إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

هل هي الجمهورية الثالثة في تونس؟

 

 

ينضاف المجلس الجديد إلى المجلس التشريعي الأول لمراقبة عمل الحكومة في نظام رئاسي واضح المعالم حدده دستور 2022

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

         مع اكتمال الدور الثاني لانتخابات المجالس المحلية وتنصيب الغرفة الثانية للبرلمان وهو المجلس الوطني للجهات والأقاليم ، بداية عام 2024، يعود النظام البرلماني التونسي إلى الإشغال بثنائية التمثيل النيابي، كما هو الحال في سائر البرلمانات في العالم ذات الغرفتين العليا والسفلي .

   وبعد غياب طوال العشرية الأخيرة للغرفة الثانية الملغاة عام 2011 ، ينضاف المجلس الجديد إلى المجلس التشريعي الأول لمراقبة عمل الحكومة في نظام رئاسي واضح المعالم حدده دستور عام 2022 الجديد، الذي يعطي لرئيس الدولة صلاحيات واسعة من أجل توجيه وتنفيذ الإصلاحات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحفز التشغيل والاستثمار وتحريك المشاريع المعطلة في الجهات وعلى المستوى الوطني، بعد عشرية من الركود والتراجع الاقتصادي ، غلب فيها الجدل السياسي للانتقال الديمقراطي على مشاريع التنمية وتحدياتها وسبل خلق الثروة الوطنية وتوزيعها بعدالة وكرامة.

   وتكتمل بذلك حلقة المؤسسات الدستورية المستقرة من أجل ديمقراطية تشاركية تساهم في مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لا تكون فيها الديمقراطية غاية خاوية في حد ذاتها.

   والمؤمل أن تكتمل عملية تركيز باقي مكونات المجتمع الديمقراطي بإحياء وتركيز المجلس الاقتصادي والاجتماعي كفضاء للحوار الوطني وآلية إسناد العمل البرلماني التشريعي، بعد أن تم غلقه منذ عام 2011، إضافة إلى تنصيب المحكمة الدستورية الغائبة عن الساحة التحكيمية طوال عشرية كاملة لم تتفق حولها أحزاب وكتل الدورات المتتالية للبرلمان المنحل.

 وفي نظر المحللين، فان ذلك يمثل انطلاقا جديدا في مرحلة بناء ديمقراطي جديد ورشيد يندرج في خصوصيات تونس السياسية والمجتمعية ويأخذ العبرة مما مضى سلبا وإيجابا، ويبني على ما تحقق، بما يمثل انطلاق بناء الجمهورية الثالثة في تونس لما بعد الاستقلال، تكملة للجمهوريات السابقة وهي أولا الجمهورية الأولى للدستوريين الحداثيين لعهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي من 1959 إلى 2011 بدستورها لعام 1959 ، ثم الجمهورية الثانية للانتقال الديمقراطي التداولي على الحكم من 2011 إلي 2021 بدستورها الجديد لعام 2014 .

   وقد تبدو تسمية "الجمهورية الثالثة" اعتباطية للبعض، ولكنها تنطلق من صيرورة العمل السياسي ومسارات العملية السياسية ومدى التداولية على الحكم بين مكونات الحياة السياسية والحزبية ومختلف القوى الفاعلة في المجتمع وفي الساحة السياسية.

  وحسب هذا التصنيف فإن الجمهورية الأولى لتونس المستقلة قد تواصلت أكثر من خمسين سنة من 1956 إلى 2011 . وكان فيها الحكم للدستوريين الحداثيين بالتحالف مع النقابات بقيادة بورقيبة وخلفه بن علي الذي كان استمرارا للعهد البورقيبي المتبوع بالعهد النوفمبري، رغم أن الصحافة أطلقت تسمية "الجمهورية الثانية" على العهد النوفمبري لبن علي (1987-2011)، ولكن ذلك العهد كان في الحقيقة استمرارا للعهد البورقيبي الطويل .

   أما الجمهورية الثانية، فقد تولى فيها الحكم الإسلام السياسي وحلفاؤه من المعارضة الحقوقية واليمينية، وهو بالنسبة لبعض المؤرخين سليل الدستوريين المحافظين لجماعة اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري التاريخي، أو ما يطلق عليهم "الغرانطة" أو بقايا الحركة اليوسفية المنضوية في التيار المحافظ العربي الإسلامي . وقد استمرت الحركة الإسلامية في الحكم طوال العشرية الأخيرة، حتى إزاحتها من طرف الرئيس قيس سعيد الذي كانت صوتت له تلك الحركة بأطيافها المعتدلة والمتشددة، في الدور الثاني التنافسي للانتخابات الرئاسية لعام 2019، حتى إيقاف المسار الانتقالي وحل البرلمان ونزع فتيل أزمة دستورية مستفحلة نتج عنها شلل المؤسسات الدستورية وتناحرها بسبب ضبابية دستور 2014 حول طبيعة النظام السياسي الهجين المعتمَد بين البرلماني والرئاسي . وتم إقرار دستور جديد عام 2022 كان بمثابة عودة إلى الدستور التأسيسي للجمهورية التونسية المستقلة لعام 1959، المأخوذ عن دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية المستمر إلى اليوم منذ أكثر من ستين سنة .

تتالي الجمهوريات في فرنسا

  من المعلوم أن تتالي الجمهوريات في فرنسا منذ الثورة الفرنسية لعام 1789 شهد تواتر خمس جمهوريات، تراوحت في طول وقصر مدة حياتها من فترة إلي أخرى . فقد تواصلت الجمهورية الأولي اثنتي عشر سنة من 1789 إلى 1804. وتواصلت الجمهورية الثانية أربع سنوات من 1848 إلى 1852، في حين تواصلت الجمهورية الثالثة، سبعين سنة من 1870 إلى 1940. وتواصلت الجمهورية الرابعة اثنتي عشر سنة من 1946 إلى 1958 . أما الجمهورية الخامسة فهي مستمرة منذ أكثر من ستين سنة إلى اليوم 2024 . وتكتسي مختلف الأنظمة السياسية في العالم خصوصية مجتمعية لكل منها. وهي تكيّف الديمقراطية الشكلية لخصوصيات مجتمعاتها وتقاليدها السياسية المتراوحة بين الانفتاح والانغلاق وبين المحافظة والليبرالية. فعلى سبيل المثال يختلف النظام السياسي الفرنسي المتميز بالليبرالية، وهو سليل الثورة الفرنسية وتناقضات مساراتها ، عن النظام السياسي الألماني المتميز بسطوة السلطة التنفيذية القوية للمستشار الحاكم .والاثنان جاءا من نفس أفكار عصر الأنوار الأوروبية في القرن الثامن عشر. ولكن كليهما تأثر أوّلا بالبيئة المحلية وإرثها التاريخي.

   ففي ألمانيا يمكن المقارنة بين تسلسل الجمهوريات المتتالية انطلاقا من الرايْش الأول وهو ملكية دستورية سلطوية ، تواصلت من 1871 إلي 1918 وسيطر عليها المستشار القوي بيزمارك، تلتها جمهورية فايْمارْ، الليبرالية الضعيفة التي أدت إلى نفور الناس من الديمقراطية وصعود الشعبوية النازية مع هتلر. وقد جاءت جمهورية فايْمار الضعيفة بمؤسساتها المشلولة والمتناحرة من 1918 تاريخ انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا وتواصلت حتى عام 1933، تاريخ صعود أدولف هتلر إلى الحكم بعد انتخابات فاز فيها حزبه القومي النازي الذي استمر في الحكم حتى الهزيمة في الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، وظهور الجمهورية الفدرالية الجديدة المفروضة في نفس السنة تحت الوصاية الأمريكية والغربية، والمستمرة إلى اليوم، تحت المراقبة التداولية بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، مع التغيير والتطويع الدوري للقوانين الانتخابية ولقانون الأحزاب لمحاصرة ومنع وصول الحزب النازي إلى الحكم، حيث يمثل اليوم القوة الثالثة في الساحة الانتخابية في سجل الأحزاب بين حاكمة ومعارضة.

   وفي الجزائر المجاورة، يمكن اعتبار أنها تعيش الجمهورية الثالثة أيضا حسب نفس منهجية القراءة المؤسساتية . فبعد أن تواصلت الجمهورية الأولى ثلاثين سنة منذ الاستقلال عام 1962 ألي عام 1988 تاريخ الدخول في تجربة انتقال ديمقراطي تحول إلى عشرية سوداء للإرهاب والدماء، والتي يمكن وسمها بالجمهورية الثانية المضطربة، حتى تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة السلطة، وتطبيقه سياسة الوئام والمصالحة الوطنية مع ضمان استقرار المؤسسات الديمقراطية بمشاركة القوى السياسية الفاعلة والأحزاب الموالية والمعارضة، بما يشبه الجمهورية الثالثة المتواصلة إلى اليوم مع الاستجابة السلمية لاستحقاقات الحراك الشعبي.

ولعل هذا التقييم ينطبق على أغلب الدول العربية التي تعرف حياة سياسية فيها أحزاب وانتخابات دورية بطابعها الخصوصي القريب من النموذج الكوني الغربي، الذي يعيش هو نفسه أخذا وردّا وتجاذبات من بلد إلى أخر في الغرب الأورو-أمريكي بسبب تصاعد النزعات الشعبية والفاشية في دوله وأنظمته.

    ففي فرنسا ، القريبة من تونس من ناحية النظام السياسي القائم ، يضمن دستور الجمهورية الخامسة تحقيق ضمان استمرار الدولة الفاعلة عبر آليات مختلفة وقع تعهدها بالتنقيحات الدستورية التي تراوحت بين الاستئناس بالنظام البرلماني وتكريس قوة النظام الرئاسي بهدف حماية الدولة والديمقراطية والتعددية الحزبية، وضمان هيمنة الدولة بالمفهوم الغرامشي . ويحظى الرئيس المباشر بدور مركزي في العملية السياسية تجعله قريبا من "الملك الرئاسي" كما تصفه الصحافة. وهو بذلك ينتصب على رأس العملية السياسية والسباق الانتخابي من أجل الحفاظ على السلطة أو الحصول عليها أو إزاحة الأخر، مما يجعل الإستراتيجية الرئاسية منصبّة علي القبول بالزعيم، حتى في ظل انعدام البرامج بهدف الوصول الي الحكم مهما كان الثمن . وفي العلاقة بالبرلمان الذي يحتل المرتبة الثانية في سلم المؤسسات الحاكمة في فرنسا، يتمتع الرئيس وحكومته بحق تمرير القوانين مباشرة، إذا تعذّرت الموافقة عليها بسبب رفض أغلبية النواب ذلك ، حيث يمكن تمريرها أليا حسب الفصل 49 من الدستور الذي يسمح ذلك . وفي السنة الماضية استعملت حكومة السيدة ايزابال بورْن، المقالة، هذا الفصل خلال فترة ترؤسها للحكومة عام 2023 أكثر من ثلاثين مرة، متجاهلة رفض البرلمان لعدة مشاريع قوانين هامة مثل قانون التقاعد الذي أثار احتجاجات شعبية واسعة هددت النظام وأظهرت عزلته وعناده. ولكن هيهات. وهو ما يطرح تساؤلا حول شرعية المؤسسات ودور السلطة التشريعية ومكانتها في بلد ديمقراطي عريق بقرن ونصف من التعددية والتداولية الديمقراطية والفصل بين السلطات ، ويطرح السؤال أيضا حول مدى وحدود الديمقراطية في معاقلها.

 

 

 

 

 

 

 

هل هي الجمهورية الثالثة في تونس؟

 

 

ينضاف المجلس الجديد إلى المجلس التشريعي الأول لمراقبة عمل الحكومة في نظام رئاسي واضح المعالم حدده دستور 2022

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

         مع اكتمال الدور الثاني لانتخابات المجالس المحلية وتنصيب الغرفة الثانية للبرلمان وهو المجلس الوطني للجهات والأقاليم ، بداية عام 2024، يعود النظام البرلماني التونسي إلى الإشغال بثنائية التمثيل النيابي، كما هو الحال في سائر البرلمانات في العالم ذات الغرفتين العليا والسفلي .

   وبعد غياب طوال العشرية الأخيرة للغرفة الثانية الملغاة عام 2011 ، ينضاف المجلس الجديد إلى المجلس التشريعي الأول لمراقبة عمل الحكومة في نظام رئاسي واضح المعالم حدده دستور عام 2022 الجديد، الذي يعطي لرئيس الدولة صلاحيات واسعة من أجل توجيه وتنفيذ الإصلاحات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحفز التشغيل والاستثمار وتحريك المشاريع المعطلة في الجهات وعلى المستوى الوطني، بعد عشرية من الركود والتراجع الاقتصادي ، غلب فيها الجدل السياسي للانتقال الديمقراطي على مشاريع التنمية وتحدياتها وسبل خلق الثروة الوطنية وتوزيعها بعدالة وكرامة.

   وتكتمل بذلك حلقة المؤسسات الدستورية المستقرة من أجل ديمقراطية تشاركية تساهم في مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لا تكون فيها الديمقراطية غاية خاوية في حد ذاتها.

   والمؤمل أن تكتمل عملية تركيز باقي مكونات المجتمع الديمقراطي بإحياء وتركيز المجلس الاقتصادي والاجتماعي كفضاء للحوار الوطني وآلية إسناد العمل البرلماني التشريعي، بعد أن تم غلقه منذ عام 2011، إضافة إلى تنصيب المحكمة الدستورية الغائبة عن الساحة التحكيمية طوال عشرية كاملة لم تتفق حولها أحزاب وكتل الدورات المتتالية للبرلمان المنحل.

 وفي نظر المحللين، فان ذلك يمثل انطلاقا جديدا في مرحلة بناء ديمقراطي جديد ورشيد يندرج في خصوصيات تونس السياسية والمجتمعية ويأخذ العبرة مما مضى سلبا وإيجابا، ويبني على ما تحقق، بما يمثل انطلاق بناء الجمهورية الثالثة في تونس لما بعد الاستقلال، تكملة للجمهوريات السابقة وهي أولا الجمهورية الأولى للدستوريين الحداثيين لعهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي من 1959 إلى 2011 بدستورها لعام 1959 ، ثم الجمهورية الثانية للانتقال الديمقراطي التداولي على الحكم من 2011 إلي 2021 بدستورها الجديد لعام 2014 .

   وقد تبدو تسمية "الجمهورية الثالثة" اعتباطية للبعض، ولكنها تنطلق من صيرورة العمل السياسي ومسارات العملية السياسية ومدى التداولية على الحكم بين مكونات الحياة السياسية والحزبية ومختلف القوى الفاعلة في المجتمع وفي الساحة السياسية.

  وحسب هذا التصنيف فإن الجمهورية الأولى لتونس المستقلة قد تواصلت أكثر من خمسين سنة من 1956 إلى 2011 . وكان فيها الحكم للدستوريين الحداثيين بالتحالف مع النقابات بقيادة بورقيبة وخلفه بن علي الذي كان استمرارا للعهد البورقيبي المتبوع بالعهد النوفمبري، رغم أن الصحافة أطلقت تسمية "الجمهورية الثانية" على العهد النوفمبري لبن علي (1987-2011)، ولكن ذلك العهد كان في الحقيقة استمرارا للعهد البورقيبي الطويل .

   أما الجمهورية الثانية، فقد تولى فيها الحكم الإسلام السياسي وحلفاؤه من المعارضة الحقوقية واليمينية، وهو بالنسبة لبعض المؤرخين سليل الدستوريين المحافظين لجماعة اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري التاريخي، أو ما يطلق عليهم "الغرانطة" أو بقايا الحركة اليوسفية المنضوية في التيار المحافظ العربي الإسلامي . وقد استمرت الحركة الإسلامية في الحكم طوال العشرية الأخيرة، حتى إزاحتها من طرف الرئيس قيس سعيد الذي كانت صوتت له تلك الحركة بأطيافها المعتدلة والمتشددة، في الدور الثاني التنافسي للانتخابات الرئاسية لعام 2019، حتى إيقاف المسار الانتقالي وحل البرلمان ونزع فتيل أزمة دستورية مستفحلة نتج عنها شلل المؤسسات الدستورية وتناحرها بسبب ضبابية دستور 2014 حول طبيعة النظام السياسي الهجين المعتمَد بين البرلماني والرئاسي . وتم إقرار دستور جديد عام 2022 كان بمثابة عودة إلى الدستور التأسيسي للجمهورية التونسية المستقلة لعام 1959، المأخوذ عن دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية المستمر إلى اليوم منذ أكثر من ستين سنة .

تتالي الجمهوريات في فرنسا

  من المعلوم أن تتالي الجمهوريات في فرنسا منذ الثورة الفرنسية لعام 1789 شهد تواتر خمس جمهوريات، تراوحت في طول وقصر مدة حياتها من فترة إلي أخرى . فقد تواصلت الجمهورية الأولي اثنتي عشر سنة من 1789 إلى 1804. وتواصلت الجمهورية الثانية أربع سنوات من 1848 إلى 1852، في حين تواصلت الجمهورية الثالثة، سبعين سنة من 1870 إلى 1940. وتواصلت الجمهورية الرابعة اثنتي عشر سنة من 1946 إلى 1958 . أما الجمهورية الخامسة فهي مستمرة منذ أكثر من ستين سنة إلى اليوم 2024 . وتكتسي مختلف الأنظمة السياسية في العالم خصوصية مجتمعية لكل منها. وهي تكيّف الديمقراطية الشكلية لخصوصيات مجتمعاتها وتقاليدها السياسية المتراوحة بين الانفتاح والانغلاق وبين المحافظة والليبرالية. فعلى سبيل المثال يختلف النظام السياسي الفرنسي المتميز بالليبرالية، وهو سليل الثورة الفرنسية وتناقضات مساراتها ، عن النظام السياسي الألماني المتميز بسطوة السلطة التنفيذية القوية للمستشار الحاكم .والاثنان جاءا من نفس أفكار عصر الأنوار الأوروبية في القرن الثامن عشر. ولكن كليهما تأثر أوّلا بالبيئة المحلية وإرثها التاريخي.

   ففي ألمانيا يمكن المقارنة بين تسلسل الجمهوريات المتتالية انطلاقا من الرايْش الأول وهو ملكية دستورية سلطوية ، تواصلت من 1871 إلي 1918 وسيطر عليها المستشار القوي بيزمارك، تلتها جمهورية فايْمارْ، الليبرالية الضعيفة التي أدت إلى نفور الناس من الديمقراطية وصعود الشعبوية النازية مع هتلر. وقد جاءت جمهورية فايْمار الضعيفة بمؤسساتها المشلولة والمتناحرة من 1918 تاريخ انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا وتواصلت حتى عام 1933، تاريخ صعود أدولف هتلر إلى الحكم بعد انتخابات فاز فيها حزبه القومي النازي الذي استمر في الحكم حتى الهزيمة في الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، وظهور الجمهورية الفدرالية الجديدة المفروضة في نفس السنة تحت الوصاية الأمريكية والغربية، والمستمرة إلى اليوم، تحت المراقبة التداولية بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، مع التغيير والتطويع الدوري للقوانين الانتخابية ولقانون الأحزاب لمحاصرة ومنع وصول الحزب النازي إلى الحكم، حيث يمثل اليوم القوة الثالثة في الساحة الانتخابية في سجل الأحزاب بين حاكمة ومعارضة.

   وفي الجزائر المجاورة، يمكن اعتبار أنها تعيش الجمهورية الثالثة أيضا حسب نفس منهجية القراءة المؤسساتية . فبعد أن تواصلت الجمهورية الأولى ثلاثين سنة منذ الاستقلال عام 1962 ألي عام 1988 تاريخ الدخول في تجربة انتقال ديمقراطي تحول إلى عشرية سوداء للإرهاب والدماء، والتي يمكن وسمها بالجمهورية الثانية المضطربة، حتى تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة السلطة، وتطبيقه سياسة الوئام والمصالحة الوطنية مع ضمان استقرار المؤسسات الديمقراطية بمشاركة القوى السياسية الفاعلة والأحزاب الموالية والمعارضة، بما يشبه الجمهورية الثالثة المتواصلة إلى اليوم مع الاستجابة السلمية لاستحقاقات الحراك الشعبي.

ولعل هذا التقييم ينطبق على أغلب الدول العربية التي تعرف حياة سياسية فيها أحزاب وانتخابات دورية بطابعها الخصوصي القريب من النموذج الكوني الغربي، الذي يعيش هو نفسه أخذا وردّا وتجاذبات من بلد إلى أخر في الغرب الأورو-أمريكي بسبب تصاعد النزعات الشعبية والفاشية في دوله وأنظمته.

    ففي فرنسا ، القريبة من تونس من ناحية النظام السياسي القائم ، يضمن دستور الجمهورية الخامسة تحقيق ضمان استمرار الدولة الفاعلة عبر آليات مختلفة وقع تعهدها بالتنقيحات الدستورية التي تراوحت بين الاستئناس بالنظام البرلماني وتكريس قوة النظام الرئاسي بهدف حماية الدولة والديمقراطية والتعددية الحزبية، وضمان هيمنة الدولة بالمفهوم الغرامشي . ويحظى الرئيس المباشر بدور مركزي في العملية السياسية تجعله قريبا من "الملك الرئاسي" كما تصفه الصحافة. وهو بذلك ينتصب على رأس العملية السياسية والسباق الانتخابي من أجل الحفاظ على السلطة أو الحصول عليها أو إزاحة الأخر، مما يجعل الإستراتيجية الرئاسية منصبّة علي القبول بالزعيم، حتى في ظل انعدام البرامج بهدف الوصول الي الحكم مهما كان الثمن . وفي العلاقة بالبرلمان الذي يحتل المرتبة الثانية في سلم المؤسسات الحاكمة في فرنسا، يتمتع الرئيس وحكومته بحق تمرير القوانين مباشرة، إذا تعذّرت الموافقة عليها بسبب رفض أغلبية النواب ذلك ، حيث يمكن تمريرها أليا حسب الفصل 49 من الدستور الذي يسمح ذلك . وفي السنة الماضية استعملت حكومة السيدة ايزابال بورْن، المقالة، هذا الفصل خلال فترة ترؤسها للحكومة عام 2023 أكثر من ثلاثين مرة، متجاهلة رفض البرلمان لعدة مشاريع قوانين هامة مثل قانون التقاعد الذي أثار احتجاجات شعبية واسعة هددت النظام وأظهرت عزلته وعناده. ولكن هيهات. وهو ما يطرح تساؤلا حول شرعية المؤسسات ودور السلطة التشريعية ومكانتها في بلد ديمقراطي عريق بقرن ونصف من التعددية والتداولية الديمقراطية والفصل بين السلطات ، ويطرح السؤال أيضا حول مدى وحدود الديمقراطية في معاقلها.