أعاد رئيس الجمهورية قيس سعيد لدى لقائه يوم الجمعة 9 فيفري الجاري، وزيرة الاقتصاد والتخطيط فريال السبعي، طرح تصور لمنوال تنمية جديد يقوم على أسس "البناء القاعدي" أحد ركائز برنامجه الانتخابي الذي تحدث عنه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 بهدف القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية..
ووفق ما ورد في بلاغ رئاسة الجمهورية، فإن التوجه القائم حاليا في سياسة الدولة خاصة منذ انطلاق مسار 25 جويلية 2021، هي التأسيس لبرنامج تنموي بديل لمنوال التنمية السائد قائم على ثلاثة مبادئ وهي العدالة الاجتماعية، خلق الثروة، وتوزيعها توزيعا عادلا، والإدماج الاجتماعي للفئات الفقيرة والمهمشة
وأدوات المنهج التنموي الجديد هي: الدولة باعتبار دورها في تحقيق الاندماج بين مكوناتها والتوزيع العادل للثروة للاستثمار والتنمية بين الجهات والفئات، والشركات الأهلية كمكون من مكونات الاقتصاد الاجتماعي التضامني، والتي ستساهم في خلق الثروة، ومجلس الجهات والأقاليم الذي سيعمل عل تشريك المناطق المهمشة في صنع القرار التنموي والاقتصادي..
اللافت للنظر أن سعيد انتقد ما يسمى بمنوال التنمية المعتمد منذ عقود في تونس وكيف عجز عن تحقيق التنمية الحقيقية في البلاد ما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، محملا مسؤولية هذا الفشل إلى من تداولوا على الحكم طيلة العقود الماضية..
وقال "إن الذين يتحدثون منذ سنوات عن منوال تنموي لم يقدروا على تقديم أي جواب ولم ينظروا إلى الحقائق الماثلة أمامهم، ولم يُكلّفوا أنفسهم عناء النظر في الأسباب التي أدّت إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. فالشعب المتمسّك بسيادته يطلب الشغل والحرية والحياة الكريمة، وقد حدّد بنفسه ما يوصف بالمنوال ويكفي تمكينه من الأدوات القانونية التي تتيح له مطالبه المشروعة."
وقال أيضا :" المنوال الذي يبحث عنه الكثيرون أو يدعون إلى تحديده هو الذي يقوم على خلق الثروة وتوزيع عائداتها على جميع المواطنين على قاعدة العدل الاجتماعي".
وأشار إلى أن "الوظيفة الأساسية للدولة هي تحقيق الإندماج بين كافة مكوناتها، وما مجلس الجهات والأقاليم إلا خطوة ضرورية في هذا الإتجاه. فالمهمّش على مدى عشرات العقود سيتمكّن من المشاركة في وضع التشريعات التي ستُخرجه من دائرة المهمّش إلى دائرة الفاعل القانوني والفاعل الاقتصادي".
كما أكد سعيد على أهمية الشركات الأهلية، "فآلاف التونسيين يتحفّزون إلى تكوين هذا الصنف من الشركات وعلى المؤسسات البنكية، عموما، والبنك التونسي للتضامن، على وجه الخصوص، أن تُيسّر لهم تمويل هذه الشركات فيعود النفع على الوطن كلّه".
ملامح منوال تنمية بديل..
في الواقع، وباستثناء مخطط التنمية 2023- 2025، لم تعرض الحكومة بعد بوضوح برنامجا اصلاحيا قائما على منوال تنمية جديد يقطع مع السائد، لكن من خلال تتبع السياسة العامة للحكومة، وهي سياسة يضعها - وفق دستور جويلية 2022 - رئيس الجمهورية ويحدد خياراتها الأساسية، فإن جل المؤشرات تؤكد أن هناك توجها بطيئا لكنه ملموسا نحو تكريس منوال تنمية جديد لم تتضح ملامحه بعد، لكن محركاته وأدواته وتشريعاته هي بصدد الوضع والتقنين والتأسيس..منها مثلا التوجه المؤسساتي من حيث البناء التشريعي نحو إحداث هياكل تمثل أضلع البناء القاعدي على غرار وضع دستور جديد يتبنى نظام حكم رئاسي، وقريبا الانتهاء من مرحلة تأسيس مجلس الجهات والأقاليم إلى جانب البرلمان، واقتصاديا التوجه نحو التشجيع على إحداث الشركات الأهلية..
