إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الروائي عبدالقادر بن الحاج نصر لـ"الصباح": المثقف في العالم العربي اليوم ثلاثة أطياف بين العمالة والحصار والخنوع

 

احمل بداخلي مشروعا ابداعيا وطنيا دون ان اخطط له

لا كتابة أدبية ولا ابداع روائي عميق وصادق دون ذاكرة

علينا الاعتزاز بارثنا الحضاري لكتابة اعمال درامية تاريخية تحتفظ بها الذاكرة.

قاطعت كتابة المسلسلات منذ سنة 2012 على خلفية مطاردتي من جهات متنفذة داخل مؤسسة التلفزة الوطنية في تلك السنوات

حوار محسن بن أحمد

مسكون بالإبداع. لا يهدأ له بال ما ان ينتهي من نص الا ليشرع في اخر بكل هدوء. يرى في الكتابة عذابا ومشقة لكنه مصر على ذلك بشكل كبير

هو الروائي الدكتور عبدالقادر بن الحاج نصر الذي يحمل على كاهله مسيرة تجاوزت الأربعين سنة وهو رفيق دائم للقلم والورق. مسيرة حافلة ثرية جمع فيها بين القصة القصية والرواية الطويلة والدراسات الأدبية والفكرية والمسلسلات الدرامية التلفزيونية المتميزة.

هو اغزر المبدعين انتاجا روائيا وقصصيا على المستوى الوطني بدرجة أولى ففي رصيده ما يناهز الـ18 رواية طويلة عدا المجموعات القصصية التي نحت مضامينها من المجتمع التونسي بكل تفاصيله.

عبدالقادر بن الحاج نصر صوت المجتمع التونسي وطبقته المهمشة هكذا هي كل كتاباته السلسة والصادقة والعميقة. التقيناه فكان هذا الحوار:

**في كل اللقاءات معك تؤكد ان الكتابة لعنة قاسية ومدمرة ورغم ذلك فانت مصر عليها؟

-اجل هي مدمرة وقاهرة وفاعلة بالكاتب الافعال وهي في نفس الوقت الأقرب والاحب اليه والحضن الذي يلجا اليه صباحا ومساء.

ان الكتابة قد تهب صاحبها طعم الفرح ورائحة السعادة لحظة ينهي مرحلة من مراحلها، رواية مثلا او مسرحية او مسلسلا تلفزيونيا ، عند تلك اللحظة فقط يشعر بانه انتهى من عذاب أيام واسابيع وربما شهور طويلة ووضع القلم جانبا . نظر الى الكم من الأوراق التي جرى عليها القلم واسال عليها العرق، وتوقف لاهثا كلما استعصت الفكرة او تمنع عليه الأسلوب او غابت الكلمات التي تنسجم مع مسار الكتابة.

لا اعتقد ان هناك من اهل الأرض من يقبل على اللعنة والعذاب والعقاب دون ان تجبره سلطة او نظام. اليس عذابا ان تحمل المرأة في احشائها نطفة تكبر مع الزمن فتؤلمها فتكره نفسها وتثور عليها وبقدر ذلك تتعلق بتلك النطفة النامية فتنتظر بشوق ان يكتمل نموها فتخرج الى الدنيا، كذلك الابداع الادبي في مرحلة الكتابة لا اثقل منها ولا اشد ايلاما ولما تطوى المسافة الطويلة يتنفس المبدع الصعداء.

خلاصة القول : العذاب شديد والفرح قليل، اضف الى ذلك المرحلة الثانية وهي مواجهة عملية النشر والسير في الأروقة الخانقة لدور النشر وكهوف الطباعة. أقول لك متسائلا لعل الجواب جاهز لديك، الا مؤسسة ثقافية تدافع عن حقوق المؤلفين، الا مؤسسة ثقافية تشفق على لفيف الكتاب الذين يكتبون من اجل صورة ناصعة، تشفق عليهم من تغول الناشرين وأصحاب المطابع، الا مؤسسة وطنية، وزارة او مركز ثقافي او دائرة او مصلحة تنظم فوضى النشر وتحسم العلاقة اللاحضارية بين الكتاب والناشرين والطابعين.

عالم غريب ، فوضى تزداد شراسة ما زادت اهل الابداع الا تشبثا بالكتابة واصرارا على عذاباتها

**ماهي الأسئلة التي تحركك والهواجس التي تسكنك وتحفزك على الكتابة الإبداعية؟

-وطني، اهناك اعز علي من وطني، او هناك احب الي منه وممن فيه ومما فيه ناسا وارضا وسماء، ماء وهواء ونباتا وشجرا، ومن بين الشجر، شجرة الزيتون اللاشرقية واللاغربية والتي زيتها يضيء نورا، في كل مرة امسك القلم وابسط الورقة امامي اجدني مملوءا بالمشاهد والصور التي تكدست في الذاكرة وتكثفت مع رحلة الأيام، المنزل العائلي،غرفه البسيطة وساحته، ملامح الاب والام، المدرسة والمعلمين، قاعات المدرسة والفناء والفضاء الواسع الذي مارسنا فيه شقاوتنا لعبا وهرجا، جلسات تحت الجدران نكرر مقاطع المحفوظات ونصوص القراءة ، نواجه مسائل الحساب والعلوم الطبيعية وسرعان ما تطفو على سطح الذاكرة روضة الشهداء والحنفية العمومية وساقيتها التي تتدفق نحو الجنائن، والاغنام وهي تشرب الماء وتتنفس رائحة حشائش المراعي وسوق القرية الأسبوعي، باعة الكتب الصفراء والعطور والبهارات والحلوى بانواعها، حلوى العرائس والحلوى الحمصية. للسوق جماله وجاذبيته لم يبرح الذاكرة ولن يبرحها.

**يتفق النقاد انك صاحب مشروع ابداعي مرتبط بالواقع من خلال الالتصاق بالطبقات المهمشة، كيف تقرأ هذا الراي ؟

-هو ذاك. لو لم اكن صاحب مشروع لكنت طلقت الكتابة منذ زمن، هذه الكتابة التي لا انفك العنها وانا انهل من كنوزها وتنهل من دمي

انا صاحب مشروع دون ان اخطط لذلك ودون ان اعتمد برنامجا محددا، انما من خلال الرصيد الإبداعي الذي اجتمع لدي بعد عشرات السنين، روايات ومجموعات قصصية واعمال درامية ومسرح تبدي لي مثلما تبدي للآخرين ان لكتاباتي رابطا موضوعيا متماسكا، فمنذ" الزيتون لا يموت "هذه الرواية الباقية، مثل الباقيات من روايات قليلة لمبدعين نشروا في أواخر الستينيات والسبعينيات، والكتابة لدي تطرق مواضيع اجتماعية وعاطفية وإنسانية ذات ارتباط وثيق بما يحدث في المجتمع من تغيرات سببها الأول القرار السياسي وثانيها البرنامج الاقتصادي والطبقات الاجتماعية تتاثر وتتغير وتتخذ مسارات جديدة بالسياسة والاقتصاد.

عند كل مسار جديد ، يجدر بالكاتب اذا كان ذا إحساس وطني مرهف ان يرصد ويسجل ويبني كتاباته تجاوبا مع ما يعتمل داخل الطبقات الاجتماعية من صراعات ورود فعل وتحولات جديدة أما راينا عند كل تحول طبقات يطالها الفقر وطبقات تكتسب أدوات الثراء بمختلف مستوياته، اما راينا مؤسسات تصاب بالإفلاس ، ومؤسسات تطفو على السطح. اما راينا في بلدنا كيف يتحد النفوذ السياسي والنفوذ المالي فيكفيان المجتمع حسب مصالح أصحاب النفوذ لا حسب مصلحة الوطن الا من رحم ربك. من هنا ابدا ومن هنا تنبثق النصوص الأدبية التي تؤسس مشروعا متكاملا

**كيف تحدد علاقة المبدع بشخصيات الأثر الإبداعي؟

-لا ينفصل المبدع عن شخصياته فهو منهم واليهم

اعتقد ان العلاقة التي تربط الطرفين مثل العلاقة الوثيقة التي تربط بين افراد الاسرة، بل بين أعضاء الجسد فاذا انفصل المبدع عن شخصياته والفضاء الذي يتحركون فيه تمزق النسيج العاطفي وتهلهل النص الإبداعي وخلا التعبير من صدقيته وحرارته

**من وجهة نظرك من يكتب الرواية الكاتب ام الابطال؟

-كلاهما في نفس اللحظة وبنفس القلم وعلى نفس الورقة، أحيانا يتوقف القلم عن الكتابة عند تقديم احدى الشخصيات ذلك ان الكاتب تعسف عليها وحملها ما لا يتناسب مع حقيقة واقعها وموقعها في الفضاء الذي تعيش فيه

**ما مدى حضور الذاكرة في مخيلتك الروائية؟

-لا كتابة أدبية او لا ابداع ولا دراسات ولا اعمال درامية ولا مقاربات دون ذاكرة، ساعة يبحث الكاتب عن ذاكرته فلا يجدها فاعلم ان معين الابداع قد نفذ وان العين التي يتذوق منها الماء رقراقا سلسبيلا قد نضب وجفت.

**كيف تقرأ اليوم المدونة السردية التونسية بعد2011؟

-انها على قدر عناية وزارة الثقافة بالابداع والفكر والادب والفن واستطيع ان أقول انها بخير. ولعل انسب توصيف لها ما جاء على لسان المرحوم حسين الجزيري معارضا لبيت شعري لابي الطيب المتنبي

على قدر اهل العيد تأتي العصائد

وتأتي على قدر الضيوف الموائد

**أعلنت سنة2012 عن مقاطعتك التعامل مع التلفزة الوطنية في كتابة الاعمال الدرامية. الان وبعد حوالي احد عشر عاما، هل ما زلت على هذا الموقف ؟

-سؤال في محله. انا كنت مطاردا من قبيل جهات متنفذة داخل المؤسسة. الان لا ادري هل تلك الجهات مازالت هي الفاعلة ام ازدادت نفوذا ام تقلص نفوذها ذهبت الى حال سبيلها. سؤال قد تجيب عليه المؤسسة الوطنية وعلى اية حال فان حال الأيام ستتكفل بالاجابة. ويستمر الصراع على اية حال فان الحركة التصحيحية التي يقوم بها سيادة رئيس الجمهورية والعناية الفائقة التي يوليها لهذه المؤسسة والحرص على تغيير تعاملها مع المبدعين سيكون لفائدة الجميع

**لماذا من وجهة نظرك لا نجد مسلسلات تاريخية في انتاجنا الدرامي التونسي، اين يبدو التقصير في ذلك؟

يجب أولا على مؤسساتنا الوطنية ان يكون لديها قدر كبير من محبة تاريخنا وما حفل به من احداث مشرفة تضيء صورة تونس لدى البلدان الأخرى. انني اعلم كما تعلم ان هؤلاء الاخرين لهم اهتمام متجدد ببلدنا ولكي لا يتضاءل هذا الاهتمام ولا يندثر على المؤسسات بناء رؤية واضحة لدورها في المسيرة الوطنية حاضرا ومستقبلا. حين يتوفر هذا الاهتمام والتقدير والاعتزاز بتاريخ تونس سيفسح المجال لإنجاز اعمال درامية تاريخية لكن وبالتوازي مع ذلك يجب ان توفر لمؤسسة التلفزة الوطنية اعتمادات مالية كافية مناسبة لإقامه شبكة اعمال درامية وانجازها فدون اعتمادات مالية يظل المسؤول الأول او المسؤولة عن المؤسسة الوطنية مكتوف الايدي لا تقدر على الرقي بالمؤسسة الى مصاف المؤسسات التلفزية في بلدان كثيرة من حولنا وفي العالم.

**لماذا لا نعيش هذه الأيام حراكا ثقافيا وفكريا عربيا مزلزلا تفاعلا مع ما يعيشه قطاع غزة من دمار وتدمير صهيوني غاشم ؟

-المثقف في العالم العربي اليوم ثلاثة أطياف في كل الازمان والامصار.

صنف اول باعت فيه المخابرات الغربية واشترت فيه. فهو عميل يقضي أيامه متسكعا في العواصم الغربية بين مكاتب الاستعلامات يقدم لها ما جمع من اخبار واسرار حول بلده وبين الفنادق الفخمة يحتسي القهوة ويدخن السيجار ويدفع مما قبض ثمن عمالته وهذا طيف مستعد ان يبيع وطنه وعائلته وابناءه فهو فاقد للإحساس بالانتماء وهو الذي ساهم بقدر كبير في اجتياح القوات الامريكية للعراق ويسر الطريق امام المخابرات الصهيونية والفرق المهجورة الخاصة للسطو على الاثار الوطنية العراقية وافراغ المتاحف من اهم كنوزها الاثرية والمكتبات من اهم مؤلفاتها التراثية وهو نفس الطيف الذي تكونت منه عصابات "داعش" ونوعية من المعارضات السورية التي دمرت سوريا بهدف اخضاعها الى دوائر الاستعمار الصهيونية الغربية .

طيف ثان قد يكون وطنيا بأتم معنى الكلمة لكنه محاصر في وطنه وانفاسه معدودة والتعبير عن همومه وطموحاته وقضايا وطنه محددة مقننة فان تجاوز مضمون خطاب الحاكم عُزل من وظيفه وحُجزت مرتباته وكثيرا ما يُرمى في غياهب السجون ولا يُغادرها الا بعد ان يُعشش الفناء في عظامه.

طيف ثالث ، طيف ساكن صامت مُطيع يعلم حدود الكلام وواجب الطاعة قد يكون روائيا او قصاصا او مفكرا منظرا او محاضرا او رجل مسرح او رساما او مدرسا في الثانوي او إعلاميا في المكتوب او المرئي او المسموع مسموح له ضمنيا إقامة ندوة او لقاء او تظاهرة تُوزع فيها التكريمات الهزيلة الفارغة من أي معنى يليق بالكاتب او المثقف والفنان.

وان تعدى حدوده واتجه الى الوزارة او المؤسسة عشرين مرة بالبرقيات و"الفاكسات" والرسائل طالبا توضيحا او تدخلا او رفع غبن او مظلمة فلن ترد عليه الجهة المعنية نكاية وتشفيا وامعانا في الاحتقار والتسلط واعتزازا بالإثم واذا اردت ادلة فهي لدي حاضرة وجاهزة.

الامل الوحيد الذي ينبثق فقط الثورة التصحيحية التي تسعى فيما تسعى الى هدم الاصنام وتغيير السلوكيات وبناء علاقات صحيحة بين اهل القرار وبين أصحاب الحق وهي ثورة ستكون طويلة شاقة مضنية لان عدد أعداء هذه الثورة كبير وعدتهم كثيرة ونفوسهم مسكونة بالإثم والشراسة والشر واللهفة على التملك بالثورة والتحكم في الرقاب فلا وطن لهم ولا تاريخ ولا حضارة ولا اشعاع.

 

 

 

 

 

 

الروائي عبدالقادر بن الحاج نصر لـ"الصباح":  المثقف في العالم العربي اليوم ثلاثة أطياف بين العمالة والحصار والخنوع

 

احمل بداخلي مشروعا ابداعيا وطنيا دون ان اخطط له

لا كتابة أدبية ولا ابداع روائي عميق وصادق دون ذاكرة

علينا الاعتزاز بارثنا الحضاري لكتابة اعمال درامية تاريخية تحتفظ بها الذاكرة.

قاطعت كتابة المسلسلات منذ سنة 2012 على خلفية مطاردتي من جهات متنفذة داخل مؤسسة التلفزة الوطنية في تلك السنوات

حوار محسن بن أحمد

مسكون بالإبداع. لا يهدأ له بال ما ان ينتهي من نص الا ليشرع في اخر بكل هدوء. يرى في الكتابة عذابا ومشقة لكنه مصر على ذلك بشكل كبير

هو الروائي الدكتور عبدالقادر بن الحاج نصر الذي يحمل على كاهله مسيرة تجاوزت الأربعين سنة وهو رفيق دائم للقلم والورق. مسيرة حافلة ثرية جمع فيها بين القصة القصية والرواية الطويلة والدراسات الأدبية والفكرية والمسلسلات الدرامية التلفزيونية المتميزة.

هو اغزر المبدعين انتاجا روائيا وقصصيا على المستوى الوطني بدرجة أولى ففي رصيده ما يناهز الـ18 رواية طويلة عدا المجموعات القصصية التي نحت مضامينها من المجتمع التونسي بكل تفاصيله.

عبدالقادر بن الحاج نصر صوت المجتمع التونسي وطبقته المهمشة هكذا هي كل كتاباته السلسة والصادقة والعميقة. التقيناه فكان هذا الحوار:

**في كل اللقاءات معك تؤكد ان الكتابة لعنة قاسية ومدمرة ورغم ذلك فانت مصر عليها؟

-اجل هي مدمرة وقاهرة وفاعلة بالكاتب الافعال وهي في نفس الوقت الأقرب والاحب اليه والحضن الذي يلجا اليه صباحا ومساء.

