هل تعيش الإمبراطورية الأوروبية هذه الأيام وضعية الإمبراطورية العثمانية منذ قرنين حين وصفها المؤرخون الأوروبيون تهكما وازدراءً بأنها "الرجل المريض في الأستانة"، لم يبق له من القوة والجبروت الإمبراطوري غير "ألقاب سلطنة في غير مملكة كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد"، كما قال الشاعر ابن رشيق القيرواني سابقا في ملوك الطوائف بالأندلس.
كل الدلائل والمؤشرات الجغراسياسية والإحصائية تفيد أن العالم والساحة الدولية تعيش حالة مخاض منذ العشريتين الأخيرتين يستهدف تغيير التوازنات الموروثة عن نتائج الحرب العالمية الثانية عام 1945 والتي سطر حدودها المنتصرون في أوروبا وأمريكا، ولم يكن فيها لسكان العالم الثالث في أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية أي دور يذكر .
إنه عالم جديد صاعد يريد بناء عالم متعدد الكيانات والأقطاب الإقليمية والدولية بعيدا عن القيم السياسية والدينية الذي سيطرت على العالم خلال العقود الأخيرة، ومثلت استمرارا للحقبة الاستعمارية الأوروبية منذ ثلاثة قرون كاملة .
لقد بدأت تطرق باب العالم الجديد بوادر علاقات دولية جديدة جسمتها اندلاع حرب أوكرانيا في قلب أوروبا، بعد أن كانت القارة العجوز تدير حروبا وتدخلات إقليمية ودولية في كل من فيتنام والعراق وليبيا وأفغانستان، وكانت كلها في مناطق الشرق الأوسط وإفريقيا واسيا. وهاهي الحرب الاوكرانية الروسية الأخيرة جاءت لأول مرة منذ 1945 في قلب أوروبا مهددة الكيان الأوروبي بالإزاحة من مربع الحكم وصولجانه أمام قوى صاعدة اقتصاديا وعسكريا وماليا.
لقد كشفت توازنات القوى العظمي الجديدة عن صعود قوى إقليمية جديدة لعل أبرزها الصين ومعها الهند ودول البريكس الجديدة المتوسعة بنهم لاحتلال العالم على أنقاض إمبراطورية أوروبا وقوتها الضاربة إلي حين الولايات المتحدة الامريكية . لقد أصبحت هذه القوى الجديدة فاعلة وتريد التأثير في الواقع الدولي الناجم عن الحرب العالمية الثانية عام 1945 التي فرضت السلم الأمريكي "بَاكْسْ أمَرِيكَانَا" على غرار "بَاكْسْ رُومَانَا" الذي فرضته روما على قرطاج والمتوسط لقرون في الماضي. وكما فرض العرب "بَاكْسْ أرَابِيكَا" على نفس البحر المتوسط طوال العصر الوسيط .
اليوم هناك قوى جديدة لبلدان جنوب الكرة الأرضية وجنوب شرقي أسيا، طامحة جماعيا إلى أخذ مكانها في الشمس وممارسة حق السيادة والحكم في مصيرها الداخلي وفي العلاقات الإقليمية والدولية أيضا، بعيدا عن هيمنة أبناء الشمال الأوروبي الذين طال أمد حكمهم للعالم بسبب قوتهم ومنعتهم التجارية والصناعية والعسكرية الضاربة. ولكن المؤشرات الخلدونية تفيد بأن القوة الاقتصادية والصنائع المتمثلة في "مصنع العالم" قد انتقل خلال العشريات الأخيرة من أمريكا إلى الصين، كما كان تحول في بداية القرن الماضي عام 1900 من أوروبا إلى أمريكا، ولكنه لم يخرج في الواقع من أيدي الغرب الذي ظل حكمه الروماني الاستعماري مسيطرا على العالم لقرون عدة منذ 1492، التاريخ المتزامن لسقوط غرناطة الإسلامية واكتشاف أمريكا الأوروبية.
