يتَكرّرُ قولُ التونسيات والتونسيين لي: ( أنتَ أستاذ عربية ) عند لقائي بهم لأول مرة والحديث معهم حول وضع اللغة العربية المأزوم في المجتمع التونسي. أي أن ترداد هذا القول ظاهرة مجتمعية لأن أغلبية مواطنات ومواطني هذا المجتمع يعتبرون أن أساتذة اللغة العربية هم الوحيدون المطالبون بالدفاع عن هذه اللغة الوطنية وهم براء من ذلك. فهم لم يتعلموا في الأسرة وفي المدرسة والمعهد والجامعة وفي المؤسسات الأخرى احترام واستعمال اللغة العربية في كل الميادين قبل اللغات الأجنبية. نسمي هذه الظاهرة المجتمعية ' التخلف الآخر'. لهذا المفهوم معنيان على الأقل: 1- اللغة تتخلف بسبب عدم استعمالها بالكامل في الحديث والكتابة و 2- تفضيل نفسي واستعمالي للغة الأجنبية على اللغة الوطنية/العربية لدى عدد كبير من التونسيات والتونسيين. ف 1 و2 يضعان اللغة العربية في حالة تخلف مادي ونفسي عند أهلها، وهو نوع آخر من التخلف المنسي في أدبيات ما كُتب حول التنمية والتخلف في المجتمعات النامية.
فالأمثلة التالية عينة صغيرة جدا، أي غيض من فيض، لكن كافية لتفسير ضُعف الوطنية اللغوية لدى معظم التونسيات والتونسيين:
1ـ عُرف في العهد البورقيبي أنّ مَحاضر اجتماعات الوزراء كانت تُكب في الغالب بالفرنسية. كما يشهد مرافقو الرئيس بورقيبة أنّه كان يستعمل الفرنسيّة عوضا عن العربيّة في لقاءاته مع القادة الأمريكيّين أو الألمان، على سبيل المثال. أي تقع ترجمة كلام الرئيس بورقيبة إلى مخاطَبيه من الفرنسية وليس من اللغة العربية/الوطنية إلى الإنكليزية أو الألمانية. وبكل تأكيد لا يقتصر هذا السّلوك اللّغوي على بورقيبة فقط، وإنما هذا الأخير هو مجرد رأس جبل الجليد للنّخب السياسيّة والثقافيّة التونسيّة والطّبقات الاجتماعيّة العليا والمتوسطة خاصة في المجتمع التونسي المعاصر. يفيد التحليل أن ذلك السلوك اللغوي غير الوطني عند الرئيس وغيره من النخب السياسية والثقافية وغيرهم يعود في المقام الأول إلى فقدانهم إلى التعليم الذي يسود فيه الحجر اللغوي لصالح اللغة الوطنية.
2- خاطب الرئيس المنصف المرزوقي في قصر قرطاج في 2012 نظيره الإيطالي باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة الوطنية.
3ـ لقد صرّح وزير التربية محمود المسعدي في المرحلة البورقيبيّة في مقابلة مع مجلة الحزب الحاكم
Dialogue يومئذ بخصوص عدم تعريب التّدريس في المدارس التونسية قائلا: يجب تدريس التلاميذ التونسيّين باللّغة الفرنسيّة وتعليمهم اللّغة العربيّة.
4ـ تتعامل كتابيا جل البنوك التونسيّة بالفرنسية حتى يومنا هذا مع زبائنها التّونسيين.
5ـ تُعوِّض اليوم كلمة 'ماما ' كلمة َأمي عند أغلبية الأطفال التونسيّين. ومنه، ينتظر أن تختفي تماما كلمة أمي من الاستعمال في المستقبل القريب.
6ـ لا يكاد يستعمل التونسيات والتونسيون إلا اللّغة الفرنسيّة في الحديث عن أرقام الأشياء. وهذا ما يشهد به، مثلا، حديثهم عن أرقام شبكة المترو بالعاصمة.
7- نظّمت النساء الديمقراطيات لقاء في 28 /01/2012 ببيت الحكمة ليتحدث فيه خاصّة بعض النّساء المثقفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة في المنطقة العربية الإسلامية.اختارت جميع المتحدثات الفرنسيّة في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي.
8ـ لا تكاد التونسيّات تستعملن إلا اللّغة الفرنسيّة في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس.
9ـ لا تكتب الأغلبية السّاحقة من التونسيّات والتونسيّين صكوكها المصرفيّة/شيكاتها إلاّ باللّغة الفرنسيّة.
10- تكتبُ إدارةُ المعهد التحضيري في سيدي بوسعيد والمرسى Lipest الأسماء العربية للأساتذة وغيرهم بالحروف غير العربية على أبواب مكاتبهم.
فتلك السلوكيات اللغوية هي في المقام الأول نتيجة لنمط التعليم في المجتمع التونسي الذي لا تتمتع فيه اللغة الوطنية نفسيا بالمكانة الأولى في شخصية معظم التونسيات والتونسيين. لإلقاء الضوء على هذا الأمر، نبدأ بوضع اللغة العربية لدى الأطفال التونسيين في الروضات في المجتمع التونسي.
ارتباك علاقة الأطفال بالعربية
لا يكاد يتحدث أحد في المجتمع التونسي عن المضار التي تتعرض لها علاقة الأطفال التونسيين باللغة العربية في الروضات. فعلم النفس يؤكد أن السنَّ المبكرة هي المرحلة المثالية التي يكسب فيها الطفلُ علاقة سليمة وحميمة مع لغته إذا لم يتدخل تعلّمُ لغات أخرى في ذلك العمر المبكر فتفسد العلاقة الطبيعية السوية مع اللغة الوطنية لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سنّ الكهولة وما بعدها حتى الشيخوخة. ومما يزيد الطين بلّة أن جلُّ النساء المدرّسات في الروضات يملْن إلى جذب الأطفال أكثر إلى تعلّم اللغتين الفرنسية والانكليزية وذلك بتقمصهن ضمنيا أو جهارا لسلوكيات يتعلم منها الأطفال أن هاتين اللغتين أفضل من العربية. إن هذا السلوك اللغوي النسائي المتحيز للغات الأجنبية ليس بالأمر المفاجئ بالنسبة لتفسير هذه الظاهرة. يتمثل تفسيرنا الخاص في أن موقع المرأة في شبكة ثلاثية ( الفرنسي/الفرنسية والتونسي والتونسية) يدفعها إلى التحيّز إلى اللغة الفرنسية وغيرها. يأتي هذا من أنها تحتل المكانة السفلى في تلك الشبكة الثلاثية حيث يكون الفرنسي/الفرنسية في المكانة العليا والتونسي في المرتبة الثانية والتونسية في المكانة الأخيرة. ولرفع موقعها تلجأ المرأة التونسية إلى أدوات رمزية تعتقد أنها تحسّن من وضعها الاجتماعي وتُكسبها معالم الحداثة والتقدّم وهي استعمال اللغة الفرنسية شفويا وكتابة أكثر من التونسي وبنبرة باريسية. ومن ثم، يُنتظر أن يؤثر ذلك السلوك سلبا على علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم الوطنية. تمثل هذه السلوكيات اللغوية التونسية من الروضات إلى أعلى السلطات ما ينبغي تسميتها منظومة الاستلاب أو الاغتصاب اللغوي في القمة والقاعدة ومن بينهما ولدى الكبار والصغار في المجتمع التونسي بعد أكثر من نصف قرن من 'الاستقلال'.
الحجر اللغوي وما أدراك ؟
فالسؤال المشروع هنا: لماذا توجد وتستمر ظاهرة الاغتصاب اللغوي لدى القمة والقاعدة ومن بينهما بعد أكثر من 60 سنة بعد ' الاستقلال ' ؟ نجيب على السؤال بطرح فكرة أو مفهوم أو نظرية لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. تفيد الملاحظات بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا وتحاشي تفشي المزج اللغوي بين اللغة الوطنية واللغات الأجنبية في الحديث والكتابة واحترامها أكثر من غيرها،. يمكن تطبيق هذا الطرح الفكري على نظام التعليم التونسي. لقد تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- التدريس بلغتين هما العربية والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- التدريس بلغة واحدة فقط هي اللغة العربية في تلك المراحل الثلاث.
نكتفي بذكر مثالين على حضور أو غياب الحجر اللغوي في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:
1-إن خريجي التعليم التونسي في ما سُمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية. لقد درس هؤلاء الخريجون من تلك الشعبة جميع المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.
2-أما خريجو بقية نظام التعليم التونسي – وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين- فهم فاقدون للحجر اللغوي، أي أنهم درسوا في الماضي أو يدرسون في الحاضر باللغة الفرنسية فقط ابتداء من المرحلة الثانوية ما يسمى بالمواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية.
إذن، فالتكوين اللغوي لهذين الصنفين من نظام لغة التدريس هو العامل الحاسم الذي أدى إلى الفرق بينهما في علاقتهما باللغة العربية. فمن ناحية، يُدافع خريجو تعليم شعبة (أ) ونظام التعليم الزيتوني بشدة عن حق المجتمع التونسي في استعمال لغته العربية وعدم السماح للغات الأجنبية بمنافستها على أرضها. ومن ناحية ثانية، يتصف المتعلمون التونسيون الفاقدون لنظام تعليم الحجر اللغوي بموقف متذبذب نحو منافسة اللغة الفرنسية للغة العربية بالمجتمع التونسي. وبالتالي، فهم لا يكادون يؤمنون ويتصرفون لصالح حق المجتمع التونسي الكامل في استعمال فقط لغته الوطنية في جميع شؤونه على أرضه. وللشفافية العلمية ولتسمية الأشياء بأسمائها يجب القول بأن التجربة التونسية في تعلّم لغة المستعمر في عهديْ الاحتلال والاستقلال تُبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنها عامل تشويش في أحسن الأحوال واستلاب في حالات أخرى كثيرة ينْقَضُّ على اللغة العربية لدى عديد المتعلمين والمثقفين الفاقدين للحجر اللغوي. يشخص رفييل بتاي مؤلف كتاب العقل العربي 1983 آثار التعليم المزدوج اللغة (الفاقد للحجر اللغوي) المتحيز للفرنسية وثقافتها في مجتمعات المغرب العربي. فوجد أن هذا التعليم يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.
عِبرُ المبتدأ والخبر للحجر اللغوي
فحسب المعالم المبيًّنة أعلاه، تكشف الموضوعية أن تعلّم اللغة الفرنسية والتدريس بها (غياب الحجر اللغوي) في عهديْ الاستعمار الاستقلال يمثل اغتصابا لغويا يحرم اللغة العربية من حضورها كحق سيادة وتحرر للمجتمع التونسي. وهكذا يتضح أن سلب حق المجتمع التونسي في لغته هو حصيلة لتآمر مزدوج: خارجي وداخلي تقوده النخب التونسية الفاقدة للحجر اللغوي لصالح اللغة الوطنية/العربية.
*عالم الاجتماع
بقلم: الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)
يتَكرّرُ قولُ التونسيات والتونسيين لي: ( أنتَ أستاذ عربية ) عند لقائي بهم لأول مرة والحديث معهم حول وضع اللغة العربية المأزوم في المجتمع التونسي. أي أن ترداد هذا القول ظاهرة مجتمعية لأن أغلبية مواطنات ومواطني هذا المجتمع يعتبرون أن أساتذة اللغة العربية هم الوحيدون المطالبون بالدفاع عن هذه اللغة الوطنية وهم براء من ذلك. فهم لم يتعلموا في الأسرة وفي المدرسة والمعهد والجامعة وفي المؤسسات الأخرى احترام واستعمال اللغة العربية في كل الميادين قبل اللغات الأجنبية. نسمي هذه الظاهرة المجتمعية ' التخلف الآخر'. لهذا المفهوم معنيان على الأقل: 1- اللغة تتخلف بسبب عدم استعمالها بالكامل في الحديث والكتابة و 2- تفضيل نفسي واستعمالي للغة الأجنبية على اللغة الوطنية/العربية لدى عدد كبير من التونسيات والتونسيين. ف 1 و2 يضعان اللغة العربية في حالة تخلف مادي ونفسي عند أهلها، وهو نوع آخر من التخلف المنسي في أدبيات ما كُتب حول التنمية والتخلف في المجتمعات النامية.
فالأمثلة التالية عينة صغيرة جدا، أي غيض من فيض، لكن كافية لتفسير ضُعف الوطنية اللغوية لدى معظم التونسيات والتونسيين:
1ـ عُرف في العهد البورقيبي أنّ مَحاضر اجتماعات الوزراء كانت تُكب في الغالب بالفرنسية. كما يشهد مرافقو الرئيس بورقيبة أنّه كان يستعمل الفرنسيّة عوضا عن العربيّة في لقاءاته مع القادة الأمريكيّين أو الألمان، على سبيل المثال. أي تقع ترجمة كلام الرئيس بورقيبة إلى مخاطَبيه من الفرنسية وليس من اللغة العربية/الوطنية إلى الإنكليزية أو الألمانية. وبكل تأكيد لا يقتصر هذا السّلوك اللّغوي على بورقيبة فقط، وإنما هذا الأخير هو مجرد رأس جبل الجليد للنّخب السياسيّة والثقافيّة التونسيّة والطّبقات الاجتماعيّة العليا والمتوسطة خاصة في المجتمع التونسي المعاصر. يفيد التحليل أن ذلك السلوك اللغوي غير الوطني عند الرئيس وغيره من النخب السياسية والثقافية وغيرهم يعود في المقام الأول إلى فقدانهم إلى التعليم الذي يسود فيه الحجر اللغوي لصالح اللغة الوطنية.
2- خاطب الرئيس المنصف المرزوقي في قصر قرطاج في 2012 نظيره الإيطالي باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة الوطنية.
3ـ لقد صرّح وزير التربية محمود المسعدي في المرحلة البورقيبيّة في مقابلة مع مجلة الحزب الحاكم
Dialogue يومئذ بخصوص عدم تعريب التّدريس في المدارس التونسية قائلا: يجب تدريس التلاميذ التونسيّين باللّغة الفرنسيّة وتعليمهم اللّغة العربيّة.
4ـ تتعامل كتابيا جل البنوك التونسيّة بالفرنسية حتى يومنا هذا مع زبائنها التّونسيين.
5ـ تُعوِّض اليوم كلمة 'ماما ' كلمة َأمي عند أغلبية الأطفال التونسيّين. ومنه، ينتظر أن تختفي تماما كلمة أمي من الاستعمال في المستقبل القريب.
6ـ لا يكاد يستعمل التونسيات والتونسيون إلا اللّغة الفرنسيّة في الحديث عن أرقام الأشياء. وهذا ما يشهد به، مثلا، حديثهم عن أرقام شبكة المترو بالعاصمة.
7- نظّمت النساء الديمقراطيات لقاء في 28 /01/2012 ببيت الحكمة ليتحدث فيه خاصّة بعض النّساء المثقفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة في المنطقة العربية الإسلامية.اختارت جميع المتحدثات الفرنسيّة في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي.
8ـ لا تكاد التونسيّات تستعملن إلا اللّغة الفرنسيّة في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس.
9ـ لا تكتب الأغلبية السّاحقة من التونسيّات والتونسيّين صكوكها المصرفيّة/شيكاتها إلاّ باللّغة الفرنسيّة.
10- تكتبُ إدارةُ المعهد التحضيري في سيدي بوسعيد والمرسى Lipest الأسماء العربية للأساتذة وغيرهم بالحروف غير العربية على أبواب مكاتبهم.
فتلك السلوكيات اللغوية هي في المقام الأول نتيجة لنمط التعليم في المجتمع التونسي الذي لا تتمتع فيه اللغة الوطنية نفسيا بالمكانة الأولى في شخصية معظم التونسيات والتونسيين. لإلقاء الضوء على هذا الأمر، نبدأ بوضع اللغة العربية لدى الأطفال التونسيين في الروضات في المجتمع التونسي.
ارتباك علاقة الأطفال بالعربية
لا يكاد يتحدث أحد في المجتمع التونسي عن المضار التي تتعرض لها علاقة الأطفال التونسيين باللغة العربية في الروضات. فعلم النفس يؤكد أن السنَّ المبكرة هي المرحلة المثالية التي يكسب فيها الطفلُ علاقة سليمة وحميمة مع لغته إذا لم يتدخل تعلّمُ لغات أخرى في ذلك العمر المبكر فتفسد العلاقة الطبيعية السوية مع اللغة الوطنية لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سنّ الكهولة وما بعدها حتى الشيخوخة. ومما يزيد الطين بلّة أن جلُّ النساء المدرّسات في الروضات يملْن إلى جذب الأطفال أكثر إلى تعلّم اللغتين الفرنسية والانكليزية وذلك بتقمصهن ضمنيا أو جهارا لسلوكيات يتعلم منها الأطفال أن هاتين اللغتين أفضل من العربية. إن هذا السلوك اللغوي النسائي المتحيز للغات الأجنبية ليس بالأمر المفاجئ بالنسبة لتفسير هذه الظاهرة. يتمثل تفسيرنا الخاص في أن موقع المرأة في شبكة ثلاثية ( الفرنسي/الفرنسية والتونسي والتونسية) يدفعها إلى التحيّز إلى اللغة الفرنسية وغيرها. يأتي هذا من أنها تحتل المكانة السفلى في تلك الشبكة الثلاثية حيث يكون الفرنسي/الفرنسية في المكانة العليا والتونسي في المرتبة الثانية والتونسية في المكانة الأخيرة. ولرفع موقعها تلجأ المرأة التونسية إلى أدوات رمزية تعتقد أنها تحسّن من وضعها الاجتماعي وتُكسبها معالم الحداثة والتقدّم وهي استعمال اللغة الفرنسية شفويا وكتابة أكثر من التونسي وبنبرة باريسية. ومن ثم، يُنتظر أن يؤثر ذلك السلوك سلبا على علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم الوطنية. تمثل هذه السلوكيات اللغوية التونسية من الروضات إلى أعلى السلطات ما ينبغي تسميتها منظومة الاستلاب أو الاغتصاب اللغوي في القمة والقاعدة ومن بينهما ولدى الكبار والصغار في المجتمع التونسي بعد أكثر من نصف قرن من 'الاستقلال'.