ان الكتابة قد تهب صاحبها طعم الفرح ورائحة السعادة لحظة ينهي مرحلة من مراحلها، رواية مثلا او مسرحية او مسلسلا تلفزيونيا ، عند تلك اللحظة فقط يشعر بانه انتهى من عذاب أيام واسابيع وربما شهور طويلة ووضع القلم جانبا . نظر الى الكم من الأوراق التي جرى عليها القلم واسال عليها العرق، وتوقف لاهثا كلما استعصت الفكرة او تمنع عليه الأسلوب او غابت الكلمات التي تنسجم مع مسار الكتابة.

لا اعتقد ان هناك من اهل الأرض من يقبل على اللعنة والعذاب والعقاب دون ان تجبره سلطة او نظام. اليس عذابا ان تحمل المرأة في احشائها نطفة تكبر مع الزمن فتؤلمها فتكره نفسها وتثور عليها وبقدر ذلك تتعلق بتلك النطفة النامية فتنتظر بشوق ان يكتمل نموها فتخرج الى الدنيا، كذلك الابداع الادبي في مرحلة الكتابة لا اثقل منها ولا اشد ايلاما ولما تطوى المسافة الطويلة يتنفس المبدع الصعداء.

خلاصة القول : العذاب شديد والفرح قليل، اضف الى ذلك المرحلة الثانية وهي مواجهة عملية النشر والسير في الأروقة الخانقة لدور النشر وكهوف الطباعة. أقول لك متسائلا لعل الجواب جاهز لديك، الا مؤسسة ثقافية تدافع عن حقوق المؤلفين، الا مؤسسة ثقافية تشفق على لفيف الكتاب الذين يكتبون من اجل صورة ناصعة، تشفق عليهم من تغول الناشرين وأصحاب المطابع، الا مؤسسة وطنية، وزارة او مركز ثقافي او دائرة او مصلحة تنظم فوضى النشر وتحسم العلاقة اللاحضارية بين الكتاب والناشرين والطابعين.

عالم غريب ، فوضى تزداد شراسة ما زادت اهل الابداع الا تشبثا بالكتابة واصرارا على عذاباتها

**ماهي الأسئلة التي تحركك والهواجس التي تسكنك وتحفزك على الكتابة الإبداعية؟

-وطني، اهناك اعز علي من وطني، او هناك احب الي منه وممن فيه ومما فيه ناسا وارضا وسماء، ماء وهواء ونباتا وشجرا، ومن بين الشجر، شجرة الزيتون اللاشرقية واللاغربية والتي زيتها يضيء نورا، في كل مرة امسك القلم وابسط الورقة امامي اجدني مملوءا بالمشاهد والصور التي تكدست في الذاكرة وتكثفت مع رحلة الأيام، المنزل العائلي،غرفه البسيطة وساحته، ملامح الاب والام، المدرسة والمعلمين، قاعات المدرسة والفناء والفضاء الواسع الذي مارسنا فيه شقاوتنا لعبا وهرجا، جلسات تحت الجدران نكرر مقاطع المحفوظات ونصوص القراءة ، نواجه مسائل الحساب والعلوم الطبيعية وسرعان ما تطفو على سطح الذاكرة روضة الشهداء والحنفية العمومية وساقيتها التي تتدفق نحو الجنائن، والاغنام وهي تشرب الماء وتتنفس رائحة حشائش المراعي وسوق القرية الأسبوعي، باعة الكتب الصفراء والعطور والبهارات والحلوى بانواعها، حلوى العرائس والحلوى الحمصية. للسوق جماله وجاذبيته لم يبرح الذاكرة ولن يبرحها.

**يتفق النقاد انك صاحب مشروع ابداعي مرتبط بالواقع من خلال الالتصاق بالطبقات المهمشة، كيف تقرأ هذا الراي ؟

-هو ذاك. لو لم اكن صاحب مشروع لكنت طلقت الكتابة منذ زمن، هذه الكتابة التي لا انفك العنها وانا انهل من كنوزها وتنهل من دمي

انا صاحب مشروع دون ان اخطط لذلك ودون ان اعتمد برنامجا محددا، انما من خلال الرصيد الإبداعي الذي اجتمع لدي بعد عشرات السنين، روايات ومجموعات قصصية واعمال درامية ومسرح تبدي لي مثلما تبدي للآخرين ان لكتاباتي رابطا موضوعيا متماسكا، فمنذ" الزيتون لا يموت "هذه الرواية الباقية، مثل الباقيات من روايات قليلة لمبدعين نشروا في أواخر الستينيات والسبعينيات، والكتابة لدي تطرق مواضيع اجتماعية وعاطفية وإنسانية ذات ارتباط وثيق بما يحدث في المجتمع من تغيرات سببها الأول القرار السياسي وثانيها البرنامج الاقتصادي والطبقات الاجتماعية تتاثر وتتغير وتتخذ مسارات جديدة بالسياسة والاقتصاد.

