تحتفل تونس اليوم بذكرى انتفاضة 14 جانفي2011 وبهذه المناسبة جددت العديد من القوى السياسية والمدنية الدعوة إلى التسريع بتركيز المحكمة الدستورية لتلافي حالة الفراغ التي أحدثها الأمر عدد 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية بتنصيصه على إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، كما عبرت عن مخاوفها من المساس بالهيئات المستقلة، وذلك بعد أن كانت أبدت في وقت سابق بمناسبة الاستفتاء حول دستور 25 جويلية 2022 اعتراضها على تركيبة المحكمة الدستورية، وتوجسها من تبعات عدم دسترة هيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة حقوق الإنسان وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام عودة نظام الحكم الفردي الذي ثار ضده التونسيون، وذلك على اعتبار أن المحكمة الدستورية والهيئات التعديلية المستقلة تعتبر ضمانة لصون الحقوق والحريات ولأن وجودها يمثل أحد الركائز الأساسية لدولة القانون والمؤسسات.
وكان تركيز محكمة دستورية مستقلة عن السلطة الحاكمة، حلم راود الكثير من التونسيين الذين ناضلوا ضد الدكتاتورية ونظام الحكم الفردي سواء كان ذلك في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، أو في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وحتى المجلس الدستوري الذي تم إحداثه سنة 1987 فإنه لم يرتق إلى تطلعاتهم لأن تركيبته تتكون من أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية.
ولكن هذا المجلس ساهم في انتقال السلطة بشكل سلس وجنب البلاد الدخول في المجهول، وأصدر يوم 15 جانفي 2011 بيانا جاء فيه أنه بعد إطلاعه على الرسالة الموجهة إليه من قبل الوزير الأول محمد الغنوشي بتاريخ 15 جانفي 2011 وبعد الإطلاع على أحكام الفصل 57 من الدستور فيما يخص شغور منصب رئاسة الجمهورية وحيث اتضح خاصة من الرسالة المذكورة أن الرئيس زين العابدين بن علي غادر البلاد التونسية دون أن يفوض سلطاته إلى الوزير الأول وفقا لأحكام الفصل 56 من الدستور وحيث أنه لم يقدم استقالته من مهامه على رأس الدولة، وحيث أن المغادرة تمت في الظروف القائمة بالبلاد وبعد الإعلان عن حالة الطوارئ، وحيث أن غياب رئيس الجمهورية بهذه الصورة يحول دون القيام بما تقتضيه موجبات مهامه وهو ما يمثل حالة عجز تام عن ممارسة وظائفه على معنى الفصل 57 من الدستور يعلن أولا : الشغور النهائي في منصب رئيس الجمهورية، ثانيا: إن الشروط الدستورية توفرت لتولى رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع فورا مهام رئيس الدولة بصفة مؤقتة ويتم إبلاغ هذا الإعلان إلى كل من رئيس مجلس النواب ومجلس المستشارين وينشر هذا الإعلان بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية. وصدر هذا القرار في الجلسة المنعقدة بمقر المجلس الدستوري بباردو يوم السبت 15 جانفي 2011 برئاسة فتحي عبد الناظر وعضوية فائزة الكافي و غازي الجريبي والمنجي الأخضر ومحمد رضا بن حماد ومحمد كمال شرف الدين ونجيب بلعيد وابراهيم البرتاجي وحميدة العريف.
حل المجلس الدستوري
وبعد انتقال السلطة، تعالت أصوات عدد من الناشطين السياسيين للمطالبة بحل المجلس الدستوري والعمل على تركيز محكمة دستورية مستقلة وتمكين المواطنين من حق الدفع بعدم دستورية القوانين، ولكن في إطار مبدأ تواصل الدولة، ورغم حالة الاحتقان، عقد مجلس النواب المنتخب سنة 2009 جلسة عامة وتمخضت تلك الجلسة عن إصدار القانون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011 المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور في المجالات التالية :العفو العام، حقوق الإنسان والحريات الأساسية، النظام الانتخابي، الصحافة، تنظيم الأحزاب السياسية، الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، تنمية الاقتصاد، النهوض الاجتماعي، المالية والجباية، الملكية، اتربية والثقافة، مجابهة الكوارث والأخطار، الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتعهدات المالية للدولة، المعاهدات الدولية التجارية والجبائية والاقتصادية والاستثمارية، المعاهدات الدولية المتعلقة بالعمل وبالمجال الاجتماعي، المعاهدات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وصادق مجلس النواب على القانون عدد 5 سالف الذكر في جلسة عامة سادها الكثير من التوتر لأن الحاضرين في الشرفة العلوية بقاعة الجلسات العامة كانوا يصرخون بملء حناجرهم مرددين شعار "ديغاج"، ذلك الشعار الوهاج الذي تدفق من تونس الأعماق وسرعان ما أصبح عابرا للحدود، وتبعا للتفويض لرئيس الجمهورية المؤقت في اتخاذ مراسيم، تم إصدار 121 مرسوما من بينها المرسوم عدد 14 المؤرخ في 23 مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية ونص هذا الأخير على حل كل من مجلس النواب، ومجلس المستشارين، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والمجلس الدستوري. وأن يتولى الكتاب العامون أو المكلفون بالشؤون الإدارية والمالية لهذه المجالس تصريف أمورها الإدارية والمالية إلى حين وضع المؤسسات التي ستعوضها بمقتضى الدستور الجديد.
هيئة تحقيق أهداف الثورة
وقبل حل المجالس الأربعة تم إصدار ثلاثة مراسيم مهمة تعلقت بإحداث اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى حين زوال موجبها التي ترأسها توفيق بودربالة، واللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد التي ترأسها المرحوم عبد الفتاح عمر، والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ترأسها عياض بن عاشور.
وبعد تركيزها صادقت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي على "العهد الجمهوري" وعبرت هذه الوثيقة التي كان لـ "الصباح" آنذاك السبق في نشرها عن التزام الأطراف السياسية المكونة لها بجملة من المبادئ الأساسية أهمها أن السيادة للشعب يمارسها عبر انتخابات حرة ديمقراطية تعددية وشفافة بما يحفظ التداول السلمي على السلطة وإقرار الفصل بين السلطات وتحقيق التوازن بينها وضمان استقلال القضاء وحياد الإدارة والمساواة بين المواطنين أمام القانون وضمان كافة الحقوق الأساسية للمواطنين وخاصة منها حرية التفكير والتعبير والإعلام والصحافة والتنظم والاجتماع والتظاهر والتنقل وحماية مكتسبات المرأة وضمان الحرمة الجسدية لكافة الأفراد والحفاظ على كرامتهم وأعراضهم وتجريم التعذيب ورفض العنف أيا كان مصدره.. كما ناقشت الهيئة في جلسات ساخنة النصوص المتعلقة بالانتخابات وبهيئة الانتخابات وبتنظيم الأحزاب والجمعيات والإعلام وغيرها، وبعد حلها تم في 23 أكتوبر 2011 تنظيم انتخابات أعضاء المجلس الوطني التأسيسي من أجل صياغة دستور جديد عوضا عن دستور 1959.
دستور 2014
وصادق المجلس الوطني التأسيسي في جانفي 2014 على الدستور الذي نص في باب السلطة القضائية على أحكام تتعلق بالمحكمة الدستورية كهيئة قضائية مستقلة تتركب من 12 عضوا يعين كل من رئيس الجمهورية ومجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء أربعة أعضاء ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون، كما نص في بابه السادس على الهيئات الدستورية المستقلة التي تعمل على دعم الديمقراطية وتتمتع بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معززة، كما صادق التأسيسي يوم 15 أفريل 2014 على القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المتعلّق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ونص هذا القانون على أن الهيئة تتولى مراقبة دستورية مشاريع القوانين بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو ثلاثين نائبا على الأقل ويقصد بمشاريع القوانين كافة النصوص التشريعية المصادق عليها من المجلس الوطني التأسيسي أو مجلس نواب الشعب والتي لم يتم ختمها بعد وتعتبر سائر المحاكم غير مخولة لمراقبة دستورية القوانين وتتركب الهيئة من الرئيس الأول لمحكمة التعقيب رئيسا، والرئيس الأول للمحكمة الإدارية عضوا ونائبا أولا للرئيس، والرئيس الأول لدائرة المحاسبات عضوا ونائبا ثانيا للرئيس، وثلاثة أعضاء من ذوي الاختصاص القانوني يعينهم تباعا وبالتساوي بينهم كل من رئيس المجلس الوطني التأسيسي أو مجلس نواب الشعب ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. ونص الفصل 26 من نفس القانون على أن تنتهي مهام الهيئة بإرساء المحكمة الدستورية.