الحجر اللغوي وما أدراك ؟
فالسؤال المشروع هنا: لماذا توجد وتستمر ظاهرة الاغتصاب اللغوي لدى القمة والقاعدة ومن بينهما بعد أكثر من 60 سنة بعد ' الاستقلال ' ؟ نجيب على السؤال بطرح فكرة أو مفهوم أو نظرية لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. تفيد الملاحظات بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا وتحاشي تفشي المزج اللغوي بين اللغة الوطنية واللغات الأجنبية في الحديث والكتابة واحترامها أكثر من غيرها،. يمكن تطبيق هذا الطرح الفكري على نظام التعليم التونسي. لقد تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- التدريس بلغتين هما العربية والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- التدريس بلغة واحدة فقط هي اللغة العربية في تلك المراحل الثلاث.
نكتفي بذكر مثالين على حضور أو غياب الحجر اللغوي في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:
1-إن خريجي التعليم التونسي في ما سُمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية. لقد درس هؤلاء الخريجون من تلك الشعبة جميع المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.
2-أما خريجو بقية نظام التعليم التونسي – وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين- فهم فاقدون للحجر اللغوي، أي أنهم درسوا في الماضي أو يدرسون في الحاضر باللغة الفرنسية فقط ابتداء من المرحلة الثانوية ما يسمى بالمواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية.
إذن، فالتكوين اللغوي لهذين الصنفين من نظام لغة التدريس هو العامل الحاسم الذي أدى إلى الفرق بينهما في علاقتهما باللغة العربية. فمن ناحية، يُدافع خريجو تعليم شعبة (أ) ونظام التعليم الزيتوني بشدة عن حق المجتمع التونسي في استعمال لغته العربية وعدم السماح للغات الأجنبية بمنافستها على أرضها. ومن ناحية ثانية، يتصف المتعلمون التونسيون الفاقدون لنظام تعليم الحجر اللغوي بموقف متذبذب نحو منافسة اللغة الفرنسية للغة العربية بالمجتمع التونسي. وبالتالي، فهم لا يكادون يؤمنون ويتصرفون لصالح حق المجتمع التونسي الكامل في استعمال فقط لغته الوطنية في جميع شؤونه على أرضه. وللشفافية العلمية ولتسمية الأشياء بأسمائها يجب القول بأن التجربة التونسية في تعلّم لغة المستعمر في عهديْ الاحتلال والاستقلال تُبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنها عامل تشويش في أحسن الأحوال واستلاب في حالات أخرى كثيرة ينْقَضُّ على اللغة العربية لدى عديد المتعلمين والمثقفين الفاقدين للحجر اللغوي. يشخص رفييل بتاي مؤلف كتاب العقل العربي 1983 آثار التعليم المزدوج اللغة (الفاقد للحجر اللغوي) المتحيز للفرنسية وثقافتها في مجتمعات المغرب العربي. فوجد أن هذا التعليم يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.
عِبرُ المبتدأ والخبر للحجر اللغوي
فحسب المعالم المبيًّنة أعلاه، تكشف الموضوعية أن تعلّم اللغة الفرنسية والتدريس بها (غياب الحجر اللغوي) في عهديْ الاستعمار الاستقلال يمثل اغتصابا لغويا يحرم اللغة العربية من حضورها كحق سيادة وتحرر للمجتمع التونسي. وهكذا يتضح أن سلب حق المجتمع التونسي في لغته هو حصيلة لتآمر مزدوج: خارجي وداخلي تقوده النخب التونسية الفاقدة للحجر اللغوي لصالح اللغة الوطنية/العربية.