عند كل مسار جديد ، يجدر بالكاتب اذا كان ذا إحساس وطني مرهف ان يرصد ويسجل ويبني كتاباته تجاوبا مع ما يعتمل داخل الطبقات الاجتماعية من صراعات ورود فعل وتحولات جديدة أما راينا عند كل تحول طبقات يطالها الفقر وطبقات تكتسب أدوات الثراء بمختلف مستوياته، اما راينا مؤسسات تصاب بالإفلاس ، ومؤسسات تطفو على السطح. اما راينا في بلدنا كيف يتحد النفوذ السياسي والنفوذ المالي فيكفيان المجتمع حسب مصالح أصحاب النفوذ لا حسب مصلحة الوطن الا من رحم ربك. من هنا ابدا ومن هنا تنبثق النصوص الأدبية التي تؤسس مشروعا متكاملا

**كيف تحدد علاقة المبدع بشخصيات الأثر الإبداعي؟

-لا ينفصل المبدع عن شخصياته فهو منهم واليهم

اعتقد ان العلاقة التي تربط الطرفين مثل العلاقة الوثيقة التي تربط بين افراد الاسرة، بل بين أعضاء الجسد فاذا انفصل المبدع عن شخصياته والفضاء الذي يتحركون فيه تمزق النسيج العاطفي وتهلهل النص الإبداعي وخلا التعبير من صدقيته وحرارته

**من وجهة نظرك من يكتب الرواية الكاتب ام الابطال؟

-كلاهما في نفس اللحظة وبنفس القلم وعلى نفس الورقة، أحيانا يتوقف القلم عن الكتابة عند تقديم احدى الشخصيات ذلك ان الكاتب تعسف عليها وحملها ما لا يتناسب مع حقيقة واقعها وموقعها في الفضاء الذي تعيش فيه

**ما مدى حضور الذاكرة في مخيلتك الروائية؟

-لا كتابة أدبية او لا ابداع ولا دراسات ولا اعمال درامية ولا مقاربات دون ذاكرة، ساعة يبحث الكاتب عن ذاكرته فلا يجدها فاعلم ان معين الابداع قد نفذ وان العين التي يتذوق منها الماء رقراقا سلسبيلا قد نضب وجفت.

**كيف تقرأ اليوم المدونة السردية التونسية بعد2011؟

-انها على قدر عناية وزارة الثقافة بالابداع والفكر والادب والفن واستطيع ان أقول انها بخير. ولعل انسب توصيف لها ما جاء على لسان المرحوم حسين الجزيري معارضا لبيت شعري لابي الطيب المتنبي

على قدر اهل العيد تأتي العصائد

وتأتي على قدر الضيوف الموائد

**أعلنت سنة2012 عن مقاطعتك التعامل مع التلفزة الوطنية في كتابة الاعمال الدرامية. الان وبعد حوالي احد عشر عاما، هل ما زلت على هذا الموقف ؟

-سؤال في محله. انا كنت مطاردا من قبيل جهات متنفذة داخل المؤسسة. الان لا ادري هل تلك الجهات مازالت هي الفاعلة ام ازدادت نفوذا ام تقلص نفوذها ذهبت الى حال سبيلها. سؤال قد تجيب عليه المؤسسة الوطنية وعلى اية حال فان حال الأيام ستتكفل بالاجابة. ويستمر الصراع على اية حال فان الحركة التصحيحية التي يقوم بها سيادة رئيس الجمهورية والعناية الفائقة التي يوليها لهذه المؤسسة والحرص على تغيير تعاملها مع المبدعين سيكون لفائدة الجميع

