إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي.. جراحات أمريكية تجميليّة لترحيل الأزمة

 

بقلم: هاني مبارك(*)

ما يثير الالتباس في تهديدات التصعيد المتبادل بين حزب الله وإسرائيل هو نفسه الذي يثير الالتباس في العلاقة بين اللغة والتفكير والسلوك، أي ما تسمى بالاستثارات العمديّة التي تبيّتها لغة الاستخدام في سياق قد لا يصلح القياس عليه مرة أخرى، وإن فهم ما يقف خلف تلك الاستثارات هو ما يحدّد السلوك السليم. وتفكيك عناصر هذه العلاقة للتكهّن بمساراتها يصبح مدعاة للاهتمام في الأحداث التي من شأنها إعادة تشكيل وجود ما على نحو طويل كهذه الحرب على غزة الآن.

وللتوضيح لا بدّ من تكرار القول بأن الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني كانت نتاجا للنظام الدولي الحالي الذي أعيد بناءه عدة مرات وفقا لأنماط قياديّة مختلفة كان أبرزها ما أفرزته الحرب العالمية الثانية، وتاليا الأحادية الأمريكية الراهنة التي تسعى واشنطن بكل قوّتها للإبقاء عليها عبر التحكّم بإعادة انتشار وتوزيع القوة على المستوى العالمي، للمحافظة على قيمه القانونية والأخلاقية التي تشكلت تدريجيا منذ اتفاقية "وستفاليا" عام1648 التي وضعت نهاية للحروب الدينية ودشّنت لبدايات هذا النظام الذي اتّضحت ملامحه أكثر بعد العام 1799 بإعادة إنتاج فلسفة الاحتلال والسيطرة والاستعمار بقيم بدت تحررية مقارنة بما سبقها، ببناء ما تسمى بدولة حرية حركة رأس المال، التي خلفت من بين ما خلفت النكبة الفلسطينية، التي ستبقى بكل تمظهراتها القديمة والتي ستأتي لاحقا من ضروريات بقاء هذا النظام، الذي لن يكون بمقدوره إيجاد حل عادل لها وأن أقصى ما قد يذهب إليه هو فقط إدارتها وإعادة إنتاجها بأشكال لا تخرج عن سياقها الوظيفي في إطالة عمره.

واليوم في هذه الحرب الصاخبة على غزة، فإن أبرز ما ''يعقلن'' الوحشية الأمريكية فيها بغطاء من المناورات المتآكلة بغية احتواء وتبديد عناصر قوى الرغبة في التغيير،هو الخوف من إعادة التجربة البونابرتية او الهتلرية، ولكنها في الوقت ذاته تجد نفسها تقف بين خطابين، كلاهما يدفعانها نحو المنطقة الحرجة، فمن ناحية خطاب إسرائيل التي يرسل وزير دفاعها "غالانت" طائراته محملة بأثقل ما لديه من قنابل إلى سماء بيروت، ومن الناحية الثانية خطاب الشيخ حسن نصر الله الذي أحال معادلة الدم المدني مقابل الدم المدني إلى الميدان، ما يهدد بتغيير قواعد الاشتباك، وربما الاتجاه نحو مواجهة أشمل.

والمثير أنه فيما يمكن لواشنطن أن تتكهّن من خلاله بطبيعة السلوك الإسرائيلي وتحديد أفقه الأقصى الذي قد ينجم عن هذه التهديدات بالذهاب إلى حرب شاملة مع حزب الله، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات، فإنه لن يكون بمقدورها التكهن به  بنفس النسبة من الوثوقية بسلوك حزب الله الذي تقف خلفه أيضا سلسلة من تهدبدات الشيخ نصر الله بالرد على التصعيد بالتصعيد.

والسؤال الذي يبرز هنا، من يعني ما يقول أكثر من خصمه؟ وهل ستسمح واشنطن لإسرائيل بجرها لحرب إقليمية يتوقف على نتيجتها مصير النفوذ الأمريكي في منطقة تعد مفتاح البقاء الأمريكي لاعبا مقررا وحاسما في تفاعلات النظام الدولي عبر بوابة السيطرة على أوروبا، والنأي بها عن محاولات الاحتواء الروسي أو الانتشار الصيني؟ أم أنها ستصل بحزب الله إلى حافة الهاوية قبل أن تستطيع إرغامه على مراجعة سلوكه وتتراجع خطوة إلى الوراء وتدفع الثمن اللازم  والذي معه يبدأ العد التنازلي للهبوط عن عرش القيادة المنفردة للعالم؟. والأمر هنا لا يختلف بالنسبة لحزب الله ومن يمثل، فهل يقبل التحدّي ويدخل في مواجهة شاملة قد تؤدي إلى تصفية وجوده وخروجه النهائي من معادلة التأثير الإقليمي، كاحتمال أكثر ترجيحا وفقا لحسابات القوة التقليدية؟ آم انه هو الآخر سيذهب إلى شفير المواجهة قبل أن يتراجع خطوة إلى الوراء ويبدأ بطيّ خيام الرحيل.

حسن نصر الله بسط الأمور وسطحها في خطابه الأخير، إذ قال إن وقف الحرب على غزة يعني وقفا آليا للعمليات في جنوب لبنان، في تأكيد جديد منه على ما سمي بوحدة الساحات والتضامن مع حركات المقاومة الفلسطينية، والذي ليس بوسع أي كان إنكاره، غير أن ذلك لا يخفي بعدا أكثر عمقا يعكس فهما لطبيعة الحرب هناك وأهدافها القريبة والبعيدة، ليس أقلّها منع منطقة الشرق الأوسط من انزياحات تخرجها من نطاق الهيمنة الأمريكية المطلقة، وإعادة تقييم حجم الدور الإسرائيلي الآخذ بالتضاؤل.

والأرجح هنا أن تذهب واشنطن إلى خيار ثالث ستضغط من اجل تحقيقه بكل السبل للعودة إلى مربع ما قبل السابع من أكتوبر مع محاولة القيام ببعض الجراحات التجميليّة هنا وهناك لدفع إسرائيل للامتثال لرغبتها في تحقيق اختراق سياسي تاريخي مع السعودية من خلال الانصياع لوعد بإقامة الدولة الفلسطينية الذي من شأنه أن يوفّر لمختلف الأطراف إمكانية إعلان النصر دون أن يحقّق لأي منها هزيمة إستراتيجية للأطراف الأخرى،ويجنب المنطقة انحيازات خطرة، أوبمعنى آخر ترحيل الأزمة إلى زمن أخر تكون فيه قد انتهت من ملفات أخرى على المستويين الداخلي والأوروبي حيث بات الجيش الأوكراني مهدّدا بالانهيار.

*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة

رأي..   جراحات أمريكية تجميليّة لترحيل الأزمة

 

بقلم: هاني مبارك(*)

ما يثير الالتباس في تهديدات التصعيد المتبادل بين حزب الله وإسرائيل هو نفسه الذي يثير الالتباس في العلاقة بين اللغة والتفكير والسلوك، أي ما تسمى بالاستثارات العمديّة التي تبيّتها لغة الاستخدام في سياق قد لا يصلح القياس عليه مرة أخرى، وإن فهم ما يقف خلف تلك الاستثارات هو ما يحدّد السلوك السليم. وتفكيك عناصر هذه العلاقة للتكهّن بمساراتها يصبح مدعاة للاهتمام في الأحداث التي من شأنها إعادة تشكيل وجود ما على نحو طويل كهذه الحرب على غزة الآن.

وللتوضيح لا بدّ من تكرار القول بأن الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني كانت نتاجا للنظام الدولي الحالي الذي أعيد بناءه عدة مرات وفقا لأنماط قياديّة مختلفة كان أبرزها ما أفرزته الحرب العالمية الثانية، وتاليا الأحادية الأمريكية الراهنة التي تسعى واشنطن بكل قوّتها للإبقاء عليها عبر التحكّم بإعادة انتشار وتوزيع القوة على المستوى العالمي، للمحافظة على قيمه القانونية والأخلاقية التي تشكلت تدريجيا منذ اتفاقية "وستفاليا" عام1648 التي وضعت نهاية للحروب الدينية ودشّنت لبدايات هذا النظام الذي اتّضحت ملامحه أكثر بعد العام 1799 بإعادة إنتاج فلسفة الاحتلال والسيطرة والاستعمار بقيم بدت تحررية مقارنة بما سبقها، ببناء ما تسمى بدولة حرية حركة رأس المال، التي خلفت من بين ما خلفت النكبة الفلسطينية، التي ستبقى بكل تمظهراتها القديمة والتي ستأتي لاحقا من ضروريات بقاء هذا النظام، الذي لن يكون بمقدوره إيجاد حل عادل لها وأن أقصى ما قد يذهب إليه هو فقط إدارتها وإعادة إنتاجها بأشكال لا تخرج عن سياقها الوظيفي في إطالة عمره.

واليوم في هذه الحرب الصاخبة على غزة، فإن أبرز ما ''يعقلن'' الوحشية الأمريكية فيها بغطاء من المناورات المتآكلة بغية احتواء وتبديد عناصر قوى الرغبة في التغيير،هو الخوف من إعادة التجربة البونابرتية او الهتلرية، ولكنها في الوقت ذاته تجد نفسها تقف بين خطابين، كلاهما يدفعانها نحو المنطقة الحرجة، فمن ناحية خطاب إسرائيل التي يرسل وزير دفاعها "غالانت" طائراته محملة بأثقل ما لديه من قنابل إلى سماء بيروت، ومن الناحية الثانية خطاب الشيخ حسن نصر الله الذي أحال معادلة الدم المدني مقابل الدم المدني إلى الميدان، ما يهدد بتغيير قواعد الاشتباك، وربما الاتجاه نحو مواجهة أشمل.

والمثير أنه فيما يمكن لواشنطن أن تتكهّن من خلاله بطبيعة السلوك الإسرائيلي وتحديد أفقه الأقصى الذي قد ينجم عن هذه التهديدات بالذهاب إلى حرب شاملة مع حزب الله، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات، فإنه لن يكون بمقدورها التكهن به  بنفس النسبة من الوثوقية بسلوك حزب الله الذي تقف خلفه أيضا سلسلة من تهدبدات الشيخ نصر الله بالرد على التصعيد بالتصعيد.

والسؤال الذي يبرز هنا، من يعني ما يقول أكثر من خصمه؟ وهل ستسمح واشنطن لإسرائيل بجرها لحرب إقليمية يتوقف على نتيجتها مصير النفوذ الأمريكي في منطقة تعد مفتاح البقاء الأمريكي لاعبا مقررا وحاسما في تفاعلات النظام الدولي عبر بوابة السيطرة على أوروبا، والنأي بها عن محاولات الاحتواء الروسي أو الانتشار الصيني؟ أم أنها ستصل بحزب الله إلى حافة الهاوية قبل أن تستطيع إرغامه على مراجعة سلوكه وتتراجع خطوة إلى الوراء وتدفع الثمن اللازم  والذي معه يبدأ العد التنازلي للهبوط عن عرش القيادة المنفردة للعالم؟. والأمر هنا لا يختلف بالنسبة لحزب الله ومن يمثل، فهل يقبل التحدّي ويدخل في مواجهة شاملة قد تؤدي إلى تصفية وجوده وخروجه النهائي من معادلة التأثير الإقليمي، كاحتمال أكثر ترجيحا وفقا لحسابات القوة التقليدية؟ آم انه هو الآخر سيذهب إلى شفير المواجهة قبل أن يتراجع خطوة إلى الوراء ويبدأ بطيّ خيام الرحيل.

حسن نصر الله بسط الأمور وسطحها في خطابه الأخير، إذ قال إن وقف الحرب على غزة يعني وقفا آليا للعمليات في جنوب لبنان، في تأكيد جديد منه على ما سمي بوحدة الساحات والتضامن مع حركات المقاومة الفلسطينية، والذي ليس بوسع أي كان إنكاره، غير أن ذلك لا يخفي بعدا أكثر عمقا يعكس فهما لطبيعة الحرب هناك وأهدافها القريبة والبعيدة، ليس أقلّها منع منطقة الشرق الأوسط من انزياحات تخرجها من نطاق الهيمنة الأمريكية المطلقة، وإعادة تقييم حجم الدور الإسرائيلي الآخذ بالتضاؤل.

والأرجح هنا أن تذهب واشنطن إلى خيار ثالث ستضغط من اجل تحقيقه بكل السبل للعودة إلى مربع ما قبل السابع من أكتوبر مع محاولة القيام ببعض الجراحات التجميليّة هنا وهناك لدفع إسرائيل للامتثال لرغبتها في تحقيق اختراق سياسي تاريخي مع السعودية من خلال الانصياع لوعد بإقامة الدولة الفلسطينية الذي من شأنه أن يوفّر لمختلف الأطراف إمكانية إعلان النصر دون أن يحقّق لأي منها هزيمة إستراتيجية للأطراف الأخرى،ويجنب المنطقة انحيازات خطرة، أوبمعنى آخر ترحيل الأزمة إلى زمن أخر تكون فيه قد انتهت من ملفات أخرى على المستويين الداخلي والأوروبي حيث بات الجيش الأوكراني مهدّدا بالانهيار.

*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة