إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعر سوف عبيد لـ"الصباح": القصيدة هي التي تفتحني وذلك عندما تنقدح كالشرارة في ذهني

حوار: محسن بن احمد

 

تونس-الصباح

اصيل مدينة غمراسن بالجنوب التونسي الأبي...أحد رواد المدونة الشعرية التونسية والعربية على حد السواء، متحرّر مجدّد، تمرد في كتاباته الشعرية على كل الأنماط والأجناس الأدبية، كتب الشعر العمودي كما كتب الشعر الحر والمقفّى والموزون والمنثور، واختار لنصوصه لغة سلسة ظاهرها سهل وبسيط وباطنها بحث وتحقيق

هو سوف عبيد الشاعر المجد والمجتهد بأشعاره ودراساته وتحاليله ومواكبته الفاعلة للمشهد الثقافي التونسي بمختلف تفاصيله فالشعر عنده ترجمان الوجدان وبوح الذات

 

**من قادك الى الشعر ؟

-كانت بداية شغفي بالشعر مع أغنيات أمي ورأسي على ركبتها وهي ترحي القمح والشعير في غار حوشنا ببئر الكرمة بغمراسن في أقاصي الجنوب التونسي وما يزال صدى تلك الأغاني الشجية أنيسا لي في وحدتي أحيانا 

أذكر أيضا من صباي بعض حفلات الأعراس عندما كان ينتصب الشاعر سعيد حيتانة رحمه الله وسط الرجال من جهة والنساء من جهة أخرى ويقف شامخا في إزاره الأبيض وشاشيته الحمراء وبيده عكازه يدق به على الأرض مع إيقاعات شعره بصوته الجهوري فأشعر بذبذبات صوته تدك الهضاب حولنا دكا وتنطلق زغردات النسوة بين كل قصيدة وقصيدة مع طلقات البارود ذلك الشاعر هو سعيد حيتانة رحمه الله وكان عمي بشير من أصدقائه ومريديه فيتابعه تقريبا في جميع الأعراس التي يدعى للغناء فيها باعتباره _ الشاعر الغناي _ الذائع الصيت وكنت أرافق عمي الحفي بي باعتباري ابن أخيه وأحمل اسم أبيه جدي فيجلسني إلى جانبه في مجلس الضيوف المبجلين الذين يرافقون الشاعر الغناي عم سعيد حيتانة هذا الشاعر الفحل الذي تشرفت بمرافقته في أمسية شعرية أقامتها جمعية ابن عرفة وكان وقتها قد جاوز الثمانين عاما ورغم سمع فإن صوته زعزع أركان القاعة فكم كنت سعيدا بالجلوس إلى جانبه وهو يحدثني عن ذكريات شبابه مع عمي في بئر الكرمة بغمراسن ووفاء لمسيرته الشعرية الطويلة والغزيرة ولذكراه كتبت عنه فصلا ضمن كتابي _ الضفة الثالثة _ ونظمت ذكراه الأولى بغمراسن باسم جمعية ابن عرفة ودعونا وأعلمنا الذين حسبناهم من المهتمين ولكن مع الأسف لم يكن الحضور في مستوى قيمة هذا الشاعر الفحل ولا في مستوى انتظاري وهذا ما زهدني في النشاط الثقافي هناك

أما أوّل مرة أشعر فيها بمتعة الكتابة الشعرية فكان ذلك وأنا في العاشرة تقريبا عندما طلب مني المعلم أن أصعد على المصطبة عند السبورة وأقف مواجها التلاميذ لأستعرض المحفوظات  ولست أدري كيف تلعثمت في نطق الحروف فسدت حلقي والتحمت شفتاي على بعضهما و بالكاد استرجعت أنفاسي ونطقت لللللل ...مممما...أح أح أح...فانفجر التلاميذ في زوبعة من 1الضحك فأمرهم المعلم بالكف عن ذلك بحزم وتوجه إلي سائلا هل حفظت المحفوظات فأومأت برأسي نعم حينذاك أجلسني على كرسيه ووضع أمامي ورقة بيضاء ومد لي قلمه وقال لي اكتب المحفوظات فكتبها بسرعة

لله ما أحلى الطفولة * إنها حلم الحياة 

وتملكني حينذاك شعور التحدّي تحدّي التلاميذ الذين سخروا مني حيث أنّ  ـ سيّدي ـ أجلسني مكانه وأحسست  الانتصار عليهم فقد خيبت ظن البعض الذين كانوا يعتقدون أنني لم أحفظ القصيدة ولستأدري وقتها كيف اِعتبرت أن تلك القصيدة كانت مثل حبل النجاة الذي أنقذني من الغرق أو اِنتشلني من قاع البئر...حينها اِنبذَرَت في وجداني حبّة الشعر فضربت جذورها عميقا مع توالي السنوات

 

**ما هو الباب الذي تفتحه عند اللقاء بالقصيد باب الطفولة ام باب الذكريات أم باب الحنين أم باب المكان أمباب النسيان ؟

–بل القصيدة هي التي تفتحنيوذلك عندما تنقدح كالشرارة في ذهني فتضيئ لي ما كان سديما

تخطر الفكرة عند حالة شعرية بذاتها فتختمر في الذهن ثم أشرع في عملية التخطيط كمثل المهندس أو الجغرافي يرسم خريطة ثم تأتي مرحلة البناء كلمة كلمة وهذه المرحلة تتطلب الدقة والمراجعة والتمعن في التفاصيل تماما مثلما يرتب بائع الورد باقته بالتسوية والتشذيب والتنسيق أو كما تتمعن الماشطة العروس لتضفي عليها اللمسات الأخيرة بل قد أعود لمراجعة القصيدة حتى بعد أعوام...

الشعر عندي ترجمان الوجدان وبوح الذات وقد كنت على مدى سنوات عديدة لا أستطيع النطق بالكلام الطلق والمسترسل مما جعلني أكظم تعبيري في صدري ولا أشارك الصبيان والتلاميذ الأحاديث إلا مع القليل منهم ولعل ذلك كان بسبب الظروف الصعبة التي نشأتُ فيها في ربوع أقاصي الجنوب التونسي فقد كان والدي رحمه الله يتغيب عنا طويلا سعيا وراء لقمة العيش في العاصمة ثم لما انتقلت إلى ضاحية من ضواحي العاصمة للدراسة لدى عمي افتقدت أيضا امي وقد وجدتني وحيدا في القسم أو الفصل مع تلاميذ لا أعرف منهم أحدا فزاد ذلك في انزوائي وصمتي وقد كان المعلم يطلب مني ان أنسخ المحفوظات بدل عن سردها ومن ذلك الوقت نشأت عندي محبة كتابة القصائد

**   للمكان حضور أساسي في القصيد - من وجهة نظرك هل بإمكان  الشاعر ترويض المكان باللغة ولأي مدى؟

 

-ينتابني الحنين إلى سنوات الطفولة في بادية غمراسن ونواحيها بما اِرتسم في مخيلتي من أخبار عصورها الغابرة وبما رسخ في ذاكرتي من أخبار وقائع تلك السنوات مثل واقعة حرب رمادة وحرب الجزائر وقد شدّني الشعراء الشعبيون وهم ينشدون في المحفل قصائدهم بإيقاعات تهزّ الوجدان ومن وقتها ربّما أحببت أن أكون مثلهم

عِشت مفارقة عجيبة

فقد أذهلتني الحدائق

عندما اِنتقلت للدراسة في ضاحية مقرين الجميلة بشتى الزهور والورود

وأشجار الثمار المتنوعة

ناهيك عن المنازل ذات الطراز الإفرنجي أذهلتني الطرقات

القطارات

الوجوه النّضرة

لم أستطع التأقلم مع هذا المحيط الغريب

كنت آوي إلى عائلة عمّي

لم أكن أعرف منها أيّ شخص

فعشت سنتين من الغربة

كنت أحن فيها إلى مرابع طفولتي

غار حوشنا القديم

مَثَله مَثَلُ رحم الأرض

دافئ في ظلامه

أليف في صخره

لا وحي فيه

إلاّ… همس الأرض!

*

في حوشنا القديم

مائدة الشّاي كانت

تجلس القرفصاء

في الظل .. بيننا

مرة في الصباح

مرة في البكاء

حينما

خرجت جدتي في بياض البياض

اِنتظرت

اِنتظرت

ولم تعد

*

في حوشنا القديم

أبي .. متربّع على حصيره

حبّةٌ إثر حبّة … في سبحته

صحراء في صمته

أسمر في جبّته

البيضاء

أمّي

عروس دائما

ما أحلى بسمتها في سِواكها

بين الجمر والفنجان يدُها

لمّاعةٌ فضّتُها في سوارها

أمّي

*

في حوشنا القديم

الشّمس

ترتقي… تتدحرج أمامي

ثمّ تغرق في الرّمل

النجوم

أقرب إليّ من السّوق

كم مرّة اِشترت عيناي

تصاوير بالألوان

من الأقمار

كم مرّة ركبت الهلال أرجوحة

وغسلت له يديه

في إناء الفخار

*

في حوشنا القديم

الشوك والحصى

أقدامي كانت الأرض

على مدى البصرْ

بلا حذاء .. بلا حدود

وبلا جواز سفرْ

**ـ كيف تنظر الى دور القصيد في حياة الشاعر,,,قلعة تحميه من عواصف الاحزان ام نافذة يطل منها على خصوصياته؟

-قصيدة ـ الجازية ـ مثلا أعتبرها من أهمّ قصائدي فقد حاولت فيها الاِستفادة من الملحمة الشعبية ومن التراث الشفوي بما فيه من أمثلة وحكم وأغان وأشعار بالإضافة إلى مختلف أشكال الشعر الفصيح وذلك للتأكيد على أن التجدبد ممكن دائما وأن النص الشعري بوسعه أن يشمل شتى أنواع الكتابة لأعانق بهذه القصيدة أرحب فضاء ممكن أما من ناحية المضمون فقصيدة الجازية تتجاوز النظريات الإيديولوجية المحلية والقومية الضيقة لتنفتح   على الإنسانية جمعاء مهما تباعدت الأوطان حيث ورد فيها

ومثل ستائر الحرير

أسبلتْ الجناحَ عليّ فقلت:

أيُّ الطّرقات أوصلتك من المشرق

ومن أيّ فجاج عَبَرْتِ التّخوم

إلى المغرب

حتّى بلغت هذا المنتهى؟

الوطنُ وطني قالت

منذ سابق الزّمان

من الأمازيغ إلى كنعان... الأرض أوطانٌ في أوطان

لبني الإنسان

فلو أبحرت علّيسةُ أكثر

عَبْرَ السّواحل

ولو ولج حنّبعل وعُقبة

أو حسّان بن النّعمان

خطوة أخرى

كنّا فتحنا بحر الظّلمات...

فلماذا أحرقتَ يا طارق

تلك الزّوارق

فقّد جاءنا بعدك الإفرنجُ

هَوْجًا بعده هوجُ

كاد يغرقنا الموجُ

*****

 ( ناري على جرجيس

وبناويتا

دخلوا النّصاري

وهدموا

زاويتا )

 

**   كيف تحدد لنا مرجعياتك لتأسيس قصيدك؟

-في الواقع قد سبقني بعض الشعراء في تونس إلى كتابة قصيد النثر مثل محمد أبو القاسم كرّو ومحمود التونسي ومحمد مصمولي وصالح القرمادي وحتى نور الدين صمود ـ في ـ ألوان جديدة ـ وكذلك شعراء جماعة غير العمودي والحرّ وغيرهم وقد حاولت أن أواصل هذا المسار التجديدي ضمن كوكبة من الشعراء من بينهم محمد رضا الكافي وخالد النجار ومحمد أحمد القابسي وعزوز الجملي وعزيز الوسلاتي وآخرون لكن بعد هذه الموجة جاءت أصوات عديدة اِستسهلت خوض غمار هذا النوع الجديد من الشعر فاِختلط الحابل بالنابل هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أردت أن أكتب في الشكل القديم باِعتبار أنه إحياء وعود على بدء وتمسك بالذات والجذور وتأكيد على أن الشعر لا يُحدّ بشكل وحيد وأنه يمكنني الكتابة في كل الأشكال الشعرية إذا ما تطلب المضمون ذلك وينبغي أن أصرّح أيضا أن كتابتي في الشعر الموزون المقفّى هي دعوة ضمنية إلى أنّ التجديد لا يتنافى مع القديم بل تطور منه واِستمرار له فالشعر أوسع من الأشكال التي لا يمكنها وحدها تحديد نوعه وكنهه .
تلك جدلية الحياة…الزمن وحده كفيل بالغربلة