وفي نفس الإطار، صدر الأمر الرئاسي بالرائد الرسمي، والقاضي بتقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم ترابية، في سياق التنظيم السياسي الجديد الوارد ضمن دستور 2022 وتمهيدا لإرساء المجلس الوطني للأقاليم والجهات، ويقوم جوهر التقسيم على فكرة دمج الولايات الأكثر حظا في التنمية مع الولايات المهمّشة أو الأقل نموا.
وفي هذا السياق، تحدث وزير الشؤون الاجتماعية، مالك الزاهي، بجنيف، عن ملامح منوال التنمية الذي يريد إرسائه الرئيس قيس سعيد، وذلك بمناسبة مشاركته في مؤتمر العمل الدولي في 9 جوان 2023 وقال «إن تونس قد ابتكرت منوالا تنمويا بديلا يرتكز على قواعد الحوكمة الرشيدة والتوزيع العادل للثروة وذلك فـي إطار تمش تشاركي يضمن مساهمة كل الأطراف ويكرس اللامركزية والحكم المحلي بتفعيل دور الجهات في دفع الحركية الاقتصادية، والإسراع في وضع برنامج إصلاحات يرتكز على الجانب الاجتماعي».
وبالنسبة للزاهي فإن هذا المنوال من شأنه أن "يضمن الحد من الفقر ومن التفاوت الاجتماعي والجهوي ويدعم الحقوق الأساسية في العمل ويحقق التوزيع العادل لثماره ويوفر فرص جديدة للتشغيل"..
واعتبر أن "مرسوم الشركات الأهلية، الذي أصدره رئيس الجمهورية، يعد تأكيدا على تبني الدولة للخيار الاقتصادي ذي الغايات الاجتماعية التي تهدف أساسا إلى توفير ظروف عيش كريمة للجميع وفي كل الجهات دون تمييز قصد تحقيق الإدماج والاستقرار الاجتماعي والتنمية المُستديمة والعمل اللائق بما يضمن الأمن الاجتماعي للفئات الأكثر هشاشة."
وأبرز تمسك تونس ببناء الأسس الصلبة للعدالة الاجتماعية وبتطوير منظومة الحماية الاجتماعية من أجل توفير مقوّمات العيش الكريم لكافة شرائح المجتمع وبناء الدولة الاجتماعية القائمة على مبدأ العدالة الاجتماعية ومقاومة الفقر وإتاحة الفرص للفئات الفقيرة أو محدودة الدخل للنفاذ إلى خدمات التمكين الاقتصادي والاجتماعي.
تجارب اقتصادية أم منوال تنموي فاشل.. ؟
يتفق جلّ خبراء الاقتصاد في تشخيص مشكلة الاقتصاد التونسي في عنوان جامع موحد وهو فشل منوال التنمية الحالي المعتمد منذ الاستقلال الذي وصل إلى حده الأقصى، فلا هو قادر على تحقيق نمو اقتصادي مرتفع ولا يمكنه إنجاز متطلبات التنمية الاجتماعية العادلة وبات من الضروري البحث عن منوال جديد يحقق المعادلة الصعبة بين نمو مستقر وتنمية حقيقية.
ولم يقطع منوال التنمية الحالي مع منوال التنمية المطبق منذ عهد الجمهورية الأولى، فهو خليط بين مقاربات اقتصادية مختلفة مزجت بين اقتصاد السوق الحر الليبرالي المنفتح على العولمة، والاقتصاد الاشتراكي، والاقتصاد المرتكز على التبادل الحر مع سيطرة الدولة على القطاعات الحيوية، واقتصاد خاص يغلب عليه الطابع الريعي مع نشأة قوية للاقتصاد الموازي.
ويرى البعض أن المنوال الذي انخرطت فيه تونس منذ أواسط الثمانينات مع برنامج الإصلاح الهيكلي يعتبر ارتهانا للاقتصاد التونسي للأقطاب الاقتصادية العالمية وللمؤسسات المالية الدولية، وأفرز تفاوتا في نسق التطور الاقتصادي والاجتماعي نتج عنه ضغطا على سوق الشغل وبطالة مرتفعة وتآكلا للطبقة الوسطى..
