخارج خلال عودتهم النهائية أو قضاء عطلهم ببلادهم.

فقد بلغت هذه التحويلات إلى حدود 31 مارس 2024 ما يناهز 1810 مليون دينار مقابل 1738 مليون دينار في ذات التاريخ من سنة 2023.

وقد ساهمت هذه التحويلات الى جانب المداخيل السياحية التي بلغت 1225,8 مليون دينار في موفى مارس 2024 في دعم مدخرات تونس من العملة الصعبة التي تجاوزت نهاية الأسبوع الماضي 23 مليار دينار ما يعادل حوالي 106 أيام من التوريد.

غير أن ما يعيق الاستغلال الأمثل لهذه الأموال وتحويلها الى منوال تنموي جديد هو أن أغلبها يصرف في الاستهلاك اليومي وجلّها مساعدات عائلية لا يتمّ استثمارها في خلق الثروة كما أن الدولة لم تنتبه الى ضرورة ابتكار أفكار جديدة لتطوير هذه التحويلات والاستفادة القصوى منها .

فعبر هذه الأموال يمكن الولوج إلى أسواق السندات الدولية عن طريق تحسين استمرارية القدرة على تحمل الديون والتصنيف الائتماني السيادي. كما يمكن استخدام إيرادات التحويلات حينما تتضاعف كضمان للاقتراض.

أما في تونس فيمكن الاستفادة من هذه الأموال ومضاعفتها واستعمالها في خيارات تنموية من خلال تشجيع المحوّلين على الاستثمار وتسهيل إنشاء المشاريع والمؤسسات الصغرى ولو عن بعد وهو ما يجب أن تأخذه بعين الاعتبار مجلة الاستثمار الجديدة المنتظرة. كما يجب أن تشتمل مجلة الصرف المنتظرة أيضا على حوافز حقيقية ورؤية لحسن توظيف هذه الأموال وإخراجها من طابعها الاستهلاكي البحت كما هو الحال اليوم. وسيكون من الأفضل تحسين بيئة الأعمال في تونس حتى تشجع المواطنين على اختيار استثمار الأموال التي يتلقونها من أقربائهم من خارج البلاد بدل اسثمارها في شراء العقارات والأراضي وهي مشاريع لا قيمة مضافة تذكر فيها.

صعوبات تحد من التحويلات

تحويلات التونسيين في الخارج بإمكانها أن تتضاعف بتظافر كل الجهود وتدخل من وزارتي الخارجية ووزارة المالية وتنقيح بعض قوانين الصرف والتحويل وفتح الحسابات البنكية .

حيث يعاني محوّلو الأموال من الخارج الى تونس من صعوبات كثيرة وأهمها غلاء المبالغ المفروضة على هذه التحويلات وكذلك عقود الشراكة بين شركات تحويل الأموال والبنوك الوطنية ومكاتب البريد. فمثلا المهاجر في فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية مطالب بدفع ما لا يقل عن 7٪ من المبلغ المرسل اضافة الى التعطيل المتعمّد أحيانا في تحويل الحوالات خاصة في المناسبات .

وتشير دراسات في الغرض الى أنه من شأن تخفيض تكلفة تحويلات العاملين في الخارج بمقدار 5% فقط الحد من التكاليف عالميا بنحو 30 مليار دولار سنويا.

كما انه بات من الضروري فتح مكاتب خاصة في السفارات والقنصليات تتابع هذه التحويلات وتعمل على تطويرها وخاصة في الدول التي تعرف بكثافة تواجد التونسيين فيها فمثل هذه الخطوة تجعل تدفق التحويلات أسهل وأكبر وتجعل فتح الشركات والمشاريع أكثر سهولة .

ومن الإجراءات المهمة أيضا :

 - التشجيع على مضاعفة هذه الأموال والتشجيع على التحويلات البنكية والمرونة في فتح الحسابات البنكية الشخصية والتجارية وادراتها رقميا .

- اخراج هذه الأموال من طابعها الاستهلاكي وتوظيفها في التنمية والاستثمار والاقتراض .

- تشجيع المهاجرين على الاستثمار في البلاد ومنحهم امتيازات خاصة .وذلك بتنظيم معرض سنوي في تونس يسلّط الضوء على الامتيازات الممنوحة أو التي ستمنح للمهاجرين للاستثمار في البلاد وحسن توظيف هذه الأموال.

المستقبل..والمحرّك

مما لاشكّ فيه ان التحويلات المالية للمهاجرين حول العالم تعدّ المحرك الأبرز لعدد من الاقتصاديات وهي مستقبل الاقتصاد للدول التي تعرف بكثافة المهاجرين فيها . ووفق إحصائيات رسمية سجلت التحويلات العالمية رقما قياسيا بلغ 647 مليار دولار في عام 2022 ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم المساعدات الإنمائية الخارجية. وتتجاوز قيمة التحويلات هذا الرقم بكثير لأن عددا كبيرا من الأشخاص يرسلون الأموال عبر قنوات غير رسمية لا ترصدها الإحصائيات المعتمدة. وهي بالطبع كما قلنا تحتل المرتبة الأولى في حجم العملة الأجنبية بتونس.

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews