*حلم الطيران أو في معنى آخر التحرر بعيدا عن ضغوط المجتمع وقواعده ..
تونس - الصباح
يطرح أحدث أفلام محمد بن عطية "وراء الجبل" في قاعات السينما التونسية يوم الأربعاء 17 جانفي 2024 وذلك بعد جولة دولية في أهم مهرجانات السينما بالعالم كانت محطتها الأولى بمهرجان البندقية السينمائي الدولي وتحديدا "قسم آفاق" وذلك باعتباره الفيلم العربي الروائي الطويل الوحيد في منافسات الدورة المنقضية ضمن برمجة أعرق مهرجانات السينما كما كان عرضه الأول في الشرق الأوسط ضمن فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في ديسمبر 2023.
"وراء الجبل" الذي كان عرضه المخصص للصحافة يوم أمس الخميس11 جانفي الحالي يجسد بطولته كل من مجد مستورة (رفيق)، الطفل وليد بوشيوة (ياسين)، الممثل الفلسطيني سامر بشارات (الراعي)، سلمى زغيدي (نجوى)، حلمي الدريدي (وجدي)، وسام بلغراق (أسامة) ويروي حكاية "رفيق" زوج وأب متعب نفسيا يغادر السجن بعد أربع سنوات ويختطف ابنه من المدرسة لأسباب تبدو في بداية الفيلم غامضة وكأن هذا الأب شخص مضطرب نفسيا حاول الانتحار في مشهد "البداية" من الفيلم غير أن رحلة "رفيق" وابنه "ياسين" إلى الجبال تكشف عن عالم "مغاير" بعيدا عن ضغط المجتمع وقيوده.
العنوان الفرنسي لفيلم محمد بن عطية "العاديون" (Les Ordinaires) ورغم تناقضه الظاهري مع هاجس مؤلفه ومخرجه، يعكس في مشاهد الفيلم وأحدثه - في وتيرة متصاعدة- غير العادي في ذات الإنسانية المكبلة بقوانين منظومة اجتماعية رتيبة، قاسية وظالمة والمجسدة في بطل الفيلم وهي الصورة المثالية لأبطال محمد بن عطية في مشواره السينمائي شخصية "ذكورية" من الطبقة الوسطى تحمل أفكارا مغايرة تساءل عبرها واقعها الاجتماعي انطلاقا من فيلمه الروائي الطويل "نحبك هادي" مرورا بفيلم "ولدي" ومؤخرا أحدث هذه التجارب وأنضجها فنيا وجماليا "وراء الجبل".
يعلن "رفيق" في مشاهد "وراء الجبل" عن قدراته على الطيران ويحاول إثبات ذلك لابنه في رحلتهما الجبالية التي ينضم لها راع شاب غير أن محاولاته الأولى تنتهي بسقوطه مغمى عليه .. يقال إن الأطفال لا يكذبون ويصدقون كل ماهو سحري هكذا كان طفل "رفيق" لم يخش الحلم والتغير والتفكير خارج القطيع كما غيره من الأطفال قبل مرحلة "تدجين" المجتمع .. هي فكرة محورية تلوّن مشاريع محمد بن عطية في أغلب أعماله النابعة والموجهة في الآن نفسه للمجتمع.
يقول "رفيق" في أحد المشاهد ردا على أسئلة طفل لعائلة اختبأ في منزلها صحبة ابنه وراع بعد مطاردة الشرطة واتهمه باختطاف طفله: "في البداية كان الانسان يمشي منحنيا ثم حاول شخص السير مستقيما فتعرض للهجوم إلى أن أًصبح الجميع يسيرون مثله .. هكذا الطيران .."
يبدو لمتابع الفيلم أن محمد بن عطية يسجد حلم الإنسانية بالطيران بعد محاولات دونتها ورقات التاريخ ولئن كان العالم والمخترع عباس بن فرناس أقرب لذاكرتنا الجماعية إلا أن مشاهدة الفيلم تفتح مجالات القراءة أبعد وأعمق وكأننا في ورقة أخرى نعود لأرض اليونان وأسطورة "إيكاروس" الذي حاول الطيران مع والده ليهرب من متاهة "كريت" لكن شرط النجاة الابتعاد عن الشمس والبحر أو في معنى آخر آفاق الحلم .
