*القطيعة المؤسساتية الحاصلة حاليا بين السلطة الحاكمة في فرنسا وجموع المواطنين قد تصاعدت خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد أن أمعنت حكومة إيمانويل ماكرون في تطبيق سياسات اجتماعية مرفوضة شعبيا، كما بينه التصويت عليها في البرلمان.
صحفي باحث في الإعلام والصحافة
في كل مرة تتجدد فيها أحداث عنف أو شغب أو إرهاب في الدول العريقة في الديمقراطية وحرية التعبير على غرار أوروبا وأمريكا ، إلا وتعالت أصوات المنظرين للسلطة الحاكمة أو لمعارضيها، بالتقريع أو المساندة لهذا الجناح أو ذاك داعية، إلى التعامل "بحزم " و"تطبيق القانون ضد الخارجين عنه"، مثلما جرى هذه الأيام بفرنسا من حرق لمؤسسات عمومية وخاصة وإشاعة للرعب والإرهاب في مجتمع ديمقراطي وضع مبدئيا الآليات المناسبة لحماية الحرية والديمقراطية التي يقوم عليها نموذجه المجتمعي الديمقراطي العريق والمُمَأْسَس.
وأمام حالات الانفلات المجتمعي واختلاط أعمال الشغب بالإرهاب وتصاعد المخاطر التي تحيط بالأمن القومي وتهدد بانهيار الدولة ، تجد الصحافة ومختلف وسائل الإعلام القديمة والمستحدثة، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي، نفسها في أتون المواجهة مع الحقيقة ومع مصداقيتها في المجتمع. وتنهال عليها سياط الوقف والتعتيم والرقابة. ويطرح ذلك حدود حرية الصحافة ، حسب الأنظمة والمجتمعات وقوانينها وتشريعاتها من عصر إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر حسب القيم والأعراف السائدة فيها.
وفي أية دولة يسود فيها القانون، يظل المشرّع هو الحكم والفيصل في تحديد حدود هذه الحرية، أخذا بعين الاعتبار القيم المتعارفة في المجتمع من جهة، وأخلاقيات العمل الصحفي في احترام خصوصيات الأشخاص والمجموعات، من جهة أخرى.
وأمام التجاوزات التي تحصل في عالم الصحافة على مستوى أخلاقيات المهنة، يطرح الكثير من الباحثين حدود تلك الحرية متسائلين: هل يمكن فرض حدود لحرية الصحافة؟ . وهو التساؤل الذي طرحه أستاذ العلوم السياسية والصحافة الفرنسي فرانسيس بال، في دراسته الصادرة عام 1992 بمجلة "الإعلام في المغرب الكبير" والتي تحمل عنوان "هل يجب فرض حدود لحرية الصحافة؟"، ملاحظا أن القوانين لا تكفي فقط. فهناك الأخلاق وشرف المهنة. ويقول بال في هذا الصدد: "في كل ديمقراطية أو غيرها، تبقى التشريعات والقوانين وأدواتها وسائل لتحقيق الحرية وتنظيمها وضبطها وحمايتها، وهي شروط ضرورية ولكن غير كافية لضمان حرية الكلمة، بل يتوجب إضافة عناصر لا تقل أهمية عن القوانين وهي الأخلاق السائدة والقيم الجماعية والأفكار المهيمنة والتي هي في الحقيقة الموجه الأساسي لدى صياغة القوانين وهي وحدها التي تعطي معنى لهذه القوانين، لأنها تضمن في النهاية تنفيذها".
وتندرج في هذا الإطار المسائل المتصلة بالأمن العمومي أو الخاص إذا كانت ممارسة حرية الصحافة تمس من باقي الحريات الإنسانية الأخرى، سواء للأشخاص أو المجموعات بما يهدد سمعتهم أو أمنهم أو استقرارهم. ويبقى الأمر في هذه الحالات مرتبطا بضبط حدود تلك الحرية حسب ما حددها القانون.