**لماذا من وجهة نظرك لا نجد مسلسلات تاريخية في انتاجنا الدرامي التونسي، اين يبدو التقصير في ذلك؟

يجب أولا على مؤسساتنا الوطنية ان يكون لديها قدر كبير من محبة تاريخنا وما حفل به من احداث مشرفة تضيء صورة تونس لدى البلدان الأخرى. انني اعلم كما تعلم ان هؤلاء الاخرين لهم اهتمام متجدد ببلدنا ولكي لا يتضاءل هذا الاهتمام ولا يندثر على المؤسسات بناء رؤية واضحة لدورها في المسيرة الوطنية حاضرا ومستقبلا. حين يتوفر هذا الاهتمام والتقدير والاعتزاز بتاريخ تونس سيفسح المجال لإنجاز اعمال درامية تاريخية لكن وبالتوازي مع ذلك يجب ان توفر لمؤسسة التلفزة الوطنية اعتمادات مالية كافية مناسبة لإقامه شبكة اعمال درامية وانجازها فدون اعتمادات مالية يظل المسؤول الأول او المسؤولة عن المؤسسة الوطنية مكتوف الايدي لا تقدر على الرقي بالمؤسسة الى مصاف المؤسسات التلفزية في بلدان كثيرة من حولنا وفي العالم.

**لماذا لا نعيش هذه الأيام حراكا ثقافيا وفكريا عربيا مزلزلا تفاعلا مع ما يعيشه قطاع غزة من دمار وتدمير صهيوني غاشم ؟

-المثقف في العالم العربي اليوم ثلاثة أطياف في كل الازمان والامصار.

صنف اول باعت فيه المخابرات الغربية واشترت فيه. فهو عميل يقضي أيامه متسكعا في العواصم الغربية بين مكاتب الاستعلامات يقدم لها ما جمع من اخبار واسرار حول بلده وبين الفنادق الفخمة يحتسي القهوة ويدخن السيجار ويدفع مما قبض ثمن عمالته وهذا طيف مستعد ان يبيع وطنه وعائلته وابناءه فهو فاقد للإحساس بالانتماء وهو الذي ساهم بقدر كبير في اجتياح القوات الامريكية للعراق ويسر الطريق امام المخابرات الصهيونية والفرق المهجورة الخاصة للسطو على الاثار الوطنية العراقية وافراغ المتاحف من اهم كنوزها الاثرية والمكتبات من اهم مؤلفاتها التراثية وهو نفس الطيف الذي تكونت منه عصابات "داعش" ونوعية من المعارضات السورية التي دمرت سوريا بهدف اخضاعها الى دوائر الاستعمار الصهيونية الغربية .

طيف ثان قد يكون وطنيا بأتم معنى الكلمة لكنه محاصر في وطنه وانفاسه معدودة والتعبير عن همومه وطموحاته وقضايا وطنه محددة مقننة فان تجاوز مضمون خطاب الحاكم عُزل من وظيفه وحُجزت مرتباته وكثيرا ما يُرمى في غياهب السجون ولا يُغادرها الا بعد ان يُعشش الفناء في عظامه.

طيف ثالث ، طيف ساكن صامت مُطيع يعلم حدود الكلام وواجب الطاعة قد يكون روائيا او قصاصا او مفكرا منظرا او محاضرا او رجل مسرح او رساما او مدرسا في الثانوي او إعلاميا في المكتوب او المرئي او المسموع مسموح له ضمنيا إقامة ندوة او لقاء او تظاهرة تُوزع فيها التكريمات الهزيلة الفارغة من أي معنى يليق بالكاتب او المثقف والفنان.

وان تعدى حدوده واتجه الى الوزارة او المؤسسة عشرين مرة بالبرقيات و"الفاكسات" والرسائل طالبا توضيحا او تدخلا او رفع غبن او مظلمة فلن ترد عليه الجهة المعنية نكاية وتشفيا وامعانا في الاحتقار والتسلط واعتزازا بالإثم واذا اردت ادلة فهي لدي حاضرة وجاهزة.

الامل الوحيد الذي ينبثق فقط الثورة التصحيحية التي تسعى فيما تسعى الى هدم الاصنام وتغيير السلوكيات وبناء علاقات صحيحة بين اهل القرار وبين أصحاب الحق وهي ثورة ستكون طويلة شاقة مضنية لان عدد أعداء هذه الثورة كبير وعدتهم كثيرة ونفوسهم مسكونة بالإثم والشراسة والشر واللهفة على التملك بالثورة والتحكم في الرقاب فلا وطن لهم ولا تاريخ ولا حضارة ولا اشعاع.

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews