لا يمكن الحديث عن الكتابة السردية في تونس دون التوقف عند مسيرة الكاتب الروائي إبراهيم الدرغوثي الذي كان صوتا ثائرا متمردا متفردا في هذه المسيرة ... فقد كان صاحب المبادرات الاستثنائية التي جعلت من كتاباته القصصية والروائية رافدا جديدا في المدونة الأدبية التونسية مضامين و أفكاراواسلوبا وقضايا تتحدث بلغة الصدق والبحث والتساؤل والصراحة الى حد الجرح في كل ما يشغل الانسان اليوم بأسلوب سلس ممتع
سعى واجتهد وتفرد إبراهيم الدرغوثي في كتاباته السردية الى استنطاق الأبجدية والذات والوجود، فكان حضوره باهرا وكبيرا في المكتبة العربية من خلال ما صاغه من روايات وقصص المتميّزة ولا غرابة ان تتم ترجمة إبداعاته إلى أكثر من لغة ولاقت مدونته السردية اهتماما كبيرا دراسة وتحليلا واستقراء من النقاد وأساتذة الجامعة داخل وخارج تونس...
انه قدر مبدع نذر جهده للكتابة السردية التي فيها جهد وبحث متجاوزا متمردا على الأساليب التقليدية مبشرا بكتابة جديدة تستشرف المستقبل دون القطيعة مع الماضي
**كانت لك تجربة مع الوزير الراحل احمد بن صالح غيرت مجرى حياتك هل كان من الممكن أن لا تكون مبدعا أدبيا لولا هذه التجربة؟
- شكرا على هذا السؤال المهم الذي سنبدأ به هذه المحاورة. نعم لولا المرحوم أحمد بن صالح لكنت نسيا منسيا ولتغيرت حياتي رأسا على عقب فبفضله عدت إلى التّمدْرس وواصلت تعليمي الثانوي ثم انتسبت إلى مدرسة ترشيح المعلمين بتونس العاصمة.
لقد أعاد أحمد بن صالح وقتها -وكان وزيرا للتربية-امتحان " السيزيام " للمرة الأولى في تاريخ التعليم الابتدائي فنجحت في دورة التدارك تلك سنة 1968 على ما أذكر. ولولاه لكنت غادرت المدرسة لضيق ذات اليد بالنسبة للوالد عليه رحمة الله الذي كان سندي وأصر على مواصلة تعليمي رغم أميته .ولولا المرحوم أحمد بن صالح لصرت " خماسا" في واحد من بساتين النخيل بالجريد أولا ثم التحقت بمنجم من مناجم الفسفاط بقفصة عاملا داخل دواميس الفسفاط عند بلوغ سن العمل بتلك المناجم.
ولكن للأقدار تصاريفها والحمد لله على كل حال أولا، وثانيا لذلك الوزير المصلح الذي غيّر كثيرا من مصائر البشر في تونس.
**كانت لك تجربة مع الشعر ثم سرعان ما تغير الاتجاه إلى الكتابة السردية ما هي دوافع هذا التغيير؟
-بدأت كتابة الشعر في نفس الفترة التي كتبت فيها القصة القصيرة وأنا في سن الخامسة عشرة، تلميذا في مدرسة ترشيح المعلمين بتونس. وككثير من أبناء جيلي كنت منجذبا إلى الكتابة الشعرية . ولكن الحقيقة أقول الآن فقد قادني إلى الشعر حب مجنون ومن جانب واحد إلى فتاة جميلة كنت ألتقيها في دكان أحد الأقارب كان يبيع فيه الخضر والغلال في حي المنزه فانبهرت بجمالها وفتنت بها وكان أن قلت فيها قصيدة مطلعها: لا تلمني يا فؤادي إن شكوت* واعذريني يا عيوني إن بكيت / كلما لاح محياها البديع * صاح قلبي في خشوع ما جنيت. والقصيدة طويلة. عندما اطلع عليها رفاق الدرس هللوا وكبروا ونصبوني شاعرا على فصلهم مما شجعني على مواصلة كتابة الشعر حتى تخرجت من الدراسة وذهبت للعمل معلما في مدينة أم العرائس المنجمية. هناك التقيت بفرقة " أولاد المناجم " الموسيقية التي كانت تغني للعمال والفلاحين. وكنت وقتها قد تبينّت الفكر الماركسي / اللينيني وانتسبت إلى جمعية شيوعية ( العامل التونسي / الخط الثوري ) فوجدت هناك ضالتي وغيرت من نمط القصائد وصرت أكتب الشعر الثوري الذي يناسب مرحلة الجهاد ضد الرجعية والامبريالية ويتغنى بنضالات الطبقة الشغيلة . وواصلت في هذا الخط حتى اكتشفت أن جُبّة الشعر ما عادت تكفي لقولي فتحوّلت لكتابة القصة القصيرة منذ سنة 1988 حيث نشرت مجموعتي القصصية الأولى " النخل يموت واقفا " ثم الرواية سنة 1992 عندما نشرت روايتي الأولى " الدراويش يعودون إلى المنفى ". وتوالى الحال إلى الآن في مراوحة بين القصة والرواية . ولكن الشعر لم يغب عن ذائقتي الإبداعية فقط اكتفى بالبعض بين أسطر رواياتي وقصصي.
**يرى النقاد في كتاباتك السردية تمردا وتجاوزا للأساليب المتعارف عليها في الكتابة وطريقة الحكي ...هل في ذلك رفض لكل ما هو متداول؟
-قلت مرة في حوار سابق: "حين تكتب قدّم الإضافة أو لتصمت" . وهكذا فعلت. أردت أن أقدم الإضافة للنص السردي العربي قصة ورواية من خلال تجديد الكتابة السردية والخروج بها من الرتابة التي سادت ردحا من الزمن في النصوص الإبداعية العربية منذ أن اكتشف الكتاب العرب القصة والرواية الغربية في بدايات القرن العشرين فساروا على خطى الكتاب الغربيين في شكل ومضمون هذه الكتابة السردية وفي موضوعاتها أيضا . كما حاولت الانفتاح على المحظورات( الدين والجنس والسياسة ) التي كان الكاتب العربي يخاف كثيرا من الاقتراب منها ويهاب تناولها في مواضيع إبداعه . وقد حاولت استعادة التراث السردي العربي القديم وإعادة توظيفه في نصوص حداثية ( ولعل المقامة والخبر من هذه الأشكال القريبة من السرديات الحديثة التي في مقدور كاتب اليوم استعادتها لكتابة نص حداثي يقطع مع سرديات الغرب ويقدم دما جديدا للإبداع العالمي في نفس الوقت.
**في اغلب رواياتك تمزج بين الغرائبي والعجائبي والتاريخ. ماذا وراء هذا التوجه؟
-الرواية إبداع منفتح على كل الفنون . قال عنها الناقد الفذ محمد القاضي " هي نص امبريالي " هاتك فاتك لا يبقي ولا يذر. فهي قادرة على استيعاب كل إشكال الكتابة قديمهاوحديثها.وهي عابرة للأجناس، على رأس المبدع المصري ادوار الخراط . لذلك في مقدور الكاتب الحصيف أن يطوّعها لتستوعب الواقعي كحال السرديات التي سادت الساحة العربية قديما والعجائبي والغرائبي الذي اكتشفه كتاب أمريكا اللاتينية مند غبريال غارسياماركيز. والأغرب أن هذا الشكل من الإبداع العجائبي هي بضاعتنا التي ردت إلينا . فقد اكتشفها كتاب الغرب من خلال نصوص الليالي العربية " ألف ليلة وليلة " فحوّلوها إلى إبداع جديد في الرواية الحديثة . ومن هناك عاد إلينا هذا الشكل الفني في الكتابة الذي يتماشى كثيرا مع ما تعيشه أوطاننا ومجتمعاتنا العربية خاصة في الوقت الحالي حيث يتحوّل واقعنا إلى شكل من أشكال الفنتازيا شبيه بغرائب وعجائب الدنيا التي قرأنا عنها في خرافات الأجداد.
**كيف تفسر لنا هذا التماهي في كتاباتك السردية مع التجريب والتحليق خارج السرب؟
-لم تقنعني الواقعية الاجتماعية في نقل الواقع إلى الإبداع القصصي وأغرمت في وقت من الأوقات بالواقعية الاشتراكية لأنني اقتربت من أحوال العمال والفلاحين والطبقة العاملة بصورة عامة ولكنني وجدت أنها قاصرة على تبليغ رسالتي فاخترت التجريب لأن فيه مراوحة بين الواقع وما وراء الواقع le surréel )) أو ما أسميناه بالسوريالية في نقدنا الإبداعي. هناك في مقدورك أن تخلق عوالمك الإبداعية بكل حرية وتحلّق خارج الزمان والمكان وتبدع النص الذي يتشكل في مخيالك على هواك بعيدا عن اكراهات الواقع وشروطه.
**من وجهة نظرك هل من الضروري العودة إلى حضن التراث لخلق عوالم سردية مدهشة ؟
-لقد أهملنا تراثنا السردي العربي الذي تراكم على مر الأجيال منذ ما قبل الإسلام ( الخبر ) إلى العصور الوسيطة ( المقامات ) فتلقف الغرب هذا التراث وخاصة من حيث الأساليب والمحتوى ( الغريب والعجيب)وخسرنا ريادة استعادته ولم نستثمره في إبداعاتنا الحديثة كما يجب الاستثمار. ولئن بادر بعض الكتاب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى استعادة أسلوب المقامة في كتابتهم إلاّ أنّ هذه التجربة أجهضت بسرعة ولم يكتب لها الدوام نظرا لسطوة أسلوب الكتابة الغربية في السرديات، وما عادت تظهر إلا لماما . وقد جربت شكل المقامة في واحدة من رواياتي الأخيرة ( كلاب الجحيم ) وسأواصل التجربة في نصوص قادمة لما لها من تفرّد أسلوبي قادر على خلق إبداع جديد في إمكانه إن يقدم الإضافة للسرديات الحديثة عامة والرواية بصورة أخص.
** هل للحرية حدود في النص الإبداعي؟
-بدون حرية لا يكون إبداع. فالحرية هي الباب الذي يلج منه الكاتب لانجاز نصه دون أن يخاف سطوة الرقيب الذاتي أولا ثم الرقيب القانوني ثانيا . فنحن نعيش في مجتمع الممنوعات وما أكثرها. فهي التي تتنوّع من ممنوع ديني إلى ممنوع جنسي وخاصة الممنوع السياسي والكل يقمع روح الإبداع فينا ولا يترك لنا فرصة لأن نعبّر عن ذواتنا أو مجتمعاتنا بالحرية المشتهاة. ومن هنا يصبح من واجبنا المروق على هذا القمع للتعبير بحرية مطلقة لا حدّ لها إلا جودة النص الذي نكتبه.
**من هو القارئ الذي يتوجه إليه إبراهيم درغوثي في كتاباته السردية؟
-أسعى دائما وراء قارئ يحترم إبداعي ويقرأه بعين العقل دون أن يفتش داخل أفكاري ومن أكون فالفيصل بيننا هو إبداع النص لا غير وله أن يستمتع بما أكتب أو فليكفر به، الأمر سيان عندي لأن كثرة القراء لا تعني لي شيئا بل جودة القراءة هي الفيصل والمحدد لأن في بعض الحالات يكون قارئ كألف ، وألف كأفّ.
**كيف ينظر اليوم إبراهيمدرغوثي إلى الكتابة السردية في تونس ؟
-أعتقد جازما أن السرديات في تونس تمر الآن بأزهى فتراتها كمّا وكيفا. فحين نتذكر أن أعداد الروايات المنشورة حتى أواخر سبعينات القرن الماضي كانت لا تتعدى أصابع اليد الواحدة نعجب لهذا الانفجار الكبير الذي ساد ساحة الإبداع التونسية منذ تسعينات القرن الماضي لا في عدد الدواوين الشعرية المنشورة فقط وإنما أيضا في عدد الروايات التي فاقت كل توقّع. وليس الأمر في العدد فقط وإنما في القيمة الفنية التي تضاهي بل قد تفوق مثيلاتها مما ينشر في ساحة الإبداع الروائي العربي.
لن أذكر الأسماء حتى لا أنسى من يستحق الذكر وإنما أقول في العموم أن عشرات الأسماء الروائية في تونس الآن تستحق التقدير والمتابعة
**ما مدى اهتمام القراءات النقدية للكتابات السردية في تونس وهل تراها قد أنصفت هذه الكتابات؟
-في خصوص المتابعة النقدية أنا أقول دائما إن على الكاتب أن يراكم تجربة إبداعية تستحق الاهتمام النقدي وحينها فقط سيجري النقاد وراء هذا الإبداع.
وعلى كل المتابعة النقدية للرواية في تونس الآن مهمة جدا ولا أدل على ذلك من حضور الروايات التونسية بكثافة في البحوث الجامعية التي تهتم الآن بالسرد الروائي وكذلك الحال بالنسبة للمتابعات النقدية التي تواكب الملتقيات الأدبية أو تنشر على صفحات الجرائد والمجلات الأدبية.
**اتجهت إلى اليافعين في كتاباتك السردية من هو المحدد لمضامين هذه الكتابات ذات الطابع الخصوصي؟
-اهتممت بالكتابة للأطفال عموما وبرواية اليافعين بالأخص منذ سنوات قليلة لأنني أرى أن من واجب الكتاب الذين تمرسوا بالكتابة أن يلتفتوا لطفل اليوم الذي ما عاد ذلك الطفل الساذج الذي يكتفى بقصص جحا وأشعب وخرافات الأجداد وإنما هو طفل على تماس بالتكنولوجيا والعلوم الحديثة والقصص العصرية التي تنشر على وسائل الاتصالات الحديثة فصار من الواجب علينا أن نواكب هذا التطور وأن نتعامل مع أطفالنا بجدية تليق بمقامهم الفكري والتعليمي.
الكتابة للصغار والكبار صارت اليوم صناعة علينا أن نتقن مخرجاتها حتى نحافظ على أطفالنا ولا نتركهم يضيعون وسط هذه العوالم التي فتحت عليهم أبواب جهنم.
**لك خماسية استثنائية خاصة بالحوض المنجمي...أي جديد بخصوص هذه الخماسية الاستثنائية والأولى من نوعها في تونس؟
-هذه الخماسية هي حلم حياتي الذي أسعى إلى تحقيقه. وقد بدأت كتابته منذ ربع قرن أي بداية من سنة 1999 بروايتي " وراء السراب ... قليلا " ثم أنجزتبعدها نصي الثاني " كلاب الجحيم " فالثالث الذي صدر خلال هذا الشهر "صحائف الملائكة والشياطين " . وهي خماسية عن بلاد الحوض المنجمي أرضا وناسا منذ اكتشاف الفسفاط في جهة قفصة في نهايات القرن التاسع عشر حتى السنوات الأخيرة من بداية القرن الحادي والعشرين.
أتمنى أن يبقى في العمر متسعا لانجاز هذا العمل الإبداعي التاريخي وألا فليكمله بعدي من يجد في قلمه قدرة عليه
إبراهيم الدرغوثي.. من يكون؟
إبراهيم الدرغوثي من أبرز اعلام الرواية في تونس ... كاتب وناقد وصاحب أكثر من 15 عمل فني قصصي وروائي
يمتاز باسلوبه السردي والجدةوالطرافة في كتابة الروايات والقصص ويظهر اهتمامه بالتراث وقد نال بعد من الجوائز عن رواياته واعماله
*من رواياته على سبيل الذكر لا الحصر "الدّراويش يعودون إلى المنفى،""القيامة...الآن,"–"شبابيك منتصف الليل-"-"أسرار صاحب السّتر "–"مجرد لعبة حظ" -"وقائع ما جرى للمرأة ذات القبقاب الذهبي"
اما في القصة القصيرة فمن اعماله نذكر "النّخل يموت واقفا " - "الخبز المر"–"رجل محترم جدّا-"-"كأسك ...يا مطر"–"تحت سماء دافئة""- منازل الكلام" -"المرّ ... والصّبر"
*توج الكاتب الروائي إبراهيم الدرغوثي بالعديد من الجوائز الكبرى منها * - جائزة الطاهر الحدّاد في القصّة القصيرة 1989 - الكومار الذّهبي جائزة لجنة التّحكيم (1999) عن مجمل أعماله الرّوائية--الكومار الذّهبي لأفضل رواية تونسية 2003 عن رواية وراء السّراب قليلا- - جائزة المدينة للرّواية 2004 عن رواية مجرّد لعبة حظّ- -جائزة القدس الكبرى للقصة القصيرة / أبوظبي 2010
*وترجمت اعماله الى اكثر من لغة ومنها - الدّراويش يعودون إلى المنفى ( فرنسية) - شبابيك منتصف الليل ( فرنسية) - تفّاح الجنة ( قصّة قصيرة) ترجمة دنيس جونسون ديفز ( إنقليزية)
*كما برز إبراهيم الدرغوثي بترجمة عيدي المؤلفات منها -ديوان شعري لحارب الظاهري من الإمارات العربية المتحدة من العربية إلى الفرنسية . الدّيوان بعنوان شمس شفتيك le soleil de tes lèvres - ترجمة لمجموعة من قصائد الشّاعر الصّيني / دونغ هونغ . - ترجمة لقصص قصيرة وحكايات من الأدب الصّيــني الحديث . - ترجمة لجملة من الخرافات الصينية des fables chinoises
قصة قصيرة.. عربة الدرجة الممتازة
بقلم: ابراهيم درغوثي
ساحة المحطّة تعجّ بالمسافرين. وأمام شبّاك التّذاكر طوابير طويلة : طلبة وطالبات وعمال وجنود يتدافعون بالمرافق ويتقاذفون بالسبّاب واللّعنات. وعلى سكّة الحديد قطار طويل راقد على بطنه كالزّواحف الأسطورية الخارجة من ذاكرة التّاريخ.
في وسط السّاحة انتشر جمع من الشّباب ملأوا الدّنيا صياحا ولغطا وبذاءات ونداءات بأصوات مرتفعة.
ووصلت كوكبة من المجنّدين الجدد. مشوا كالطّواويس يتفاخرون بالكسوة العسكريّة وقعقعة الأحذية الغليظة على رصيف المحطّة.
وغير بعيد عن مرقد الوحش الأسطوري انتحى ثلاثة شبّان يضربون على طبلة ودَرْبُوكة وطارٍ ويغنّون أغان فاحشة ويتناوبون الشّرب من قارورة خمر.
رأيت صاحب الدّربوكة يخرج من جيب معطفه قارورة تشعّ بالنّور، يقرّبها من عينيه ويقبّلها ثمّ يفضّ بكارتها بإبهامه. يضغط بعنف على السّدادة فينفجر السّائل الأحمر في وجهه فيلحسه مقهقها ثمّ يعبّ من ثغر القارورة ويمرّرها إلى أصحابه فيتلهّون بها مدّة ثمّ يرميها أحدهم لترتطم على عربة من عربات قطار البضائع محدثة أنينا وتوجّعا.
ويتواصل الغناء والرّقص فيلتحق الجنود بالجوقة مصفّقين مهلّلين وتكبر الحلقة.
ويزداد البلاء.
ويرتفع صوت جرس المحطّة معلنا عن نهاية الحفل. فيندفع المسافرون إلى العربات.
اندفعوا وهم يقتحمون الأبواب من كلّ الجهات.
وتضاربوا وهم يصعدون الدّرج. وغصّت بهم الأبواب الضيّقة.
بعد دقائق كانت العربات قد أُتخمت بشرا وعرقا وكلاما نابيا.
بعد أن مرّ الطّوفان من أمامي حملت حقيبتي وقصدت العربة، عربة الدّرجة الممتازة. دفعت الباب بلطف ودلفت إلى الصّالون. الكراسي وثيرة بمساند للمرافق ومتكآت للرؤوس ومنافض سكائر ومناضد صغيرة للعشاء.
وهواء الصّالون دافئ.
وآلة تسجيل تبثّ من السّقف أغانٍ بصوت الفنّانة الرّقيقة فيروز. والمقاعد كثيرة. وعدد الرّكاب قليل.
كان عدد رفاق الرّحلة أربعة رجال وأربع نساء وطفلين.
جلست على مقربة منّي، على الكرسي المقابل لمقعدي .
اختارت مجلسها قريبا من الشبّاك.
واعتذرت بلطف حين داست قدمها على مقدّمة رجلي وهي تقف لتضع حقيبتها في رفّ العربة.
بغتة، خبطني على قفاي فسقطت النّظارة على الأرض وتهشّمت.
أحدثت عند سقوطها خشخشة خفيفة فخمّنت مكان وقوعها.
بحثت عنها ورأسي يدور إلى أن وجدتها.
كان البلّور قد تشقّق وتفتّت إلى قطع صغيرة لكنّه ظلّ متماسكا.
لبست النّظارة وقمت واقفا فرأيت عجبا:
تقطّعت أوصال صاحب الدّربوكة.
تشظّى.
رأس هنا.
وجذع هناك.
صدر فوق الرّجلين.
وذراعان نابتتان على الورك.
صوته فقط ظلّ يدوّي وسط العربة.
اقترب منّي.
مدّ يده نحوي.
صارت اليد عشراتٍ من الأيدي ولم أدر أيّها يده الحقيقيّة.
مددت يدي كما اتّفق.
صادفت يدا ممدودة فعضضتها ودفعت برأسي بين فخذيْه.
فاجأته الضّربة.
فاجأه عنف الهجوم لكنّه صمد.
فأعدت الكرّة.
ضربته هذه المرّة بأمّ رأسي.
أحسست بجسده يرتخي وهو يتكوّر فوق كتفَيَّ ويسقط على أرضيّة العربة.
أمسكت برأسه وبدأت أخبط فجحظت عيناه واستطال ذقنه وبهت لون شاربيْه وبدأ يخور.
خَارَ كما تخور ثيران الأساطير. ثمّ همد واسْتَكَان.
ونظرت من الشّباك فطالعتني أنوار الفجر وصكّ سمعي دقّ على الطّبلة في عربات الدّرجة الثّانية من قطار اللّيل.
حوار: محسن بن احمد
تونس-الصباح
لا يمكن الحديث عن الكتابة السردية في تونس دون التوقف عند مسيرة الكاتب الروائي إبراهيم الدرغوثي الذي كان صوتا ثائرا متمردا متفردا في هذه المسيرة ... فقد كان صاحب المبادرات الاستثنائية التي جعلت من كتاباته القصصية والروائية رافدا جديدا في المدونة الأدبية التونسية مضامين و أفكاراواسلوبا وقضايا تتحدث بلغة الصدق والبحث والتساؤل والصراحة الى حد الجرح في كل ما يشغل الانسان اليوم بأسلوب سلس ممتع
سعى واجتهد وتفرد إبراهيم الدرغوثي في كتاباته السردية الى استنطاق الأبجدية والذات والوجود، فكان حضوره باهرا وكبيرا في المكتبة العربية من خلال ما صاغه من روايات وقصص المتميّزة ولا غرابة ان تتم ترجمة إبداعاته إلى أكثر من لغة ولاقت مدونته السردية اهتماما كبيرا دراسة وتحليلا واستقراء من النقاد وأساتذة الجامعة داخل وخارج تونس...
انه قدر مبدع نذر جهده للكتابة السردية التي فيها جهد وبحث متجاوزا متمردا على الأساليب التقليدية مبشرا بكتابة جديدة تستشرف المستقبل دون القطيعة مع الماضي
**كانت لك تجربة مع الوزير الراحل احمد بن صالح غيرت مجرى حياتك هل كان من الممكن أن لا تكون مبدعا أدبيا لولا هذه التجربة؟
- شكرا على هذا السؤال المهم الذي سنبدأ به هذه المحاورة. نعم لولا المرحوم أحمد بن صالح لكنت نسيا منسيا ولتغيرت حياتي رأسا على عقب فبفضله عدت إلى التّمدْرس وواصلت تعليمي الثانوي ثم انتسبت إلى مدرسة ترشيح المعلمين بتونس العاصمة.
لقد أعاد أحمد بن صالح وقتها -وكان وزيرا للتربية-امتحان " السيزيام " للمرة الأولى في تاريخ التعليم الابتدائي فنجحت في دورة التدارك تلك سنة 1968 على ما أذكر. ولولاه لكنت غادرت المدرسة لضيق ذات اليد بالنسبة للوالد عليه رحمة الله الذي كان سندي وأصر على مواصلة تعليمي رغم أميته .ولولا المرحوم أحمد بن صالح لصرت " خماسا" في واحد من بساتين النخيل بالجريد أولا ثم التحقت بمنجم من مناجم الفسفاط بقفصة عاملا داخل دواميس الفسفاط عند بلوغ سن العمل بتلك المناجم.
ولكن للأقدار تصاريفها والحمد لله على كل حال أولا، وثانيا لذلك الوزير المصلح الذي غيّر كثيرا من مصائر البشر في تونس.
**كانت لك تجربة مع الشعر ثم سرعان ما تغير الاتجاه إلى الكتابة السردية ما هي دوافع هذا التغيير؟
-بدأت كتابة الشعر في نفس الفترة التي كتبت فيها القصة القصيرة وأنا في سن الخامسة عشرة، تلميذا في مدرسة ترشيح المعلمين بتونس. وككثير من أبناء جيلي كنت منجذبا إلى الكتابة الشعرية . ولكن الحقيقة أقول الآن فقد قادني إلى الشعر حب مجنون ومن جانب واحد إلى فتاة جميلة كنت ألتقيها في دكان أحد الأقارب كان يبيع فيه الخضر والغلال في حي المنزه فانبهرت بجمالها وفتنت بها وكان أن قلت فيها قصيدة مطلعها: لا تلمني يا فؤادي إن شكوت* واعذريني يا عيوني إن بكيت / كلما لاح محياها البديع * صاح قلبي في خشوع ما جنيت. والقصيدة طويلة. عندما اطلع عليها رفاق الدرس هللوا وكبروا ونصبوني شاعرا على فصلهم مما شجعني على مواصلة كتابة الشعر حتى تخرجت من الدراسة وذهبت للعمل معلما في مدينة أم العرائس المنجمية. هناك التقيت بفرقة " أولاد المناجم " الموسيقية التي كانت تغني للعمال والفلاحين. وكنت وقتها قد تبينّت الفكر الماركسي / اللينيني وانتسبت إلى جمعية شيوعية ( العامل التونسي / الخط الثوري ) فوجدت هناك ضالتي وغيرت من نمط القصائد وصرت أكتب الشعر الثوري الذي يناسب مرحلة الجهاد ضد الرجعية والامبريالية ويتغنى بنضالات الطبقة الشغيلة . وواصلت في هذا الخط حتى اكتشفت أن جُبّة الشعر ما عادت تكفي لقولي فتحوّلت لكتابة القصة القصيرة منذ سنة 1988 حيث نشرت مجموعتي القصصية الأولى " النخل يموت واقفا " ثم الرواية سنة 1992 عندما نشرت روايتي الأولى " الدراويش يعودون إلى المنفى ". وتوالى الحال إلى الآن في مراوحة بين القصة والرواية . ولكن الشعر لم يغب عن ذائقتي الإبداعية فقط اكتفى بالبعض بين أسطر رواياتي وقصصي.
**يرى النقاد في كتاباتك السردية تمردا وتجاوزا للأساليب المتعارف عليها في الكتابة وطريقة الحكي ...هل في ذلك رفض لكل ما هو متداول؟
-قلت مرة في حوار سابق: "حين تكتب قدّم الإضافة أو لتصمت" . وهكذا فعلت. أردت أن أقدم الإضافة للنص السردي العربي قصة ورواية من خلال تجديد الكتابة السردية والخروج بها من الرتابة التي سادت ردحا من الزمن في النصوص الإبداعية العربية منذ أن اكتشف الكتاب العرب القصة والرواية الغربية في بدايات القرن العشرين فساروا على خطى الكتاب الغربيين في شكل ومضمون هذه الكتابة السردية وفي موضوعاتها أيضا . كما حاولت الانفتاح على المحظورات( الدين والجنس والسياسة ) التي كان الكاتب العربي يخاف كثيرا من الاقتراب منها ويهاب تناولها في مواضيع إبداعه . وقد حاولت استعادة التراث السردي العربي القديم وإعادة توظيفه في نصوص حداثية ( ولعل المقامة والخبر من هذه الأشكال القريبة من السرديات الحديثة التي في مقدور كاتب اليوم استعادتها لكتابة نص حداثي يقطع مع سرديات الغرب ويقدم دما جديدا للإبداع العالمي في نفس الوقت.
**في اغلب رواياتك تمزج بين الغرائبي والعجائبي والتاريخ. ماذا وراء هذا التوجه؟
-الرواية إبداع منفتح على كل الفنون . قال عنها الناقد الفذ محمد القاضي " هي نص امبريالي " هاتك فاتك لا يبقي ولا يذر. فهي قادرة على استيعاب كل إشكال الكتابة قديمهاوحديثها.وهي عابرة للأجناس، على رأس المبدع المصري ادوار الخراط . لذلك في مقدور الكاتب الحصيف أن يطوّعها لتستوعب الواقعي كحال السرديات التي سادت الساحة العربية قديما والعجائبي والغرائبي الذي اكتشفه كتاب أمريكا اللاتينية مند غبريال غارسياماركيز. والأغرب أن هذا الشكل من الإبداع العجائبي هي بضاعتنا التي ردت إلينا . فقد اكتشفها كتاب الغرب من خلال نصوص الليالي العربية " ألف ليلة وليلة " فحوّلوها إلى إبداع جديد في الرواية الحديثة . ومن هناك عاد إلينا هذا الشكل الفني في الكتابة الذي يتماشى كثيرا مع ما تعيشه أوطاننا ومجتمعاتنا العربية خاصة في الوقت الحالي حيث يتحوّل واقعنا إلى شكل من أشكال الفنتازيا شبيه بغرائب وعجائب الدنيا التي قرأنا عنها في خرافات الأجداد.
**كيف تفسر لنا هذا التماهي في كتاباتك السردية مع التجريب والتحليق خارج السرب؟
-لم تقنعني الواقعية الاجتماعية في نقل الواقع إلى الإبداع القصصي وأغرمت في وقت من الأوقات بالواقعية الاشتراكية لأنني اقتربت من أحوال العمال والفلاحين والطبقة العاملة بصورة عامة ولكنني وجدت أنها قاصرة على تبليغ رسالتي فاخترت التجريب لأن فيه مراوحة بين الواقع وما وراء الواقع le surréel )) أو ما أسميناه بالسوريالية في نقدنا الإبداعي. هناك في مقدورك أن تخلق عوالمك الإبداعية بكل حرية وتحلّق خارج الزمان والمكان وتبدع النص الذي يتشكل في مخيالك على هواك بعيدا عن اكراهات الواقع وشروطه.
**من وجهة نظرك هل من الضروري العودة إلى حضن التراث لخلق عوالم سردية مدهشة ؟
-لقد أهملنا تراثنا السردي العربي الذي تراكم على مر الأجيال منذ ما قبل الإسلام ( الخبر ) إلى العصور الوسيطة ( المقامات ) فتلقف الغرب هذا التراث وخاصة من حيث الأساليب والمحتوى ( الغريب والعجيب)وخسرنا ريادة استعادته ولم نستثمره في إبداعاتنا الحديثة كما يجب الاستثمار. ولئن بادر بعض الكتاب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى استعادة أسلوب المقامة في كتابتهم إلاّ أنّ هذه التجربة أجهضت بسرعة ولم يكتب لها الدوام نظرا لسطوة أسلوب الكتابة الغربية في السرديات، وما عادت تظهر إلا لماما . وقد جربت شكل المقامة في واحدة من رواياتي الأخيرة ( كلاب الجحيم ) وسأواصل التجربة في نصوص قادمة لما لها من تفرّد أسلوبي قادر على خلق إبداع جديد في إمكانه إن يقدم الإضافة للسرديات الحديثة عامة والرواية بصورة أخص.
