هذا الكتاب "مشاهير المطربين التونسيين اليهود" للكاتب المؤرخ المحقق فاخر الرويسي، الذي صدر عن دار تونس للنشر سنة 2022، قد قرأته ورجعت إليه مرتين مراجعة معرفة ونقد.
وهو كتاب جدير بالتنويه والاشادة لعدة أسباب موضوعية، منها أن موضوعه غير مطروق وغير مسبوق بالمنهج الذي سلكه مؤلفه في التأليف، إذ هو جمع "المشاهير" لا اختيارا ولا انتقاء بل ما اطلع عليه مما بقي منهم من الاستقرار عبر العهود الأخيرة، ومن التراث موسيقاهم، ومن أطوار حياتهم.
وهذا الكتاب ثري حافل بالموسيقيين الملحنين والعازفين والمطربات وبكلمات الأغاني والطرب الراقي منها والهابط والساقط حسب البئات والأوساط الاجتماعية وتبعا للمواسم والاعياد والافراح الاسلامية المعروفة واليهودية وطبقا لما تتطلبه برامج المسرح وكزينو حلق الواد وكزينو البلفيدار وكزينو ضاحية حمام الأنف وكذلك بعض النزل والكافي شنتات والمحلات الخاصة بقطع النظر عن مجالس الغنلاء والطرب في قصور البايات بباردو كالقصر السعيد وقصر حمام الأنف وقصر المرسى.
والكتاب يشكل بهذا التراث الغني وأكاد أقول إلى حد التخمة شهادة عن جانب عظيم من الثقافة التونسية المعاصرة والحديثة، وهو جانب يتغلب على شعاع الجوانب الأدبية الإبداعية باللغة العربية الفصحى وعلى الجوانب الفكرية الدراسية والبحثية وحتى على الجوانب المسرحية والتمثيلية الوطنية والأجنبية. وهو شهادة سوسيولوجية عن أماكن الموسيقى والطرب في الأحياء الميسورة في المدينة العربية القديمة وفي الاحياء الشعبية في باب سويقة والحلفاوين وباب الخضراء والحفصية وسيدي مردوم فضلا عن المحلات الراقية في شارع قرطاج وشارع جول فيري (بورقيبة حاليا) وشارع مدريد فضلا عما أشرنا إليه من الأماكن الراقية كالقصور والصرايات الملكية والمركاض والدرايب كدريبة ابن عياد في حي الكاتريام زواف (نهج ابو القاسم الشابي ونهج الشتاء) وكذلك الضواحي... والطرب والغناء والموسيقى على طريقة الفنانات والفنانين اليهود التونسيين لا علاقة ذلك كله بفن السطنبالي وعريفه وأمك ننو ولا بفناني المزود والطبال والزكار ولا بحفلات عملة "البورت" وأزجالهم الغنائية بمشاركة الفنان علي الدوعاجي. ومنها أيضا أن هذا الكتاب يسد ثلمة في صرح الثقافة الوطنية الحديثة المعاصرة على الصعيد التاريخي، ذلك أنه منحصر بين تاريخ شبه البدء وتاريخ شبه النهاية وفق الوثائق المكتوبة والوثائق الشفوية المروية عن صدق ووفاء.
وإني أرى أن هذا الكتاب جريء في مطمحه وفي معناه، وأن مؤلفه شجاع في رؤيته وفكره. فجمع ما لم يجمع وقال في هذه الأيام الساخنة ما لا يقال لأنه ينبذ القول المناسب للسياسات وللظروف وللإخوانيات وللشبهات ولأنه كاتب فنان حر.
وهذا الكتاب أخيرا لا آخرا يعلم القارئ خاصة إذا كان من الشباب أن النشاط الثقافي والفني الوطني قد اضطلع به اليهود في جانب كبير منه ولكن بالتوازي مع المسلمين وإن كان اليهود في قلة والمسلمون في كثرة أكثرية. وقد تشاركوا وتعاونوا فلا فرق بينهم ولا تمايز هؤلاء على أولئك. وهذا الفن التونسي قد تجسد طوال القرن العشرين في الغناء والموسيقى والشعر والرقص والمسرح وكذلك السينما على ندرة انتاج الأفلام. وفي هذه النقطة ندرك أن المؤلف كان مبادرا في اعطاء التونسيين اليهود حقهم المعنوي الفني والثقافي الوطني، بينما أهمل الناس اليوم حقوق التونسيين اليهود في قطاعات التجارة والصناعات اليدوية الفنية مثلا... كما أهملوا أنواع مآكل اليهود ومشاربهم إذ كان المرغوب فيها من الجميع، ولم يعرفوا أن المسلمين كانوا يشاركون بل كانوا يحضرون أعياد اليهود ومواسمهم وأفراحهم، ولم يعرفوا أيضا أن اليهود يتبركون بسيدي محرز سلطان المدينة الذي أنقذهم من شناعة "الملاسين" في أحد القرون الخوالي ونقلهم إلى قلب المدينة تونس لسكناها في حي جوار بيعتهم ورضي بهم وعنهم وحماهم.
وفي بلاد هجرتهم الأخيرة بالبلاد الشمالية وجدناهم مرحبين بنا إذا زرناهم أوفياء بالعهد الذي كان يجمعنا وإياهم، فنقلوا أطرافا من تونس إلى بلاد الغربية وبنوا جوانب من الخضراء بها ورددوا ألوانا من حياة الشعب وأصنافها. كل ذلك تجلى بلا أسف على ما فات وبلا حقد، لكنهم يحنون إلى تجديد اللقاء بوطنهم الاصلي كل فصل كالصيف والربيع والشتاء المكلل بالثلوج في عين دراهم أحيانا. وجدناهم بمدن هجرتهم معلم الطهي والطبخ في "مونمارتر"، والأستاذ المدرس في كلية التجارة، والخبير الزراعي، والوزير، والعالم المتواضع، والطبيب، والمحامي، والمستشار، والفنان الرسام، والكاتب، والجميع يلهجوم باسم تونس، وهذه الممثلة النجمة الشابة المغنية والموسيقية تصرخ على شاشة التلفزة الأجنبية والبعرة تخنق صوتها المتقطع من شدة عشقها لتونس "إني أعبد تونس بلادي وبلاد والدي وبلاد أجدادي... أعبدها ! أعبدها ! أعبدها !" وأجهشت بشلالة دموع من عينيها المغبرتين...
وتاريخيا تكونت ألفة بين الرعايا المسلمين واليهود عقب الدولة الفاطمية وأوائل الدولة الزيرية واستمرت دهرا أشرفت بقيته علينا خلال أواخر القرن العشرين حيث اضطرت معظم الأهالي اليهودية إلى الهجرة نحو أقطار الشمال ومنها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا... وكأنها اجتثت من جذورها وعروقها الحية وقطعت... رغم أن أرض تونس هي منبتهم وموطن أجدادهم وآبائهم وسكنى أجسادهم ودمائهم وموئل أرواحهم وأرواح أهالي المسلمين معا وجميعا.
وقد ندم الكثير من المواطنين التونسيين المسمين المسنين اليوم على تهجير أبناء عمومتهم قسرا فهجرتهم، الذين تركوا فراغا بعد انصرافهم، فراغا واقعيا ويوميا وحياتيا كبيرا، وفقدان العشرة كله شجن وحسرة، وانحلال الروابط مصيبة ومأساة.
هؤلاء التونسيون اليهود ـ ذكورا وإناثا ـ الذين صاروا بحكم تصاريف الزمان مهاجرين أجانب كالغرباء لا علاقة لهم بالصهاينة، وبدولة تل أبيب، وبالأشكيناز المتأوربين والمتأمركين، لا علاقة لهم بهم اللهم إلا بروابد الديانة اليهودية، وفيها مذابه بين السماح والاعتدال والتطرف والتجنن، لا علاقة لهم بالصهاينة وبمن تلقوا من ابنائهم دروس العنف والسيطرة والقوة الغاشمة، وتعلموا وتدربوا على رسم أطوار التعذيب والقتل، وعملوا على التوسع على حساب الغير، واستعمار الآخر المسالم الضعيف، وحفظوا كل ذلك عن ظهر قلب وطبقوه على منوال ما طبق هتلر ومسليني وقادة بلدان المحور الحربي خلال النصف الأول من أربعينات القرن الماضي. تلك هي محتويات العنصرية الايديولوجية خاصة وسياسة الميز العنصري عامة التي طبقوها في القدس وفلسطين وهي الصهيونية لأنهم يعتبرون أنفسهم نخبة الشعب المختار وقادة الديمقراطية وسادة قيم الإنسان من عدالة وحرية واخاء ومواساة ولكن هل يشيد النظام الديمقراطي على تعاليم الدين وعلى أفكار المتطرفين من أحبار اليهود الأشكيناز؟ لا يؤمن بمصداقية هذا النوع الهجين من النظم الديمقراطية إلا المغفلون والمتحيزون والظلمة المعتدون والعميان الإيديولوجيون الصهيونيون بين تصفيق الغوغاء وتأييد المرتزقة وأحابيل الأشرار.
أما نخبة اليهود في العالم من العلماء وكبار المفكرين والفلاسفة والكتاب وعلية الفنانين المبدعين الموهوبين من أمثال أينشتاين وحناء أرتت وجيزال حليمي القابسية والشاعر لوران قسبار والمصور جاك بيراز وعالم الاجتماع بول سباع (صباغ) ولوسيان سباغ فإنهم هم وأضرابهم أعداء صرحاء على نظام دولة اسرائيل الصهيونية وعلى أساطيرها السياسية الإجرامية الباطلة.
وأدوناي (=رب) اليهود غاضب أشد الغضب يعقبه اللعن والتهديد والوعيد، غاضب خاصة على كفرتهم بالنعمة الربانية طبقا لما جاء في أسفار التوارة. فمتى تستقيظ أوروبا وأمريكا وكل من ساند من دول الشمال عصابات السوء والشر و الباطل وأيدها وآزرها بالأموال والسلاح وزكاها في جرائمها بالتعليل الخاطئ المغرض وبالتبرير المنطقي الشاذ الفاسد.
ألم تستفق أوروبا أخيرا فطلبت العفو عن المظالم التي ارتكبتها طوال عقود من السنين في حق الإنسان الإفريقي والإنسان الأسيوي في الوجود؟ وهل تشمل قوانين حقوق الإنسان الدولية إلا الإنسان الأوروبي والأمريكي فقط؟ ومتى تحظى الأهالي الأصلية المولى عليها من قبل ثقافة وحضارة غريبة عنها وعدوانية عليها؟ بالكرامة الكاملة وبحرية وجودها في يومها ومصيرها؟
***
لنعد إلى كتاب الأستاذ المحقق فاخر الرويسي: "مشاهير المطربين التونسيين اليهود". فأول ما أذكره هو أن بعض المطربات والمطربين اليهود أعرفهم بحكم سني سواء كانت معرفتي بهم مباشرة أو بفضل البحث عنهم والرجوع إلى الصحف وبعض النشريات التي صدرت من أواسط العشرينات إلى صدر الخمسينات من القرن الماضي، المحفوظة في المكتبة الوطنية خاصة، وذلك للإطلاع على تفاصيل حياتهم ولو على نبذ منها وجزئيات.. وألاحظ أولا أن عددا من هؤلاء المطربين والمطربات هم وطنيون روحيا ونفسيا وجسديا وحياتيا وهذا ما أكده المؤلف، تونسيون أصلاء بحيث لا تستطيع أن تميز صفات هذا الفنان الذي أمامك هل هو مسلم أم يهودي. فبعض الصور التي نشرها المؤلف باختيار جميل تمثل المطرب الشهير الشيخ العفريت بشاشيته الإسطنبولية فحسبته طوال سنوات مسلما نظرا لهيئته وبزته ولهجة تونسية وأنه من "قاع الخابية" ! فأصلح خطاب المرحوم محمد صالح المهيدي مشافهة:
"بل هو يهودي تونسي صميم". ولقد ساهمت في ترويج أغانيه الجميلة مع المرحوم سمير العيادي في أيام دهليز دار الثقافة ابن رشيق وكذلك روجتها في مقهى الفنانين بمدينة الدار البيضاء أيام إقامتي بالمغرب الأقصى. وقد ولع الفنان المسرحي الكبير العبقري المغربي الطيب الصديقي بجميع أغاني الشيخ العفريت التونسي وكان يردد بحضوري أغنية "ماذابي" وأغنية "الريح".. بنطقه المغربي !
وقد أحسن المؤلف في تأليفه وجود بذكر تراث لا الشيخ العفريت فحسب بل أيضا راؤول جورنو وما أدراك من راؤول جورنو المطرب التونسي النابغة الشهير وتكريم في حفلته الأخيرة حفلة الوداع بالمسرح الروماني بقرطاج ضمن إطار مهرجان قرطاج الدولي (الصيفي) نعم لتكريم هذا الفنان التونسي الأصيل. ولقد أعطى الأستاذ المؤلف فاخر الرويسي حق هذا الفنان التونسي الكبير الذي لا يقل إبداعا ولا تطريبا من إبداع الفنان الكبير عميد أهل الطرب والموسيقى علي الرياحي، ولا من إبداع الفنان الرائع الهادي الجويني مجدد الألحان في عهده خلال الأربعينات من القرن الماضي كما جدد انتقائه "لكلمات" الأغاني بفضل صداقته الحميمة للكاتب الموهوب النابغة علي الدوعاجي "ولشاوش الهيئة الاجتماعية" علي الجندوبي ولشقيقي محمد المدني رحمهم الله جميعا.
لم أقرأ هذا الكتاب مجرد قراءة واطلاع وإنما دخلت في حوار مع كل ما احتوى عليه وذلك لقيمة ما أرخ المؤلف وما ذكر إجمالا أو تفصيلا من حياة المطربين والمطربات اليهود التونسيين. فلقد ذكرني الكتاب ما لاقيت صدفة في إحدى ضواحي باريس وهي ضاحية "ننتار" المعروفة ـ وأنا أرافق الصديق والزميل التونسي الجزائري الكاتب المبدع رشيد بوجدره لمشاهدة آخر مسرحية له على ركح أحد مسارح "ننتار" ـ لاقيت شخصا جالسا بجانبي يلهج بلهجة تونسية، فتعارفنا في الحين، وإذا به يكشف عن هويته فهو يهودي تونسي هاجر إلى فرنسا بسبب ما وقع، فتجاذبت أطراف الحديث معه وإذا به هو من أسرة سمادجه التونسية ذات الأصول الأندلسية. فقاطع كلامي مرة وقال لي فجأة ربما لإقناعي: "هيا صل ع النبي ويزي من النقد والإنتقاد !" فاندهشت لسماع هذا التعبير التونسي الإسلامي على لسانه ـ لا يصدق على لسانه اليهودي وشخصه اليهودي !... وأدركت بعد حين أن تونس برمتها في قلبه ووجدانه وفكره وهو في بلاد الغربة وأنه مطرب يهودي وعضو عازف في فرقة تونسية يهودية مستقرة بفرنسا تردد أغاني علي الرياحي وراؤول جورنو وعلية وهناء راشد والكحلاوي في حفلات الجالية التونسية في المهجر.
إن هؤلاء المطربات والمطربين التونسيين اليهود قد بلغت موسيقاهم وأصواتهم الفنية إلى الجزائر والمغرب وفرنسا ومصر وليبيا على عهد الإستعمار وفي أثناء العهد البورقيبي الجميل، ولعلها بلغت أيضا بلاد الشام بأقطارها حيث هاجرت جالية تونسية مهمة العدد، وهناك استقرت فرارا بنفسها من الاحتلال العسكري الفرنسي. وقد قال لي الفنان أحمد حمزة رحمه الله: "أنه وجد أصداء وبصمات الفن التونسي الغنائي والموسيقي التونسي الذي لا ينسى في الكويت: "الأيام كيف الريح" و"زينة يا بنت الهنشير" (أو زينة هي تونس كما هو معلوم) وهذا كله يذكرني بالمطرب الفرنسي الشهير ليوفر وأغنيته عن تبدد الزمان والوجود وبالمطرب المصري الشهير محمد عبد الوهاب الذي تغنى بخيرات مصر: "الجمال والشباب وهي نعمة من نعم الله كنعمة الحسن والبهاء في وجه زينة التونسية.
بقلم: عز الدين المدني
هذا الكتاب "مشاهير المطربين التونسيين اليهود" للكاتب المؤرخ المحقق فاخر الرويسي، الذي صدر عن دار تونس للنشر سنة 2022، قد قرأته ورجعت إليه مرتين مراجعة معرفة ونقد.
وهو كتاب جدير بالتنويه والاشادة لعدة أسباب موضوعية، منها أن موضوعه غير مطروق وغير مسبوق بالمنهج الذي سلكه مؤلفه في التأليف، إذ هو جمع "المشاهير" لا اختيارا ولا انتقاء بل ما اطلع عليه مما بقي منهم من الاستقرار عبر العهود الأخيرة، ومن التراث موسيقاهم، ومن أطوار حياتهم.
وهذا الكتاب ثري حافل بالموسيقيين الملحنين والعازفين والمطربات وبكلمات الأغاني والطرب الراقي منها والهابط والساقط حسب البئات والأوساط الاجتماعية وتبعا للمواسم والاعياد والافراح الاسلامية المعروفة واليهودية وطبقا لما تتطلبه برامج المسرح وكزينو حلق الواد وكزينو البلفيدار وكزينو ضاحية حمام الأنف وكذلك بعض النزل والكافي شنتات والمحلات الخاصة بقطع النظر عن مجالس الغنلاء والطرب في قصور البايات بباردو كالقصر السعيد وقصر حمام الأنف وقصر المرسى.
والكتاب يشكل بهذا التراث الغني وأكاد أقول إلى حد التخمة شهادة عن جانب عظيم من الثقافة التونسية المعاصرة والحديثة، وهو جانب يتغلب على شعاع الجوانب الأدبية الإبداعية باللغة العربية الفصحى وعلى الجوانب الفكرية الدراسية والبحثية وحتى على الجوانب المسرحية والتمثيلية الوطنية والأجنبية. وهو شهادة سوسيولوجية عن أماكن الموسيقى والطرب في الأحياء الميسورة في المدينة العربية القديمة وفي الاحياء الشعبية في باب سويقة والحلفاوين وباب الخضراء والحفصية وسيدي مردوم فضلا عن المحلات الراقية في شارع قرطاج وشارع جول فيري (بورقيبة حاليا) وشارع مدريد فضلا عما أشرنا إليه من الأماكن الراقية كالقصور والصرايات الملكية والمركاض والدرايب كدريبة ابن عياد في حي الكاتريام زواف (نهج ابو القاسم الشابي ونهج الشتاء) وكذلك الضواحي... والطرب والغناء والموسيقى على طريقة الفنانات والفنانين اليهود التونسيين لا علاقة ذلك كله بفن السطنبالي وعريفه وأمك ننو ولا بفناني المزود والطبال والزكار ولا بحفلات عملة "البورت" وأزجالهم الغنائية بمشاركة الفنان علي الدوعاجي. ومنها أيضا أن هذا الكتاب يسد ثلمة في صرح الثقافة الوطنية الحديثة المعاصرة على الصعيد التاريخي، ذلك أنه منحصر بين تاريخ شبه البدء وتاريخ شبه النهاية وفق الوثائق المكتوبة والوثائق الشفوية المروية عن صدق ووفاء.
وإني أرى أن هذا الكتاب جريء في مطمحه وفي معناه، وأن مؤلفه شجاع في رؤيته وفكره. فجمع ما لم يجمع وقال في هذه الأيام الساخنة ما لا يقال لأنه ينبذ القول المناسب للسياسات وللظروف وللإخوانيات وللشبهات ولأنه كاتب فنان حر.
وهذا الكتاب أخيرا لا آخرا يعلم القارئ خاصة إذا كان من الشباب أن النشاط الثقافي والفني الوطني قد اضطلع به اليهود في جانب كبير منه ولكن بالتوازي مع المسلمين وإن كان اليهود في قلة والمسلمون في كثرة أكثرية. وقد تشاركوا وتعاونوا فلا فرق بينهم ولا تمايز هؤلاء على أولئك. وهذا الفن التونسي قد تجسد طوال القرن العشرين في الغناء والموسيقى والشعر والرقص والمسرح وكذلك السينما على ندرة انتاج الأفلام. وفي هذه النقطة ندرك أن المؤلف كان مبادرا في اعطاء التونسيين اليهود حقهم المعنوي الفني والثقافي الوطني، بينما أهمل الناس اليوم حقوق التونسيين اليهود في قطاعات التجارة والصناعات اليدوية الفنية مثلا... كما أهملوا أنواع مآكل اليهود ومشاربهم إذ كان المرغوب فيها من الجميع، ولم يعرفوا أن المسلمين كانوا يشاركون بل كانوا يحضرون أعياد اليهود ومواسمهم وأفراحهم، ولم يعرفوا أيضا أن اليهود يتبركون بسيدي محرز سلطان المدينة الذي أنقذهم من شناعة "الملاسين" في أحد القرون الخوالي ونقلهم إلى قلب المدينة تونس لسكناها في حي جوار بيعتهم ورضي بهم وعنهم وحماهم.
وفي بلاد هجرتهم الأخيرة بالبلاد الشمالية وجدناهم مرحبين بنا إذا زرناهم أوفياء بالعهد الذي كان يجمعنا وإياهم، فنقلوا أطرافا من تونس إلى بلاد الغربية وبنوا جوانب من الخضراء بها ورددوا ألوانا من حياة الشعب وأصنافها. كل ذلك تجلى بلا أسف على ما فات وبلا حقد، لكنهم يحنون إلى تجديد اللقاء بوطنهم الاصلي كل فصل كالصيف والربيع والشتاء المكلل بالثلوج في عين دراهم أحيانا. وجدناهم بمدن هجرتهم معلم الطهي والطبخ في "مونمارتر"، والأستاذ المدرس في كلية التجارة، والخبير الزراعي، والوزير، والعالم المتواضع، والطبيب، والمحامي، والمستشار، والفنان الرسام، والكاتب، والجميع يلهجوم باسم تونس، وهذه الممثلة النجمة الشابة المغنية والموسيقية تصرخ على شاشة التلفزة الأجنبية والبعرة تخنق صوتها المتقطع من شدة عشقها لتونس "إني أعبد تونس بلادي وبلاد والدي وبلاد أجدادي... أعبدها ! أعبدها ! أعبدها !" وأجهشت بشلالة دموع من عينيها المغبرتين...
وتاريخيا تكونت ألفة بين الرعايا المسلمين واليهود عقب الدولة الفاطمية وأوائل الدولة الزيرية واستمرت دهرا أشرفت بقيته علينا خلال أواخر القرن العشرين حيث اضطرت معظم الأهالي اليهودية إلى الهجرة نحو أقطار الشمال ومنها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا... وكأنها اجتثت من جذورها وعروقها الحية وقطعت... رغم أن أرض تونس هي منبتهم وموطن أجدادهم وآبائهم وسكنى أجسادهم ودمائهم وموئل أرواحهم وأرواح أهالي المسلمين معا وجميعا.
وقد ندم الكثير من المواطنين التونسيين المسمين المسنين اليوم على تهجير أبناء عمومتهم قسرا فهجرتهم، الذين تركوا فراغا بعد انصرافهم، فراغا واقعيا ويوميا وحياتيا كبيرا، وفقدان العشرة كله شجن وحسرة، وانحلال الروابط مصيبة ومأساة.
هؤلاء التونسيون اليهود ـ ذكورا وإناثا ـ الذين صاروا بحكم تصاريف الزمان مهاجرين أجانب كالغرباء لا علاقة لهم بالصهاينة، وبدولة تل أبيب، وبالأشكيناز المتأوربين والمتأمركين، لا علاقة لهم بهم اللهم إلا بروابد الديانة اليهودية، وفيها مذابه بين السماح والاعتدال والتطرف والتجنن، لا علاقة لهم بالصهاينة وبمن تلقوا من ابنائهم دروس العنف والسيطرة والقوة الغاشمة، وتعلموا وتدربوا على رسم أطوار التعذيب والقتل، وعملوا على التوسع على حساب الغير، واستعمار الآخر المسالم الضعيف، وحفظوا كل ذلك عن ظهر قلب وطبقوه على منوال ما طبق هتلر ومسليني وقادة بلدان المحور الحربي خلال النصف الأول من أربعينات القرن الماضي. تلك هي محتويات العنصرية الايديولوجية خاصة وسياسة الميز العنصري عامة التي طبقوها في القدس وفلسطين وهي الصهيونية لأنهم يعتبرون أنفسهم نخبة الشعب المختار وقادة الديمقراطية وسادة قيم الإنسان من عدالة وحرية واخاء ومواساة ولكن هل يشيد النظام الديمقراطي على تعاليم الدين وعلى أفكار المتطرفين من أحبار اليهود الأشكيناز؟ لا يؤمن بمصداقية هذا النوع الهجين من النظم الديمقراطية إلا المغفلون والمتحيزون والظلمة المعتدون والعميان الإيديولوجيون الصهيونيون بين تصفيق الغوغاء وتأييد المرتزقة وأحابيل الأشرار.
أما نخبة اليهود في العالم من العلماء وكبار المفكرين والفلاسفة والكتاب وعلية الفنانين المبدعين الموهوبين من أمثال أينشتاين وحناء أرتت وجيزال حليمي القابسية والشاعر لوران قسبار والمصور جاك بيراز وعالم الاجتماع بول سباع (صباغ) ولوسيان سباغ فإنهم هم وأضرابهم أعداء صرحاء على نظام دولة اسرائيل الصهيونية وعلى أساطيرها السياسية الإجرامية الباطلة.
وأدوناي (=رب) اليهود غاضب أشد الغضب يعقبه اللعن والتهديد والوعيد، غاضب خاصة على كفرتهم بالنعمة الربانية طبقا لما جاء في أسفار التوارة. فمتى تستقيظ أوروبا وأمريكا وكل من ساند من دول الشمال عصابات السوء والشر و الباطل وأيدها وآزرها بالأموال والسلاح وزكاها في جرائمها بالتعليل الخاطئ المغرض وبالتبرير المنطقي الشاذ الفاسد.
ألم تستفق أوروبا أخيرا فطلبت العفو عن المظالم التي ارتكبتها طوال عقود من السنين في حق الإنسان الإفريقي والإنسان الأسيوي في الوجود؟ وهل تشمل قوانين حقوق الإنسان الدولية إلا الإنسان الأوروبي والأمريكي فقط؟ ومتى تحظى الأهالي الأصلية المولى عليها من قبل ثقافة وحضارة غريبة عنها وعدوانية عليها؟ بالكرامة الكاملة وبحرية وجودها في يومها ومصيرها؟
***
لنعد إلى كتاب الأستاذ المحقق فاخر الرويسي: "مشاهير المطربين التونسيين اليهود". فأول ما أذكره هو أن بعض المطربات والمطربين اليهود أعرفهم بحكم سني سواء كانت معرفتي بهم مباشرة أو بفضل البحث عنهم والرجوع إلى الصحف وبعض النشريات التي صدرت من أواسط العشرينات إلى صدر الخمسينات من القرن الماضي، المحفوظة في المكتبة الوطنية خاصة، وذلك للإطلاع على تفاصيل حياتهم ولو على نبذ منها وجزئيات.. وألاحظ أولا أن عددا من هؤلاء المطربين والمطربات هم وطنيون روحيا ونفسيا وجسديا وحياتيا وهذا ما أكده المؤلف، تونسيون أصلاء بحيث لا تستطيع أن تميز صفات هذا الفنان الذي أمامك هل هو مسلم أم يهودي. فبعض الصور التي نشرها المؤلف باختيار جميل تمثل المطرب الشهير الشيخ العفريت بشاشيته الإسطنبولية فحسبته طوال سنوات مسلما نظرا لهيئته وبزته ولهجة تونسية وأنه من "قاع الخابية" ! فأصلح خطاب المرحوم محمد صالح المهيدي مشافهة:
"بل هو يهودي تونسي صميم". ولقد ساهمت في ترويج أغانيه الجميلة مع المرحوم سمير العيادي في أيام دهليز دار الثقافة ابن رشيق وكذلك روجتها في مقهى الفنانين بمدينة الدار البيضاء أيام إقامتي بالمغرب الأقصى. وقد ولع الفنان المسرحي الكبير العبقري المغربي الطيب الصديقي بجميع أغاني الشيخ العفريت التونسي وكان يردد بحضوري أغنية "ماذابي" وأغنية "الريح".. بنطقه المغربي !
