إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

غراب على السّطح (2/3)

قصة : حسونة المصباحي 

العلا في يوم سوقها الأسبوعي...ضجيج وصخب عال... شوارع مُزدحمة بأناس من مختلف الأعمار  يَتَعَجّلون السير  وسط غبار كثيف، وعلى وجوههم اليابسة هموم الأيام الكالحة، ومخاوف حاضر مُضطرب، ومستقبل مجهول ...نداءات الباعة تختلط بآيات قرآنية ، وبأغان بدوية تصحبها دقات الطبول، وأنغام المزامير...بين وقت وآخر،  ترتفع شكاوي الشحاذين المُطرّزَة بالابتهالات، وطلب الصدقة  والرحمة والغفران....

راغبا في استراحة تُخَفّفُ عنه تعبَ المسافة المديدة التي قطعها راجلا، أسْنَدَ ظهره إلى حائط أحد الدكاكين... مدّد ساقيه، ثم راح يُراقبُ حركة السوق...وفي لحظة ما، عادت به الذاكرة إلى ماض بعيد عندما كانت العلا قرية وسخة، أكثر بؤسا وشقاء من هذا الزمن... بدكاكين خشبية عليها يتراكم الغبار، وتراب العواصف...وفي يوم سوقها الأسبوعي، تتدفق  عليها جموع غفيرة من البوادي القريبة والبعيدة  فتسْودّ من كثرة الأحمرة، وسائل النقل الوحيدة في تلك الأيام... وهو كان في الثامنة من عمره  لما رافق المرحوم والده أول مرة  إلى سوق العلا ...بعدها أصبح الذهاب إلى العلا في يوم سوقها الأسبوعية أهمّ حدث بالنسبة له...الأيام الأخرى تكون رتيبة مملة،  مَوْسُومة بهدوء ثقيل يُكدّرُ روحه، ويُصيبها باكتئاب لا تخفّ وطْأته إلاّ عندما يجد نفسه مُنخرطا في حركة السوق

الهائلة، مُختلطا بتلك الجموع الصاخبة  التي تُنسيه جمودَ القرية المُريع، وسكونها الشبيه بسكون المقابر...

تحسّس جيبه. عنده أربعة دنانير. سيأكل "كفتاجي"، وسيشرب قهوة. بعدها يعمل الله دليلا. على أيّة حال لن يعود إلى البيت. وربما يقضي الليلة عند أخته التي تعيش في العلا، أوقد يكون من الأفضل أن ينام جائعا في الخلاء تجنّبا للأسئلة التي سوف تطرحها عليه أخته، أو زوجها الذي تروق له مشاكسته، والسخرية منه...

بخطوات بطيئة، توجه إلى ساحة العلا المركزية التي تحيط بها مقاه تعوّد الجلوس فيها...مرّ أمام خيمة. من آلة تسجيل يتعالى صوت الشيخ السديسي مُرددا آيات تحثّ على الجهاد وقتل الكفار...صوته المُثْقَل بالحزن يُشيعُ في النفوس الشعور بأن الحياة جنازة بلا بداية ولا نهاية... 

أمام الخيمة، خلف طاولة بلاستيكية تتكدس فوقها كتب ومنشورات دينية،   كهل بسحنة عابسة، ولحية كثيفة،  يرتدي جلابية  أفغانية، ويغطي رأسه بطاقية بيضاء،  وعلى  جبينه بقعة سوداء، دلالة على كثرة السجود والتهَجّد...تاركا الشيخ السديسي يواصل تلاوة الآيات، شرع  الكهل يتحدث الى الواقفين أمام الخيمة بصوت خشن بينما كانوا هم  يستمعون إليه بانتباه :"إذا وضع الميّت في القبر يأتيه ملكان أسودان أزرقا العينين صوتهما كالرّعد وأبصارهما كالبرق الخاطف يحرقان الأرض فيأتيانه من قبل رأسه فتقول الصلاة لا تأتياه من قبلي  فالصلاة صلاها في الليل والنهار احذرا من هذه المواضيع . ثم يأتيانه من قبل رجليه فيقولان لا تأتياه من قبلنا فقد كان يمشي بنا إلى الجماعة احذرا هذه المواضيع. فبأتيانه عن يمينه فتقول الصدقة لا تأتياه من قبل فقد كان يتصدق بي احذرا هذه المواضيع فيأتيانه من قبل الشمال فيقول صومه لا تأتياه من قبلي فقد كان يجوع ويعطش فاحذرا هذه المواضيع. فيستيقظ كما يستيقظ النائم فيقول ماذا تريدان مني فيقولان نريد منك توحيد الله تعالى فيقول أشهد أن لا إله إلاّ الله، فيقولان ماذا تقول في حق محمد عليه السلام فيقول وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان عشت مؤمنا ومت مؤمنا"...

ابتعد  وهو يرجف مُرتعبا...خلفه صوت الكهل الخشن مواصلا مواعظه وصوت الشيخ السديسي مُرَدّدا  الآيات ... ثم  تلاشى الصوتان في  هدير السوق...

دخل محلا لبيع الوجبات السريعة، وكان مُزدحما بالزبائن. طلب "كفتاجي". أثناء الأكل، راح يصغي إلى شابين جالسين  حول الطاولة البلاستيكية الصغيرة التي على يمينه: 

الشاب 1: شُفْت... السلفيين ناصبين خيمة اليوم...

الشاب 2: مُشْ كان هنا... في كل بقعة...حتى في العاصمة... 

الشاب 1: ولد خالتي قالي كل جمعة في شارع بورقيبة قُدّام المسرح... 

الشاب 2: الجمعة ايلي فاتت نصْبُو على شط "بوجعفر" في سوسة...وعلى شط الحمّامات... 

الشاب2:أمّا القيروان وَلاّت عاصمتهم... يشطحو ويَرْدحو فيها ليل ونهار...

الشاب 1: كل يوم تسمعْ غريبة!

الشاب2: واشْ سمعت ؟

الشاب1: قالك في بن قردان عمْلو إمارة وفيها  يحكموا باحكامهم...

الشاب 2: وفي العاصمة هجموا على السفارة الأمريكية وشعّلوا فيها النار...

الشاب 1: وفي سيدي بوزيد حرقوا اوتيل ومنْعُو الشراب...

الشاب 2: كثروا كي الجراد وقت الزمّة...وين كانوا؟ 

الشاب 1:ما نعرفش..

شاب 2: شيء يخوف! 

الشاب 1: رد بالك منهم... راهم مُخْطرين..

الشاب2: نعرف!

الشاب1: اللطف منهم...

7 / 13

الشاب 2 :ربي يستر!

الشاب 1: نقلك الحقيقة... والله وليت نفكر نَحْرق ...

الشاب 2: نا خويا ما نجمش... تحبْ ياكُلْني الحوت؟

الشاب1: نا مشني خايف... العيشة فسدتْ في ها البلاد!

الشاب2: عندك حق لكن يا خويا الحرقة صعيبة  ...راهم برشة يموتو فيها...

الشاب 1: نعرف... لكن برشه يربحوها...

الشاب2: يا خويا ما نحبش نقمّر بحياتي ...مازلت صغير.. ونحب نشيخ ...

الشاب1: (ينفجر ضاحكا)...وماش يخلوك تشيخ ها الحنوشات ؟

الشاب2: تو تشوف ...يجي نهار ويقشعو حتى هوما...

الشاب 1: مالا ابقى  احلم بْهَاكْ النهار...

الشاب 2: (ينظر إلى ساعته اليدوية )أيا نمشو يا صاحبي...

الشاب 1: (ينظر إلى ساعته اليدوية هو أيضا): اوه...هزنا الحديث ونسينا  كل شيء...

نهض الشابان وتوجها الى صاحب المحل للدفع...

أنهى الأكل. غسل يديه...مسحهما بمنديل ورقي، ثم دفع وخرج. 

الوقت تجاوز منتصف النهار...أمام المعتمدية، كهول رافعون لافتة كتب عليها: نطالب بالكهرباء والماء الصالح للشراب... توقف أمامهم قليلا ثم واصل سيره  باتجاه الساحة. دخل مقهى، وطلب قهوة وزجاجة ماء صغيرة.  إحدى القنوات العربية  تبثّ مشاهد من  الهجوم على السفارة الأمريكية. بعض الزبائن يتابعون ذلك بشيء من الاهتمام. أما الآخرون فمنهمكون في لعب الورق غير عابئين بأيّ شيء. راح يدير الملعقة الصغيرة في الفنجان مُحاولا أن يقتلع من ذاكرته الصفعة القاسية التي تلقّاها وهو لا يزال في ضباب النوم، والكلمات النّابية التي رمته بها زوجته وهو خارج من البيت ذليلا، مطأطئ الرأس، بينما طفلاه يبكيان بحرقة توجع حتى الحجر...ما العمل الآن بعد أن بلغ السكين العظم؟ هل يحرق نفسه

مثلما يفعل الكثيرون في هذه البلاد التي أصبحت تتعاقب عليها النكبات، والأزمات كما لو أنها أصيبت بلعنة إلهيّة أبديّة؟...نعم قد يكون ذلك عملا حسنا، وسريعا، وغير مُكلف...يكفي أن يَسْكبَ على جسده قليلا من البنزين، ثم يشعل عود كبريت.... بعد وقت وجيز يكون كتلة من رماد. وبذلك ينتهي هذا الشقاء الذي يبدو بلا نهاية...وبما يبكيه البعض من أهله. أمّا زوجته فستتظاهر بالحزن لكن في سرّها سوف تلعنه داعية الله أن يحرقه في الآخرة مرة أخرى. وسوف تقول عندما تسمع بخبر وفاته :”الله لا ترحم الكلاب!”...نعم هذا ما ستقوله إذ أنه أصبح بالنسبة لها أحقر من كلب سائب...والطفلان؟...آه الطفلان ما ذنبهما؟...ما ذنبهما؟ بللت عينيه دمعتان ساخنتان...أخرج من جيبه منديلا ورقيا ومسحهما... وفي تلك اللحظة  ربت أحدهم على كتفه. التفت فإذا بصالح ابن عمّه هاشّا باشّا في وجهه. منذ أسابيع طويلة لم يلتق به. فهو دائم التنقل بين المدن بشاحنته. ويتردّد على العاصمة أكثر من مرّة في الشّهر الواحد. وهو من أثرياء القرية. له بيت مُريح، والجيب دائما ملآن. وفي الحقيقة هو يحسده على النعمة التي خصّه بها الله. ويزداد هذا الحسد استعارا حين تبالغ زوجته في مدح صالح، والإشادة بذكائه، و"عفرتته". حين يزورهم في البيت، تظهر له ودّا يشعل نار الغيرة في جسده، ويخرجه عن طوره، ويُذكي الرغبة في قتله هكذا أمام عينيها وهي تلاطفه بالكلمات والإشارات والغمزات...أوف يا لكيد النساء!...

- فاش تخمّم يا ولد عمي الغالي؟ سأله صالح

-...

- ما تخمّمْش الدنيا فيها الموت...وما يربحْ  فيها كان الزاهي ديما... 

-وكبفاش تحبني نزْها والجيب ديما فارغ؟

أخرج صالح حافظة نقوده المنتفخة بالأوراق المالية. مدّ له عشرة ورقات بعشرين دينارا، قائلا له بأنه يمكنه أن يعيدها له متى يشاء...

 

 

 

غراب على السّطح (2/3)

قصة : حسونة المصباحي 

العلا في يوم سوقها الأسبوعي...ضجيج وصخب عال... شوارع مُزدحمة بأناس من مختلف الأعمار  يَتَعَجّلون السير  وسط غبار كثيف، وعلى وجوههم اليابسة هموم الأيام الكالحة، ومخاوف حاضر مُضطرب، ومستقبل مجهول ...نداءات الباعة تختلط بآيات قرآنية ، وبأغان بدوية تصحبها دقات الطبول، وأنغام المزامير...بين وقت وآخر،  ترتفع شكاوي الشحاذين المُطرّزَة بالابتهالات، وطلب الصدقة  والرحمة والغفران....

راغبا في استراحة تُخَفّفُ عنه تعبَ المسافة المديدة التي قطعها راجلا، أسْنَدَ ظهره إلى حائط أحد الدكاكين... مدّد ساقيه، ثم راح يُراقبُ حركة السوق...وفي لحظة ما، عادت به الذاكرة إلى ماض بعيد عندما كانت العلا قرية وسخة، أكثر بؤسا وشقاء من هذا الزمن... بدكاكين خشبية عليها يتراكم الغبار، وتراب العواصف...وفي يوم سوقها الأسبوعي، تتدفق  عليها جموع غفيرة من البوادي القريبة والبعيدة  فتسْودّ من كثرة الأحمرة، وسائل النقل الوحيدة في تلك الأيام... وهو كان في الثامنة من عمره  لما رافق المرحوم والده أول مرة  إلى سوق العلا ...بعدها أصبح الذهاب إلى العلا في يوم سوقها الأسبوعية أهمّ حدث بالنسبة له...الأيام الأخرى تكون رتيبة مملة،  مَوْسُومة بهدوء ثقيل يُكدّرُ روحه، ويُصيبها باكتئاب لا تخفّ وطْأته إلاّ عندما يجد نفسه مُنخرطا في حركة السوق

الهائلة، مُختلطا بتلك الجموع الصاخبة  التي تُنسيه جمودَ القرية المُريع، وسكونها الشبيه بسكون المقابر...

تحسّس جيبه. عنده أربعة دنانير. سيأكل "كفتاجي"، وسيشرب قهوة. بعدها يعمل الله دليلا. على أيّة حال لن يعود إلى البيت. وربما يقضي الليلة عند أخته التي تعيش في العلا، أوقد يكون من الأفضل أن ينام جائعا في الخلاء تجنّبا للأسئلة التي سوف تطرحها عليه أخته، أو زوجها الذي تروق له مشاكسته، والسخرية منه...

بخطوات بطيئة، توجه إلى ساحة العلا المركزية التي تحيط بها مقاه تعوّد الجلوس فيها...مرّ أمام خيمة. من آلة تسجيل يتعالى صوت الشيخ السديسي مُرددا آيات تحثّ على الجهاد وقتل الكفار...صوته المُثْقَل بالحزن يُشيعُ في النفوس الشعور بأن الحياة جنازة بلا بداية ولا نهاية... 

أمام الخيمة، خلف طاولة بلاستيكية تتكدس فوقها كتب ومنشورات دينية،   كهل بسحنة عابسة، ولحية كثيفة،  يرتدي جلابية  أفغانية، ويغطي رأسه بطاقية بيضاء،  وعلى  جبينه بقعة سوداء، دلالة على كثرة السجود والتهَجّد...تاركا الشيخ السديسي يواصل تلاوة الآيات، شرع  الكهل يتحدث الى الواقفين أمام الخيمة بصوت خشن بينما كانوا هم  يستمعون إليه بانتباه :"إذا وضع الميّت في القبر يأتيه ملكان أسودان أزرقا العينين صوتهما كالرّعد وأبصارهما كالبرق الخاطف يحرقان الأرض فيأتيانه من قبل رأسه فتقول الصلاة لا تأتياه من قبلي  فالصلاة صلاها في الليل والنهار احذرا من هذه المواضيع . ثم يأتيانه من قبل رجليه فيقولان لا تأتياه من قبلنا فقد كان يمشي بنا إلى الجماعة احذرا هذه المواضيع. فبأتيانه عن يمينه فتقول الصدقة لا تأتياه من قبل فقد كان يتصدق بي احذرا هذه المواضيع فيأتيانه من قبل الشمال فيقول صومه لا تأتياه من قبلي فقد كان يجوع ويعطش فاحذرا هذه المواضيع. فيستيقظ كما يستيقظ النائم فيقول ماذا تريدان مني فيقولان نريد منك توحيد الله تعالى فيقول أشهد أن لا إله إلاّ الله، فيقولان ماذا تقول في حق محمد عليه السلام فيقول وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان عشت مؤمنا ومت مؤمنا"...

ابتعد  وهو يرجف مُرتعبا...خلفه صوت الكهل الخشن مواصلا مواعظه وصوت الشيخ السديسي مُرَدّدا  الآيات ... ثم  تلاشى الصوتان في  هدير السوق...

دخل محلا لبيع الوجبات السريعة، وكان مُزدحما بالزبائن. طلب "كفتاجي". أثناء الأكل، راح يصغي إلى شابين جالسين  حول الطاولة البلاستيكية الصغيرة التي على يمينه: 

الشاب 1: شُفْت... السلفيين ناصبين خيمة اليوم...

الشاب 2: مُشْ كان هنا... في كل بقعة...حتى في العاصمة... 

الشاب 1: ولد خالتي قالي كل جمعة في شارع بورقيبة قُدّام المسرح... 

الشاب 2: الجمعة ايلي فاتت نصْبُو على شط "بوجعفر" في سوسة...وعلى شط الحمّامات... 

الشاب2:أمّا القيروان وَلاّت عاصمتهم... يشطحو ويَرْدحو فيها ليل ونهار...

الشاب 1: كل يوم تسمعْ غريبة!

الشاب2: واشْ سمعت ؟

الشاب1: قالك في بن قردان عمْلو إمارة وفيها  يحكموا باحكامهم...

الشاب 2: وفي العاصمة هجموا على السفارة الأمريكية وشعّلوا فيها النار...

الشاب 1: وفي سيدي بوزيد حرقوا اوتيل ومنْعُو الشراب...

الشاب 2: كثروا كي الجراد وقت الزمّة...وين كانوا؟ 

الشاب 1:ما نعرفش..

شاب 2: شيء يخوف! 

الشاب 1: رد بالك منهم... راهم مُخْطرين..

الشاب2: نعرف!

الشاب1: اللطف منهم...

7 / 13

الشاب 2 :ربي يستر!

الشاب 1: نقلك الحقيقة... والله وليت نفكر نَحْرق ...

الشاب 2: نا خويا ما نجمش... تحبْ ياكُلْني الحوت؟

الشاب1: نا مشني خايف... العيشة فسدتْ في ها البلاد!

الشاب2: عندك حق لكن يا خويا الحرقة صعيبة  ...راهم برشة يموتو فيها...

الشاب 1: نعرف... لكن برشه يربحوها...

الشاب2: يا خويا ما نحبش نقمّر بحياتي ...مازلت صغير.. ونحب نشيخ ...

الشاب1: (ينفجر ضاحكا)...وماش يخلوك تشيخ ها الحنوشات ؟

الشاب2: تو تشوف ...يجي نهار ويقشعو حتى هوما...

الشاب 1: مالا ابقى  احلم بْهَاكْ النهار...

الشاب 2: (ينظر إلى ساعته اليدوية )أيا نمشو يا صاحبي...

الشاب 1: (ينظر إلى ساعته اليدوية هو أيضا): اوه...هزنا الحديث ونسينا  كل شيء...

نهض الشابان وتوجها الى صاحب المحل للدفع...

أنهى الأكل. غسل يديه...مسحهما بمنديل ورقي، ثم دفع وخرج. 

الوقت تجاوز منتصف النهار...أمام المعتمدية، كهول رافعون لافتة كتب عليها: نطالب بالكهرباء والماء الصالح للشراب... توقف أمامهم قليلا ثم واصل سيره  باتجاه الساحة. دخل مقهى، وطلب قهوة وزجاجة ماء صغيرة.  إحدى القنوات العربية  تبثّ مشاهد من  الهجوم على السفارة الأمريكية. بعض الزبائن يتابعون ذلك بشيء من الاهتمام. أما الآخرون فمنهمكون في لعب الورق غير عابئين بأيّ شيء. راح يدير الملعقة الصغيرة في الفنجان مُحاولا أن يقتلع من ذاكرته الصفعة القاسية التي تلقّاها وهو لا يزال في ضباب النوم، والكلمات النّابية التي رمته بها زوجته وهو خارج من البيت ذليلا، مطأطئ الرأس، بينما طفلاه يبكيان بحرقة توجع حتى الحجر...ما العمل الآن بعد أن بلغ السكين العظم؟ هل يحرق نفسه

مثلما يفعل الكثيرون في هذه البلاد التي أصبحت تتعاقب عليها النكبات، والأزمات كما لو أنها أصيبت بلعنة إلهيّة أبديّة؟...نعم قد يكون ذلك عملا حسنا، وسريعا، وغير مُكلف...يكفي أن يَسْكبَ على جسده قليلا من البنزين، ثم يشعل عود كبريت.... بعد وقت وجيز يكون كتلة من رماد. وبذلك ينتهي هذا الشقاء الذي يبدو بلا نهاية...وبما يبكيه البعض من أهله. أمّا زوجته فستتظاهر بالحزن لكن في سرّها سوف تلعنه داعية الله أن يحرقه في الآخرة مرة أخرى. وسوف تقول عندما تسمع بخبر وفاته :”الله لا ترحم الكلاب!”...نعم هذا ما ستقوله إذ أنه أصبح بالنسبة لها أحقر من كلب سائب...والطفلان؟...آه الطفلان ما ذنبهما؟...ما ذنبهما؟ بللت عينيه دمعتان ساخنتان...أخرج من جيبه منديلا ورقيا ومسحهما... وفي تلك اللحظة  ربت أحدهم على كتفه. التفت فإذا بصالح ابن عمّه هاشّا باشّا في وجهه. منذ أسابيع طويلة لم يلتق به. فهو دائم التنقل بين المدن بشاحنته. ويتردّد على العاصمة أكثر من مرّة في الشّهر الواحد. وهو من أثرياء القرية. له بيت مُريح، والجيب دائما ملآن. وفي الحقيقة هو يحسده على النعمة التي خصّه بها الله. ويزداد هذا الحسد استعارا حين تبالغ زوجته في مدح صالح، والإشادة بذكائه، و"عفرتته". حين يزورهم في البيت، تظهر له ودّا يشعل نار الغيرة في جسده، ويخرجه عن طوره، ويُذكي الرغبة في قتله هكذا أمام عينيها وهي تلاطفه بالكلمات والإشارات والغمزات...أوف يا لكيد النساء!...

- فاش تخمّم يا ولد عمي الغالي؟ سأله صالح

-...

- ما تخمّمْش الدنيا فيها الموت...وما يربحْ  فيها كان الزاهي ديما... 

-وكبفاش تحبني نزْها والجيب ديما فارغ؟

أخرج صالح حافظة نقوده المنتفخة بالأوراق المالية. مدّ له عشرة ورقات بعشرين دينارا، قائلا له بأنه يمكنه أن يعيدها له متى يشاء...