وفي فرنسا ، رغم الجانب الليبرالي في قانون الصحافة لعام 1881، فإنها كديمقراطية عريقة وضعت حدودا لحرية الصحافة في عدة مناسبات تاريخية، كان فيها الأمن الوطني مهددا، على غرار حرب الجزائر حيث أخضعت الصحافة للرقابة، وخلال حرب الخليج وخلال الحرب ضد الإرهاب عام 2014 ثم خلال الحرب الأوكرانية الروسية التي تجري الآن وقائعها وما تشهده من تعتيم وتضليل من هنا وهناك.
وتبقى القوانين، رغم ليبراليتها وتوجهها نحو تيسير تسامح الإدارة حيال تجاوزات الحرية، مرتبطة بالإطار العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي واجتهادات القضاة وتوجهاتهم الشخصية والفكرية وكذلك الفاعلين في الجهاز الإداري.
وفي فرنسا وسائر الدول التي تدور في فلكها سياسيا ولغويا وفكريا، تطرح مسألة مدى استقلالية من يسهرون على الرقابة، حيث يشير كثيرون إلى أن التوجه الليبرالي للرقابة المسبقة التي تقوم بها عدة هيئات رقابية يطرح مسألة مدى استقلال أعضاء هذه الهيئات الرقابية حيال الأحزاب السياسية والسلطة السياسية الحاكمة أو المتمترسة في المعارضة، وكذلك في علاقة هؤلاء بالمجتمع المدني ومكونات قوى الضغط على السلطة داخله. ويتعلق الأمر بالنسبة لفرنسا بأعضاء المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري (سي. أس. أ) وبأعضاء اللجنة الوطنية للنفاذ إلى الوثائق الإدارية.
تهديد الأمن القومي
وفي حالات تهديد الأمن القومي وخاصة بواسطة الإرهاب، قامت فرنسا بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس يوم 13 نوفمبر 2015 من قبل مجموعات إرهابية تابعة لإرهابيي "الدولة الإسلامية بالعراق والشام" (داعش)، بإعلان حالة الطوارئ وتمديدها. واجتمع البرلمان وصادق على تعديلات أدخلت بمقتضاها حالة الطوارئ في الدستور وقرر دستورية تمديدها كل أربعة أشهر. علما بأن حالة الطوارئ تسمح لقوات الأمن بحرية التحرك السريع لمداهمة منازل مشبوهة حتى في الليل ووضع أشخاص قيد الإقامة الجبرية والمراقبة الإدارية دون تفسير لذلك مع تمكين الإدارة سلطة سحب الجنسية الفرنسية من المورطين .
وخلال الفترات المتسمة بالعنف الداخلي والإرهاب، تعالت عدة أصوات من المجتمع المدني والحقوقيين للتنديد بحالة الطوارئ في مجتمع ديمقراطي كفرنسا، لأنها تحد من حرية الأفراد حيث "تسحب الأوراق الشخصية من المحكوم عليه وتفرض عليه الإقامة الجبرية وضرورة التحول يوميا إلى مركز شرطة المكان للإمضاء على الحضور الإجباري لدى البوليس ثلاث مرات في اليوم. ويحجر عليه الاتصال بالأشخاص الذين منعت السلطات عليه التواصل معهم . ولكن لا يسحب منه هاتفه الجوال أو كمبيوتره الشخصي الذي يصبح خاضعا للمراقبة الأمنية اللصيقة ، باعتبار أن النفاذ إلى الأنترنات هي حرية دستورية " كما جاء في القانون الزجري للجرائم الإرهابية.
وفي كل مرة تندد عدة منظمات فرنسية وعالمية عاملة في مجال حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان بالإجراءات الاستثنائية التي تفتح الباب أمام انتهاكات لحقوق الإنسان وتضييق للحريات، محذرة من مخاطر تحول الدولة الديمقراطية إلى دولة بوليسية بدواعي الأمن والسلامة، عبر الإيقافات العشوائية وتشديد العقوبات السجنية والإيقاف التحفظي . وقد نددت مؤخرا هذه الجمعيات وكذلك الأمم المتحدة بالمناسبة بالاستعمال المفرط للقوة من طرف الشرطة ضد المتظاهرين في فرنسا.
واعتبرت أصوات أخرى من داخل البرلمان أن قوانين الجمهورية ودولة القانون لها ترسانة كافية من القوانين الردعية لمكافحة الإرهاب دون اللجوء إلى القوانين الاستثنائية التي تصادر الحريات، العمود الفقري للديمقراطية. وذكر عدد من نواب البرلمان الذين امتنعوا عن التصويت وكانوا قلة أن "إعلان حالة الطوارئ في عام 1961 في أوج حرب الجزائر، صاحبتها مجازر ارتكبتها القوات الفرنسية دون مساءلة، وهي لم تمنع الثورة الجزائرية من الانتصار، بل شوهت القيم الجمهورية والديمقراطية لفرنسا".
ونددت تعاليق عدة صحف فرنسية بإعلان حالة الطوارئ والتمديد اللانهائي لها بدواعي الأمن القومي معتبرة أن ذلك يشكل سلطة استثنائية منافية لدولة ديمقراطية. واعتبرت صحيفة "لوموند" في تعليق تهكمي تحت عنوان ( ليس كل يوم نقوم بتعديل الدستور) تقول بالخصوص : "حالة الطوارئ تعني توسيع سلطات الدولة القوية لتحجيم دور المعارضة وهي حالة استثنائية تستغل خوف المواطنين من الإرهاب والفوضى لتقييد حرياتهم ".
واعتبر وزير العدل الأسبق في فرنسا وأستاذ القانون الدستوري ورئيس المجلس الدستوري من 1986 الي 1995 ، روبار بادِنْتار، في عدة تصريحات صحفية أن مقاومة الإرهاب والعنف يجب أن تتم في إطار احترام قوانين الجمهورية ملاحظا أن "الخطوط الحمراء لا يمكن تجاوزها وأن الإرهاب يريد خلق حرب بين المجموعات المتعايشة في المجتمع الديمقراطي الفرنسي وتقويض أسس الديمقراطية نفسها " .
كما اكد روبار بادنتار، الذي له مواقف سياسية وحقوقية مساندة إلى أقصى الحدود لاحترام الحريات وحقوق الأقليات الاجتماعية والفكرية وإلغاء عقوبة الإعدام، أنه يجب التصدي إلى الإرهاب والخروج عن القانون "بكل حزم" مؤكدا في تصريحات أخرى واضحة أن "دولة القانون ليست دولة الضعف".
ويعتقد كثير من المحللين أن القطيعة المؤسساتية الحاصلة حاليا بين السلطة الحاكمة في فرنسا وجموع المواطنين قد تصاعدت خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد أن أمعنت حكومة إيمانويل ماكرون في تطبيق سياسات اجتماعية مرفوضة شعبيا، كما بينه التصويت عليها في البرلمان. وقد قامت في فيفري 2023 بالمصادقة والمرور بقوة على القانون المثير للجدل حول رفع سن التقاعد من 62 سنة الي 64 سنة بعد أكثر من ثلاثة أشهر من النقاش والإضرابات العامة التي شلت البلاد . ومثل ذلك تجاوزا للسلطة التشريعية الممثلة للشعب من قبل السلطة التنفيذية. ولكنها عملية يسمح بها الدستور في فصله 3/49 يمكن بمقتضاها للحكومة المصادقة على قانون دون عرضه علي البرلمان للمصادقة، وذلك تفاديا للشلل الحكومي والمؤسساتي. وقد استعملت هذا الفصل من دستور 1958 مختلف الحكومات اليمينية واليسارية للجمهورية الخامسة حفاظ على سير مؤسسات الدولة وحماية للأمن الوطني . ولكن رد الشعب كان في الشارع تظاهرا وحرقا وتدميرا. وهذا ما يتطلب مراجعة النظام السياسي والدستوري للجمهورية الخامسة المتكلسة منذ إقرارها في عام 1958 والتي وصلت إلى نهايتها، حسب كثيرين .
بقلم د. الصحراوي قمعون
*القطيعة المؤسساتية الحاصلة حاليا بين السلطة الحاكمة في فرنسا وجموع المواطنين قد تصاعدت خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد أن أمعنت حكومة إيمانويل ماكرون في تطبيق سياسات اجتماعية مرفوضة شعبيا، كما بينه التصويت عليها في البرلمان.
صحفي باحث في الإعلام والصحافة
في كل مرة تتجدد فيها أحداث عنف أو شغب أو إرهاب في الدول العريقة في الديمقراطية وحرية التعبير على غرار أوروبا وأمريكا ، إلا وتعالت أصوات المنظرين للسلطة الحاكمة أو لمعارضيها، بالتقريع أو المساندة لهذا الجناح أو ذاك داعية، إلى التعامل "بحزم " و"تطبيق القانون ضد الخارجين عنه"، مثلما جرى هذه الأيام بفرنسا من حرق لمؤسسات عمومية وخاصة وإشاعة للرعب والإرهاب في مجتمع ديمقراطي وضع مبدئيا الآليات المناسبة لحماية الحرية والديمقراطية التي يقوم عليها نموذجه المجتمعي الديمقراطي العريق والمُمَأْسَس.
وأمام حالات الانفلات المجتمعي واختلاط أعمال الشغب بالإرهاب وتصاعد المخاطر التي تحيط بالأمن القومي وتهدد بانهيار الدولة ، تجد الصحافة ومختلف وسائل الإعلام القديمة والمستحدثة، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي، نفسها في أتون المواجهة مع الحقيقة ومع مصداقيتها في المجتمع. وتنهال عليها سياط الوقف والتعتيم والرقابة. ويطرح ذلك حدود حرية الصحافة ، حسب الأنظمة والمجتمعات وقوانينها وتشريعاتها من عصر إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر حسب القيم والأعراف السائدة فيها.
وفي أية دولة يسود فيها القانون، يظل المشرّع هو الحكم والفيصل في تحديد حدود هذه الحرية، أخذا بعين الاعتبار القيم المتعارفة في المجتمع من جهة، وأخلاقيات العمل الصحفي في احترام خصوصيات الأشخاص والمجموعات، من جهة أخرى.
وأمام التجاوزات التي تحصل في عالم الصحافة على مستوى أخلاقيات المهنة، يطرح الكثير من الباحثين حدود تلك الحرية متسائلين: هل يمكن فرض حدود لحرية الصحافة؟ . وهو التساؤل الذي طرحه أستاذ العلوم السياسية والصحافة الفرنسي فرانسيس بال، في دراسته الصادرة عام 1992 بمجلة "الإعلام في المغرب الكبير" والتي تحمل عنوان "هل يجب فرض حدود لحرية الصحافة؟"، ملاحظا أن القوانين لا تكفي فقط. فهناك الأخلاق وشرف المهنة. ويقول بال في هذا الصدد: "في كل ديمقراطية أو غيرها، تبقى التشريعات والقوانين وأدواتها وسائل لتحقيق الحرية وتنظيمها وضبطها وحمايتها، وهي شروط ضرورية ولكن غير كافية لضمان حرية الكلمة، بل يتوجب إضافة عناصر لا تقل أهمية عن القوانين وهي الأخلاق السائدة والقيم الجماعية والأفكار المهيمنة والتي هي في الحقيقة الموجه الأساسي لدى صياغة القوانين وهي وحدها التي تعطي معنى لهذه القوانين، لأنها تضمن في النهاية تنفيذها".
وتندرج في هذا الإطار المسائل المتصلة بالأمن العمومي أو الخاص إذا كانت ممارسة حرية الصحافة تمس من باقي الحريات الإنسانية الأخرى، سواء للأشخاص أو المجموعات بما يهدد سمعتهم أو أمنهم أو استقرارهم. ويبقى الأمر في هذه الحالات مرتبطا بضبط حدود تلك الحرية حسب ما حددها القانون.
وفي فرنسا ، رغم الجانب الليبرالي في قانون الصحافة لعام 1881، فإنها كديمقراطية عريقة وضعت حدودا لحرية الصحافة في عدة مناسبات تاريخية، كان فيها الأمن الوطني مهددا، على غرار حرب الجزائر حيث أخضعت الصحافة للرقابة، وخلال حرب الخليج وخلال الحرب ضد الإرهاب عام 2014 ثم خلال الحرب الأوكرانية الروسية التي تجري الآن وقائعها وما تشهده من تعتيم وتضليل من هنا وهناك.
وتبقى القوانين، رغم ليبراليتها وتوجهها نحو تيسير تسامح الإدارة حيال تجاوزات الحرية، مرتبطة بالإطار العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي واجتهادات القضاة وتوجهاتهم الشخصية والفكرية وكذلك الفاعلين في الجهاز الإداري.
وفي فرنسا وسائر الدول التي تدور في فلكها سياسيا ولغويا وفكريا، تطرح مسألة مدى استقلالية من يسهرون على الرقابة، حيث يشير كثيرون إلى أن التوجه الليبرالي للرقابة المسبقة التي تقوم بها عدة هيئات رقابية يطرح مسألة مدى استقلال أعضاء هذه الهيئات الرقابية حيال الأحزاب السياسية والسلطة السياسية الحاكمة أو المتمترسة في المعارضة، وكذلك في علاقة هؤلاء بالمجتمع المدني ومكونات قوى الضغط على السلطة داخله. ويتعلق الأمر بالنسبة لفرنسا بأعضاء المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري (سي. أس. أ) وبأعضاء اللجنة الوطنية للنفاذ إلى الوثائق الإدارية.
تهديد الأمن القومي
وفي حالات تهديد الأمن القومي وخاصة بواسطة الإرهاب، قامت فرنسا بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس يوم 13 نوفمبر 2015 من قبل مجموعات إرهابية تابعة لإرهابيي "الدولة الإسلامية بالعراق والشام" (داعش)، بإعلان حالة الطوارئ وتمديدها. واجتمع البرلمان وصادق على تعديلات أدخلت بمقتضاها حالة الطوارئ في الدستور وقرر دستورية تمديدها كل أربعة أشهر. علما بأن حالة الطوارئ تسمح لقوات الأمن بحرية التحرك السريع لمداهمة منازل مشبوهة حتى في الليل ووضع أشخاص قيد الإقامة الجبرية والمراقبة الإدارية دون تفسير لذلك مع تمكين الإدارة سلطة سحب الجنسية الفرنسية من المورطين .
وخلال الفترات المتسمة بالعنف الداخلي والإرهاب، تعالت عدة أصوات من المجتمع المدني والحقوقيين للتنديد بحالة الطوارئ في مجتمع ديمقراطي كفرنسا، لأنها تحد من حرية الأفراد حيث "تسحب الأوراق الشخصية من المحكوم عليه وتفرض عليه الإقامة الجبرية وضرورة التحول يوميا إلى مركز شرطة المكان للإمضاء على الحضور الإجباري لدى البوليس ثلاث مرات في اليوم. ويحجر عليه الاتصال بالأشخاص الذين منعت السلطات عليه التواصل معهم . ولكن لا يسحب منه هاتفه الجوال أو كمبيوتره الشخصي الذي يصبح خاضعا للمراقبة الأمنية اللصيقة ، باعتبار أن النفاذ إلى الأنترنات هي حرية دستورية " كما جاء في القانون الزجري للجرائم الإرهابية.
وفي كل مرة تندد عدة منظمات فرنسية وعالمية عاملة في مجال حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان بالإجراءات الاستثنائية التي تفتح الباب أمام انتهاكات لحقوق الإنسان وتضييق للحريات، محذرة من مخاطر تحول الدولة الديمقراطية إلى دولة بوليسية بدواعي الأمن والسلامة، عبر الإيقافات العشوائية وتشديد العقوبات السجنية والإيقاف التحفظي . وقد نددت مؤخرا هذه الجمعيات وكذلك الأمم المتحدة بالمناسبة بالاستعمال المفرط للقوة من طرف الشرطة ضد المتظاهرين في فرنسا.
واعتبرت أصوات أخرى من داخل البرلمان أن قوانين الجمهورية ودولة القانون لها ترسانة كافية من القوانين الردعية لمكافحة الإرهاب دون اللجوء إلى القوانين الاستثنائية التي تصادر الحريات، العمود الفقري للديمقراطية. وذكر عدد من نواب البرلمان الذين امتنعوا عن التصويت وكانوا قلة أن "إعلان حالة الطوارئ في عام 1961 في أوج حرب الجزائر، صاحبتها مجازر ارتكبتها القوات الفرنسية دون مساءلة، وهي لم تمنع الثورة الجزائرية من الانتصار، بل شوهت القيم الجمهورية والديمقراطية لفرنسا".
ونددت تعاليق عدة صحف فرنسية بإعلان حالة الطوارئ والتمديد اللانهائي لها بدواعي الأمن القومي معتبرة أن ذلك يشكل سلطة استثنائية منافية لدولة ديمقراطية. واعتبرت صحيفة "لوموند" في تعليق تهكمي تحت عنوان ( ليس كل يوم نقوم بتعديل الدستور) تقول بالخصوص : "حالة الطوارئ تعني توسيع سلطات الدولة القوية لتحجيم دور المعارضة وهي حالة استثنائية تستغل خوف المواطنين من الإرهاب والفوضى لتقييد حرياتهم ".
واعتبر وزير العدل الأسبق في فرنسا وأستاذ القانون الدستوري ورئيس المجلس الدستوري من 1986 الي 1995 ، روبار بادِنْتار، في عدة تصريحات صحفية أن مقاومة الإرهاب والعنف يجب أن تتم في إطار احترام قوانين الجمهورية ملاحظا أن "الخطوط الحمراء لا يمكن تجاوزها وأن الإرهاب يريد خلق حرب بين المجموعات المتعايشة في المجتمع الديمقراطي الفرنسي وتقويض أسس الديمقراطية نفسها " .
كما اكد روبار بادنتار، الذي له مواقف سياسية وحقوقية مساندة إلى أقصى الحدود لاحترام الحريات وحقوق الأقليات الاجتماعية والفكرية وإلغاء عقوبة الإعدام، أنه يجب التصدي إلى الإرهاب والخروج عن القانون "بكل حزم" مؤكدا في تصريحات أخرى واضحة أن "دولة القانون ليست دولة الضعف".
ويعتقد كثير من المحللين أن القطيعة المؤسساتية الحاصلة حاليا بين السلطة الحاكمة في فرنسا وجموع المواطنين قد تصاعدت خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد أن أمعنت حكومة إيمانويل ماكرون في تطبيق سياسات اجتماعية مرفوضة شعبيا، كما بينه التصويت عليها في البرلمان. وقد قامت في فيفري 2023 بالمصادقة والمرور بقوة على القانون المثير للجدل حول رفع سن التقاعد من 62 سنة الي 64 سنة بعد أكثر من ثلاثة أشهر من النقاش والإضرابات العامة التي شلت البلاد . ومثل ذلك تجاوزا للسلطة التشريعية الممثلة للشعب من قبل السلطة التنفيذية. ولكنها عملية يسمح بها الدستور في فصله 3/49 يمكن بمقتضاها للحكومة المصادقة على قانون دون عرضه علي البرلمان للمصادقة، وذلك تفاديا للشلل الحكومي والمؤسساتي. وقد استعملت هذا الفصل من دستور 1958 مختلف الحكومات اليمينية واليسارية للجمهورية الخامسة حفاظ على سير مؤسسات الدولة وحماية للأمن الوطني . ولكن رد الشعب كان في الشارع تظاهرا وحرقا وتدميرا. وهذا ما يتطلب مراجعة النظام السياسي والدستوري للجمهورية الخامسة المتكلسة منذ إقرارها في عام 1958 والتي وصلت إلى نهايتها، حسب كثيرين .