ما كان مخصصا للمقبرة تحول إلى منازل فخمة ومات حظ الأموات منها
رواية لفيسلوف الوجودية سارتر، نقلها للعربية سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب الشهيرة وكاتب الرواية الرائعة "الحي اللاتيني".
قرأتها في الشباب لم يبق في الذاكرة منها إلا العنوان وما يبعثه في النفس من شعور بالأسى والأحزان.
في الصيف الماضي رحل ابني ـ صديق عمري ورفيق دربي ـ لم أدر أن مقابر أريانة وسكرة وسيدي يحيى القريبة مني تم غلقها بعدما فاضت بساكنيها، فإذا الموتى في أريانة بلا قبور، وعزمت على دفنه في حديقة المنزل لأن العقاب في قانون المقابر بالسجن والخطية كلاهما أهون ألف مرة من أن لا يظل قرة عيني بعيدا عني محروما من الجلوس إلى قبره في الصبح والمساء.
صدني الحاضرون عما أقدمت عليه ـ وجاءوني بشركة دفن وعدني صاحبها بقبر لائق في مدفن تحترم فيه كرامة الموتى.
في الطريق مع الجنازة المسافة طويلة والسير فيها عسير عبر حي مكتظ ـ ولما وصلنا إليها رأيت الفوضى والإهمال باديين على مقابرها المكللة بالأشواك وقبورها المتلاحمة في غير انتظام وآخر قبر فيها نصيب ابني، لم يكن اللحد كافيا لغطاء القبر فانهال التراب على الجثمان وحال انهياري دون النزول لإزاحته على الجسد المسجى.
مع الفاجعة ورحلة العذاب بت مسكونا بهاجس أقض مضجعي بالليل ومرر عيشي بالنهار، أسائل نفسي بأي أرض سأموت وبأي قبر سأدفن بعدما بات الحصول عليه قريبا من مسكني مطلبا بعيد المنال.
وصيتي بنقل جثماني إلى ريفي البعيد لأوارى التراب في قبر أبي أو قبر أمي رفضها الأولاد لأن البعد يحرمهم من زيارتي في المناسبات.
المقابر في قانونها ملك للجماعة المحلية ورئيسها مسؤول على إحداثها ـ سكان بلدية أريانة تجاوزوا مائة ألف آخر رئيس لها كان عميدا لكلية حقوق ـ عقدنا يوم انتخابه علينا آمالا عريضة خابت كلها في السنوات الأربع التي قضاها بمكتبه الباذخ على كرسيه الوثير وراتبه الذي يفوق عشر مرات أجر الكادحين.
وعلى مدى ولايته علينا لم نر له وجها في أحيائنا وكان قرار الحل هو الحل الصائب واضعا للبيروقراطية والفساد حدا ولموت الضمائر نهاية التي فقدنا في ظلها حقنا في قبر يأوينا.
هذه الأيام طالعت في احد الصحف خبرا عن عصابات انتشرت في كل المقابر تمنع تحت التهديد بالأسلحة البيضاء ذوي الأموات من الدفن إلا بعد دفع من خمسمائة إلى ستمائة وخمسين دينارا عن كل قبر.
مقبرة النصارى في بورجل حديقة غناء بالورود والعشب الأخضر شراء القبر فيها بخمسمائة دينار بينما كلفني قبر ابني ونقل الجثمان إليه ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار.
في إحدى ضواحي باريس قضيت الأيام الأخيرة لشقيقي الكاتب والمفكر العفيف الأخضر وبالقرب من العمارة حديقة فيحاء بمختلف أنواع الزهور ومقابرها في انتظام بديع ثمن القبر فيها أربعة آلاف أورو.
في الثمانينات من القرن الماضي أطلعت في الوكالة العقارية للسكنى على مثال التهيئة العمرانية للمنارات وحدائق المنازه وفيه مشروع مقبرة حول خزنة الماء بعشر هكتارات ذهلت بعد سنوات لما مررت من هناك ورأيت أن ما كان مخصصا للمقبرة تحول إلى منازل فخمة ومات حظ الأموات منها.
بلدية أريانة قبل نعمة حلها كانت ككل البلديات سلطة لا تخضع لسلطة ـ وصوتنا نحن المواطنين لا يبلغ أذان مسؤوليها لأن فيها وقر ولذلك لم يكن للأحياء منا احترام لديها وفقد موتانا أدنى احترام وحقهم في قبر يأويهم بعدما يغادرون.
مأساة فظيعة من مآسينا لا ادري هل نرى حلا لساكني بلدية أريانة بإحداث مقبرة تدفن فيها موتانا؟ أم نظل موتى بلا قبور كما في الرواية؟
البشير الأخضر
محام
ما كان مخصصا للمقبرة تحول إلى منازل فخمة ومات حظ الأموات منها
رواية لفيسلوف الوجودية سارتر، نقلها للعربية سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب الشهيرة وكاتب الرواية الرائعة "الحي اللاتيني".
قرأتها في الشباب لم يبق في الذاكرة منها إلا العنوان وما يبعثه في النفس من شعور بالأسى والأحزان.
في الصيف الماضي رحل ابني ـ صديق عمري ورفيق دربي ـ لم أدر أن مقابر أريانة وسكرة وسيدي يحيى القريبة مني تم غلقها بعدما فاضت بساكنيها، فإذا الموتى في أريانة بلا قبور، وعزمت على دفنه في حديقة المنزل لأن العقاب في قانون المقابر بالسجن والخطية كلاهما أهون ألف مرة من أن لا يظل قرة عيني بعيدا عني محروما من الجلوس إلى قبره في الصبح والمساء.
صدني الحاضرون عما أقدمت عليه ـ وجاءوني بشركة دفن وعدني صاحبها بقبر لائق في مدفن تحترم فيه كرامة الموتى.
في الطريق مع الجنازة المسافة طويلة والسير فيها عسير عبر حي مكتظ ـ ولما وصلنا إليها رأيت الفوضى والإهمال باديين على مقابرها المكللة بالأشواك وقبورها المتلاحمة في غير انتظام وآخر قبر فيها نصيب ابني، لم يكن اللحد كافيا لغطاء القبر فانهال التراب على الجثمان وحال انهياري دون النزول لإزاحته على الجسد المسجى.
مع الفاجعة ورحلة العذاب بت مسكونا بهاجس أقض مضجعي بالليل ومرر عيشي بالنهار، أسائل نفسي بأي أرض سأموت وبأي قبر سأدفن بعدما بات الحصول عليه قريبا من مسكني مطلبا بعيد المنال.
وصيتي بنقل جثماني إلى ريفي البعيد لأوارى التراب في قبر أبي أو قبر أمي رفضها الأولاد لأن البعد يحرمهم من زيارتي في المناسبات.
المقابر في قانونها ملك للجماعة المحلية ورئيسها مسؤول على إحداثها ـ سكان بلدية أريانة تجاوزوا مائة ألف آخر رئيس لها كان عميدا لكلية حقوق ـ عقدنا يوم انتخابه علينا آمالا عريضة خابت كلها في السنوات الأربع التي قضاها بمكتبه الباذخ على كرسيه الوثير وراتبه الذي يفوق عشر مرات أجر الكادحين.
وعلى مدى ولايته علينا لم نر له وجها في أحيائنا وكان قرار الحل هو الحل الصائب واضعا للبيروقراطية والفساد حدا ولموت الضمائر نهاية التي فقدنا في ظلها حقنا في قبر يأوينا.
هذه الأيام طالعت في احد الصحف خبرا عن عصابات انتشرت في كل المقابر تمنع تحت التهديد بالأسلحة البيضاء ذوي الأموات من الدفن إلا بعد دفع من خمسمائة إلى ستمائة وخمسين دينارا عن كل قبر.
مقبرة النصارى في بورجل حديقة غناء بالورود والعشب الأخضر شراء القبر فيها بخمسمائة دينار بينما كلفني قبر ابني ونقل الجثمان إليه ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار.
في إحدى ضواحي باريس قضيت الأيام الأخيرة لشقيقي الكاتب والمفكر العفيف الأخضر وبالقرب من العمارة حديقة فيحاء بمختلف أنواع الزهور ومقابرها في انتظام بديع ثمن القبر فيها أربعة آلاف أورو.
في الثمانينات من القرن الماضي أطلعت في الوكالة العقارية للسكنى على مثال التهيئة العمرانية للمنارات وحدائق المنازه وفيه مشروع مقبرة حول خزنة الماء بعشر هكتارات ذهلت بعد سنوات لما مررت من هناك ورأيت أن ما كان مخصصا للمقبرة تحول إلى منازل فخمة ومات حظ الأموات منها.
بلدية أريانة قبل نعمة حلها كانت ككل البلديات سلطة لا تخضع لسلطة ـ وصوتنا نحن المواطنين لا يبلغ أذان مسؤوليها لأن فيها وقر ولذلك لم يكن للأحياء منا احترام لديها وفقد موتانا أدنى احترام وحقهم في قبر يأويهم بعدما يغادرون.
مأساة فظيعة من مآسينا لا ادري هل نرى حلا لساكني بلدية أريانة بإحداث مقبرة تدفن فيها موتانا؟ أم نظل موتى بلا قبور كما في الرواية؟