"وراء الجبل" فيلم يقطع مع فكرة "سوبرمان" وسينما "الحلم الأمريكي" فبطلنا "رفيق" رجل عادي من طبقة متوسطة في بلد متأزم اقتصاديا، سياسيا واجتماعيا يحلم بالتغيير، يحلق بعيدا عن البيوت الضيقة والشوارع المزدحمة لأماكن طبيعية مفتوحة بحثا عن متنفس يمكنه من إخبار ابنه بأنه قادر على الطيران فالمكان في الفيلم دافع لتوتر الأحداث وتصاعدها وكلما اتجه رفيق نحو فضاءات مغلقة أصبح شخصا عنيفا مضطربا يختنق بين جدران مقر عمله، بيته، الشارع المزدحم وفي بيت العائلة الذي اقتحمه هربا من الشرطة ليجد في الجبال ملاذه نحو الانعتاق والتحرر من مكبلات الواقع وضغوطه ولو بالموت...
رفيق هذا الرجل العادي في أداء لافت لممثل متمكن من أدواته (مجد مستورة) ومن تفاصيل الشخصية التي يجسدها يعكس بدوره جانب من نضج التجربة السينمائية الأخيرة للمخرج التونسي فالفيلم ليس خيالا علميا أو دراما اجتماعية أو سينما إثارة من نوع أفلام الطريق وقيمة العمل الجمالية تبرز في قدرة مخرجه على المزج بين هذه الأنماط السينمائية مع مسحة من الغموض المصاحبة لشخصياته وتركيباتها المتقنة على مستوى الكتابة وإدارة الممثل والأداء ولئن كانت ملامح نضج رؤية محمد بن عطية الفنية في فيلم "وراء الجبل" لم تظهر بقدر كبير من المثالية والكمال إلا أنها تعلن عن مرحلة جديدة في مسيرة هذا المخرج واعدة بسينما ديناميكية ذات خيارات أكثر جرأة في طرحها الفكري.
في سينما تونسية تناصر قضايا المرأة يظهر البطل رجلا في "وراء الجبل" كما في تجارب سابقة لمخرج الفيلم على غرار "نحبك هادي" و"ولدي" وهي مسألة طالما كانت ملاحظة توجه لمحمد بن عطية في خياراته ورؤيته غير أن هذه "الذكورية" تمنحنا قراءة ثانية لواقعنا الاجتماعي وكأن الرجل في أعمال محمد بن عطية انعكاس للمرأة وقضاياها وجهان لمجتمع واحد.
يأخذنا مشهد لقاء "رفيق" (الممثل مجد مستورة) زوجته (ريم بن مسعود) بعد الخروج من السجن في فيلم "وراء الجبل" بالذاكرة إلى فيلم "نحبك هادي" أول لقاء يجمع المخرج بمجد مستورة وتشابه هذا المشهد من الخلاف بين البطلين في "وراء الجبل" بين مشهد خلاف الحبيبين في فيلم "نحبك هادي" (بأداء أيضا لمجد مستورة وريم المسعودي) وكأن شخصيتي "هادي" و"ريم" يعاد استنساخهما من جديد في جسدي بطلي "وراء الجبل" وكأننا نتساءل عن مصير علاقتهما لو استمر معا في مجتمع خانق ومتأزم تتعاطى شخوصه الأدوية المهدئة للاستمرار عبرالهروب..
هل وردت هذه التساؤلات المخرج وهو يكتب فيلمه الروائي الطويل الثالث ويراقب مجتمع تتغير ملامحه وهويته شيئا فشيئا، يعاني الانكسار وتهدد أبناءه أمراض الصحة النفسية والعقلية، تعلن مشاهد "وراء الجبل" عن هذا الهاجس ويدعونا محمد بن عطية للتساؤل أبعد عن جيل ينمو بيننا وسط عتمة الظلم والفساد واليأس ومع ذلك يحافظ على تلك النهاية الدرامية لأعماله الملامسة للواقع فرغم جرأته الجمالية والتقنية والمغامرة في البحث عن سينما خارج الدائرة الكلاسيكية للسينما التونسية تظل النهاية درامية ولئن كانت مبررة في "نحبك هادي" وفيلم "ولدي" إلا أن لمسة الخيال العلمي والغموض في "وراء الجبل" وتيمة "النبوة" (من خلال لقاء شخصيتي رفيق والراعي الذي أصبح تابعا ومريدا للبطل) أوحت لنا بنهاية مغايرة تماهي فكرة العمل غير أن خيار محمد بن عطية يعلمنا أننا سنظل في قبضة مجتمعاتنا وقيودها وإن قررنا كسر هذه القاعدة سيكون مصيرنا الموت بتهمة "الحلم" فالمعجزات في راهننا لا يؤمن بها سوى الأطفال لذلك كان مشهد النهاية مع الطفل "ياسين" وهو عائد في سيارة الشرطة لبيته بعد موت والده يشاهد دون غيره من مرافقيه الجبال وهي تنحي لتصحبه في رحلته ويتحقق كلام والده الذي عاش المشهد نفسه في طفولته.
نجلاء قموع
*حلم الطيران أو في معنى آخر التحرر بعيدا عن ضغوط المجتمع وقواعده ..
تونس - الصباح
يطرح أحدث أفلام محمد بن عطية "وراء الجبل" في قاعات السينما التونسية يوم الأربعاء 17 جانفي 2024 وذلك بعد جولة دولية في أهم مهرجانات السينما بالعالم كانت محطتها الأولى بمهرجان البندقية السينمائي الدولي وتحديدا "قسم آفاق" وذلك باعتباره الفيلم العربي الروائي الطويل الوحيد في منافسات الدورة المنقضية ضمن برمجة أعرق مهرجانات السينما كما كان عرضه الأول في الشرق الأوسط ضمن فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في ديسمبر 2023.
"وراء الجبل" الذي كان عرضه المخصص للصحافة يوم أمس الخميس11 جانفي الحالي يجسد بطولته كل من مجد مستورة (رفيق)، الطفل وليد بوشيوة (ياسين)، الممثل الفلسطيني سامر بشارات (الراعي)، سلمى زغيدي (نجوى)، حلمي الدريدي (وجدي)، وسام بلغراق (أسامة) ويروي حكاية "رفيق" زوج وأب متعب نفسيا يغادر السجن بعد أربع سنوات ويختطف ابنه من المدرسة لأسباب تبدو في بداية الفيلم غامضة وكأن هذا الأب شخص مضطرب نفسيا حاول الانتحار في مشهد "البداية" من الفيلم غير أن رحلة "رفيق" وابنه "ياسين" إلى الجبال تكشف عن عالم "مغاير" بعيدا عن ضغط المجتمع وقيوده.
العنوان الفرنسي لفيلم محمد بن عطية "العاديون" (Les Ordinaires) ورغم تناقضه الظاهري مع هاجس مؤلفه ومخرجه، يعكس في مشاهد الفيلم وأحدثه - في وتيرة متصاعدة- غير العادي في ذات الإنسانية المكبلة بقوانين منظومة اجتماعية رتيبة، قاسية وظالمة والمجسدة في بطل الفيلم وهي الصورة المثالية لأبطال محمد بن عطية في مشواره السينمائي شخصية "ذكورية" من الطبقة الوسطى تحمل أفكارا مغايرة تساءل عبرها واقعها الاجتماعي انطلاقا من فيلمه الروائي الطويل "نحبك هادي" مرورا بفيلم "ولدي" ومؤخرا أحدث هذه التجارب وأنضجها فنيا وجماليا "وراء الجبل".
يعلن "رفيق" في مشاهد "وراء الجبل" عن قدراته على الطيران ويحاول إثبات ذلك لابنه في رحلتهما الجبالية التي ينضم لها راع شاب غير أن محاولاته الأولى تنتهي بسقوطه مغمى عليه .. يقال إن الأطفال لا يكذبون ويصدقون كل ماهو سحري هكذا كان طفل "رفيق" لم يخش الحلم والتغير والتفكير خارج القطيع كما غيره من الأطفال قبل مرحلة "تدجين" المجتمع .. هي فكرة محورية تلوّن مشاريع محمد بن عطية في أغلب أعماله النابعة والموجهة في الآن نفسه للمجتمع.
يقول "رفيق" في أحد المشاهد ردا على أسئلة طفل لعائلة اختبأ في منزلها صحبة ابنه وراع بعد مطاردة الشرطة واتهمه باختطاف طفله: "في البداية كان الانسان يمشي منحنيا ثم حاول شخص السير مستقيما فتعرض للهجوم إلى أن أًصبح الجميع يسيرون مثله .. هكذا الطيران .."
يبدو لمتابع الفيلم أن محمد بن عطية يسجد حلم الإنسانية بالطيران بعد محاولات دونتها ورقات التاريخ ولئن كان العالم والمخترع عباس بن فرناس أقرب لذاكرتنا الجماعية إلا أن مشاهدة الفيلم تفتح مجالات القراءة أبعد وأعمق وكأننا في ورقة أخرى نعود لأرض اليونان وأسطورة "إيكاروس" الذي حاول الطيران مع والده ليهرب من متاهة "كريت" لكن شرط النجاة الابتعاد عن الشمس والبحر أو في معنى آخر آفاق الحلم .
"وراء الجبل" فيلم يقطع مع فكرة "سوبرمان" وسينما "الحلم الأمريكي" فبطلنا "رفيق" رجل عادي من طبقة متوسطة في بلد متأزم اقتصاديا، سياسيا واجتماعيا يحلم بالتغيير، يحلق بعيدا عن البيوت الضيقة والشوارع المزدحمة لأماكن طبيعية مفتوحة بحثا عن متنفس يمكنه من إخبار ابنه بأنه قادر على الطيران فالمكان في الفيلم دافع لتوتر الأحداث وتصاعدها وكلما اتجه رفيق نحو فضاءات مغلقة أصبح شخصا عنيفا مضطربا يختنق بين جدران مقر عمله، بيته، الشارع المزدحم وفي بيت العائلة الذي اقتحمه هربا من الشرطة ليجد في الجبال ملاذه نحو الانعتاق والتحرر من مكبلات الواقع وضغوطه ولو بالموت...
رفيق هذا الرجل العادي في أداء لافت لممثل متمكن من أدواته (مجد مستورة) ومن تفاصيل الشخصية التي يجسدها يعكس بدوره جانب من نضج التجربة السينمائية الأخيرة للمخرج التونسي فالفيلم ليس خيالا علميا أو دراما اجتماعية أو سينما إثارة من نوع أفلام الطريق وقيمة العمل الجمالية تبرز في قدرة مخرجه على المزج بين هذه الأنماط السينمائية مع مسحة من الغموض المصاحبة لشخصياته وتركيباتها المتقنة على مستوى الكتابة وإدارة الممثل والأداء ولئن كانت ملامح نضج رؤية محمد بن عطية الفنية في فيلم "وراء الجبل" لم تظهر بقدر كبير من المثالية والكمال إلا أنها تعلن عن مرحلة جديدة في مسيرة هذا المخرج واعدة بسينما ديناميكية ذات خيارات أكثر جرأة في طرحها الفكري.
في سينما تونسية تناصر قضايا المرأة يظهر البطل رجلا في "وراء الجبل" كما في تجارب سابقة لمخرج الفيلم على غرار "نحبك هادي" و"ولدي" وهي مسألة طالما كانت ملاحظة توجه لمحمد بن عطية في خياراته ورؤيته غير أن هذه "الذكورية" تمنحنا قراءة ثانية لواقعنا الاجتماعي وكأن الرجل في أعمال محمد بن عطية انعكاس للمرأة وقضاياها وجهان لمجتمع واحد.
يأخذنا مشهد لقاء "رفيق" (الممثل مجد مستورة) زوجته (ريم بن مسعود) بعد الخروج من السجن في فيلم "وراء الجبل" بالذاكرة إلى فيلم "نحبك هادي" أول لقاء يجمع المخرج بمجد مستورة وتشابه هذا المشهد من الخلاف بين البطلين في "وراء الجبل" بين مشهد خلاف الحبيبين في فيلم "نحبك هادي" (بأداء أيضا لمجد مستورة وريم المسعودي) وكأن شخصيتي "هادي" و"ريم" يعاد استنساخهما من جديد في جسدي بطلي "وراء الجبل" وكأننا نتساءل عن مصير علاقتهما لو استمر معا في مجتمع خانق ومتأزم تتعاطى شخوصه الأدوية المهدئة للاستمرار عبرالهروب..
هل وردت هذه التساؤلات المخرج وهو يكتب فيلمه الروائي الطويل الثالث ويراقب مجتمع تتغير ملامحه وهويته شيئا فشيئا، يعاني الانكسار وتهدد أبناءه أمراض الصحة النفسية والعقلية، تعلن مشاهد "وراء الجبل" عن هذا الهاجس ويدعونا محمد بن عطية للتساؤل أبعد عن جيل ينمو بيننا وسط عتمة الظلم والفساد واليأس ومع ذلك يحافظ على تلك النهاية الدرامية لأعماله الملامسة للواقع فرغم جرأته الجمالية والتقنية والمغامرة في البحث عن سينما خارج الدائرة الكلاسيكية للسينما التونسية تظل النهاية درامية ولئن كانت مبررة في "نحبك هادي" وفيلم "ولدي" إلا أن لمسة الخيال العلمي والغموض في "وراء الجبل" وتيمة "النبوة" (من خلال لقاء شخصيتي رفيق والراعي الذي أصبح تابعا ومريدا للبطل) أوحت لنا بنهاية مغايرة تماهي فكرة العمل غير أن خيار محمد بن عطية يعلمنا أننا سنظل في قبضة مجتمعاتنا وقيودها وإن قررنا كسر هذه القاعدة سيكون مصيرنا الموت بتهمة "الحلم" فالمعجزات في راهننا لا يؤمن بها سوى الأطفال لذلك كان مشهد النهاية مع الطفل "ياسين" وهو عائد في سيارة الشرطة لبيته بعد موت والده يشاهد دون غيره من مرافقيه الجبال وهي تنحي لتصحبه في رحلته ويتحقق كلام والده الذي عاش المشهد نفسه في طفولته.