** ماذا يمكن ان تكشف لنا عن طقوس الكتابة عندك زمانا وكتابة؟

-الشّعر وما أروعه... إذ منه وفيه لذائذ عديدة أولها لذة قراءته أو سماعه وما أمتع لحظات اِنبجاس إلهامه وأنت تحاول الإمساك بجناح من أجنحة الفكرة وهي ترفرف حواليك في كل آن ومكان مغرية حينا متمنّعة حينا وبين هذا وذاك أنت صابر لقنصها حتى إذا ما اِستسلمت منقادة وأرخت لك العنان تقبل عليها بحذر ولطف فتبدأ حينها في نسجها حرفا حرفا وكلمة كلمة وتظل معها كأنك تنسج من مختلف الخيوط والألوان والأشكال زربية من حرير أو كأنك تُهيّء من أرض بُور بستانا ليستحيل حدائق منسقة جميلة وجنات يانعة الثمار وارفة الظلال

الشعر هو الأصل أو هو محور المسيرة غير أن بقية الاهتمامات صدرت عن شغفي بالأدب أساسا وكذلك بفضل دراستي في كلية الآداب بتونس حيث نهلت من معين أساتذة جهابذة في الدراسات الأدبية والتحقيق ولا شك أن قصائد الشابي النثرية التي نشرتها ببت الحكمة في تونس سنة 2009 كانت ثمرة تلك الدروس وأنا أعتبر تلك القصائد هي الديوان الثاني لأبي القاسم الشابي وقد جعلت لها العنوان الذي اختاره هو بنفسه في رسالته الثالثة لصديقه محمد الحليوي وهو - صفحات من كتاب الوجود - فكم أنا معتز بتحقيق أمنية الشابي في نشر تلك النصوص التي كانت مبعثرة في مصادرها الأولى.
أما كتاب - حركات الشعر التونسي الجديد - فهو عبارة عن شهادتي حول مسيرة الشعر التونسي حيث أني عايشت عديد الحركات فيه وهي حركات متنوعة وإن ذاك التنوع هو الذي دفع بالشعراء إلى معانقة الفضاءات الأرحب .
أما كتابي - الضفة الثالثة - فهو مجموع مقالات كتبتها على مدى سنوات طويلة ورصدت فيها قصائد وتجارب ومسائل مختلفة في الشعر التونسي والعربي

 

**ماذا عن كتاب ـ صفحات من كتاب الوجود ـ لأبي القاسم الشابي؟

 

-يمكن ان نعتبره الديوان الثاني للشابي بعد أغاني الحياة وعنوان ـ صفحات من كتاب الوجود ـ هو من اِقتراح الشابي نفسه فقد ذكره في الرسالة الثالثة التي أرسلها إلى صديقه محمد الحليوي ولم يتسنّ للشاعر أن يجمعها وأن يصدرها في حياته فظلّت مبثوثة في مصادر مختلفة وقد توصّلت إليها بعد أن اِطلعت على ما قرأته من آثار الشابي فوجدتها منشورة مع غيرها من مختلف نصوصه الأخرى في غير ديوانه أغاني الحياة وقد أشار إلى بعضها دارسون مختصون مثل أبي القاسم محمد كرّو وتوفيق بكار وأبو زيان السعدي
إن الاِختلاف في تسميات هذه النصوص وتصنيفاتها يعود إلى عدم اِستقرار المصطلح لهذا النوع من الشعر الذي بدأ في الظهور مع بداية القرن العشرين وهو ما زال إلى اليوم في طور الإنشاء والتنوع من شاعر إلى آخر ومن بلد إلى أخر ومن فترة إلى أخرى لذلك فإن التسمية والإجماع عليها تتطلب مدّة زمنية أطول وقد اِقترحت هذه التسمية التي تتضمن الإقرار بأنها من نوع ـ الشعر النثري ـ كجنس أدبي فهي إذن قصائد نثرية بالرغم من أنّ تقسيم الشعر بالاِعتماد على الشكل فحسب غير مقنع
ويرى قسم آخر من الذين أنكروا هذه القصائد أنه كان يجب أن أنشرها مثلما وجدتها في مصادرها تماما والحال أنّني حاولت قدر الإمكان أن أخرجها في طبعة لائقة بها من حيث توزيع الأسطر والصفحات مستأنسا بنسق كثير من أجزائها الأصلية لتكون في متناول القارئ
إنّ المسألة في نهاية الأمر تكمن في أنّ هؤلاء وأولئك يرون أنّ قصيدة النثر أو قصيد النثر ذات أصل مشرقي أو ذات أصل غربي ولا يريدون أن تكون لتونس ولأدبائها فضل الاِبتكار أو الإضافة أوالسّبق…مع الأسف لدى البعض منهم عقدة المشرق الأزلية ولدى الآخرين شعور الاستنقاص أمام الغرب والحال أن الأدب منذ عصور سابقة ماهو إلا نتيجة لتلاقح الثقافات قديمها وحديثها فأصول قصيدة النثر يمكن أن نقراها في اللغة العربية ضمن كثير من النصوص القديمة أيضا ونحن الآن قادمون على مرحلة تجاوز الحدود بين مختلف الأجناس وكذلك نحن على عتبات مرحلة تداخل الأجناس والفنون أيضا…فحدود الشّكل وحدها ليست مقياسا مضبوطا أو معيارا كافيا للجمالية وللسّمات الأدبية للنصّ
إن الغرض من نشر هذه القصائد هو التعريف بها وذكر مصادرها وهي التي ظلت مجهولة ومطموسة سنوات طويلة وقد حاولت التمهيد لكل قصيدة بما يناسبها من التقديم ولم يكن هدفي البتة دراستها وعسى أن تنهض العزائم لذلك… وقد كانت منشورة بدون أيّ اِعتبار لجماليتها الفنية وعندما رجعت إلى بعض المسودات والمخطوطات لدى الشابي لاحظت أنه كتب الكثير من الأسطر منها كما نشرتُها فاِتبعتُ نفس المنهج الذي أراده الشاعر

.

 **ما هي علاقتك باِبن عرفة؟ هل كان الدّافع الجهوي هو ما حفّزك على تحقيق تفسيره؟

-كان والدي رحمه الله مُحبّا لاِبن عرفة ويرى فيه العالم المستقل الذي وهب حياته للعلم والتعليم فكان مثالا لي منذ طفولتي وعندما درسني الدكتور سعد غراب المختص في اِبن عرفة اِقترح عليّ تحقيق جزء من تفسيره ضمن مجموعة من طلبته فلبّيت بكل مهجتي وكانت مناسبة للتعمق في التراث واِكتشافه

**المهرجانات الشعرية اليوم ضرورة أم ترف من وجهة نظرك؟

-أرى أنه يجب إرساء اِستراتيجية ثقافية واضحة وشاملة فتجعل المكتسبات الماضية رصيدا لها وتتجاوز ما لم يعُد يستجيب للطموحات الجديدة وتنبثق هذه الاِستراتيجية من ـ مشروع ثقافي وطنيّ ـ يكون نتيجة لحوار واسع تساهم في إرسائه الأطراف الفاعلة في المجتمع ويكون ذلك من خلال مجلس وطني للثقافة تنبثق منه مختلف الأهداف والوسائل ...

نعم نحن في أشدّ الحاجة إلى مشروع ثقافي جديد يعتز بعبقرية شخصيتنا التونسية الضاربة في التاريخ والمتطلعة نحو المستقبل

 

** هل بالإمكان العيش اليوم دون شعر ؟


-أحب السينما لأنها جامعة لفنون كثيرة فهي الصورة والسرد والموسيقى بحيث أن السينما شرفات مفتوحة على الدنيا وعلى الناس فهي جامعة للفنون وللمعارف أيضا ناهيك بالأفلام الوثائقية في شتى الميادين ولكن الظروف لم تسمح لي بالانخراط في مجال السينما فأنا أكتفي بالمتابعة وقد توحي لي بعض المشاهد السينمائية ببعض الخواطر الشعرية ومن المصادفات العجيبة أن أحد تلاميذي درس الإخراج السينمائي وجاءني يوما ليقترح أن أقوم بدور أساسي في فلم فاِعتذرت له بكل أسف
من ناحية أخرى كان بإمكاني مواصلة اِنخراطي في سلك ضباط الطيران بالجيش الوطني التونسي عندما تخرجت من الأكاديمية العسكرية وذلك عندما دُعيت بعد تخرجي من كلية الآداب لأداء واجب الخدمة العسكرية
وكان بإمكاني أيضا عدم الاِنخراط في سلك التعليم وحمل المحفظة والِاهتمام بتجارة مواد البناء مع الوالد رحمه الله ودخول عالم المقاولات من الباب الكبير فلقد كان الوالد اِكتسب الخبرة في هذا المجال بعد أن اِحترف صناعة الفطائر والحلويات التقليدية التونسية
كان بوسعي أيضا أن أهاجر إلى فرنسا حيث هناك كثير من أقاربي ومعارف والدي
نعم في شبابي كانت أمامي اِختيارات عديدة وكان النجاح فيها ممكنا غير أني اِخترت المحفظة والقصيدة

**تعددت المشارب والاتجاهات والمدارس الشعرية من الى قصيد الومضة والشعر النثري وشعر البيت ..كيف هي علاقتك بها كشاعر؟

-عندما صدر ديوان ـ شوق وذوق ـ لمصطفى خريّف في منتصف الستينيات من القرن العشرين قدّمه لنا أستاذنا سيدي الصادق عمران رحمه الله وكنت وقتذاك تلميذا بالمدرسة الصادقية في آخر المرحلة الأولى  من التعليم الثانوي فقرأ لنا منه أنماطا مختلفة من الشعر حتّى الشعر العامي المنشور في آخر الديوان وهذا ما جعلني أدرك ان الشعر يكون في عدة صيغ وأنماط ومن بين القصائد التي نالت إعجابي قصيدة ـ بين جبل وبحر ـ وهي من الشعر المنثور أو الشعر الذي لا يعتمد التفعيلة والبحر أو من قصيدة النثر فهذه التسميات جميعا لم تسقرّ إلى اليوم وهي ما تزال في نطاق البحث والتمحيص وكل وجهة نظر لها اِنطلاقاتها المعرفية وأنا أعتبر أن هذا النوع الجديد من الشعر هو اِمتداد لمختلف الأنواع الفنيّة في الكتابة على مدى عصور الأدب العربي بالإضافة إلى الاِستفادة من الآداب الأخرى وآخرها قصيدة الهايكو الياباني .

فقصيدة النثر ليست نمطا واحدا وإنما هي تتشكّل بصفات خاصة تقريبا في كل نص ولدى كل شاعر ولا  يجب أن نقاربها من الناحية الشكلية فقط وإن تراكمها واِستمرارها هو الكفيل بتثبيتها في المدوّنة الشعرية العربية.....ثمّة أمور الزمن وحده كفيل بها !

سوف عبيد في سطور:

- سُوف عبيد شاعر تونسي من مواليد يوم 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في منطقة غمراسن بالجنوب الشّرقي التونسي.

- درس الاِبتدائي بغُمْراسِن وبالعاصمة تونس.

-تخرّج من كلية الآداب بأستاذية العربية سنة 1976 ثمّ بشهادة الكفاءة في البحث حول تفسير الإمام اِبن عرفة سنة 1979.ا

-ِشتغل سُوف عبيد بتدريس اللغة والآداب العربية والترجمة في المعاهد الثانوية بعد أداء واجب الخدمة العسكرية ضابطا بجيش الطيران.

- بدأ النشر منذ 1970 وشارك في النوادي والندوات الأدبية والثقافية في تونس وخارجها واِنضمّ إلى اِتحاد الكتاب التونسيين سنة 1980 واُنتُخب ثلاث مرات في لجنته الإدارية.

-من مؤسّسي نادي الشّعر بتونس سنة 1974. وكان عضوا في الهيئة الاِستشارية لمجلّة ـ الحياة الثقافية ـ بتونس ..

صدر له: الأرض عطشى 1980/ نوّارة الملح 1984/ اِمرأة الفسيفساء 1985/ صديد الروح 1989/ جناح خارج السّرب 1991/ نَبعٌ واحدٌ لضفاف شتى 1999/ عُمر واحدٌ لا يكفي 2004/ حارق البحر 2008/ الجازية 2008/ ألوانٌ على كلمات 2008/ عاليًا...بعيدًا 2014/ واحدان 2016/ حركاتُ الشّعر الجديد بتونس 2008/ صفحاتٌ من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية لأبي القاسم الشابي 2009/ ديوان سُوف عبيد 2017

الضفّة الثالثة ـ قبسات من الشّعر التّونسي والعربي 2019/

كأنّه الآن وهنا ـ شذرات من ذكريات ـ 2022/ المعراج والخيول ـ قصائد بالاِشتراك مع عبد المجيد يوسف 2022/ مازلت لم آت ـ مخطوط قصائد أخيرة

 

 

 

 

 

الشاعر سوف عبيد لـ"الصباح":  القصيدة هي التي تفتحني وذلك عندما تنقدح كالشرارة في ذهني

حوار: محسن بن احمد

 

تونس-الصباح

اصيل مدينة غمراسن بالجنوب التونسي الأبي...أحد رواد المدونة الشعرية التونسية والعربية على حد السواء، متحرّر مجدّد، تمرد في كتاباته الشعرية على كل الأنماط والأجناس الأدبية، كتب الشعر العمودي كما كتب الشعر الحر والمقفّى والموزون والمنثور، واختار لنصوصه لغة سلسة ظاهرها سهل وبسيط وباطنها بحث وتحقيق

هو سوف عبيد الشاعر المجد والمجتهد بأشعاره ودراساته وتحاليله ومواكبته الفاعلة للمشهد الثقافي التونسي بمختلف تفاصيله فالشعر عنده ترجمان الوجدان وبوح الذات

 

**من قادك الى الشعر ؟

-كانت بداية شغفي بالشعر مع أغنيات أمي ورأسي على ركبتها وهي ترحي القمح والشعير في غار حوشنا ببئر الكرمة بغمراسن في أقاصي الجنوب التونسي وما يزال صدى تلك الأغاني الشجية أنيسا لي في وحدتي أحيانا 

أذكر أيضا من صباي بعض حفلات الأعراس عندما كان ينتصب الشاعر سعيد حيتانة رحمه الله وسط الرجال من جهة والنساء من جهة أخرى ويقف شامخا في إزاره الأبيض وشاشيته الحمراء وبيده عكازه يدق به على الأرض مع إيقاعات شعره بصوته الجهوري فأشعر بذبذبات صوته تدك الهضاب حولنا دكا وتنطلق زغردات النسوة بين كل قصيدة وقصيدة مع طلقات البارود ذلك الشاعر هو سعيد حيتانة رحمه الله وكان عمي بشير من أصدقائه ومريديه فيتابعه تقريبا في جميع الأعراس التي يدعى للغناء فيها باعتباره _ الشاعر الغناي _ الذائع الصيت وكنت أرافق عمي الحفي بي باعتباري ابن أخيه وأحمل اسم أبيه جدي فيجلسني إلى جانبه في مجلس الضيوف المبجلين الذين يرافقون الشاعر الغناي عم سعيد حيتانة هذا الشاعر الفحل الذي تشرفت بمرافقته في أمسية شعرية أقامتها جمعية ابن عرفة وكان وقتها قد جاوز الثمانين عاما ورغم سمع فإن صوته زعزع أركان القاعة فكم كنت سعيدا بالجلوس إلى جانبه وهو يحدثني عن ذكريات شبابه مع عمي في بئر الكرمة بغمراسن ووفاء لمسيرته الشعرية الطويلة والغزيرة ولذكراه كتبت عنه فصلا ضمن كتابي _ الضفة الثالثة _ ونظمت ذكراه الأولى بغمراسن باسم جمعية ابن عرفة ودعونا وأعلمنا الذين حسبناهم من المهتمين ولكن مع الأسف لم يكن الحضور في مستوى قيمة هذا الشاعر الفحل ولا في مستوى انتظاري وهذا ما زهدني في النشاط الثقافي هناك

أما أوّل مرة أشعر فيها بمتعة الكتابة الشعرية فكان ذلك وأنا في العاشرة تقريبا عندما طلب مني المعلم أن أصعد على المصطبة عند السبورة وأقف مواجها التلاميذ لأستعرض المحفوظات  ولست أدري كيف تلعثمت في نطق الحروف فسدت حلقي والتحمت شفتاي على بعضهما و بالكاد استرجعت أنفاسي ونطقت لللللل ...مممما...أح أح أح...فانفجر التلاميذ في زوبعة من 1الضحك فأمرهم المعلم بالكف عن ذلك بحزم وتوجه إلي سائلا هل حفظت المحفوظات فأومأت برأسي نعم حينذاك أجلسني على كرسيه ووضع أمامي ورقة بيضاء ومد لي قلمه وقال لي اكتب المحفوظات فكتبها بسرعة

لله ما أحلى الطفولة * إنها حلم الحياة 

وتملكني حينذاك شعور التحدّي تحدّي التلاميذ الذين سخروا مني حيث أنّ  ـ سيّدي ـ أجلسني مكانه وأحسست  الانتصار عليهم فقد خيبت ظن البعض الذين كانوا يعتقدون أنني لم أحفظ القصيدة ولستأدري وقتها كيف اِعتبرت أن تلك القصيدة كانت مثل حبل النجاة الذي أنقذني من الغرق أو اِنتشلني من قاع البئر...حينها اِنبذَرَت في وجداني حبّة الشعر فضربت جذورها عميقا مع توالي السنوات

 

**ما هو الباب الذي تفتحه عند اللقاء بالقصيد باب الطفولة ام باب الذكريات أم باب الحنين أم باب المكان أمباب النسيان ؟

–بل القصيدة هي التي تفتحنيوذلك عندما تنقدح كالشرارة في ذهني فتضيئ لي ما كان سديما

تخطر الفكرة عند حالة شعرية بذاتها فتختمر في الذهن ثم أشرع في عملية التخطيط كمثل المهندس أو الجغرافي يرسم خريطة ثم تأتي مرحلة البناء كلمة كلمة وهذه المرحلة تتطلب الدقة والمراجعة والتمعن في التفاصيل تماما مثلما يرتب بائع الورد باقته بالتسوية والتشذيب والتنسيق أو كما تتمعن الماشطة العروس لتضفي عليها اللمسات الأخيرة بل قد أعود لمراجعة القصيدة حتى بعد أعوام...

الشعر عندي ترجمان الوجدان وبوح الذات وقد كنت على مدى سنوات عديدة لا أستطيع النطق بالكلام الطلق والمسترسل مما جعلني أكظم تعبيري في صدري ولا أشارك الصبيان والتلاميذ الأحاديث إلا مع القليل منهم ولعل ذلك كان بسبب الظروف الصعبة التي نشأتُ فيها في ربوع أقاصي الجنوب التونسي فقد كان والدي رحمه الله يتغيب عنا طويلا سعيا وراء لقمة العيش في العاصمة ثم لما انتقلت إلى ضاحية من ضواحي العاصمة للدراسة لدى عمي افتقدت أيضا امي وقد وجدتني وحيدا في القسم أو الفصل مع تلاميذ لا أعرف منهم أحدا فزاد ذلك في انزوائي وصمتي وقد كان المعلم يطلب مني ان أنسخ المحفوظات بدل عن سردها ومن ذلك الوقت نشأت عندي محبة كتابة القصائد

**   للمكان حضور أساسي في القصيد - من وجهة نظرك هل بإمكان  الشاعر ترويض المكان باللغة ولأي مدى؟

 

-ينتابني الحنين إلى سنوات الطفولة في بادية غمراسن ونواحيها بما اِرتسم في مخيلتي من أخبار عصورها الغابرة وبما رسخ في ذاكرتي من أخبار وقائع تلك السنوات مثل واقعة حرب رمادة وحرب الجزائر وقد شدّني الشعراء الشعبيون وهم ينشدون في المحفل قصائدهم بإيقاعات تهزّ الوجدان ومن وقتها ربّما أحببت أن أكون مثلهم

عِشت مفارقة عجيبة

فقد أذهلتني الحدائق

عندما اِنتقلت للدراسة في ضاحية مقرين الجميلة بشتى الزهور والورود

وأشجار الثمار المتنوعة

ناهيك عن المنازل ذات الطراز الإفرنجي أذهلتني الطرقات

القطارات

الوجوه النّضرة

لم أستطع التأقلم مع هذا المحيط الغريب

كنت آوي إلى عائلة عمّي

لم أكن أعرف منها أيّ شخص

فعشت سنتين من الغربة

كنت أحن فيها إلى مرابع طفولتي

غار حوشنا القديم

مَثَله مَثَلُ رحم الأرض

دافئ في ظلامه

أليف في صخره

لا وحي فيه

إلاّ… همس الأرض!

*

في حوشنا القديم

مائدة الشّاي كانت

تجلس القرفصاء

في الظل .. بيننا

مرة في الصباح

مرة في البكاء

حينما

خرجت جدتي في بياض البياض

اِنتظرت

اِنتظرت

ولم تعد

*

في حوشنا القديم

أبي .. متربّع على حصيره

حبّةٌ إثر حبّة … في سبحته

صحراء في صمته

أسمر في جبّته

البيضاء

أمّي

عروس دائما

ما أحلى بسمتها في سِواكها

بين الجمر والفنجان يدُها

لمّاعةٌ فضّتُها في سوارها

أمّي

*

في حوشنا القديم

الشّمس

ترتقي… تتدحرج أمامي

ثمّ تغرق في الرّمل

النجوم

أقرب إليّ من السّوق

كم مرّة اِشترت عيناي

تصاوير بالألوان

من الأقمار

كم مرّة ركبت الهلال أرجوحة

وغسلت له يديه

في إناء الفخار

*

في حوشنا القديم

الشوك والحصى

أقدامي كانت الأرض

على مدى البصرْ

بلا حذاء .. بلا حدود

وبلا جواز سفرْ

**ـ كيف تنظر الى دور القصيد في حياة الشاعر,,,قلعة تحميه من عواصف الاحزان ام نافذة يطل منها على خصوصياته؟

-قصيدة ـ الجازية ـ مثلا أعتبرها من أهمّ قصائدي فقد حاولت فيها الاِستفادة من الملحمة الشعبية ومن التراث الشفوي بما فيه من أمثلة وحكم وأغان وأشعار بالإضافة إلى مختلف أشكال الشعر الفصيح وذلك للتأكيد على أن التجدبد ممكن دائما وأن النص الشعري بوسعه أن يشمل شتى أنواع الكتابة لأعانق بهذه القصيدة أرحب فضاء ممكن أما من ناحية المضمون فقصيدة الجازية تتجاوز النظريات الإيديولوجية المحلية والقومية الضيقة لتنفتح   على الإنسانية جمعاء مهما تباعدت الأوطان حيث ورد فيها

ومثل ستائر الحرير

أسبلتْ الجناحَ عليّ فقلت:

أيُّ الطّرقات أوصلتك من المشرق

ومن أيّ فجاج عَبَرْتِ التّخوم

إلى المغرب

حتّى بلغت هذا المنتهى؟

الوطنُ وطني قالت

منذ سابق الزّمان

من الأمازيغ إلى كنعان... الأرض أوطانٌ في أوطان

لبني الإنسان

فلو أبحرت علّيسةُ أكثر

عَبْرَ السّواحل

ولو ولج حنّبعل وعُقبة

أو حسّان بن النّعمان

خطوة أخرى

كنّا فتحنا بحر الظّلمات...

فلماذا أحرقتَ يا طارق

تلك الزّوارق

فقّد جاءنا بعدك الإفرنجُ

هَوْجًا بعده هوجُ

كاد يغرقنا الموجُ

*****

 ( ناري على جرجيس

وبناويتا

دخلوا النّصاري

وهدموا

زاويتا )

 

**   كيف تحدد لنا مرجعياتك لتأسيس قصيدك؟

-في الواقع قد سبقني بعض الشعراء في تونس إلى كتابة قصيد النثر مثل محمد أبو القاسم كرّو ومحمود التونسي ومحمد مصمولي وصالح القرمادي وحتى نور الدين صمود ـ في ـ ألوان جديدة ـ وكذلك شعراء جماعة غير العمودي والحرّ وغيرهم وقد حاولت أن أواصل هذا المسار التجديدي ضمن كوكبة من الشعراء من بينهم محمد رضا الكافي وخالد النجار ومحمد أحمد القابسي وعزوز الجملي وعزيز الوسلاتي وآخرون لكن بعد هذه الموجة جاءت أصوات عديدة اِستسهلت خوض غمار هذا النوع الجديد من الشعر فاِختلط الحابل بالنابل هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أردت أن أكتب في الشكل القديم باِعتبار أنه إحياء وعود على بدء وتمسك بالذات والجذور وتأكيد على أن الشعر لا يُحدّ بشكل وحيد وأنه يمكنني الكتابة في كل الأشكال الشعرية إذا ما تطلب المضمون ذلك وينبغي أن أصرّح أيضا أن كتابتي في الشعر الموزون المقفّى هي دعوة ضمنية إلى أنّ التجديد لا يتنافى مع القديم بل تطور منه واِستمرار له فالشعر أوسع من الأشكال التي لا يمكنها وحدها تحديد نوعه وكنهه .
تلك جدلية الحياة…الزمن وحده كفيل بالغربلة

** ماذا يمكن ان تكشف لنا عن طقوس الكتابة عندك زمانا وكتابة؟

-الشّعر وما أروعه... إذ منه وفيه لذائذ عديدة أولها لذة قراءته أو سماعه وما أمتع لحظات اِنبجاس إلهامه وأنت تحاول الإمساك بجناح من أجنحة الفكرة وهي ترفرف حواليك في كل آن ومكان مغرية حينا متمنّعة حينا وبين هذا وذاك أنت صابر لقنصها حتى إذا ما اِستسلمت منقادة وأرخت لك العنان تقبل عليها بحذر ولطف فتبدأ حينها في نسجها حرفا حرفا وكلمة كلمة وتظل معها كأنك تنسج من مختلف الخيوط والألوان والأشكال زربية من حرير أو كأنك تُهيّء من أرض بُور بستانا ليستحيل حدائق منسقة جميلة وجنات يانعة الثمار وارفة الظلال

الشعر هو الأصل أو هو محور المسيرة غير أن بقية الاهتمامات صدرت عن شغفي بالأدب أساسا وكذلك بفضل دراستي في كلية الآداب بتونس حيث نهلت من معين أساتذة جهابذة في الدراسات الأدبية والتحقيق ولا شك أن قصائد الشابي النثرية التي نشرتها ببت الحكمة في تونس سنة 2009 كانت ثمرة تلك الدروس وأنا أعتبر تلك القصائد هي الديوان الثاني لأبي القاسم الشابي وقد جعلت لها العنوان الذي اختاره هو بنفسه في رسالته الثالثة لصديقه محمد الحليوي وهو - صفحات من كتاب الوجود - فكم أنا معتز بتحقيق أمنية الشابي في نشر تلك النصوص التي كانت مبعثرة في مصادرها الأولى.
أما كتاب - حركات الشعر التونسي الجديد - فهو عبارة عن شهادتي حول مسيرة الشعر التونسي حيث أني عايشت عديد الحركات فيه وهي حركات متنوعة وإن ذاك التنوع هو الذي دفع بالشعراء إلى معانقة الفضاءات الأرحب .
أما كتابي - الضفة الثالثة - فهو مجموع مقالات كتبتها على مدى سنوات طويلة ورصدت فيها قصائد وتجارب ومسائل مختلفة في الشعر التونسي والعربي

 

**ماذا عن كتاب ـ صفحات من كتاب الوجود ـ لأبي القاسم الشابي؟

 

-يمكن ان نعتبره الديوان الثاني للشابي بعد أغاني الحياة وعنوان ـ صفحات من كتاب الوجود ـ هو من اِقتراح الشابي نفسه فقد ذكره في الرسالة الثالثة التي أرسلها إلى صديقه محمد الحليوي ولم يتسنّ للشاعر أن يجمعها وأن يصدرها في حياته فظلّت مبثوثة في مصادر مختلفة وقد توصّلت إليها بعد أن اِطلعت على ما قرأته من آثار الشابي فوجدتها منشورة مع غيرها من مختلف نصوصه الأخرى في غير ديوانه أغاني الحياة وقد أشار إلى بعضها دارسون مختصون مثل أبي القاسم محمد كرّو وتوفيق بكار وأبو زيان السعدي
إن الاِختلاف في تسميات هذه النصوص وتصنيفاتها يعود إلى عدم اِستقرار المصطلح لهذا النوع من الشعر الذي بدأ في الظهور مع بداية القرن العشرين وهو ما زال إلى اليوم في طور الإنشاء والتنوع من شاعر إلى آخر ومن بلد إلى أخر ومن فترة إلى أخرى لذلك فإن التسمية والإجماع عليها تتطلب مدّة زمنية أطول وقد اِقترحت هذه التسمية التي تتضمن الإقرار بأنها من نوع ـ الشعر النثري ـ كجنس أدبي فهي إذن قصائد نثرية بالرغم من أنّ تقسيم الشعر بالاِعتماد على الشكل فحسب غير مقنع
ويرى قسم آخر من الذين أنكروا هذه القصائد أنه كان يجب أن أنشرها مثلما وجدتها في مصادرها تماما والحال أنّني حاولت قدر الإمكان أن أخرجها في طبعة لائقة بها من حيث توزيع الأسطر والصفحات مستأنسا بنسق كثير من أجزائها الأصلية لتكون في متناول القارئ
إنّ المسألة في نهاية الأمر تكمن في أنّ هؤلاء وأولئك يرون أنّ قصيدة النثر أو قصيد النثر ذات أصل مشرقي أو ذات أصل غربي ولا يريدون أن تكون لتونس ولأدبائها فضل الاِبتكار أو الإضافة أوالسّبق…مع الأسف لدى البعض منهم عقدة المشرق الأزلية ولدى الآخرين شعور الاستنقاص أمام الغرب والحال أن الأدب منذ عصور سابقة ماهو إلا نتيجة لتلاقح الثقافات قديمها وحديثها فأصول قصيدة النثر يمكن أن نقراها في اللغة العربية ضمن كثير من النصوص القديمة أيضا ونحن الآن قادمون على مرحلة تجاوز الحدود بين مختلف الأجناس وكذلك نحن على عتبات مرحلة تداخل الأجناس والفنون أيضا…فحدود الشّكل وحدها ليست مقياسا مضبوطا أو معيارا كافيا للجمالية وللسّمات الأدبية للنصّ
إن الغرض من نشر هذه القصائد هو التعريف بها وذكر مصادرها وهي التي ظلت مجهولة ومطموسة سنوات طويلة وقد حاولت التمهيد لكل قصيدة بما يناسبها من التقديم ولم يكن هدفي البتة دراستها وعسى أن تنهض العزائم لذلك… وقد كانت منشورة بدون أيّ اِعتبار لجماليتها الفنية وعندما رجعت إلى بعض المسودات والمخطوطات لدى الشابي لاحظت أنه كتب الكثير من الأسطر منها كما نشرتُها فاِتبعتُ نفس المنهج الذي أراده الشاعر

.

 **ما هي علاقتك باِبن عرفة؟ هل كان الدّافع الجهوي هو ما حفّزك على تحقيق تفسيره؟

-كان والدي رحمه الله مُحبّا لاِبن عرفة ويرى فيه العالم المستقل الذي وهب حياته للعلم والتعليم فكان مثالا لي منذ طفولتي وعندما درسني الدكتور سعد غراب المختص في اِبن عرفة اِقترح عليّ تحقيق جزء من تفسيره ضمن مجموعة من طلبته فلبّيت بكل مهجتي وكانت مناسبة للتعمق في التراث واِكتشافه

**المهرجانات الشعرية اليوم ضرورة أم ترف من وجهة نظرك؟

-أرى أنه يجب إرساء اِستراتيجية ثقافية واضحة وشاملة فتجعل المكتسبات الماضية رصيدا لها وتتجاوز ما لم يعُد يستجيب للطموحات الجديدة وتنبثق هذه الاِستراتيجية من ـ مشروع ثقافي وطنيّ ـ يكون نتيجة لحوار واسع تساهم في إرسائه الأطراف الفاعلة في المجتمع ويكون ذلك من خلال مجلس وطني للثقافة تنبثق منه مختلف الأهداف والوسائل ...

نعم نحن في أشدّ الحاجة إلى مشروع ثقافي جديد يعتز بعبقرية شخصيتنا التونسية الضاربة في التاريخ والمتطلعة نحو المستقبل

 

** هل بالإمكان العيش اليوم دون شعر ؟


-أحب السينما لأنها جامعة لفنون كثيرة فهي الصورة والسرد والموسيقى بحيث أن السينما شرفات مفتوحة على الدنيا وعلى الناس فهي جامعة للفنون وللمعارف أيضا ناهيك بالأفلام الوثائقية في شتى الميادين ولكن الظروف لم تسمح لي بالانخراط في مجال السينما فأنا أكتفي بالمتابعة وقد توحي لي بعض المشاهد السينمائية ببعض الخواطر الشعرية ومن المصادفات العجيبة أن أحد تلاميذي درس الإخراج السينمائي وجاءني يوما ليقترح أن أقوم بدور أساسي في فلم فاِعتذرت له بكل أسف
من ناحية أخرى كان بإمكاني مواصلة اِنخراطي في سلك ضباط الطيران بالجيش الوطني التونسي عندما تخرجت من الأكاديمية العسكرية وذلك عندما دُعيت بعد تخرجي من كلية الآداب لأداء واجب الخدمة العسكرية
وكان بإمكاني أيضا عدم الاِنخراط في سلك التعليم وحمل المحفظة والِاهتمام بتجارة مواد البناء مع الوالد رحمه الله ودخول عالم المقاولات من الباب الكبير فلقد كان الوالد اِكتسب الخبرة في هذا المجال بعد أن اِحترف صناعة الفطائر والحلويات التقليدية التونسية
كان بوسعي أيضا أن أهاجر إلى فرنسا حيث هناك كثير من أقاربي ومعارف والدي
نعم في شبابي كانت أمامي اِختيارات عديدة وكان النجاح فيها ممكنا غير أني اِخترت المحفظة والقصيدة

**تعددت المشارب والاتجاهات والمدارس الشعرية من الى قصيد الومضة والشعر النثري وشعر البيت ..كيف هي علاقتك بها كشاعر؟

-عندما صدر ديوان ـ شوق وذوق ـ لمصطفى خريّف في منتصف الستينيات من القرن العشرين قدّمه لنا أستاذنا سيدي الصادق عمران رحمه الله وكنت وقتذاك تلميذا بالمدرسة الصادقية في آخر المرحلة الأولى  من التعليم الثانوي فقرأ لنا منه أنماطا مختلفة من الشعر حتّى الشعر العامي المنشور في آخر الديوان وهذا ما جعلني أدرك ان الشعر يكون في عدة صيغ وأنماط ومن بين القصائد التي نالت إعجابي قصيدة ـ بين جبل وبحر ـ وهي من الشعر المنثور أو الشعر الذي لا يعتمد التفعيلة والبحر أو من قصيدة النثر فهذه التسميات جميعا لم تسقرّ إلى اليوم وهي ما تزال في نطاق البحث والتمحيص وكل وجهة نظر لها اِنطلاقاتها المعرفية وأنا أعتبر أن هذا النوع الجديد من الشعر هو اِمتداد لمختلف الأنواع الفنيّة في الكتابة على مدى عصور الأدب العربي بالإضافة إلى الاِستفادة من الآداب الأخرى وآخرها قصيدة الهايكو الياباني .

فقصيدة النثر ليست نمطا واحدا وإنما هي تتشكّل بصفات خاصة تقريبا في كل نص ولدى كل شاعر ولا  يجب أن نقاربها من الناحية الشكلية فقط وإن تراكمها واِستمرارها هو الكفيل بتثبيتها في المدوّنة الشعرية العربية.....ثمّة أمور الزمن وحده كفيل بها !

سوف عبيد في سطور:

- سُوف عبيد شاعر تونسي من مواليد يوم 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في منطقة غمراسن بالجنوب الشّرقي التونسي.

- درس الاِبتدائي بغُمْراسِن وبالعاصمة تونس.

-تخرّج من كلية الآداب بأستاذية العربية سنة 1976 ثمّ بشهادة الكفاءة في البحث حول تفسير الإمام اِبن عرفة سنة 1979.ا

-ِشتغل سُوف عبيد بتدريس اللغة والآداب العربية والترجمة في المعاهد الثانوية بعد أداء واجب الخدمة العسكرية ضابطا بجيش الطيران.

- بدأ النشر منذ 1970 وشارك في النوادي والندوات الأدبية والثقافية في تونس وخارجها واِنضمّ إلى اِتحاد الكتاب التونسيين سنة 1980 واُنتُخب ثلاث مرات في لجنته الإدارية.

-من مؤسّسي نادي الشّعر بتونس سنة 1974. وكان عضوا في الهيئة الاِستشارية لمجلّة ـ الحياة الثقافية ـ بتونس ..

صدر له: الأرض عطشى 1980/ نوّارة الملح 1984/ اِمرأة الفسيفساء 1985/ صديد الروح 1989/ جناح خارج السّرب 1991/ نَبعٌ واحدٌ لضفاف شتى 1999/ عُمر واحدٌ لا يكفي 2004/ حارق البحر 2008/ الجازية 2008/ ألوانٌ على كلمات 2008/ عاليًا...بعيدًا 2014/ واحدان 2016/ حركاتُ الشّعر الجديد بتونس 2008/ صفحاتٌ من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية لأبي القاسم الشابي 2009/ ديوان سُوف عبيد 2017

الضفّة الثالثة ـ قبسات من الشّعر التّونسي والعربي 2019/

كأنّه الآن وهنا ـ شذرات من ذكريات ـ 2022/ المعراج والخيول ـ قصائد بالاِشتراك مع عبد المجيد يوسف 2022/ مازلت لم آت ـ مخطوط قصائد أخيرة