إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الإدارة التونسية بين فوضى العشرية "السوداء".. وشلل ما بعد 25 جويلية

 

شهدت الإدارة انتكاسة كبرى ولم تستطع مقاومة التيار الشعبوي والنقابي بعد الثورة

بقلم ريم بالخذيري

في المجتمعات الحديثة أصبحت الإدارة المحرّك الأول للمجتمع وذلك لما لها من تأثير مباشر وملموس على حياة الناس ودورها في تحقيق الأهداف الشخصية والمؤسساتية والوطنية .

كانت الإدارة منذ الاستقلال مفخرة التونسيين وهي التي كان لها الدور الأساسي في بناء الجمهورية الأولى في الصحة والتعليم والفلاحة والصناعة و الخدمات. لكن هذه الإدارة لم تكن بمنأى عن التجاذبات السياسية فشهدت فترات ازدهار و فترات ركود أثرت في المجتمع كله.

فوضى العشرية السوداء

بعدما كانت الإدارة لسنوات خلت القلب النابض للمجتمع والمحرك له والضامنة لاستمرار الخدمات اليومية حتى في ذروة أيام الثورة والفوضى حيث واصلت الإدارة والموظفون آدائهم في حظر التجوّل وخلال الفراغ الأمني . ولم تشهد تلك الأيام انقطاعا للمياه أو الكهرباء أو النقل وكانت عاملا مساعدا على تجاوز التونسيين لتلك المحنة .

شهدت هذه الإدارة انتكاسة كبرى ولم تستطع مقاومة التيار الشعبوي والنقابي اللذين مارسا بكل صفاقة شعار"ديغاج" لخيرة الكفاءات والمديرين العامين وكبار الموظفين بتهمة انتمائهم للنظام السابق . والمؤسف أنّ حكومة الترويكا بقيادة النهضة نفذت هذه الشعارات لاسترضاء الاف من المتمتعين بالعفو التشريعي العام الفوضوي وكذلك لاسترضاء الاتحاد التونسي للشغل . فتمت بذلك أكبر مجزرة وعملية تطهير شملت الالاف من خيرة الموظفين وجدوا أنفسهم ضحايا قضايا كيدية أو أحيلوا على التقاعد المبكر وتم تعويضهم بآخرين لا رصيد مهني لهم سوى نضالهم المزيف وقربهم من النقابيين .

وبالتالي فقدت الإدارة نجاعتها وأصبحت الولاءات سمتها وتم إغراقها بما لا يقل عن 200 ألف من الذين تحدثنا عنهم.

وتشير الأرقام الى تضاعف الاعداد في الوظيفة العمومية خلال العشرية المذكورة من حوالي 230 ألف موظف في القطاع العام إلى 800 ألف في أعوام قليلة؛ ما أسهم في عجز المؤسسات عن أداء مهامها وإفلاسها.

وما زاد الأمر سوءا هو إيقاف الانتدابات في أغلب مؤسسات الوظيفة العمومية منذ سنة 2016 بأوامر من صندوق النقد الدولي.

شلل ما بعد 25 جويلية

منذ الإجراءات الرئاسية في 25 جويلية 2021 دخلت الإدارة التونسية منعرجا جديدا حيث بدا واضحا بروز شقّين كبيرين فيها :

-الأول: شقّ معطّل وهو من رواسب العشرية السوداء ممثلين في الذين عينوا بالولاءات سواء للنهضة ونداء تونس أو للاتحاد التونسي للشغل حيث لا يخفى على أنّ هؤلاء هم المتضررون من الإجراءات المذكورة وهم المعنيون بتطهير الإدارة و بالتالي فانهم يمارسون كل أساليب التعطيل والأمثلة عن ذلك كثيرة ربّما تلخصها ما حدث في الديوان التونسي للتجارة وقضية الموظفة التي عبّر عنها رئيس الجمهورية خلال زيارته الأخيرة بالقول وقال في هذا الإطار ”عدد من الموظفين والمسؤولين بالديوان منهم من هو موال لوزير والاخر متورط في قضية فساد وثالث متورط مع لوبيات توزيع القهوة..كذلك هناك موظف تعمد إخفاء القهوة والمواد الأساسية الأخرى، واخر معروف بالرشوة وزميله في مجال التهريب وتعلقت به قضية في تهريب السجائر..”.

كما أن عددا من كبار الموظفين ممن يمثلون هذا الشق الأول المسؤول عن شلل الإدارة ما بعد 25 جويلية بصدد عرقلة جهود الحكومة في القيام بعمليات التدقيق في الانتدابات المشبوهة بتعمدهم إخفاء الملفات وإنشاء كارتالات داخل الوزارات للحيلولة دون إتمام هذه المهمة.

كما أنهم عنوان للتعطيلات الإدارية الحاصلة في مختلف الإدارات والتي أثرت سلبا على الحياة اليومية للمواطن وعلى تنفيذ المشاريع وعلى الاستيراد والتصدير ومختلف الخدمات.

الثاني: شقّ مصاب بفوبيا الخوف والمحاسبة وهم من الموظفين المتواجدين في مناصب القرارات المختلفة وهم السبب المباشر عن تعطّل المشاريع فهؤلاء أصبحوا يخافون الامضاء ويتجنبونه وفي الإدارات التونسية الاف الملفات المهمة المعطلة لهذا السبب وقد بدأوا يمارسون سياسة الركن في الرفوف طلبا للسلامة وهروبا من التتبع الإداري والقضائي وبالتالي فقدوا كل حماس للتخطيط والإنجاز وتحولوا الى معطّل للإدارة . وهذه العدوى شملت الوزراء أيضا.

فليس طبيعيا ولامعقولا أن يتدخّل رئيس الجمهورية لحلّ مشكلة إدارية بسيطة أو أن يحلّ محل الوزير ومحل المدير العام . وهذا يترجم مدى الفشل الذي بلغته الإدارات في تونس والتي أصبح المسؤولون فيها عاجزون عن اتخاذ أي قرار وهو ما أثّر سلبا على آدائها وعلى الخدمات فيها كما قلنا. والكل أصبح ينتظر تدخل الرئيس ليستطيع اتخاذ القرارات.

مع الأسف الكل اليوم ينتظر تدخلا رئاسيا لإصلاح طريق أو اقتناء آلة أو التسريع بتوريد الشاي والقهوة والسكر بقطع النظر عن الإجراءات الادارية العادية المعمول بها في هذه الحالات. وبات واضحا أن الإدارة مكبّلة كما لم تكن يوما وتعمل في تنافر كبير وهو ما يطرح عديد الأسئلة. والمسؤولون اليوم يخافون اتخاذ قرارات جريئة ويفرضون رقابة ذاتية على أنفسهم انطلاقا من مبدأ البحث عن السلامة وراحة البال وهو ما يضر بمصالح المواطنين

فالمسؤول الذي يخشى الامضاء ويخشى اتخاذ القرارات لا يجب أن يستمر في منصبه ولا يجب أن ينتظر قدوم الرئيس لمنحه الضوء الأخضر لاتخاذ القرارات .وكلّ مسؤول عليه أن يكون رئيسا في مؤسسته ويقوم بواجباته بكل شجاعة دون خوف.

فوبيا الخوف من المسؤولية وتحمّلها بدأت ظاهرة في المؤسسات العمومية والكلّ يردّد مع الأسف "أخطا راسي وأضرب" وهذا سلوك وجب إصلاحه ويجب أن يصاحبه خطاب سياسي من أّعلى هرم السلطة واضح ومطمئن للوزراء و المديرين العامين وكل الموظفين ومنحهم الطمأنينة اللازمة للقيام بمهامهم ومنحهم الثقة المطلوبة.

قادة وليس إداريين

في الإدارة اليوم نستحق قادة وليس إداريين يمارسون الروتين الإداري ولا يقدمون الإضافة. فالقيادة هي تشجيع أفراد الفريق للقيام بمهامهم. أما الإدارة فهي عملية إدارة المهام بشكل منظم. تتطلب القيادة وجود ثقة بين أفراد الفريق وقائدهم. على عكس الإدارة، التي تحتاج إلى سيطرة المدير على موظفيه وهو واقع الحال في الإدارة اليوم .

وهؤلاء موجودون في المدرسة العليا للإدارة وموجودون في مختلف الإدارات ووجب اعطاؤهم الثقة الكاملة للتخطيط والاستشراف واتخاذ القرارات الصائبة دون عرقلة ولا تخويف ولا تخوين.

الشيء الثابت أن لا مستقبل لهذا البلد ولا تحسّن لأوضاعه الحالية دون استعادة الإدارة التونسية لنجاعتها ولثقة المواطن والمستثمر فيها وتطهيرها من كل ما شابها من تعيينات مع منح الثقة لكل الموظفين مهما كانت اختصاصاتهم ودرجاتهم للمساهمة في تطوير المؤسسة العمومية .

كما أنه من الضروري إعادة فتح باب الانتداب للكفاءات الشابة خاصة في القطاعات الواعدة والتي عجزت الإدارة بتركيبتها الحالية على الانخراط فيها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإدارة التونسية بين فوضى العشرية "السوداء".. وشلل ما بعد 25 جويلية

 

شهدت الإدارة انتكاسة كبرى ولم تستطع مقاومة التيار الشعبوي والنقابي بعد الثورة

بقلم ريم بالخذيري

في المجتمعات الحديثة أصبحت الإدارة المحرّك الأول للمجتمع وذلك لما لها من تأثير مباشر وملموس على حياة الناس ودورها في تحقيق الأهداف الشخصية والمؤسساتية والوطنية .

كانت الإدارة منذ الاستقلال مفخرة التونسيين وهي التي كان لها الدور الأساسي في بناء الجمهورية الأولى في الصحة والتعليم والفلاحة والصناعة و الخدمات. لكن هذه الإدارة لم تكن بمنأى عن التجاذبات السياسية فشهدت فترات ازدهار و فترات ركود أثرت في المجتمع كله.

فوضى العشرية السوداء

بعدما كانت الإدارة لسنوات خلت القلب النابض للمجتمع والمحرك له والضامنة لاستمرار الخدمات اليومية حتى في ذروة أيام الثورة والفوضى حيث واصلت الإدارة والموظفون آدائهم في حظر التجوّل وخلال الفراغ الأمني . ولم تشهد تلك الأيام انقطاعا للمياه أو الكهرباء أو النقل وكانت عاملا مساعدا على تجاوز التونسيين لتلك المحنة .

شهدت هذه الإدارة انتكاسة كبرى ولم تستطع مقاومة التيار الشعبوي والنقابي اللذين مارسا بكل صفاقة شعار"ديغاج" لخيرة الكفاءات والمديرين العامين وكبار الموظفين بتهمة انتمائهم للنظام السابق . والمؤسف أنّ حكومة الترويكا بقيادة النهضة نفذت هذه الشعارات لاسترضاء الاف من المتمتعين بالعفو التشريعي العام الفوضوي وكذلك لاسترضاء الاتحاد التونسي للشغل . فتمت بذلك أكبر مجزرة وعملية تطهير شملت الالاف من خيرة الموظفين وجدوا أنفسهم ضحايا قضايا كيدية أو أحيلوا على التقاعد المبكر وتم تعويضهم بآخرين لا رصيد مهني لهم سوى نضالهم المزيف وقربهم من النقابيين .

وبالتالي فقدت الإدارة نجاعتها وأصبحت الولاءات سمتها وتم إغراقها بما لا يقل عن 200 ألف من الذين تحدثنا عنهم.

وتشير الأرقام الى تضاعف الاعداد في الوظيفة العمومية خلال العشرية المذكورة من حوالي 230 ألف موظف في القطاع العام إلى 800 ألف في أعوام قليلة؛ ما أسهم في عجز المؤسسات عن أداء مهامها وإفلاسها.

وما زاد الأمر سوءا هو إيقاف الانتدابات في أغلب مؤسسات الوظيفة العمومية منذ سنة 2016 بأوامر من صندوق النقد الدولي.

شلل ما بعد 25 جويلية

منذ الإجراءات الرئاسية في 25 جويلية 2021 دخلت الإدارة التونسية منعرجا جديدا حيث بدا واضحا بروز شقّين كبيرين فيها :

-الأول: شقّ معطّل وهو من رواسب العشرية السوداء ممثلين في الذين عينوا بالولاءات سواء للنهضة ونداء تونس أو للاتحاد التونسي للشغل حيث لا يخفى على أنّ هؤلاء هم المتضررون من الإجراءات المذكورة وهم المعنيون بتطهير الإدارة و بالتالي فانهم يمارسون كل أساليب التعطيل والأمثلة عن ذلك كثيرة ربّما تلخصها ما حدث في الديوان التونسي للتجارة وقضية الموظفة التي عبّر عنها رئيس الجمهورية خلال زيارته الأخيرة بالقول وقال في هذا الإطار ”عدد من الموظفين والمسؤولين بالديوان منهم من هو موال لوزير والاخر متورط في قضية فساد وثالث متورط مع لوبيات توزيع القهوة..كذلك هناك موظف تعمد إخفاء القهوة والمواد الأساسية الأخرى، واخر معروف بالرشوة وزميله في مجال التهريب وتعلقت به قضية في تهريب السجائر..”.

كما أن عددا من كبار الموظفين ممن يمثلون هذا الشق الأول المسؤول عن شلل الإدارة ما بعد 25 جويلية بصدد عرقلة جهود الحكومة في القيام بعمليات التدقيق في الانتدابات المشبوهة بتعمدهم إخفاء الملفات وإنشاء كارتالات داخل الوزارات للحيلولة دون إتمام هذه المهمة.

كما أنهم عنوان للتعطيلات الإدارية الحاصلة في مختلف الإدارات والتي أثرت سلبا على الحياة اليومية للمواطن وعلى تنفيذ المشاريع وعلى الاستيراد والتصدير ومختلف الخدمات.

الثاني: شقّ مصاب بفوبيا الخوف والمحاسبة وهم من الموظفين المتواجدين في مناصب القرارات المختلفة وهم السبب المباشر عن تعطّل المشاريع فهؤلاء أصبحوا يخافون الامضاء ويتجنبونه وفي الإدارات التونسية الاف الملفات المهمة المعطلة لهذا السبب وقد بدأوا يمارسون سياسة الركن في الرفوف طلبا للسلامة وهروبا من التتبع الإداري والقضائي وبالتالي فقدوا كل حماس للتخطيط والإنجاز وتحولوا الى معطّل للإدارة . وهذه العدوى شملت الوزراء أيضا.

فليس طبيعيا ولامعقولا أن يتدخّل رئيس الجمهورية لحلّ مشكلة إدارية بسيطة أو أن يحلّ محل الوزير ومحل المدير العام . وهذا يترجم مدى الفشل الذي بلغته الإدارات في تونس والتي أصبح المسؤولون فيها عاجزون عن اتخاذ أي قرار وهو ما أثّر سلبا على آدائها وعلى الخدمات فيها كما قلنا. والكل أصبح ينتظر تدخل الرئيس ليستطيع اتخاذ القرارات.

مع الأسف الكل اليوم ينتظر تدخلا رئاسيا لإصلاح طريق أو اقتناء آلة أو التسريع بتوريد الشاي والقهوة والسكر بقطع النظر عن الإجراءات الادارية العادية المعمول بها في هذه الحالات. وبات واضحا أن الإدارة مكبّلة كما لم تكن يوما وتعمل في تنافر كبير وهو ما يطرح عديد الأسئلة. والمسؤولون اليوم يخافون اتخاذ قرارات جريئة ويفرضون رقابة ذاتية على أنفسهم انطلاقا من مبدأ البحث عن السلامة وراحة البال وهو ما يضر بمصالح المواطنين

فالمسؤول الذي يخشى الامضاء ويخشى اتخاذ القرارات لا يجب أن يستمر في منصبه ولا يجب أن ينتظر قدوم الرئيس لمنحه الضوء الأخضر لاتخاذ القرارات .وكلّ مسؤول عليه أن يكون رئيسا في مؤسسته ويقوم بواجباته بكل شجاعة دون خوف.

فوبيا الخوف من المسؤولية وتحمّلها بدأت ظاهرة في المؤسسات العمومية والكلّ يردّد مع الأسف "أخطا راسي وأضرب" وهذا سلوك وجب إصلاحه ويجب أن يصاحبه خطاب سياسي من أّعلى هرم السلطة واضح ومطمئن للوزراء و المديرين العامين وكل الموظفين ومنحهم الطمأنينة اللازمة للقيام بمهامهم ومنحهم الثقة المطلوبة.

قادة وليس إداريين

في الإدارة اليوم نستحق قادة وليس إداريين يمارسون الروتين الإداري ولا يقدمون الإضافة. فالقيادة هي تشجيع أفراد الفريق للقيام بمهامهم. أما الإدارة فهي عملية إدارة المهام بشكل منظم. تتطلب القيادة وجود ثقة بين أفراد الفريق وقائدهم. على عكس الإدارة، التي تحتاج إلى سيطرة المدير على موظفيه وهو واقع الحال في الإدارة اليوم .

وهؤلاء موجودون في المدرسة العليا للإدارة وموجودون في مختلف الإدارات ووجب اعطاؤهم الثقة الكاملة للتخطيط والاستشراف واتخاذ القرارات الصائبة دون عرقلة ولا تخويف ولا تخوين.

الشيء الثابت أن لا مستقبل لهذا البلد ولا تحسّن لأوضاعه الحالية دون استعادة الإدارة التونسية لنجاعتها ولثقة المواطن والمستثمر فيها وتطهيرها من كل ما شابها من تعيينات مع منح الثقة لكل الموظفين مهما كانت اختصاصاتهم ودرجاتهم للمساهمة في تطوير المؤسسة العمومية .

كما أنه من الضروري إعادة فتح باب الانتداب للكفاءات الشابة خاصة في القطاعات الواعدة والتي عجزت الإدارة بتركيبتها الحالية على الانخراط فيها.