وعلى امتداد تاريخ بناء دولة الاستقلال،عاشت تونس عديد التجارب في منوالها الاقتصادي والاجتماعي، وفي كل مرة تتبنى منهجا جديدا دون أن تتخلى عن المنهج الذي سبقه، حتى وصلنا مرحلة تعايشت فيها ثلاث تجارب تنموية اقتصادية وهي فترة الستينات مع احمد بن صالح وتجربة التعاضد وخلق نسيج اقتصادي قائم على بعث مؤسسات عمومية صناعية في كل الجهات، مع الانفتاح التدريجي على القطاع الخاص، ثم فترة السبعينات مع الهادي نويرة الذي وضع تجربة الانفتاح الليبرالي وتشجيع الاستثمار الأجنبي من خلال سن قانون 1972، مع تشجيع رأس المال الوطني في الاستثمار وخلق الثروة والانتصاب للحساب الخاص، واجتماعيا تتولى الدولة الحفاظ على استقرار الأسعار وحماية اجتماعية للفئات الضعيفة من خلال خلق صندوق الدعم للمواد الأساسية.
لكن خلال فترة الثمانينات، عرفت التجربة التنموية التونسية صعوبات حادة نتيجة عدة عوامل أدت إلى أزمة 1986 ساهمت سياسيا في تغييرات على مستوى الحكم، واعتماد النظام الأسبق في عهد الرئيس بن علي برنامج إصلاح اقتصادي هيكلي من خلال اعتماد سياسة التفويت في المؤسسات العمومية، ومزيد الانفتاح على الخارج خاصة عبر توقيع اتفاقيات شراكة شاملة مع الاتحاد الأوربي، مع عدم القطع مع التجارب الاقتصادية السابقة بل تعايش معها، وساهمت هذا التعايش في رفع نسبة النمو لكن دون أن يصاحبه تنمية حقيقية وعدالة تنموية بين الجهات بل ساهم في خلق فروق اجتماعية وزاد في عدد المناطق المهمشة والفقيرة..
والملاحظ أن جل الحكومات ما بعد 2011 وعدت بمراجعة منوال التنمية، دون أن تحدد ملامحه ومفهومه وأهدافه وطبيعة الخيارات التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي نريد تحقيقها.. وبرزت دعوات عديدة تطالب بتغيير منوال التنمية، صدرت عن خبراء ومجتمع مدني ومنظمات وطنية، حتى أن جل الحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية التي تداولت على الحكم خلال فترة ما يسمى بالانتقال الديمقراطي رفعت في برامجها الاقتصادية شعار البحث عن منهاج تنمية بديل، دون أن تتمكن أي منها من إرساء قواعد المنوال المنشود أو الايفاء بوعودها التنموية العديدة..
رفيق بن عبد الله
تونس - الصباح
أعاد رئيس الجمهورية قيس سعيد لدى لقائه يوم الجمعة 9 فيفري الجاري، وزيرة الاقتصاد والتخطيط فريال السبعي، طرح تصور لمنوال تنمية جديد يقوم على أسس "البناء القاعدي" أحد ركائز برنامجه الانتخابي الذي تحدث عنه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 بهدف القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية..
ووفق ما ورد في بلاغ رئاسة الجمهورية، فإن التوجه القائم حاليا في سياسة الدولة خاصة منذ انطلاق مسار 25 جويلية 2021، هي التأسيس لبرنامج تنموي بديل لمنوال التنمية السائد قائم على ثلاثة مبادئ وهي العدالة الاجتماعية، خلق الثروة، وتوزيعها توزيعا عادلا، والإدماج الاجتماعي للفئات الفقيرة والمهمشة
وأدوات المنهج التنموي الجديد هي: الدولة باعتبار دورها في تحقيق الاندماج بين مكوناتها والتوزيع العادل للثروة للاستثمار والتنمية بين الجهات والفئات، والشركات الأهلية كمكون من مكونات الاقتصاد الاجتماعي التضامني، والتي ستساهم في خلق الثروة، ومجلس الجهات والأقاليم الذي سيعمل عل تشريك المناطق المهمشة في صنع القرار التنموي والاقتصادي..
اللافت للنظر أن سعيد انتقد ما يسمى بمنوال التنمية المعتمد منذ عقود في تونس وكيف عجز عن تحقيق التنمية الحقيقية في البلاد ما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، محملا مسؤولية هذا الفشل إلى من تداولوا على الحكم طيلة العقود الماضية..
وقال "إن الذين يتحدثون منذ سنوات عن منوال تنموي لم يقدروا على تقديم أي جواب ولم ينظروا إلى الحقائق الماثلة أمامهم، ولم يُكلّفوا أنفسهم عناء النظر في الأسباب التي أدّت إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. فالشعب المتمسّك بسيادته يطلب الشغل والحرية والحياة الكريمة، وقد حدّد بنفسه ما يوصف بالمنوال ويكفي تمكينه من الأدوات القانونية التي تتيح له مطالبه المشروعة."
وقال أيضا :" المنوال الذي يبحث عنه الكثيرون أو يدعون إلى تحديده هو الذي يقوم على خلق الثروة وتوزيع عائداتها على جميع المواطنين على قاعدة العدل الاجتماعي".
وأشار إلى أن "الوظيفة الأساسية للدولة هي تحقيق الإندماج بين كافة مكوناتها، وما مجلس الجهات والأقاليم إلا خطوة ضرورية في هذا الإتجاه. فالمهمّش على مدى عشرات العقود سيتمكّن من المشاركة في وضع التشريعات التي ستُخرجه من دائرة المهمّش إلى دائرة الفاعل القانوني والفاعل الاقتصادي".
كما أكد سعيد على أهمية الشركات الأهلية، "فآلاف التونسيين يتحفّزون إلى تكوين هذا الصنف من الشركات وعلى المؤسسات البنكية، عموما، والبنك التونسي للتضامن، على وجه الخصوص، أن تُيسّر لهم تمويل هذه الشركات فيعود النفع على الوطن كلّه".
ملامح منوال تنمية بديل..
في الواقع، وباستثناء مخطط التنمية 2023- 2025، لم تعرض الحكومة بعد بوضوح برنامجا اصلاحيا قائما على منوال تنمية جديد يقطع مع السائد، لكن من خلال تتبع السياسة العامة للحكومة، وهي سياسة يضعها - وفق دستور جويلية 2022 - رئيس الجمهورية ويحدد خياراتها الأساسية، فإن جل المؤشرات تؤكد أن هناك توجها بطيئا لكنه ملموسا نحو تكريس منوال تنمية جديد لم تتضح ملامحه بعد، لكن محركاته وأدواته وتشريعاته هي بصدد الوضع والتقنين والتأسيس..منها مثلا التوجه المؤسساتي من حيث البناء التشريعي نحو إحداث هياكل تمثل أضلع البناء القاعدي على غرار وضع دستور جديد يتبنى نظام حكم رئاسي، وقريبا الانتهاء من مرحلة تأسيس مجلس الجهات والأقاليم إلى جانب البرلمان، واقتصاديا التوجه نحو التشجيع على إحداث الشركات الأهلية..
وفي نفس الإطار، صدر الأمر الرئاسي بالرائد الرسمي، والقاضي بتقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم ترابية، في سياق التنظيم السياسي الجديد الوارد ضمن دستور 2022 وتمهيدا لإرساء المجلس الوطني للأقاليم والجهات، ويقوم جوهر التقسيم على فكرة دمج الولايات الأكثر حظا في التنمية مع الولايات المهمّشة أو الأقل نموا.
وفي هذا السياق، تحدث وزير الشؤون الاجتماعية، مالك الزاهي، بجنيف، عن ملامح منوال التنمية الذي يريد إرسائه الرئيس قيس سعيد، وذلك بمناسبة مشاركته في مؤتمر العمل الدولي في 9 جوان 2023 وقال «إن تونس قد ابتكرت منوالا تنمويا بديلا يرتكز على قواعد الحوكمة الرشيدة والتوزيع العادل للثروة وذلك فـي إطار تمش تشاركي يضمن مساهمة كل الأطراف ويكرس اللامركزية والحكم المحلي بتفعيل دور الجهات في دفع الحركية الاقتصادية، والإسراع في وضع برنامج إصلاحات يرتكز على الجانب الاجتماعي».
وبالنسبة للزاهي فإن هذا المنوال من شأنه أن "يضمن الحد من الفقر ومن التفاوت الاجتماعي والجهوي ويدعم الحقوق الأساسية في العمل ويحقق التوزيع العادل لثماره ويوفر فرص جديدة للتشغيل"..
واعتبر أن "مرسوم الشركات الأهلية، الذي أصدره رئيس الجمهورية، يعد تأكيدا على تبني الدولة للخيار الاقتصادي ذي الغايات الاجتماعية التي تهدف أساسا إلى توفير ظروف عيش كريمة للجميع وفي كل الجهات دون تمييز قصد تحقيق الإدماج والاستقرار الاجتماعي والتنمية المُستديمة والعمل اللائق بما يضمن الأمن الاجتماعي للفئات الأكثر هشاشة."
وأبرز تمسك تونس ببناء الأسس الصلبة للعدالة الاجتماعية وبتطوير منظومة الحماية الاجتماعية من أجل توفير مقوّمات العيش الكريم لكافة شرائح المجتمع وبناء الدولة الاجتماعية القائمة على مبدأ العدالة الاجتماعية ومقاومة الفقر وإتاحة الفرص للفئات الفقيرة أو محدودة الدخل للنفاذ إلى خدمات التمكين الاقتصادي والاجتماعي.