وقد تحولت نتيجة ذلك عملية خلق الثروة والرخاء إلى قارة أسيا، مثلما تدل عليه إحصائيات البنك الدولي حول الناتج الداخلي الخام الذي بلغ عام 2022 خمسا وعشرين تريليون دولار للولايات المتحدة الأمريكية، تليها الصين بعشرين تريليون دولار، تليها اليابان في المرتبة الثالثة بتسع تريليون دولار، وتتبعها باقي القوى الصناعية.
واليوم وقد تغيرت المعطيات الجيوستراتيجية وأصاب الإنهاك والوهن الغرب الروماني المسيحي، تأتي قوى جديدة لها اندفاع وعصبية متوقدة للثأر التاريخي، خاصة وأن لها إرثا حضاريا منذ ألاف السنين وهي الصين الحكيمة والهند الحضارية وروسيا القيصرية وإيران الفارسية وتركيا العثمانية والمجر الإمبراطورية. وهي قوى لها |أنظمة سياسية تعتمد السلطوية والديمقراطية الخصوصية البعيدة عن النموذج الغربي الكلاسيكي وهي تضم أيضا الهند أكبر ديمقراطية في العالم. كلها دول مصطفة في مواجهة إمبراطورية أمريكا وحليفتها أوروبا القديمة والجديدة، وقد بدأت تغيب الشمس عن ممالكها منذ موجة حق الشعوب في تقرير مصيرها واستقالات العالم الثالث في ستينات القرن الماضي، ومؤخرا خروج فرنسا قسرا من دول مستعمرة سابقة لها في إفريقيا تاركة مكانها لروسيا والصين وتركيا وإيران التي عوضت المستعمر السابق .
في هذا التطور التاريخي والحرب الكونية المنتظرة اقتصاديا، تجد أوروبا نفسها في قلب المعركة ملقاة في معبد التضحية بها، بعد أن قررت أمريكا القوة العسكرية الأولى إلى حد الآن (خمسين بالمائة من نفقات العالم العسكرية) دفع أوروبا القديمة في محرقة أوكرانيا وفرض عليها فيها تقديم دعم بمئات مليارات الدولارات للمجهود الحربي الأوكراني في مواجهة روسيا.
وتجد أوربا نفسها اليوم مترنحة في خضم اللعبة الأوكرانية. وهي تبدو مثل الرجل المريض الممدود في بروكسال، مثلما كانت الإمبراطورية العثمانية الرجل الممدود على فراش الإنعاش في الأستانة التي كانت ممالكها وإيالاتها في العالم الإسلامي تحتلها القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية الواحدة تلو الأخرى (الجزائر في 1830 وتونس ومصر في 1881) دون ان تستطيع فعل شيء بعد مؤتمر برلين لعام 1871 الذي قسم ممتلكات الرجل المريض في الأستانة بين القوى الاستعمارية الأوروبية المتقاتلة على ممالك السلطان العثماني .
وإذا كانت أدبيات المؤرخين الأوروبيين تبالغ في وصف حالة الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، وتطلق عليها تهكما لقب "الرجل المريض" فان هذا التشبيه ينطبق اليوم علي أوروبا التي يمكن القول إنها الرجل المريض للمنتظم الدولي الناشئ بعد أن أفتكت الصين وروسيا إيالات الإمبراطورية الفرنسية والبريطانية في افريقيا (مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا) التي كانت مهد الاستعمار الأوروبي بمختلف موجاته البلجيكية والألمانية والايطالية والفرنسية والبريطانية.
في حرب أوكرانيا يواجه الغرب الأطلسي قوة نووية ضاربة (روسيا والصين). وهذه ليست دولا محدودة الإمكانيات حد الفقر مثل العراق وأفغانستان وليبيا، مما كشف مدى العجز الذي تعاني منه أوروبا المتشظية التي أصيبت بالركود الاقتصادي والتضخم وتدهور الأوضاع المعيشية لسكانها، وذلك بعد عام فقط من حرب استنزاف على الجبهة الشرقية قد تطول سنوات.لقد اندفعت أوروبا سياسيا وعسكريا في هذه الحرب المعادية لمصالحها الأساسية ومجالها الحيوي الذي كان يمكن أن يضم إليه روسيا الراغبة في حماية حدودها حد الانضمام إلى فضاء أوروبا، مكانها الطبيعي في أوراسيا، التي يمكن أن تفتح أوروبا واسعة مفتوحة بندية وسيادية على دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط وعواصمها التاريخية مثل قرطاج المقابلة لروما. وهذا سيناريو تعاون ، كما هو الحال الآن لدى الولايات المتحدة مع جارتيها كندا والمكسيك وباقي المجال الحيوي الأمريكي في أمريكا اللاتينية. ولكن أنّى لأميركا أن تقبل بعدم إشعال النار في المرقد الأوروبي المتعود بطبعه على إشعال نيران حروب عالمية، في سيناريهات تأتي فيها بعدها أمريكا كالحماية المدنية لإطفاء الحريق وإسعاف ألجرحى وإعادة بناء ما دمرته الحرب بمشروع إعمار مارشال جديد ومتجدد تجدد الحروب العدوانية لشقاق الفوضى الخلاقة.
وفي نظر المحللين الاستراتيجيين الموضوعيين، فإن مكانة أوروبا بالصيغة القديمة المعولة على الحلف الأطلسي (ناتو) وعلى المظلة النووية الأمريكية قد انتهت في المحفل الدولي. وعلى الأوروبيين البحث عن صيغة تعاون جديدة أقل عدوانية استعماراتية وهيمنة أطلسية على العالم والبحر المتوسط. وقد فشلت في السنوات الأخيرة محاولات التحشيد لإنشاء ناتو عربي وناتو إسلامي وناتو إفريقي لإدامة الهيمنة الغربية على العالم.
واليوم تبدو معالم تشكل نظام عالمي جديد قد بدأت فعليا . وتمثل الحرب الأوكرانية الروسية مظهره الجلي لأن الغرب لم يعد سيد العالم وشرطيه وقاضيه كما كان. بل لم يعد قادرا على فرض إرادته الاقتصادية عبر صندوق النقد الدولي، وعملتي الدولار واليورو أو العسكرية عبر الناتو والقصف الجوي كما جرى في يوغسلافيا وليبيا . ولم يعد أيضا قادرا على فرض إرادته وقوانينه وقيمه في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن أظهر على مدى عقود وقرون أنه مكيافيلي المنهج والسياسة، وأن مصالحه المادية النفعية هي التي تتحكم في صيرورة ومآلات الأحداث .
ويبدو ضروريا أن يتعود الغرب وأزلامه على ظهور ووجود أقاليم إقليمية عالمية لا تقاسم الغرب قيمه التي فرضها تارة بالحديد والنار والتدخلات المباشرة وحروب الوكالات، وطورا بالمناورة والدهاء والابتزاز .
ويبقى المستقبل للإنسانية جمعاء، في بناء علاقات دولية عادلة ومتوازنة في عالم متعدد الأقطاب والتوجهات، بعيدا عن الأحادية الفكرية الغربية المتمحورة صلفا حول الإرث اليوناني الروماني المسيحي اليهودي .
وهو عالم جديد تتوفر فيه آليات التعايش السلمي بين الشعوب وحريتها في اختيار نموذجها التنموي ونموذج حكمها الذي يكون منبعثا من خصوصياتها الحضارية في التعامل السياسي وبناء النموذج المجتمعي الذاتي للإدارة والحكم، دون أملاءات خارجية مسقطة عموديا من المركز الأورو- أمريكي إلى الأطراف الأخرى التي لها ديانات وحضارات عريقة في الحكم الرشيد الحكيم العادل الموفر للسكينة السياسية مع الأخر والتعايش السلمي بعيدا عن التدخلات الفظة
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
هل تعيش الإمبراطورية الأوروبية هذه الأيام وضعية الإمبراطورية العثمانية منذ قرنين حين وصفها المؤرخون الأوروبيون تهكما وازدراءً بأنها "الرجل المريض في الأستانة"، لم يبق له من القوة والجبروت الإمبراطوري غير "ألقاب سلطنة في غير مملكة كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد"، كما قال الشاعر ابن رشيق القيرواني سابقا في ملوك الطوائف بالأندلس.
كل الدلائل والمؤشرات الجغراسياسية والإحصائية تفيد أن العالم والساحة الدولية تعيش حالة مخاض منذ العشريتين الأخيرتين يستهدف تغيير التوازنات الموروثة عن نتائج الحرب العالمية الثانية عام 1945 والتي سطر حدودها المنتصرون في أوروبا وأمريكا، ولم يكن فيها لسكان العالم الثالث في أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية أي دور يذكر .
إنه عالم جديد صاعد يريد بناء عالم متعدد الكيانات والأقطاب الإقليمية والدولية بعيدا عن القيم السياسية والدينية الذي سيطرت على العالم خلال العقود الأخيرة، ومثلت استمرارا للحقبة الاستعمارية الأوروبية منذ ثلاثة قرون كاملة .
لقد بدأت تطرق باب العالم الجديد بوادر علاقات دولية جديدة جسمتها اندلاع حرب أوكرانيا في قلب أوروبا، بعد أن كانت القارة العجوز تدير حروبا وتدخلات إقليمية ودولية في كل من فيتنام والعراق وليبيا وأفغانستان، وكانت كلها في مناطق الشرق الأوسط وإفريقيا واسيا. وهاهي الحرب الاوكرانية الروسية الأخيرة جاءت لأول مرة منذ 1945 في قلب أوروبا مهددة الكيان الأوروبي بالإزاحة من مربع الحكم وصولجانه أمام قوى صاعدة اقتصاديا وعسكريا وماليا.
لقد كشفت توازنات القوى العظمي الجديدة عن صعود قوى إقليمية جديدة لعل أبرزها الصين ومعها الهند ودول البريكس الجديدة المتوسعة بنهم لاحتلال العالم على أنقاض إمبراطورية أوروبا وقوتها الضاربة إلي حين الولايات المتحدة الامريكية . لقد أصبحت هذه القوى الجديدة فاعلة وتريد التأثير في الواقع الدولي الناجم عن الحرب العالمية الثانية عام 1945 التي فرضت السلم الأمريكي "بَاكْسْ أمَرِيكَانَا" على غرار "بَاكْسْ رُومَانَا" الذي فرضته روما على قرطاج والمتوسط لقرون في الماضي. وكما فرض العرب "بَاكْسْ أرَابِيكَا" على نفس البحر المتوسط طوال العصر الوسيط .
اليوم هناك قوى جديدة لبلدان جنوب الكرة الأرضية وجنوب شرقي أسيا، طامحة جماعيا إلى أخذ مكانها في الشمس وممارسة حق السيادة والحكم في مصيرها الداخلي وفي العلاقات الإقليمية والدولية أيضا، بعيدا عن هيمنة أبناء الشمال الأوروبي الذين طال أمد حكمهم للعالم بسبب قوتهم ومنعتهم التجارية والصناعية والعسكرية الضاربة. ولكن المؤشرات الخلدونية تفيد بأن القوة الاقتصادية والصنائع المتمثلة في "مصنع العالم" قد انتقل خلال العشريات الأخيرة من أمريكا إلى الصين، كما كان تحول في بداية القرن الماضي عام 1900 من أوروبا إلى أمريكا، ولكنه لم يخرج في الواقع من أيدي الغرب الذي ظل حكمه الروماني الاستعماري مسيطرا على العالم لقرون عدة منذ 1492، التاريخ المتزامن لسقوط غرناطة الإسلامية واكتشاف أمريكا الأوروبية.
وقد تحولت نتيجة ذلك عملية خلق الثروة والرخاء إلى قارة أسيا، مثلما تدل عليه إحصائيات البنك الدولي حول الناتج الداخلي الخام الذي بلغ عام 2022 خمسا وعشرين تريليون دولار للولايات المتحدة الأمريكية، تليها الصين بعشرين تريليون دولار، تليها اليابان في المرتبة الثالثة بتسع تريليون دولار، وتتبعها باقي القوى الصناعية.
واليوم وقد تغيرت المعطيات الجيوستراتيجية وأصاب الإنهاك والوهن الغرب الروماني المسيحي، تأتي قوى جديدة لها اندفاع وعصبية متوقدة للثأر التاريخي، خاصة وأن لها إرثا حضاريا منذ ألاف السنين وهي الصين الحكيمة والهند الحضارية وروسيا القيصرية وإيران الفارسية وتركيا العثمانية والمجر الإمبراطورية. وهي قوى لها |أنظمة سياسية تعتمد السلطوية والديمقراطية الخصوصية البعيدة عن النموذج الغربي الكلاسيكي وهي تضم أيضا الهند أكبر ديمقراطية في العالم. كلها دول مصطفة في مواجهة إمبراطورية أمريكا وحليفتها أوروبا القديمة والجديدة، وقد بدأت تغيب الشمس عن ممالكها منذ موجة حق الشعوب في تقرير مصيرها واستقالات العالم الثالث في ستينات القرن الماضي، ومؤخرا خروج فرنسا قسرا من دول مستعمرة سابقة لها في إفريقيا تاركة مكانها لروسيا والصين وتركيا وإيران التي عوضت المستعمر السابق .
في هذا التطور التاريخي والحرب الكونية المنتظرة اقتصاديا، تجد أوروبا نفسها في قلب المعركة ملقاة في معبد التضحية بها، بعد أن قررت أمريكا القوة العسكرية الأولى إلى حد الآن (خمسين بالمائة من نفقات العالم العسكرية) دفع أوروبا القديمة في محرقة أوكرانيا وفرض عليها فيها تقديم دعم بمئات مليارات الدولارات للمجهود الحربي الأوكراني في مواجهة روسيا.
وتجد أوربا نفسها اليوم مترنحة في خضم اللعبة الأوكرانية. وهي تبدو مثل الرجل المريض الممدود في بروكسال، مثلما كانت الإمبراطورية العثمانية الرجل الممدود على فراش الإنعاش في الأستانة التي كانت ممالكها وإيالاتها في العالم الإسلامي تحتلها القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية الواحدة تلو الأخرى (الجزائر في 1830 وتونس ومصر في 1881) دون ان تستطيع فعل شيء بعد مؤتمر برلين لعام 1871 الذي قسم ممتلكات الرجل المريض في الأستانة بين القوى الاستعمارية الأوروبية المتقاتلة على ممالك السلطان العثماني .
وإذا كانت أدبيات المؤرخين الأوروبيين تبالغ في وصف حالة الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، وتطلق عليها تهكما لقب "الرجل المريض" فان هذا التشبيه ينطبق اليوم علي أوروبا التي يمكن القول إنها الرجل المريض للمنتظم الدولي الناشئ بعد أن أفتكت الصين وروسيا إيالات الإمبراطورية الفرنسية والبريطانية في افريقيا (مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا) التي كانت مهد الاستعمار الأوروبي بمختلف موجاته البلجيكية والألمانية والايطالية والفرنسية والبريطانية.
في حرب أوكرانيا يواجه الغرب الأطلسي قوة نووية ضاربة (روسيا والصين). وهذه ليست دولا محدودة الإمكانيات حد الفقر مثل العراق وأفغانستان وليبيا، مما كشف مدى العجز الذي تعاني منه أوروبا المتشظية التي أصيبت بالركود الاقتصادي والتضخم وتدهور الأوضاع المعيشية لسكانها، وذلك بعد عام فقط من حرب استنزاف على الجبهة الشرقية قد تطول سنوات.لقد اندفعت أوروبا سياسيا وعسكريا في هذه الحرب المعادية لمصالحها الأساسية ومجالها الحيوي الذي كان يمكن أن يضم إليه روسيا الراغبة في حماية حدودها حد الانضمام إلى فضاء أوروبا، مكانها الطبيعي في أوراسيا، التي يمكن أن تفتح أوروبا واسعة مفتوحة بندية وسيادية على دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط وعواصمها التاريخية مثل قرطاج المقابلة لروما. وهذا سيناريو تعاون ، كما هو الحال الآن لدى الولايات المتحدة مع جارتيها كندا والمكسيك وباقي المجال الحيوي الأمريكي في أمريكا اللاتينية. ولكن أنّى لأميركا أن تقبل بعدم إشعال النار في المرقد الأوروبي المتعود بطبعه على إشعال نيران حروب عالمية، في سيناريهات تأتي فيها بعدها أمريكا كالحماية المدنية لإطفاء الحريق وإسعاف ألجرحى وإعادة بناء ما دمرته الحرب بمشروع إعمار مارشال جديد ومتجدد تجدد الحروب العدوانية لشقاق الفوضى الخلاقة.
وفي نظر المحللين الاستراتيجيين الموضوعيين، فإن مكانة أوروبا بالصيغة القديمة المعولة على الحلف الأطلسي (ناتو) وعلى المظلة النووية الأمريكية قد انتهت في المحفل الدولي. وعلى الأوروبيين البحث عن صيغة تعاون جديدة أقل عدوانية استعماراتية وهيمنة أطلسية على العالم والبحر المتوسط. وقد فشلت في السنوات الأخيرة محاولات التحشيد لإنشاء ناتو عربي وناتو إسلامي وناتو إفريقي لإدامة الهيمنة الغربية على العالم.
واليوم تبدو معالم تشكل نظام عالمي جديد قد بدأت فعليا . وتمثل الحرب الأوكرانية الروسية مظهره الجلي لأن الغرب لم يعد سيد العالم وشرطيه وقاضيه كما كان. بل لم يعد قادرا على فرض إرادته الاقتصادية عبر صندوق النقد الدولي، وعملتي الدولار واليورو أو العسكرية عبر الناتو والقصف الجوي كما جرى في يوغسلافيا وليبيا . ولم يعد أيضا قادرا على فرض إرادته وقوانينه وقيمه في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن أظهر على مدى عقود وقرون أنه مكيافيلي المنهج والسياسة، وأن مصالحه المادية النفعية هي التي تتحكم في صيرورة ومآلات الأحداث .
ويبدو ضروريا أن يتعود الغرب وأزلامه على ظهور ووجود أقاليم إقليمية عالمية لا تقاسم الغرب قيمه التي فرضها تارة بالحديد والنار والتدخلات المباشرة وحروب الوكالات، وطورا بالمناورة والدهاء والابتزاز .
ويبقى المستقبل للإنسانية جمعاء، في بناء علاقات دولية عادلة ومتوازنة في عالم متعدد الأقطاب والتوجهات، بعيدا عن الأحادية الفكرية الغربية المتمحورة صلفا حول الإرث اليوناني الروماني المسيحي اليهودي .
وهو عالم جديد تتوفر فيه آليات التعايش السلمي بين الشعوب وحريتها في اختيار نموذجها التنموي ونموذج حكمها الذي يكون منبعثا من خصوصياتها الحضارية في التعامل السياسي وبناء النموذج المجتمعي الذاتي للإدارة والحكم، دون أملاءات خارجية مسقطة عموديا من المركز الأورو- أمريكي إلى الأطراف الأخرى التي لها ديانات وحضارات عريقة في الحكم الرشيد الحكيم العادل الموفر للسكينة السياسية مع الأخر والتعايش السلمي بعيدا عن التدخلات الفظة