ونظرا للصراعات الحزبية والتجاذبات السياسية أخفق مجلس نواب الشعب خلال المدة النيابية التي ترأسها محمد الناصر أو بعد انتخابات 2019 في انتخاب ثلاثة أعضاء بالمحكمة الدستورية وانتخب روضة الورسيغني فقط، كما انه وباستثناء هيئة الانتخابات أخفق في استكمال مسار تركيز بقية الهيئات التي نص عليها دستور 2014 رغم مصادقته على قوانين أساسية تتعلق بها باستثناء القانون المتعلق بهيئة الاتصال السمعي والبصري.
كما أن المحاولة التي قام بها المجلس النيابي المنحل برئاسة راشد الغنوشي لتنقيح قانون المحكمة الدستورية في اتجاه تيسير عملية انتخاب أعضاء هذه المحكمة فإنها لم تسفر عن أي نتيجة لأن رئيس الجمهورية قيس سعيد قام برد مشروع القانون للبرلمان. وأشار رئيس الجمهورية في "الكتاب" الذي أرسله إلى رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي ليرد فيه القانون المتعلق بتنقيح القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية إلى الفقرة الخامسة من الفصل 148 الواردة في دستور 2014 وتحديدا في باب الأحكام الانتقالية، ونصت هذه الفقرة على أن "يتم في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وفي أجل أقصاه سنة من هذه الانتخابات إرساء المحكمة الدستورية...."، وأضاف الرئيس أن "هذا الحكم لم يقتصر على ذكر أجل في المطلق بل سماه والمسمى هو المعين والمحدد وليس لأي سلطة داخل الدولة أن تتجاوز الوقت الذي حدده الدستور وسماه ونص على الأجل وذكر أقصاه".
حل البرلمان
وأمام ارتفاع منسوب التوتر والعنف بمجلس نواب الشعب قرر رئيس الجمهورية في 25 جويلية 2021 تعليق أشغاله ثم قرر لاحقا حله وهو ما أدى إلى اتساع دائرة معارضيه، ورغم الانتقادات اللاذعة مضى الرئيس دون أن يبالي بخصومه في تنفيذ خارطة طريقه التي تضمنت استشارة وطنية واستفتاء حول مشروع الدستور انتخابات تشريعية ثم انتخابات محلية، وساعده في تنفيذ هذه الخارطة الأمر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، إذ على أساس هذا الأمر أصدر سعيد عشرات المراسيم ومنها مراسيم متعلقة بالانتخابات وهيئة الانتخابات والمجلس الأعلى المؤقت للقضاء وغيرها، ولكن حتى بعد انتهاء فترة العمل بالتدابير الاستثنائية، لم يقع العدول عن مسألة إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وفي نفس الوقت لم يقع التسريع في تركيز المحكمة الدستورية رغم إزالة العوائق التي حالت سابقا دون تركيزها والمتمثلة في تركيبتها. ونظرا لتأخر رئاسة الجمهورية في تركيز هذه المحكمة ولتلافي حالة الفراغ، بادر عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب خلال الصائفة المنقضية بتقديم مقترح قانون أساسي يتعلق بالمحكمة الدستورية وذلك عملا بمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 68 من دستور 2022 والتي أتاحت للنواب حق عرض مقترحات القوانين شريطة أن يقع تقديمها من قبل عشرة نواب على الأقل. وحمل مقترح القانون المذكور إمضاءات11 نائبا من غير المنتمين إلى كتل وفي مقدمتهم النائبة بسمة الهمامي ولكن مكتب المجلس لم يحله على اللجنة المختصة. وقال رئيس المجلس إبراهيم بودربالة خلال ندوة صحفية عقدها قبل أربعة أشهر إن تركيز المحكمة الدستورية سيكون من أوليات المجلس النيابي ولكن رئاسة الجمهورية لم ترسل للبرلمان مشروع قانون في الغرض، أما مكتب البرلمان فلم يتخذ قرارا بخصوص المبادرة التشريعية التي اقترحها عدد من النواب.
وللتذكير تضمنت المبادرة التشريعية 35 فصلا تم توزيعها على أربعة أبواب، تعلق الباب الأول بالأحكام العامة جاء فيه بالخصوص أن المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة ضامنة لعلوية الدستور وحامية للنظام الجمهوري الديمقراطي وللحقوق والحريات في نطاق اختصاصاتها وصلاحياتها المقررة بالدستور وبالمبينة بقانونها الأساسي، وتضمن الباب الثاني أحكاما تتعلق بعضوية المحكمة وبالضمانات المكفولة للأعضاء وأهمها الحصانة، أما الباب الثالث فتطرق إلى تنظيم المحكمة الدستورية وتسييرها، في حين تضمن الباب الرابع من مقترح القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية اختصاصات المحكمة الدستورية والإجراءات المتبعة من قبلها ونصت المبادرة على أن قرارات المحكمة الدستورية تكون معللة وهي ملزمة للجميع وتصدر هذه القرارات باسم الشعب وتنشر بالرائد الرسمي في أجل خمسة عشر يوما من تاريخ صدورها.
وبالعودة إلى دستور 2022 يمكن الإشارة إلى أن المحكمة الدستورية تختص بالنظر في مراقبة دستورية القوانين بناء على طلب من رئيس الجمهوريّة أو ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس نوّاب الشعب أو نصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم يرفع إليها في أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ المصادقة على مشروع القانون أومن تاريخ المصادقة على مشروع قانون في صيغة معدلة بعد أن تمّ ردّه من قبل رئيس الجمهوّرية، وفي دستورية المعاهدات التي يعرضها رئيس الجمهوّرية قبل ختم قانون الموافقة عليها، ودستورية القوانين التي تحيلها عليها المحاكم إذا تم الدّفع بعدم دستوريتها في الحالات وطبق الإجراءات التي يقرّها القانون، كما تختص المحكمة الدستورية حصريا ودون سواها بالنظر في مراقبة دستورية النّظـــام الداخلي لمجلس نـــوّاب الشعب والنظام الدّاخلي للمــجلس الوطني للجهـــات والأقاليم، ومراقبة دستورية إجراءات تنقيح الدستور، ومراقبة دستورية مشاريع تنقيح الدستور للبتّ في عدم تعارضها مع ما لا يجوز تنقيحه حسب ما هو مقرّر بالدستور. كما أنه في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أو لأي سبب من الأسباب يتولى رئيس المحكمة الدستورية فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعين يوما وأقصاه تسعون يوما.
سعيدة بوهلال
تونس- الصباح
تحتفل تونس اليوم بذكرى انتفاضة 14 جانفي2011 وبهذه المناسبة جددت العديد من القوى السياسية والمدنية الدعوة إلى التسريع بتركيز المحكمة الدستورية لتلافي حالة الفراغ التي أحدثها الأمر عدد 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية بتنصيصه على إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، كما عبرت عن مخاوفها من المساس بالهيئات المستقلة، وذلك بعد أن كانت أبدت في وقت سابق بمناسبة الاستفتاء حول دستور 25 جويلية 2022 اعتراضها على تركيبة المحكمة الدستورية، وتوجسها من تبعات عدم دسترة هيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة حقوق الإنسان وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام عودة نظام الحكم الفردي الذي ثار ضده التونسيون، وذلك على اعتبار أن المحكمة الدستورية والهيئات التعديلية المستقلة تعتبر ضمانة لصون الحقوق والحريات ولأن وجودها يمثل أحد الركائز الأساسية لدولة القانون والمؤسسات.
وكان تركيز محكمة دستورية مستقلة عن السلطة الحاكمة، حلم راود الكثير من التونسيين الذين ناضلوا ضد الدكتاتورية ونظام الحكم الفردي سواء كان ذلك في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، أو في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وحتى المجلس الدستوري الذي تم إحداثه سنة 1987 فإنه لم يرتق إلى تطلعاتهم لأن تركيبته تتكون من أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية.
ولكن هذا المجلس ساهم في انتقال السلطة بشكل سلس وجنب البلاد الدخول في المجهول، وأصدر يوم 15 جانفي 2011 بيانا جاء فيه أنه بعد إطلاعه على الرسالة الموجهة إليه من قبل الوزير الأول محمد الغنوشي بتاريخ 15 جانفي 2011 وبعد الإطلاع على أحكام الفصل 57 من الدستور فيما يخص شغور منصب رئاسة الجمهورية وحيث اتضح خاصة من الرسالة المذكورة أن الرئيس زين العابدين بن علي غادر البلاد التونسية دون أن يفوض سلطاته إلى الوزير الأول وفقا لأحكام الفصل 56 من الدستور وحيث أنه لم يقدم استقالته من مهامه على رأس الدولة، وحيث أن المغادرة تمت في الظروف القائمة بالبلاد وبعد الإعلان عن حالة الطوارئ، وحيث أن غياب رئيس الجمهورية بهذه الصورة يحول دون القيام بما تقتضيه موجبات مهامه وهو ما يمثل حالة عجز تام عن ممارسة وظائفه على معنى الفصل 57 من الدستور يعلن أولا : الشغور النهائي في منصب رئيس الجمهورية، ثانيا: إن الشروط الدستورية توفرت لتولى رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع فورا مهام رئيس الدولة بصفة مؤقتة ويتم إبلاغ هذا الإعلان إلى كل من رئيس مجلس النواب ومجلس المستشارين وينشر هذا الإعلان بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية. وصدر هذا القرار في الجلسة المنعقدة بمقر المجلس الدستوري بباردو يوم السبت 15 جانفي 2011 برئاسة فتحي عبد الناظر وعضوية فائزة الكافي و غازي الجريبي والمنجي الأخضر ومحمد رضا بن حماد ومحمد كمال شرف الدين ونجيب بلعيد وابراهيم البرتاجي وحميدة العريف.
حل المجلس الدستوري
وبعد انتقال السلطة، تعالت أصوات عدد من الناشطين السياسيين للمطالبة بحل المجلس الدستوري والعمل على تركيز محكمة دستورية مستقلة وتمكين المواطنين من حق الدفع بعدم دستورية القوانين، ولكن في إطار مبدأ تواصل الدولة، ورغم حالة الاحتقان، عقد مجلس النواب المنتخب سنة 2009 جلسة عامة وتمخضت تلك الجلسة عن إصدار القانون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011 المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور في المجالات التالية :العفو العام، حقوق الإنسان والحريات الأساسية، النظام الانتخابي، الصحافة، تنظيم الأحزاب السياسية، الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، تنمية الاقتصاد، النهوض الاجتماعي، المالية والجباية، الملكية، اتربية والثقافة، مجابهة الكوارث والأخطار، الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتعهدات المالية للدولة، المعاهدات الدولية التجارية والجبائية والاقتصادية والاستثمارية، المعاهدات الدولية المتعلقة بالعمل وبالمجال الاجتماعي، المعاهدات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وصادق مجلس النواب على القانون عدد 5 سالف الذكر في جلسة عامة سادها الكثير من التوتر لأن الحاضرين في الشرفة العلوية بقاعة الجلسات العامة كانوا يصرخون بملء حناجرهم مرددين شعار "ديغاج"، ذلك الشعار الوهاج الذي تدفق من تونس الأعماق وسرعان ما أصبح عابرا للحدود، وتبعا للتفويض لرئيس الجمهورية المؤقت في اتخاذ مراسيم، تم إصدار 121 مرسوما من بينها المرسوم عدد 14 المؤرخ في 23 مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية ونص هذا الأخير على حل كل من مجلس النواب، ومجلس المستشارين، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والمجلس الدستوري. وأن يتولى الكتاب العامون أو المكلفون بالشؤون الإدارية والمالية لهذه المجالس تصريف أمورها الإدارية والمالية إلى حين وضع المؤسسات التي ستعوضها بمقتضى الدستور الجديد.
هيئة تحقيق أهداف الثورة
وقبل حل المجالس الأربعة تم إصدار ثلاثة مراسيم مهمة تعلقت بإحداث اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى حين زوال موجبها التي ترأسها توفيق بودربالة، واللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد التي ترأسها المرحوم عبد الفتاح عمر، والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ترأسها عياض بن عاشور.
وبعد تركيزها صادقت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي على "العهد الجمهوري" وعبرت هذه الوثيقة التي كان لـ "الصباح" آنذاك السبق في نشرها عن التزام الأطراف السياسية المكونة لها بجملة من المبادئ الأساسية أهمها أن السيادة للشعب يمارسها عبر انتخابات حرة ديمقراطية تعددية وشفافة بما يحفظ التداول السلمي على السلطة وإقرار الفصل بين السلطات وتحقيق التوازن بينها وضمان استقلال القضاء وحياد الإدارة والمساواة بين المواطنين أمام القانون وضمان كافة الحقوق الأساسية للمواطنين وخاصة منها حرية التفكير والتعبير والإعلام والصحافة والتنظم والاجتماع والتظاهر والتنقل وحماية مكتسبات المرأة وضمان الحرمة الجسدية لكافة الأفراد والحفاظ على كرامتهم وأعراضهم وتجريم التعذيب ورفض العنف أيا كان مصدره.. كما ناقشت الهيئة في جلسات ساخنة النصوص المتعلقة بالانتخابات وبهيئة الانتخابات وبتنظيم الأحزاب والجمعيات والإعلام وغيرها، وبعد حلها تم في 23 أكتوبر 2011 تنظيم انتخابات أعضاء المجلس الوطني التأسيسي من أجل صياغة دستور جديد عوضا عن دستور 1959.
دستور 2014
وصادق المجلس الوطني التأسيسي في جانفي 2014 على الدستور الذي نص في باب السلطة القضائية على أحكام تتعلق بالمحكمة الدستورية كهيئة قضائية مستقلة تتركب من 12 عضوا يعين كل من رئيس الجمهورية ومجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء أربعة أعضاء ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون، كما نص في بابه السادس على الهيئات الدستورية المستقلة التي تعمل على دعم الديمقراطية وتتمتع بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معززة، كما صادق التأسيسي يوم 15 أفريل 2014 على القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المتعلّق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ونص هذا القانون على أن الهيئة تتولى مراقبة دستورية مشاريع القوانين بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو ثلاثين نائبا على الأقل ويقصد بمشاريع القوانين كافة النصوص التشريعية المصادق عليها من المجلس الوطني التأسيسي أو مجلس نواب الشعب والتي لم يتم ختمها بعد وتعتبر سائر المحاكم غير مخولة لمراقبة دستورية القوانين وتتركب الهيئة من الرئيس الأول لمحكمة التعقيب رئيسا، والرئيس الأول للمحكمة الإدارية عضوا ونائبا أولا للرئيس، والرئيس الأول لدائرة المحاسبات عضوا ونائبا ثانيا للرئيس، وثلاثة أعضاء من ذوي الاختصاص القانوني يعينهم تباعا وبالتساوي بينهم كل من رئيس المجلس الوطني التأسيسي أو مجلس نواب الشعب ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. ونص الفصل 26 من نفس القانون على أن تنتهي مهام الهيئة بإرساء المحكمة الدستورية.
ونظرا للصراعات الحزبية والتجاذبات السياسية أخفق مجلس نواب الشعب خلال المدة النيابية التي ترأسها محمد الناصر أو بعد انتخابات 2019 في انتخاب ثلاثة أعضاء بالمحكمة الدستورية وانتخب روضة الورسيغني فقط، كما انه وباستثناء هيئة الانتخابات أخفق في استكمال مسار تركيز بقية الهيئات التي نص عليها دستور 2014 رغم مصادقته على قوانين أساسية تتعلق بها باستثناء القانون المتعلق بهيئة الاتصال السمعي والبصري.
كما أن المحاولة التي قام بها المجلس النيابي المنحل برئاسة راشد الغنوشي لتنقيح قانون المحكمة الدستورية في اتجاه تيسير عملية انتخاب أعضاء هذه المحكمة فإنها لم تسفر عن أي نتيجة لأن رئيس الجمهورية قيس سعيد قام برد مشروع القانون للبرلمان. وأشار رئيس الجمهورية في "الكتاب" الذي أرسله إلى رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي ليرد فيه القانون المتعلق بتنقيح القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية إلى الفقرة الخامسة من الفصل 148 الواردة في دستور 2014 وتحديدا في باب الأحكام الانتقالية، ونصت هذه الفقرة على أن "يتم في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وفي أجل أقصاه سنة من هذه الانتخابات إرساء المحكمة الدستورية...."، وأضاف الرئيس أن "هذا الحكم لم يقتصر على ذكر أجل في المطلق بل سماه والمسمى هو المعين والمحدد وليس لأي سلطة داخل الدولة أن تتجاوز الوقت الذي حدده الدستور وسماه ونص على الأجل وذكر أقصاه".
حل البرلمان
وأمام ارتفاع منسوب التوتر والعنف بمجلس نواب الشعب قرر رئيس الجمهورية في 25 جويلية 2021 تعليق أشغاله ثم قرر لاحقا حله وهو ما أدى إلى اتساع دائرة معارضيه، ورغم الانتقادات اللاذعة مضى الرئيس دون أن يبالي بخصومه في تنفيذ خارطة طريقه التي تضمنت استشارة وطنية واستفتاء حول مشروع الدستور انتخابات تشريعية ثم انتخابات محلية، وساعده في تنفيذ هذه الخارطة الأمر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، إذ على أساس هذا الأمر أصدر سعيد عشرات المراسيم ومنها مراسيم متعلقة بالانتخابات وهيئة الانتخابات والمجلس الأعلى المؤقت للقضاء وغيرها، ولكن حتى بعد انتهاء فترة العمل بالتدابير الاستثنائية، لم يقع العدول عن مسألة إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وفي نفس الوقت لم يقع التسريع في تركيز المحكمة الدستورية رغم إزالة العوائق التي حالت سابقا دون تركيزها والمتمثلة في تركيبتها. ونظرا لتأخر رئاسة الجمهورية في تركيز هذه المحكمة ولتلافي حالة الفراغ، بادر عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب خلال الصائفة المنقضية بتقديم مقترح قانون أساسي يتعلق بالمحكمة الدستورية وذلك عملا بمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 68 من دستور 2022 والتي أتاحت للنواب حق عرض مقترحات القوانين شريطة أن يقع تقديمها من قبل عشرة نواب على الأقل. وحمل مقترح القانون المذكور إمضاءات11 نائبا من غير المنتمين إلى كتل وفي مقدمتهم النائبة بسمة الهمامي ولكن مكتب المجلس لم يحله على اللجنة المختصة. وقال رئيس المجلس إبراهيم بودربالة خلال ندوة صحفية عقدها قبل أربعة أشهر إن تركيز المحكمة الدستورية سيكون من أوليات المجلس النيابي ولكن رئاسة الجمهورية لم ترسل للبرلمان مشروع قانون في الغرض، أما مكتب البرلمان فلم يتخذ قرارا بخصوص المبادرة التشريعية التي اقترحها عدد من النواب.
وللتذكير تضمنت المبادرة التشريعية 35 فصلا تم توزيعها على أربعة أبواب، تعلق الباب الأول بالأحكام العامة جاء فيه بالخصوص أن المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة ضامنة لعلوية الدستور وحامية للنظام الجمهوري الديمقراطي وللحقوق والحريات في نطاق اختصاصاتها وصلاحياتها المقررة بالدستور وبالمبينة بقانونها الأساسي، وتضمن الباب الثاني أحكاما تتعلق بعضوية المحكمة وبالضمانات المكفولة للأعضاء وأهمها الحصانة، أما الباب الثالث فتطرق إلى تنظيم المحكمة الدستورية وتسييرها، في حين تضمن الباب الرابع من مقترح القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية اختصاصات المحكمة الدستورية والإجراءات المتبعة من قبلها ونصت المبادرة على أن قرارات المحكمة الدستورية تكون معللة وهي ملزمة للجميع وتصدر هذه القرارات باسم الشعب وتنشر بالرائد الرسمي في أجل خمسة عشر يوما من تاريخ صدورها.
وبالعودة إلى دستور 2022 يمكن الإشارة إلى أن المحكمة الدستورية تختص بالنظر في مراقبة دستورية القوانين بناء على طلب من رئيس الجمهوريّة أو ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس نوّاب الشعب أو نصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم يرفع إليها في أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ المصادقة على مشروع القانون أومن تاريخ المصادقة على مشروع قانون في صيغة معدلة بعد أن تمّ ردّه من قبل رئيس الجمهوّرية، وفي دستورية المعاهدات التي يعرضها رئيس الجمهوّرية قبل ختم قانون الموافقة عليها، ودستورية القوانين التي تحيلها عليها المحاكم إذا تم الدّفع بعدم دستوريتها في الحالات وطبق الإجراءات التي يقرّها القانون، كما تختص المحكمة الدستورية حصريا ودون سواها بالنظر في مراقبة دستورية النّظـــام الداخلي لمجلس نـــوّاب الشعب والنظام الدّاخلي للمــجلس الوطني للجهـــات والأقاليم، ومراقبة دستورية إجراءات تنقيح الدستور، ومراقبة دستورية مشاريع تنقيح الدستور للبتّ في عدم تعارضها مع ما لا يجوز تنقيحه حسب ما هو مقرّر بالدستور. كما أنه في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أو لأي سبب من الأسباب يتولى رئيس المحكمة الدستورية فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعين يوما وأقصاه تسعون يوما.