إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

محنة التعليم التونسي.. التعليم الابتدائي مثالا. (1/2)

التلميذ هو مركزية جميع الأنساق المشكلة للتعليم.. أي الدمية الأصغر حجما في تركيبة الدمى الروسية ولكن الأكثر زخما

بقلم: محمد السعيدي(*)
التعليم، منظومة انشغال كل فرد وكل مجموعة وكل فئة وكل شريحة في أغلب المجتمعات سيما المجتمع التونسي. فهو فعل فردي، وجماعي، يمارسه المجتمع،عموديا وأفقيّا. فردانيّا ومجتمعيّا. وهو الانشغال الأحقّ، من بين جميع الانشغالات،على جميع المستويات النّـسقيـّة المُـشكّـلة لشخصيّة الفرد التونسي وللشخصية القاعدية للمجتمع التونسي. ولهذا الانشغال غايات وأهداف ورهانات تحرك مسارتجدُّده باستمرار.
وإذا اعتبرنا انّ الأنساق المشكِّلة للتعليم التونسي تتراتب تضمينيا وتضامنيا، فإنه من الضروري، ان نطرق هذه الأنساق،بالتفكير والتساؤل. ولكن قبل الولوج الى التفكير والتساؤل عبر التشريح والتفسير والتأويل والعرض،سنحاول دون اللبس الذي قد يحول دون فهم معنى "التراتب التضميني" ومعنى "التراتب التضامني". ثم بعد ذلك نتطرق الى مفاهيم من شأنها ان تساعدنا على تشريح التّعليم، كنسق من أنساق مسار تشَكُّل المجتمع التونسي، التعليم الابتدائي مثالا، في وضعه الذي نعتبره محنة. وسنعتمد هذه المفاهيم كمُتون نقاش وعرض للمحنة التعليمية التونسية، التعليم الابتدائي مثالا. وهذه المفاهيم هي "الثقافة"، "الحداثة والتحديث"، "السياسة التنموية الوطنية"، "البيروقراطية العقلانية الرشيدة"، "البيداغوجيا التربوية والبيداغوجيا العرفانية"، و"نسق الشبكة العلائقية" بين الأنساق المكونة للتعليم.
1ـ "التراتب التضميني"للأنساق المشكِّلة للتعليم التونسي:
لنفهم موضوعا ما، خاصة المواضيع ذات الشأن البشري الفردي والمجتمعي، لابد أن نفتح الباب على تعقيداته وتفاصيله،وما يربط بينها،حتى نرى مجموع الأجزاء في كليتها. ذلك ان الشأن الانساني واسع متوسع باستمرار. فإذا نظرنا اليه من ثقب المفتاح فإننا سنحاول، دون جدوى، رؤية الكل من خلال الجزء. والقاعدة تقول إنّ الكل أكبر من جميع الاجزاء المكونة له. حيث ان الاجزاء منفصلة لا تكون كُــلًّا، إذ الكل هو الاجزاء وما يجمعها. ولهذا سنحاول ان نتحدث عن التعليم في كليته، أي أنساق تشكيل التعليم وشبكة العلاقات التفاعلية بينها. غير اننا لن ننساق الى سرمدية الكلِّيّة اللامتناهية. لأن التعليم هو مسار فعل الإنسان الذي لا ينقطع، في فرديته وفي اجتماعيته. وله مراحل تخضع لمقاييس التوقيت الاجتماعي. هو فعل اجتماعي توجِده الحاجة الاجتماعية وليس إسقاطا فوقيا. بعبارة أخرى هو حاجة تحتية وليس حاجة فوقية. أي حاجة تنبع من الحراك الاجتماعي وتغذيه. أي هو سلوك اجتماعي. والحاجة الاجتماعية تُدرَك عبر الحسّ المباشر اليومي المرتبط بالغريزة والانطباع وإشباع الرغبات المباشرة،أو عبر الفكر الواعي الاستراتيجي المرتبط بالغايات والأهداف القريبة والمتوسطة المدى والبعيدة.
وهذا الفعل الفردي ـ الجماعي ـ المجتمعي، ذا الغايات والأهداف والمقاييس، يتم من خلال أنساق فعل، تنظيمية ـ وظيفية ـ غائية. وهذه الانساق تتراتب بمتتالية تضمينية، يتضمّن النّسقُ الأوسعُ، دورا ومكانة، النّسقَ الأقل اتساعا، من حيث الدور والمكانة، شأنها شأن الدّمى الرّوسيّة، حتى تنتهي الى نقطة مركزية، هي تلميذ الحاضر ـ "مَفْعَل" التعليم، رجل/امرأة المستقبل ـ"هدف" التعليم، مواطن تونسي "غاية"التعليم. وعليه فإن جميع الأنساق المكوِّنة لفعل النظام التعليمي ـ التربوي التونسي، باعتباره نسقا شاملا من انساق مسار فعل تشكّل المجتمع التونسي، تتداخل بطريقة احتوائية. إذ يحتوي النسق، الأشمل، النسق الأقلّ شمولا. ولكن هذه العلاقات الاحتوائية التّضمينيّة، ليست ميكانيكية حتمية وانما هي مرنة متحركة في الاتجاهين العمودي والأفقي، بحيث يحصل أن يفيض النسق المُحْتَوَى (بفتح الواو) عن النسق المُحتَـوِي (بكسر الواو)، بالتّأثير، حسب مرحلة المسار التّـشكُّـلي للمجتمع. ويَعُدُّ التاريخ السياسي للمجتمعات، مثل هذه العمليات، مبادرة او إنجازا أو معجزة... كأن ينتج التعليم جهبذا في مجال الرياضيات أو في مجال الإدارة أو في مجال السياسة من شأنه أن يؤثر في منظومة التعليم كاملة. فإذا اعتبرنا ان جوهر العملية التعليمية هو الانسان الفرد، فإن التلميذ هو جوهر العملية التعليمية.
وهكذا يغدو التلميذ الجوهر، هو مركزية جميع الأنساق المشكلة للتعليم. يعني هو الدمية الأصغر حجما في تركيبة الدمى الروسية، ولكن الأكثر زخما، والتي تتركز فيها جميع الخاصيات الجينية والتنشيئية للدمى الأكبر حجما. وعليه سيكون التلميذ هو نقطة تمركز جميع هذه الأنساق المتراتبة تضمينيا. إلاّ أنّ هذا النسق المركزي الذي تحيط به، وتصبّ فيه،جميع الأنساق المشكِّـلة لمنظومة التعليم، لابدّ له ان يفيض عن مساحته ليعم بقية الانساق المحيطة، كما يفيض نافر المياه عن النافورة التي تحويه في فعل جدلي مستمر. فالتلميذ هو الخلية التي تحمل كامل جينات الجسم التعليمي. هو مثال القرص الجنيني في البيضة. ثم يحيط به تضمينيا المُحّ ثم الغلاف المُحِّي ثم الزُّلاَل ثم القشرة. وهي تركيبة وظيفية تهدف الى انتاج طائر. يتضمن بعضها بعضا وتترابط بعلاقات وظيفية. وتميز بينها الادوار والمكانات.
2ـ "التّراتب التّضامني" للأنساق المشكِّلة للتعليم التونسي:
لا تخلو أية تركيبة اجتماعية من آليات التضامن التي تنسج شبكة العلاقات بين مكونات هذه التركيبة. فالتضامن هو المادة الوسيطة لتشبيك الأنساق الاجتماعية الجزئية من أجل تشكيل نسق أشمل. وعبارة "تضامن"، رغم انها تنحو اكثر الى الاصطلاح السياسي والأخلاقي، فإنها تمثل في فهم التشكل التنظيمي،التّعالق والتّكامل والتّواظف والتّعامل والتّواصل والتّرابط والتّناسق...والتّماحن بين مكونات التنظيم. ودون هذه الآليات فإن الانفصال التجزيئي هو مصير الأنساق الجزئية المُــشَكِّــلة للنسق الأشمل. إذ ان هذه الآليات هي الضّامنة للكل. (الكل –التضامن = مجموعة أجزاء منفصلة) / (مجموعة أجزاءمنفصلة + التضامن = الكل). فالأجزاء دون تضامن لا تشكل كلًّا. اي لا تشكل منظومة، أي لا تشكل نسقا. والكل إلّا أجزاء لا يعني عنصر التضامن (الكل – مجموعة الأجزاء =0) ذلك أن عنصر التضامن لا يوجد اعتباطيا وإنما توجده الحاجة لتشبيك الأجزاء من أجل بناء الكلّ، إذ لا حاجة للتضامن في غياب العناصر المتضامنة. وحسب فكر تالكوتبارسونز فإنه لا يمكن فهم اي نظام علائقي دون تحليل منظومي نسقي. وعليه فإن هذا التضامن بين الأجزاء، وجب فهمه، كنسق من الانساق المكوِّنة للتعليم التونسي.
وعليه، لنطرق بقية الانساق المحيطة بتلميذ الحاضر مواطن المستقبل، بالفهم والتأويل والشرح والتفسير والتساؤل، لابد من وضع هذا التلميذ، هدف العملية التّعليميّة،على محك التقييم. أي لابد ان نتناول النسق العلائقي بين مكونات النظام التعليمي بالتشريح، وأن نتساءل ان كانت هذه المكونات ـ الأنساق المُشكِّلة لنظام تعليم الطفل التونسي تؤدي دورها المشتَرك كما يجب في هذه المرحلة التاريخية الهامة من مسار حراك المجتمع التونسي. وماهي هذه الانساق؟ وفيم محنتها؟
لنجيب عن هذه التساؤلات لابد من مَشْكَلَة موضوع التعليم. اي لابد من اعتباره إشكالية تنتظر المقاربة الفكرية. وعليه لابد، إجرائيا، من اتخاذالمفاهيم، سالفة الذكر، بالعرض والتشريح والمقارنة بالواقع.
المفــــــــــــــــاهيم، محامل الأنساق المشكِّلة للتعليم
1ـ الثقافة: هناك من يصنّف الثقافة الى رسمية وهي ثقافة النظام الحاكم،وعامة وهي ثقافة الشعب.ولكن في مقالنا لن نصنِّف الثقافة حسب التفاضل الاجتماعي، وإنما سنعتبر أن للاختلافات الثقافية نفس القيمة الإجتماعية، من حيث دور كل صنف ومكانته. وذلك لأن المكونات الثقافية إمّا تتوزع قاعديا بين الأغلبية المطلقة من الأفراد لدرجة انها تضفي على المجتمع لونا عاما، مثل الثقافة الدينية أو الثقافة الفرجوية الاستهلاكية او تتوزع تخصُّصيا مثل المعارف العلمية التقنية الرفيعة أو الأكاديمية، أو الإيديولوجية أو الفنية.
أما الثقافة كمِحكّ للنسق التعليمي التربوي، فهي مجال شامل. إذ انها عامة ورسميّة. أما من حيث انها عامة، فتتمثل خاصة في الشغف بالتعليم الذي يشمل جميع التونسيين أفقيا وعموديا، مما يلوِّن المجتمع بـ"المتعلِّم". ومن حيث انها رسميّة، فتتمثل في اهتمام"المثَقَّفين"، المهنيين والصنائعيين والتقنيين والخبراء والمفكرين والأكاديميين والسياسيين، والإعلاميين التونسيين، بالتعليم والتربية، اهتماما مؤسسيا وانشغالا فكريا. إلّا ان هذا النسق يعيش محنته الثقافية الخاصة على المستوى المؤسسي (الأكاديمي العلمي والسياسي الوطني والإداري القانوني والصناعي البيداغوجي)وعلى المستوى التلقائي، (القاعدي).
فأما على المستوى المؤسّســـي فإن محنة التعليم تكمن في غياب الروح العلمية عن منظومة التعليم. وحتى اهتمام الفكر الاكاديمي التنظيري المرجعي، الفلسفي والسوسيولوجي وحتى الديني،بالمؤسسة التعليمية التربوية، فإنه مناسباتي ولا تتجاوز المقالات الصحافية والحلقات الترويجية ومنشورات الربح المباشر التي تراوح التسويق التجاري الاستهلاكي، مثل الكتب التعليمية الموازية للمناهج الرسمية. وليس لهذه البقع، أي تواصل مع الأنساق السياسية ـ الوطنية والقانونية ـ الإدارية والبيداغوجية ـ الصنائعية. ذلك ان التواصل الوظيفي بين الفكر التنظيري، الفلسفي والسوسيولوجي والديني، من ناحية وبين أنساق الإنفاذ السياسي والإداري والبيداغوجي التعليمي ـ التعلُّمي، من ناحية أخرى مفقود، أو ـ على الاقل ـ غير فاعل. إذ النسق العلائقي الوطني بين الأسئلة الفكرية الاصلية (من نوع، ما هوية الوطن في هذه المرحلة التاريخية؟ وما التربية من حيث هي وطنية؟ وكيف تكون المنظومة التربوية وطنية؟)، وبين السياسة التعليمية، عوضه نسق تفاعلي جديد بين الفكر التكنولوجي الذي أضحى إيديولوجيا مهيمنة، من ناحية وبين أنساق الإنفاذ السياسي والإداري والبيداغوجي. فالفكر التكنولوجي هو الذي يسير الوجهة السياسية التي بدورها تسير التشريعات القانونية الإدارية، التي بدورها، تسهر على الممارسة التطبيقية الصنائعية البيداغوجية التربوية. وهكذا أضحت ثنائية الشعارات السياسية "تعليم عمومي شعبي" و"مصلحة أبناء الشعب" و"قيمة رجال التعليم" من ناحية، والحلقات الرسمية من نوع "الذكاء الاصطناعي" و"التعليم عن بعد" و"التعليم الخاص"، من ناحية ثانية، وان كانت (هذه الثنائية) توحي بالتكامل والتواصل الوظيفي، فإنها تنطوي على انتقال جذري مــــــــــن:
مجتمع يهتم بحداثة ترتكز على تثمين قيمة الفرد في مجموعته الوطنية، أي ترتكز على المصلحة الفردية من خلال التشارك مع بقية أفراد الوطن ذوي نفس المصالح، الفئوية والقطاعية والجهوية، بمقولة الانتماء الى المجموعة يضمن سلامة السعي الى المصلحة الفردية، إلــــــــــــــــــى:
ما بعد حداثة ترتكز على قيمة الفرد خارج مجموعته الوطنية. أي السعي الى المصلحة الفردية بالمزاحمة بين أفراد المجموعة الفئوية القطاعية والجهوية. أي سعي الفرد لنيل مصالحه على حساب مصالح بقية أفراد الفئة والوطن، وليس من خلال مصلحتهم.
وبهذا الانتقال أصبح الفرد يعتمد العلاقات خارج الفئوية القطاعية الشغلية، أوالحزبية السياسية، أوالمؤسسية الإدارية، أوالصناعية المهنية، أوالهويِّـــيِّــــة الوطنية، من أجل قضاء مصالحه الخاصة. وتأسست علاقات الاعتماد ـ هذه ـ على أهداف المصالح المباشرة الخاصة وعن طريق إيديولوجيا "الثورة التكنولوجية الإلكترونية". وهكذا شمل التزاحم أفراد منظومة التعليم. فانبرى كل فرد يؤسس له علاقاته المصلحية مع أطراف من خارج المنظومة مثل الأحزاب والمنظمات والإعلام والتجار والأولياء والسّماسرة بعناوين متعددة كالتعاون والتآزر والتبرع والمساندة والمصلحة الجماعية... وعلى قاعدة المصلحة الخاصة، واختنقت المؤسسة العمومية ملك الدولة. وعوضا أن يتكتل جميع فاعليها الرسميين حول عِقد العملية التربوية ـ الوطني العلمي الأخلاقي ـ انفضّ التعاقد بينهم لصالح التزاحم المحموم من أجل المصالح الضيقة اللاوطنية خاصة المصالح المادية. وأتى هذا التزاحم، على المنظومة أفقيا وعموديا.
أفقيــــــــــــــــا حيث تشرذم التعليم إلى تعاليم، نظامية وغير نظامية. فأما النظامية فتحتوي على الحكومي والخاص وأما غير النظامية فتحتوي على كل ما هو شعبي وتلقائي من التعليم بالمستودعات إلى التعليم الديني عبر قنوات الدجل والتجارة والاستهلاك. والأدهى أن التعليم النظامي عوضا أن يحدّ من فاعلية التعليم غير النظامي العشوائي ويتصدى له أصبح مرتهنا له نظرا لكون تيار التعليم العشوائي يعمل كمجال استثمار من مجالات المنظومة المتصرفة في كل شيء وهي المنظومة الاقتصادية التي في أغلبهاغير نظامية ولا وطنية ـ بل لا إنسانية ـ التي تستثمر كل شيء من أجل الربح اللّا مشروع عبر تقنية الترويج والفرجة والاستهلاك مُواكبة تطور المنظومة التكنولوجية الاتصالية أكثر من جميع المنظومات الوطنية ـ الرسمية ـ القانونية. وعوضا أن يستنير التعليم التلقائي بالتعليم الخاص ويستنير التعليم الخاص بالتعليم الحكومي، اختلت العلاقة الوظيفية فسطا التعليم العشوائي على التعليم الخاص واكتسحه، وسطا التعليم الخاص على التعليم الحكومي واكتسحه. وهكذا اجتاح مستثمرو التعليم العشوائي، التعليم الخاص الذي من المفروض أنه تحت رقابة وزارة التربية، مثل رياض الأطفال والمحاضن والمدارس، واجتاح التعليم الخاص التعليم الحكومي. وأخضعه لخدمته. فتداخلت المكانات وتعوّم دور المدرسة النظامية العمومية في المشهد الاجتماعي العام الذي تطغى عليه ثقافة التزاحم من أجل الكسب المادي السريع. وهكذا امتُــهِــن التلميذ رقما اقتصاديا يتفرج ويستهلك، ومَفعَل مجرّبين متطفلين، ومغامرين سياسيين ونقابيين، ومتمعشين انتهازيين.
وعموديا حيث اختلّ التدرج السُّلَّـمي للوظائف التربوية. وتحولت البيروقراطية التي من المفروض أن تكون رشيدة بحاكميتها ومكانتها الرسمية، إلى اجتهادات فردية توجهها رهانات ترويجية سياسية وعلاقات قرابية زبونية وحزبية. وأخذت التوجيهات الإصلاحية الضيقة مكان المشاريع المنظومية التربوية الوطنية. حيث نرى تدخلات من أعلى مستوى سياسي وإداري في مسائل ضيقة من نوع إنصاف تلميذ لم ينصفه القانون، أو من نوع زيارة لمدرسة لتدشين قاعة. كما نرى تدخلات من أسفل مستوى إداري في قرارات من أعلى المستويات الإدارية والسياسية. والجميع يراقب، متجاهلا، الحشود التي تسربها المدرسة العمومية من الأطفال. كما أن التسلسل الإداري والبيداغوجي بات يشهد ثقوبا تحول دون فاعليته الوظيفية. حيث نرى نقصا في الإطارات الإدارية مثل مديري المدارس والمتفقدين ورؤساء المصالح. فضلا عن أن الإطارات المتوفرة لا تتموقع حسب الدور الرشيد الفاعل. إذ تغلب ثقافة الحاكمية، السياسية والعلائقية، التي يتوخاها الموظفون المكلفون على ثقافة حاكمية الكفاءة والمكانة الفكرية والعلمية. وهذا ما أدى الى اللاإستقرار الذي تعانيه الإدارة. وهو ما يعيق تواصل حلقات الإنجاز، ويتيح التدخل السافر في المواقع الإدارية، خاصة وأن وزارة التربية لا تعترف بمكانة الشهائد العلمية في مناظرات قبول الخطط الوظيفية ومناظرات المتفقدين البيداغوجيين ومساعديهم. وهو لعمري تناقض عميق من بين عديد التناقضات التي تعيق تقدم المنظومة التعليمية التونسية، التعليم الابتدائي مثالا.
2 ـ الحداثة والتحديث
أول سؤال محمول على الفكر التربوي في أعلى مستوى هو ما المجتمع التونسي من حيث هو محمل حداثة وموضوع تحديث في المرحلة التاريخية الراهنة؟ وما التعليم من حيث هو مظهر حداثة وقاطرة تحديث؟ أي ماهي مواصفات المجتمع التونسي التي يتناولها الفكر الفلسفي في هذه المرحلة من تاريخ تونس؟ وما هي مواصفات التعليم اللازم لهذه المرحلة من التحديث؟ حينئذ، هل أن المجتمع هو من يستحدث مواصفات التعليم الضروري لمرحلة المسار التحديثي الوطني أم أن هذه المواصفات يجب أن تكون من صنع فوقي لا إجتماعي؟
لا شك أن مسار التشكل وإعادة التشكل للمجتمع لا تنقطع. وهذا المسار هو تقدم تاريخانية الحراك الإجتماعي إلى ما هو أفضل باستمرار. أي تطور الإنبناء التحديثي للمجتمع على اعتبار أن التحديث هو التموقع الأفضل من ساعة إلى أخرى بين المجتمعات كما تفرضه المرحلة التاريخية. والتموقع الافضل يرتكز على تحسين أنساق تشكيل المجتمع التي يُعدُّ التعليم أبرزها. حيث أن نسق التعليم هو المحرك الأصلي لتحسّن جميع الأنساق باعتباره يصنع الفكر الثقافي والتقني المؤسس لجميع الأنساق الإجتماعية. وعليه فإن حاجة المجتمع للفكر التشكيلي لا تنقطع مادامت حركته التّشكُّليّة مستمرة أبدا. حيث أن التشكل الإجتماعي إما أن يكون واعيا ذا غايات وقوانين ورهانات، وإما ان يكون إنجازا طبيعيا تفرضه الجينات التشريحية للكائن البشري. وإذا كان مسار التشكل طبيعيا فلن يكون للبشرية من حاجة للتفكير في التعليم كآلية تشكيل إجتماعي. فالتعليم إذن هو الوصفة اللازمة لتسطير مسار تشكل المجتمع. هو الفعل الواعي والوفي للمجتمع في مرحلة مسار تشكله التحديثي. وهذا الفعل الواعي والوفي لابد أن يكون من مهام الرؤية الفلسفية القادرة على تصوّر كينونة المجتمع والوطن في مرحلة التطور الإنساني العالمي. وعليه فإن السؤال الفلسفي الذي يجب على المجتمع أن يجيب عنه، عبر السلطة السياسية هو: ما هو التعليم الوطني؟ أي ما هي الحداثة الوطنية/ وما هي الوطنية الحديثة المحمول على التعليم خدمتها؟(يتبع)
* أستاذ تعليم ابتدائي وباحث علم الاجتماع

 

محنة التعليم التونسي.. التعليم الابتدائي مثالا. (1/2)

التلميذ هو مركزية جميع الأنساق المشكلة للتعليم.. أي الدمية الأصغر حجما في تركيبة الدمى الروسية ولكن الأكثر زخما

بقلم: محمد السعيدي(*)
التعليم، منظومة انشغال كل فرد وكل مجموعة وكل فئة وكل شريحة في أغلب المجتمعات سيما المجتمع التونسي. فهو فعل فردي، وجماعي، يمارسه المجتمع،عموديا وأفقيّا. فردانيّا ومجتمعيّا. وهو الانشغال الأحقّ، من بين جميع الانشغالات،على جميع المستويات النّـسقيـّة المُـشكّـلة لشخصيّة الفرد التونسي وللشخصية القاعدية للمجتمع التونسي. ولهذا الانشغال غايات وأهداف ورهانات تحرك مسارتجدُّده باستمرار.
وإذا اعتبرنا انّ الأنساق المشكِّلة للتعليم التونسي تتراتب تضمينيا وتضامنيا، فإنه من الضروري، ان نطرق هذه الأنساق،بالتفكير والتساؤل. ولكن قبل الولوج الى التفكير والتساؤل عبر التشريح والتفسير والتأويل والعرض،سنحاول دون اللبس الذي قد يحول دون فهم معنى "التراتب التضميني" ومعنى "التراتب التضامني". ثم بعد ذلك نتطرق الى مفاهيم من شأنها ان تساعدنا على تشريح التّعليم، كنسق من أنساق مسار تشَكُّل المجتمع التونسي، التعليم الابتدائي مثالا، في وضعه الذي نعتبره محنة. وسنعتمد هذه المفاهيم كمُتون نقاش وعرض للمحنة التعليمية التونسية، التعليم الابتدائي مثالا. وهذه المفاهيم هي "الثقافة"، "الحداثة والتحديث"، "السياسة التنموية الوطنية"، "البيروقراطية العقلانية الرشيدة"، "البيداغوجيا التربوية والبيداغوجيا العرفانية"، و"نسق الشبكة العلائقية" بين الأنساق المكونة للتعليم.
1ـ "التراتب التضميني"للأنساق المشكِّلة للتعليم التونسي:
لنفهم موضوعا ما، خاصة المواضيع ذات الشأن البشري الفردي والمجتمعي، لابد أن نفتح الباب على تعقيداته وتفاصيله،وما يربط بينها،حتى نرى مجموع الأجزاء في كليتها. ذلك ان الشأن الانساني واسع متوسع باستمرار. فإذا نظرنا اليه من ثقب المفتاح فإننا سنحاول، دون جدوى، رؤية الكل من خلال الجزء. والقاعدة تقول إنّ الكل أكبر من جميع الاجزاء المكونة له. حيث ان الاجزاء منفصلة لا تكون كُــلًّا، إذ الكل هو الاجزاء وما يجمعها. ولهذا سنحاول ان نتحدث عن التعليم في كليته، أي أنساق تشكيل التعليم وشبكة العلاقات التفاعلية بينها. غير اننا لن ننساق الى سرمدية الكلِّيّة اللامتناهية. لأن التعليم هو مسار فعل الإنسان الذي لا ينقطع، في فرديته وفي اجتماعيته. وله مراحل تخضع لمقاييس التوقيت الاجتماعي. هو فعل اجتماعي توجِده الحاجة الاجتماعية وليس إسقاطا فوقيا. بعبارة أخرى هو حاجة تحتية وليس حاجة فوقية. أي حاجة تنبع من الحراك الاجتماعي وتغذيه. أي هو سلوك اجتماعي. والحاجة الاجتماعية تُدرَك عبر الحسّ المباشر اليومي المرتبط بالغريزة والانطباع وإشباع الرغبات المباشرة،أو عبر الفكر الواعي الاستراتيجي المرتبط بالغايات والأهداف القريبة والمتوسطة المدى والبعيدة.
وهذا الفعل الفردي ـ الجماعي ـ المجتمعي، ذا الغايات والأهداف والمقاييس، يتم من خلال أنساق فعل، تنظيمية ـ وظيفية ـ غائية. وهذه الانساق تتراتب بمتتالية تضمينية، يتضمّن النّسقُ الأوسعُ، دورا ومكانة، النّسقَ الأقل اتساعا، من حيث الدور والمكانة، شأنها شأن الدّمى الرّوسيّة، حتى تنتهي الى نقطة مركزية، هي تلميذ الحاضر ـ "مَفْعَل" التعليم، رجل/امرأة المستقبل ـ"هدف" التعليم، مواطن تونسي "غاية"التعليم. وعليه فإن جميع الأنساق المكوِّنة لفعل النظام التعليمي ـ التربوي التونسي، باعتباره نسقا شاملا من انساق مسار فعل تشكّل المجتمع التونسي، تتداخل بطريقة احتوائية. إذ يحتوي النسق، الأشمل، النسق الأقلّ شمولا. ولكن هذه العلاقات الاحتوائية التّضمينيّة، ليست ميكانيكية حتمية وانما هي مرنة متحركة في الاتجاهين العمودي والأفقي، بحيث يحصل أن يفيض النسق المُحْتَوَى (بفتح الواو) عن النسق المُحتَـوِي (بكسر الواو)، بالتّأثير، حسب مرحلة المسار التّـشكُّـلي للمجتمع. ويَعُدُّ التاريخ السياسي للمجتمعات، مثل هذه العمليات، مبادرة او إنجازا أو معجزة... كأن ينتج التعليم جهبذا في مجال الرياضيات أو في مجال الإدارة أو في مجال السياسة من شأنه أن يؤثر في منظومة التعليم كاملة. فإذا اعتبرنا ان جوهر العملية التعليمية هو الانسان الفرد، فإن التلميذ هو جوهر العملية التعليمية.
وهكذا يغدو التلميذ الجوهر، هو مركزية جميع الأنساق المشكلة للتعليم. يعني هو الدمية الأصغر حجما في تركيبة الدمى الروسية، ولكن الأكثر زخما، والتي تتركز فيها جميع الخاصيات الجينية والتنشيئية للدمى الأكبر حجما. وعليه سيكون التلميذ هو نقطة تمركز جميع هذه الأنساق المتراتبة تضمينيا. إلاّ أنّ هذا النسق المركزي الذي تحيط به، وتصبّ فيه،جميع الأنساق المشكِّـلة لمنظومة التعليم، لابدّ له ان يفيض عن مساحته ليعم بقية الانساق المحيطة، كما يفيض نافر المياه عن النافورة التي تحويه في فعل جدلي مستمر. فالتلميذ هو الخلية التي تحمل كامل جينات الجسم التعليمي. هو مثال القرص الجنيني في البيضة. ثم يحيط به تضمينيا المُحّ ثم الغلاف المُحِّي ثم الزُّلاَل ثم القشرة. وهي تركيبة وظيفية تهدف الى انتاج طائر. يتضمن بعضها بعضا وتترابط بعلاقات وظيفية. وتميز بينها الادوار والمكانات.
2ـ "التّراتب التّضامني" للأنساق المشكِّلة للتعليم التونسي:
لا تخلو أية تركيبة اجتماعية من آليات التضامن التي تنسج شبكة العلاقات بين مكونات هذه التركيبة. فالتضامن هو المادة الوسيطة لتشبيك الأنساق الاجتماعية الجزئية من أجل تشكيل نسق أشمل. وعبارة "تضامن"، رغم انها تنحو اكثر الى الاصطلاح السياسي والأخلاقي، فإنها تمثل في فهم التشكل التنظيمي،التّعالق والتّكامل والتّواظف والتّعامل والتّواصل والتّرابط والتّناسق...والتّماحن بين مكونات التنظيم. ودون هذه الآليات فإن الانفصال التجزيئي هو مصير الأنساق الجزئية المُــشَكِّــلة للنسق الأشمل. إذ ان هذه الآليات هي الضّامنة للكل. (الكل –التضامن = مجموعة أجزاء منفصلة) / (مجموعة أجزاءمنفصلة + التضامن = الكل). فالأجزاء دون تضامن لا تشكل كلًّا. اي لا تشكل منظومة، أي لا تشكل نسقا. والكل إلّا أجزاء لا يعني عنصر التضامن (الكل – مجموعة الأجزاء =0) ذلك أن عنصر التضامن لا يوجد اعتباطيا وإنما توجده الحاجة لتشبيك الأجزاء من أجل بناء الكلّ، إذ لا حاجة للتضامن في غياب العناصر المتضامنة. وحسب فكر تالكوتبارسونز فإنه لا يمكن فهم اي نظام علائقي دون تحليل منظومي نسقي. وعليه فإن هذا التضامن بين الأجزاء، وجب فهمه، كنسق من الانساق المكوِّنة للتعليم التونسي.
وعليه، لنطرق بقية الانساق المحيطة بتلميذ الحاضر مواطن المستقبل، بالفهم والتأويل والشرح والتفسير والتساؤل، لابد من وضع هذا التلميذ، هدف العملية التّعليميّة،على محك التقييم. أي لابد ان نتناول النسق العلائقي بين مكونات النظام التعليمي بالتشريح، وأن نتساءل ان كانت هذه المكونات ـ الأنساق المُشكِّلة لنظام تعليم الطفل التونسي تؤدي دورها المشتَرك كما يجب في هذه المرحلة التاريخية الهامة من مسار حراك المجتمع التونسي. وماهي هذه الانساق؟ وفيم محنتها؟
لنجيب عن هذه التساؤلات لابد من مَشْكَلَة موضوع التعليم. اي لابد من اعتباره إشكالية تنتظر المقاربة الفكرية. وعليه لابد، إجرائيا، من اتخاذالمفاهيم، سالفة الذكر، بالعرض والتشريح والمقارنة بالواقع.
المفــــــــــــــــاهيم، محامل الأنساق المشكِّلة للتعليم
1ـ الثقافة: هناك من يصنّف الثقافة الى رسمية وهي ثقافة النظام الحاكم،وعامة وهي ثقافة الشعب.ولكن في مقالنا لن نصنِّف الثقافة حسب التفاضل الاجتماعي، وإنما سنعتبر أن للاختلافات الثقافية نفس القيمة الإجتماعية، من حيث دور كل صنف ومكانته. وذلك لأن المكونات الثقافية إمّا تتوزع قاعديا بين الأغلبية المطلقة من الأفراد لدرجة انها تضفي على المجتمع لونا عاما، مثل الثقافة الدينية أو الثقافة الفرجوية الاستهلاكية او تتوزع تخصُّصيا مثل المعارف العلمية التقنية الرفيعة أو الأكاديمية، أو الإيديولوجية أو الفنية.
أما الثقافة كمِحكّ للنسق التعليمي التربوي، فهي مجال شامل. إذ انها عامة ورسميّة. أما من حيث انها عامة، فتتمثل خاصة في الشغف بالتعليم الذي يشمل جميع التونسيين أفقيا وعموديا، مما يلوِّن المجتمع بـ"المتعلِّم". ومن حيث انها رسميّة، فتتمثل في اهتمام"المثَقَّفين"، المهنيين والصنائعيين والتقنيين والخبراء والمفكرين والأكاديميين والسياسيين، والإعلاميين التونسيين، بالتعليم والتربية، اهتماما مؤسسيا وانشغالا فكريا. إلّا ان هذا النسق يعيش محنته الثقافية الخاصة على المستوى المؤسسي (الأكاديمي العلمي والسياسي الوطني والإداري القانوني والصناعي البيداغوجي)وعلى المستوى التلقائي، (القاعدي).
فأما على المستوى المؤسّســـي فإن محنة التعليم تكمن في غياب الروح العلمية عن منظومة التعليم. وحتى اهتمام الفكر الاكاديمي التنظيري المرجعي، الفلسفي والسوسيولوجي وحتى الديني،بالمؤسسة التعليمية التربوية، فإنه مناسباتي ولا تتجاوز المقالات الصحافية والحلقات الترويجية ومنشورات الربح المباشر التي تراوح التسويق التجاري الاستهلاكي، مثل الكتب التعليمية الموازية للمناهج الرسمية. وليس لهذه البقع، أي تواصل مع الأنساق السياسية ـ الوطنية والقانونية ـ الإدارية والبيداغوجية ـ الصنائعية. ذلك ان التواصل الوظيفي بين الفكر التنظيري، الفلسفي والسوسيولوجي والديني، من ناحية وبين أنساق الإنفاذ السياسي والإداري والبيداغوجي التعليمي ـ التعلُّمي، من ناحية أخرى مفقود، أو ـ على الاقل ـ غير فاعل. إذ النسق العلائقي الوطني بين الأسئلة الفكرية الاصلية (من نوع، ما هوية الوطن في هذه المرحلة التاريخية؟ وما التربية من حيث هي وطنية؟ وكيف تكون المنظومة التربوية وطنية؟)، وبين السياسة التعليمية، عوضه نسق تفاعلي جديد بين الفكر التكنولوجي الذي أضحى إيديولوجيا مهيمنة، من ناحية وبين أنساق الإنفاذ السياسي والإداري والبيداغوجي. فالفكر التكنولوجي هو الذي يسير الوجهة السياسية التي بدورها تسير التشريعات القانونية الإدارية، التي بدورها، تسهر على الممارسة التطبيقية الصنائعية البيداغوجية التربوية. وهكذا أضحت ثنائية الشعارات السياسية "تعليم عمومي شعبي" و"مصلحة أبناء الشعب" و"قيمة رجال التعليم" من ناحية، والحلقات الرسمية من نوع "الذكاء الاصطناعي" و"التعليم عن بعد" و"التعليم الخاص"، من ناحية ثانية، وان كانت (هذه الثنائية) توحي بالتكامل والتواصل الوظيفي، فإنها تنطوي على انتقال جذري مــــــــــن:
مجتمع يهتم بحداثة ترتكز على تثمين قيمة الفرد في مجموعته الوطنية، أي ترتكز على المصلحة الفردية من خلال التشارك مع بقية أفراد الوطن ذوي نفس المصالح، الفئوية والقطاعية والجهوية، بمقولة الانتماء الى المجموعة يضمن سلامة السعي الى المصلحة الفردية، إلــــــــــــــــــى:
ما بعد حداثة ترتكز على قيمة الفرد خارج مجموعته الوطنية. أي السعي الى المصلحة الفردية بالمزاحمة بين أفراد المجموعة الفئوية القطاعية والجهوية. أي سعي الفرد لنيل مصالحه على حساب مصالح بقية أفراد الفئة والوطن، وليس من خلال مصلحتهم.
وبهذا الانتقال أصبح الفرد يعتمد العلاقات خارج الفئوية القطاعية الشغلية، أوالحزبية السياسية، أوالمؤسسية الإدارية، أوالصناعية المهنية، أوالهويِّـــيِّــــة الوطنية، من أجل قضاء مصالحه الخاصة. وتأسست علاقات الاعتماد ـ هذه ـ على أهداف المصالح المباشرة الخاصة وعن طريق إيديولوجيا "الثورة التكنولوجية الإلكترونية". وهكذا شمل التزاحم أفراد منظومة التعليم. فانبرى كل فرد يؤسس له علاقاته المصلحية مع أطراف من خارج المنظومة مثل الأحزاب والمنظمات والإعلام والتجار والأولياء والسّماسرة بعناوين متعددة كالتعاون والتآزر والتبرع والمساندة والمصلحة الجماعية... وعلى قاعدة المصلحة الخاصة، واختنقت المؤسسة العمومية ملك الدولة. وعوضا أن يتكتل جميع فاعليها الرسميين حول عِقد العملية التربوية ـ الوطني العلمي الأخلاقي ـ انفضّ التعاقد بينهم لصالح التزاحم المحموم من أجل المصالح الضيقة اللاوطنية خاصة المصالح المادية. وأتى هذا التزاحم، على المنظومة أفقيا وعموديا.
أفقيــــــــــــــــا حيث تشرذم التعليم إلى تعاليم، نظامية وغير نظامية. فأما النظامية فتحتوي على الحكومي والخاص وأما غير النظامية فتحتوي على كل ما هو شعبي وتلقائي من التعليم بالمستودعات إلى التعليم الديني عبر قنوات الدجل والتجارة والاستهلاك. والأدهى أن التعليم النظامي عوضا أن يحدّ من فاعلية التعليم غير النظامي العشوائي ويتصدى له أصبح مرتهنا له نظرا لكون تيار التعليم العشوائي يعمل كمجال استثمار من مجالات المنظومة المتصرفة في كل شيء وهي المنظومة الاقتصادية التي في أغلبهاغير نظامية ولا وطنية ـ بل لا إنسانية ـ التي تستثمر كل شيء من أجل الربح اللّا مشروع عبر تقنية الترويج والفرجة والاستهلاك مُواكبة تطور المنظومة التكنولوجية الاتصالية أكثر من جميع المنظومات الوطنية ـ الرسمية ـ القانونية. وعوضا أن يستنير التعليم التلقائي بالتعليم الخاص ويستنير التعليم الخاص بالتعليم الحكومي، اختلت العلاقة الوظيفية فسطا التعليم العشوائي على التعليم الخاص واكتسحه، وسطا التعليم الخاص على التعليم الحكومي واكتسحه. وهكذا اجتاح مستثمرو التعليم العشوائي، التعليم الخاص الذي من المفروض أنه تحت رقابة وزارة التربية، مثل رياض الأطفال والمحاضن والمدارس، واجتاح التعليم الخاص التعليم الحكومي. وأخضعه لخدمته. فتداخلت المكانات وتعوّم دور المدرسة النظامية العمومية في المشهد الاجتماعي العام الذي تطغى عليه ثقافة التزاحم من أجل الكسب المادي السريع. وهكذا امتُــهِــن التلميذ رقما اقتصاديا يتفرج ويستهلك، ومَفعَل مجرّبين متطفلين، ومغامرين سياسيين ونقابيين، ومتمعشين انتهازيين.
وعموديا حيث اختلّ التدرج السُّلَّـمي للوظائف التربوية. وتحولت البيروقراطية التي من المفروض أن تكون رشيدة بحاكميتها ومكانتها الرسمية، إلى اجتهادات فردية توجهها رهانات ترويجية سياسية وعلاقات قرابية زبونية وحزبية. وأخذت التوجيهات الإصلاحية الضيقة مكان المشاريع المنظومية التربوية الوطنية. حيث نرى تدخلات من أعلى مستوى سياسي وإداري في مسائل ضيقة من نوع إنصاف تلميذ لم ينصفه القانون، أو من نوع زيارة لمدرسة لتدشين قاعة. كما نرى تدخلات من أسفل مستوى إداري في قرارات من أعلى المستويات الإدارية والسياسية. والجميع يراقب، متجاهلا، الحشود التي تسربها المدرسة العمومية من الأطفال. كما أن التسلسل الإداري والبيداغوجي بات يشهد ثقوبا تحول دون فاعليته الوظيفية. حيث نرى نقصا في الإطارات الإدارية مثل مديري المدارس والمتفقدين ورؤساء المصالح. فضلا عن أن الإطارات المتوفرة لا تتموقع حسب الدور الرشيد الفاعل. إذ تغلب ثقافة الحاكمية، السياسية والعلائقية، التي يتوخاها الموظفون المكلفون على ثقافة حاكمية الكفاءة والمكانة الفكرية والعلمية. وهذا ما أدى الى اللاإستقرار الذي تعانيه الإدارة. وهو ما يعيق تواصل حلقات الإنجاز، ويتيح التدخل السافر في المواقع الإدارية، خاصة وأن وزارة التربية لا تعترف بمكانة الشهائد العلمية في مناظرات قبول الخطط الوظيفية ومناظرات المتفقدين البيداغوجيين ومساعديهم. وهو لعمري تناقض عميق من بين عديد التناقضات التي تعيق تقدم المنظومة التعليمية التونسية، التعليم الابتدائي مثالا.
2 ـ الحداثة والتحديث
أول سؤال محمول على الفكر التربوي في أعلى مستوى هو ما المجتمع التونسي من حيث هو محمل حداثة وموضوع تحديث في المرحلة التاريخية الراهنة؟ وما التعليم من حيث هو مظهر حداثة وقاطرة تحديث؟ أي ماهي مواصفات المجتمع التونسي التي يتناولها الفكر الفلسفي في هذه المرحلة من تاريخ تونس؟ وما هي مواصفات التعليم اللازم لهذه المرحلة من التحديث؟ حينئذ، هل أن المجتمع هو من يستحدث مواصفات التعليم الضروري لمرحلة المسار التحديثي الوطني أم أن هذه المواصفات يجب أن تكون من صنع فوقي لا إجتماعي؟
لا شك أن مسار التشكل وإعادة التشكل للمجتمع لا تنقطع. وهذا المسار هو تقدم تاريخانية الحراك الإجتماعي إلى ما هو أفضل باستمرار. أي تطور الإنبناء التحديثي للمجتمع على اعتبار أن التحديث هو التموقع الأفضل من ساعة إلى أخرى بين المجتمعات كما تفرضه المرحلة التاريخية. والتموقع الافضل يرتكز على تحسين أنساق تشكيل المجتمع التي يُعدُّ التعليم أبرزها. حيث أن نسق التعليم هو المحرك الأصلي لتحسّن جميع الأنساق باعتباره يصنع الفكر الثقافي والتقني المؤسس لجميع الأنساق الإجتماعية. وعليه فإن حاجة المجتمع للفكر التشكيلي لا تنقطع مادامت حركته التّشكُّليّة مستمرة أبدا. حيث أن التشكل الإجتماعي إما أن يكون واعيا ذا غايات وقوانين ورهانات، وإما ان يكون إنجازا طبيعيا تفرضه الجينات التشريحية للكائن البشري. وإذا كان مسار التشكل طبيعيا فلن يكون للبشرية من حاجة للتفكير في التعليم كآلية تشكيل إجتماعي. فالتعليم إذن هو الوصفة اللازمة لتسطير مسار تشكل المجتمع. هو الفعل الواعي والوفي للمجتمع في مرحلة مسار تشكله التحديثي. وهذا الفعل الواعي والوفي لابد أن يكون من مهام الرؤية الفلسفية القادرة على تصوّر كينونة المجتمع والوطن في مرحلة التطور الإنساني العالمي. وعليه فإن السؤال الفلسفي الذي يجب على المجتمع أن يجيب عنه، عبر السلطة السياسية هو: ما هو التعليم الوطني؟ أي ما هي الحداثة الوطنية/ وما هي الوطنية الحديثة المحمول على التعليم خدمتها؟(يتبع)
* أستاذ تعليم ابتدائي وباحث علم الاجتماع