تجارب اقتصادية أم منوال تنموي فاشل.. ؟
يتفق جلّ خبراء الاقتصاد في تشخيص مشكلة الاقتصاد التونسي في عنوان جامع موحد وهو فشل منوال التنمية الحالي المعتمد منذ الاستقلال الذي وصل إلى حده الأقصى، فلا هو قادر على تحقيق نمو اقتصادي مرتفع ولا يمكنه إنجاز متطلبات التنمية الاجتماعية العادلة وبات من الضروري البحث عن منوال جديد يحقق المعادلة الصعبة بين نمو مستقر وتنمية حقيقية.
ولم يقطع منوال التنمية الحالي مع منوال التنمية المطبق منذ عهد الجمهورية الأولى، فهو خليط بين مقاربات اقتصادية مختلفة مزجت بين اقتصاد السوق الحر الليبرالي المنفتح على العولمة، والاقتصاد الاشتراكي، والاقتصاد المرتكز على التبادل الحر مع سيطرة الدولة على القطاعات الحيوية، واقتصاد خاص يغلب عليه الطابع الريعي مع نشأة قوية للاقتصاد الموازي.
ويرى البعض أن المنوال الذي انخرطت فيه تونس منذ أواسط الثمانينات مع برنامج الإصلاح الهيكلي يعتبر ارتهانا للاقتصاد التونسي للأقطاب الاقتصادية العالمية وللمؤسسات المالية الدولية، وأفرز تفاوتا في نسق التطور الاقتصادي والاجتماعي نتج عنه ضغطا على سوق الشغل وبطالة مرتفعة وتآكلا للطبقة الوسطى..
وعلى امتداد تاريخ بناء دولة الاستقلال،عاشت تونس عديد التجارب في منوالها الاقتصادي والاجتماعي، وفي كل مرة تتبنى منهجا جديدا دون أن تتخلى عن المنهج الذي سبقه، حتى وصلنا مرحلة تعايشت فيها ثلاث تجارب تنموية اقتصادية وهي فترة الستينات مع احمد بن صالح وتجربة التعاضد وخلق نسيج اقتصادي قائم على بعث مؤسسات عمومية صناعية في كل الجهات، مع الانفتاح التدريجي على القطاع الخاص، ثم فترة السبعينات مع الهادي نويرة الذي وضع تجربة الانفتاح الليبرالي وتشجيع الاستثمار الأجنبي من خلال سن قانون 1972، مع تشجيع رأس المال الوطني في الاستثمار وخلق الثروة والانتصاب للحساب الخاص، واجتماعيا تتولى الدولة الحفاظ على استقرار الأسعار وحماية اجتماعية للفئات الضعيفة من خلال خلق صندوق الدعم للمواد الأساسية.
لكن خلال فترة الثمانينات، عرفت التجربة التنموية التونسية صعوبات حادة نتيجة عدة عوامل أدت إلى أزمة 1986 ساهمت سياسيا في تغييرات على مستوى الحكم، واعتماد النظام الأسبق في عهد الرئيس بن علي برنامج إصلاح اقتصادي هيكلي من خلال اعتماد سياسة التفويت في المؤسسات العمومية، ومزيد الانفتاح على الخارج خاصة عبر توقيع اتفاقيات شراكة شاملة مع الاتحاد الأوربي، مع عدم القطع مع التجارب الاقتصادية السابقة بل تعايش معها، وساهمت هذا التعايش في رفع نسبة النمو لكن دون أن يصاحبه تنمية حقيقية وعدالة تنموية بين الجهات بل ساهم في خلق فروق اجتماعية وزاد في عدد المناطق المهمشة والفقيرة..
والملاحظ أن جل الحكومات ما بعد 2011 وعدت بمراجعة منوال التنمية، دون أن تحدد ملامحه ومفهومه وأهدافه وطبيعة الخيارات التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي نريد تحقيقها.. وبرزت دعوات عديدة تطالب بتغيير منوال التنمية، صدرت عن خبراء ومجتمع مدني ومنظمات وطنية، حتى أن جل الحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية التي تداولت على الحكم خلال فترة ما يسمى بالانتقال الديمقراطي رفعت في برامجها الاقتصادية شعار البحث عن منهاج تنمية بديل، دون أن تتمكن أي منها من إرساء قواعد المنوال المنشود أو الايفاء بوعودها التنموية العديدة..