وقد أحسن المؤلف في تأليفه وجود بذكر تراث لا الشيخ العفريت فحسب بل أيضا راؤول جورنو وما أدراك من راؤول جورنو المطرب التونسي النابغة الشهير وتكريم في حفلته الأخيرة حفلة الوداع بالمسرح الروماني بقرطاج ضمن إطار مهرجان قرطاج الدولي (الصيفي) نعم لتكريم هذا الفنان التونسي الأصيل. ولقد أعطى الأستاذ المؤلف فاخر الرويسي حق هذا الفنان التونسي الكبير الذي لا يقل إبداعا ولا تطريبا من إبداع الفنان الكبير عميد أهل الطرب والموسيقى علي الرياحي، ولا من إبداع الفنان الرائع الهادي الجويني مجدد الألحان في عهده خلال الأربعينات من القرن الماضي كما جدد انتقائه "لكلمات" الأغاني بفضل صداقته الحميمة للكاتب الموهوب النابغة علي الدوعاجي "ولشاوش الهيئة الاجتماعية" علي الجندوبي ولشقيقي محمد المدني رحمهم الله جميعا.
لم أقرأ هذا الكتاب مجرد قراءة واطلاع وإنما دخلت في حوار مع كل ما احتوى عليه وذلك لقيمة ما أرخ المؤلف وما ذكر إجمالا أو تفصيلا من حياة المطربين والمطربات اليهود التونسيين. فلقد ذكرني الكتاب ما لاقيت صدفة في إحدى ضواحي باريس وهي ضاحية "ننتار" المعروفة ـ وأنا أرافق الصديق والزميل التونسي الجزائري الكاتب المبدع رشيد بوجدره لمشاهدة آخر مسرحية له على ركح أحد مسارح "ننتار" ـ لاقيت شخصا جالسا بجانبي يلهج بلهجة تونسية، فتعارفنا في الحين، وإذا به يكشف عن هويته فهو يهودي تونسي هاجر إلى فرنسا بسبب ما وقع، فتجاذبت أطراف الحديث معه وإذا به هو من أسرة سمادجه التونسية ذات الأصول الأندلسية. فقاطع كلامي مرة وقال لي فجأة ربما لإقناعي: "هيا صل ع النبي ويزي من النقد والإنتقاد !" فاندهشت لسماع هذا التعبير التونسي الإسلامي على لسانه ـ لا يصدق على لسانه اليهودي وشخصه اليهودي !... وأدركت بعد حين أن تونس برمتها في قلبه ووجدانه وفكره وهو في بلاد الغربة وأنه مطرب يهودي وعضو عازف في فرقة تونسية يهودية مستقرة بفرنسا تردد أغاني علي الرياحي وراؤول جورنو وعلية وهناء راشد والكحلاوي في حفلات الجالية التونسية في المهجر.
إن هؤلاء المطربات والمطربين التونسيين اليهود قد بلغت موسيقاهم وأصواتهم الفنية إلى الجزائر والمغرب وفرنسا ومصر وليبيا على عهد الإستعمار وفي أثناء العهد البورقيبي الجميل، ولعلها بلغت أيضا بلاد الشام بأقطارها حيث هاجرت جالية تونسية مهمة العدد، وهناك استقرت فرارا بنفسها من الاحتلال العسكري الفرنسي. وقد قال لي الفنان أحمد حمزة رحمه الله: "أنه وجد أصداء وبصمات الفن التونسي الغنائي والموسيقي التونسي الذي لا ينسى في الكويت: "الأيام كيف الريح" و"زينة يا بنت الهنشير" (أو زينة هي تونس كما هو معلوم) وهذا كله يذكرني بالمطرب الفرنسي الشهير ليوفر وأغنيته عن تبدد الزمان والوجود وبالمطرب المصري الشهير محمد عبد الوهاب الذي تغنى بخيرات مصر: "الجمال والشباب وهي نعمة من نعم الله كنعمة الحسن والبهاء في وجه زينة التونسية.