** هل للحرية حدود في النص الإبداعي؟
-بدون حرية لا يكون إبداع. فالحرية هي الباب الذي يلج منه الكاتب لانجاز نصه دون أن يخاف سطوة الرقيب الذاتي أولا ثم الرقيب القانوني ثانيا . فنحن نعيش في مجتمع الممنوعات وما أكثرها. فهي التي تتنوّع من ممنوع ديني إلى ممنوع جنسي وخاصة الممنوع السياسي والكل يقمع روح الإبداع فينا ولا يترك لنا فرصة لأن نعبّر عن ذواتنا أو مجتمعاتنا بالحرية المشتهاة. ومن هنا يصبح من واجبنا المروق على هذا القمع للتعبير بحرية مطلقة لا حدّ لها إلا جودة النص الذي نكتبه.
**من هو القارئ الذي يتوجه إليه إبراهيم درغوثي في كتاباته السردية؟
-أسعى دائما وراء قارئ يحترم إبداعي ويقرأه بعين العقل دون أن يفتش داخل أفكاري ومن أكون فالفيصل بيننا هو إبداع النص لا غير وله أن يستمتع بما أكتب أو فليكفر به، الأمر سيان عندي لأن كثرة القراء لا تعني لي شيئا بل جودة القراءة هي الفيصل والمحدد لأن في بعض الحالات يكون قارئ كألف ، وألف كأفّ.
**كيف ينظر اليوم إبراهيمدرغوثي إلى الكتابة السردية في تونس ؟
-أعتقد جازما أن السرديات في تونس تمر الآن بأزهى فتراتها كمّا وكيفا. فحين نتذكر أن أعداد الروايات المنشورة حتى أواخر سبعينات القرن الماضي كانت لا تتعدى أصابع اليد الواحدة نعجب لهذا الانفجار الكبير الذي ساد ساحة الإبداع التونسية منذ تسعينات القرن الماضي لا في عدد الدواوين الشعرية المنشورة فقط وإنما أيضا في عدد الروايات التي فاقت كل توقّع. وليس الأمر في العدد فقط وإنما في القيمة الفنية التي تضاهي بل قد تفوق مثيلاتها مما ينشر في ساحة الإبداع الروائي العربي.
لن أذكر الأسماء حتى لا أنسى من يستحق الذكر وإنما أقول في العموم أن عشرات الأسماء الروائية في تونس الآن تستحق التقدير والمتابعة
**ما مدى اهتمام القراءات النقدية للكتابات السردية في تونس وهل تراها قد أنصفت هذه الكتابات؟
-في خصوص المتابعة النقدية أنا أقول دائما إن على الكاتب أن يراكم تجربة إبداعية تستحق الاهتمام النقدي وحينها فقط سيجري النقاد وراء هذا الإبداع.
وعلى كل المتابعة النقدية للرواية في تونس الآن مهمة جدا ولا أدل على ذلك من حضور الروايات التونسية بكثافة في البحوث الجامعية التي تهتم الآن بالسرد الروائي وكذلك الحال بالنسبة للمتابعات النقدية التي تواكب الملتقيات الأدبية أو تنشر على صفحات الجرائد والمجلات الأدبية.
**اتجهت إلى اليافعين في كتاباتك السردية من هو المحدد لمضامين هذه الكتابات ذات الطابع الخصوصي؟
-اهتممت بالكتابة للأطفال عموما وبرواية اليافعين بالأخص منذ سنوات قليلة لأنني أرى أن من واجب الكتاب الذين تمرسوا بالكتابة أن يلتفتوا لطفل اليوم الذي ما عاد ذلك الطفل الساذج الذي يكتفى بقصص جحا وأشعب وخرافات الأجداد وإنما هو طفل على تماس بالتكنولوجيا والعلوم الحديثة والقصص العصرية التي تنشر على وسائل الاتصالات الحديثة فصار من الواجب علينا أن نواكب هذا التطور وأن نتعامل مع أطفالنا بجدية تليق بمقامهم الفكري والتعليمي.
الكتابة للصغار والكبار صارت اليوم صناعة علينا أن نتقن مخرجاتها حتى نحافظ على أطفالنا ولا نتركهم يضيعون وسط هذه العوالم التي فتحت عليهم أبواب جهنم.
**لك خماسية استثنائية خاصة بالحوض المنجمي...أي جديد بخصوص هذه الخماسية الاستثنائية والأولى من نوعها في تونس؟
-هذه الخماسية هي حلم حياتي الذي أسعى إلى تحقيقه. وقد بدأت كتابته منذ ربع قرن أي بداية من سنة 1999 بروايتي " وراء السراب ... قليلا " ثم أنجزتبعدها نصي الثاني " كلاب الجحيم " فالثالث الذي صدر خلال هذا الشهر "صحائف الملائكة والشياطين " . وهي خماسية عن بلاد الحوض المنجمي أرضا وناسا منذ اكتشاف الفسفاط في جهة قفصة في نهايات القرن التاسع عشر حتى السنوات الأخيرة من بداية القرن الحادي والعشرين.
أتمنى أن يبقى في العمر متسعا لانجاز هذا العمل الإبداعي التاريخي وألا فليكمله بعدي من يجد في قلمه قدرة عليه
إبراهيم الدرغوثي.. من يكون؟
إبراهيم الدرغوثي من أبرز اعلام الرواية في تونس ... كاتب وناقد وصاحب أكثر من 15 عمل فني قصصي وروائي
يمتاز باسلوبه السردي والجدةوالطرافة في كتابة الروايات والقصص ويظهر اهتمامه بالتراث وقد نال بعد من الجوائز عن رواياته واعماله
*من رواياته على سبيل الذكر لا الحصر "الدّراويش يعودون إلى المنفى،""القيامة...الآن,"–"شبابيك منتصف الليل-"-"أسرار صاحب السّتر "–"مجرد لعبة حظ" -"وقائع ما جرى للمرأة ذات القبقاب الذهبي"
اما في القصة القصيرة فمن اعماله نذكر "النّخل يموت واقفا " - "الخبز المر"–"رجل محترم جدّا-"-"كأسك ...يا مطر"–"تحت سماء دافئة""- منازل الكلام" -"المرّ ... والصّبر"
*توج الكاتب الروائي إبراهيم الدرغوثي بالعديد من الجوائز الكبرى منها * - جائزة الطاهر الحدّاد في القصّة القصيرة 1989 - الكومار الذّهبي جائزة لجنة التّحكيم (1999) عن مجمل أعماله الرّوائية--الكومار الذّهبي لأفضل رواية تونسية 2003 عن رواية وراء السّراب قليلا- - جائزة المدينة للرّواية 2004 عن رواية مجرّد لعبة حظّ- -جائزة القدس الكبرى للقصة القصيرة / أبوظبي 2010
*وترجمت اعماله الى اكثر من لغة ومنها - الدّراويش يعودون إلى المنفى ( فرنسية) - شبابيك منتصف الليل ( فرنسية) - تفّاح الجنة ( قصّة قصيرة) ترجمة دنيس جونسون ديفز ( إنقليزية)
*كما برز إبراهيم الدرغوثي بترجمة عيدي المؤلفات منها -ديوان شعري لحارب الظاهري من الإمارات العربية المتحدة من العربية إلى الفرنسية . الدّيوان بعنوان شمس شفتيك le soleil de tes lèvres - ترجمة لمجموعة من قصائد الشّاعر الصّيني / دونغ هونغ . - ترجمة لقصص قصيرة وحكايات من الأدب الصّيــني الحديث . - ترجمة لجملة من الخرافات الصينية des fables chinoises
قصة قصيرة.. عربة الدرجة الممتازة
بقلم: ابراهيم درغوثي
ساحة المحطّة تعجّ بالمسافرين. وأمام شبّاك التّذاكر طوابير طويلة : طلبة وطالبات وعمال وجنود يتدافعون بالمرافق ويتقاذفون بالسبّاب واللّعنات. وعلى سكّة الحديد قطار طويل راقد على بطنه كالزّواحف الأسطورية الخارجة من ذاكرة التّاريخ.
في وسط السّاحة انتشر جمع من الشّباب ملأوا الدّنيا صياحا ولغطا وبذاءات ونداءات بأصوات مرتفعة.
ووصلت كوكبة من المجنّدين الجدد. مشوا كالطّواويس يتفاخرون بالكسوة العسكريّة وقعقعة الأحذية الغليظة على رصيف المحطّة.
وغير بعيد عن مرقد الوحش الأسطوري انتحى ثلاثة شبّان يضربون على طبلة ودَرْبُوكة وطارٍ ويغنّون أغان فاحشة ويتناوبون الشّرب من قارورة خمر.
رأيت صاحب الدّربوكة يخرج من جيب معطفه قارورة تشعّ بالنّور، يقرّبها من عينيه ويقبّلها ثمّ يفضّ بكارتها بإبهامه. يضغط بعنف على السّدادة فينفجر السّائل الأحمر في وجهه فيلحسه مقهقها ثمّ يعبّ من ثغر القارورة ويمرّرها إلى أصحابه فيتلهّون بها مدّة ثمّ يرميها أحدهم لترتطم على عربة من عربات قطار البضائع محدثة أنينا وتوجّعا.
ويتواصل الغناء والرّقص فيلتحق الجنود بالجوقة مصفّقين مهلّلين وتكبر الحلقة.
ويزداد البلاء.
ويرتفع صوت جرس المحطّة معلنا عن نهاية الحفل. فيندفع المسافرون إلى العربات.
اندفعوا وهم يقتحمون الأبواب من كلّ الجهات.
وتضاربوا وهم يصعدون الدّرج. وغصّت بهم الأبواب الضيّقة.
بعد دقائق كانت العربات قد أُتخمت بشرا وعرقا وكلاما نابيا.
بعد أن مرّ الطّوفان من أمامي حملت حقيبتي وقصدت العربة، عربة الدّرجة الممتازة. دفعت الباب بلطف ودلفت إلى الصّالون. الكراسي وثيرة بمساند للمرافق ومتكآت للرؤوس ومنافض سكائر ومناضد صغيرة للعشاء.
وهواء الصّالون دافئ.
وآلة تسجيل تبثّ من السّقف أغانٍ بصوت الفنّانة الرّقيقة فيروز. والمقاعد كثيرة. وعدد الرّكاب قليل.
كان عدد رفاق الرّحلة أربعة رجال وأربع نساء وطفلين.
جلست على مقربة منّي، على الكرسي المقابل لمقعدي .
اختارت مجلسها قريبا من الشبّاك.
واعتذرت بلطف حين داست قدمها على مقدّمة رجلي وهي تقف لتضع حقيبتها في رفّ العربة.