مساهمة مني في النقاش بين زميليّ الصديقين محمد محجوب،أستاذ الفلسفة، وسالم بوخداجة، أستاذ الحضارة، على صفحات التواصل الاجتماعي، حول الدرس/البحث الحضاري وجهازه المفاهيمي وحقوله المعرفية بل وحتى حول شرعية وجوده وجدواها. وباعتباري من أوائل الذين حاولوا التأصيل لهذا المبحث وتدريسه وبلورة جهازه المفاهيمي ومصطلحاته وتمييز مناهج تناوله عن غيره من المواد المتداخلة فيه،أود أن أسوق المعطيات التالية:
1- كانت أستاذية اللغة العربية تحمل اسم "أستاذية اللغة والآداب العربية" ومصطلح "حضارة " لم يكن متداولا بين مدرسيها ولا طلبتها وإنما كان بعض الأساتذة بحكم مواضيع أطروحاتهم يلقون بعض الدروس التي لا هي بالأدب ولا هي باللغة وتتموقع على هامش الاختصاص اللغوي والأدبي مثل درس أستاذنا المنصف الشنوفي حول علماء(شيوخ) عصر النهضة. ودروس الأستاذ أحمد عبد السلام الأقرب إلى الدرس التاريخي بحكم اختصاصه.
2- عرف درسا اللغة والأدب بصفة مبكرة(منذ مطلع السبعينات) رجة تجديدية عنيفة، محتوى ومنهجا، بفضل الأستاذين توفيق بكار وصالح القرمادي اللذين ووجها بمقاومة عنيفة من قبل المشايخ التقليديين(دون اعتبار العمر )، سواء في الجامعة أو في الوزارة. وقد أعلمني أستاذي وصديقي صالح القرمادي أنه كان في البداية يلقي درسه في الألسنية كما كان يسميها، تحت عنوان شرح "شرح كتاب المفصل" لابن يعيش.
وروى لي أن الأستاذ الشاذلي العياري لما كان مديرا لمركز البحوث والدراسات الاجتماعية اتصل به هاتفيا ذات ليلة وطلب منه عدم المجيء من الغد إلى المركز لأنه علم أن الوزير المسعدي سيزور المركز ذاك اليوم، وقد تمت إزالة لافتة مكتب القرمادي من بابه الذي تم غلقه وإعلام الوزير أنه مستودع أرشيف. والمعروف عن المسعدي عداوته الشديدة لعلم اللسانيات.
ولكن رياح التجديد الآتية إلى تونس من الغرب والتجاوب الكبير من قبل الطلبة، مكنا هذه الحركة من الثبات والتوسع حتى أصبحت أحد عوامل الريادة الأساسية للجامعة التونسية في المنطقة العربية.
3- لم يبق الدرس الحضاري بمعزل عن هذه الحركة التجديدية خاصة بعد انتشار كتب عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري والطيب تيزيني وصادق جلال العظم وغيرهم.
لذلك بدأت مساحة الدرس الحضاري تتوسع وأخذ الاهتمام البحثي بمسائله يتزايد بين صفوف طلبة المرحلة الثالثة ويفتح منهجيا على علوم إنسانية أخرى بعضها غريب عن السجل المعرفي العربي التقليدي مثل الانتروبولوجيا والمناهج المقارنية وكان للأستاذ عبد المجيد الشرفي فضل كبير في ذلك، ولكن مقاومة الزملاء في اختصاصي اللغة والأدب ظلت قائمة حتى وإن اتخذت أشكالا صامتة وكانت تتم عبر التهميش وفي عمل اللجان وخاصة في لجان الانتداب.
وهو ما حكم على الدرس الحضاري في قسم العربية بالبقاء في وضع الربيب الثقيل الذي يواجه بالتحقير والريبة والخوف من إمكانية الاشتراك يوما في " الإرث التليد ".
4- كانت لي ولزملائي في معهد بورقيبة للغات الحية الفرصة للمساهمة في هذا الجهد التأسيسي الطويل للدرس الحضاري وذلك عندما شرعنا في سنة 1993 في بعث أستاذية جديدة في العربية، ضمن مشروع متكامل لبعث أستاذات في مختلف اللغات الحية، وقد استفدنا من خصوصية المعهد آنذاك لتأسيس أستاذية في "اللغة والآداب والحضارة العربية" مختلفة عن الأستاذات التقليدية في بقية الكليات. من ذلك أننا وزعنا المادة المدروسة إلى وحدات متساوية القيمة في الأدب واللغويات والحضارة والمناهج، القديم منها والحديث.وقسمنا الأستاذية إلى مرحلتين بدل التوزيع السنوي التقليدي فيكون الارتقاء من مرحلة إلى أخرى وليس من سنة إلى أخرى بحسب عدد الوحدات المحرزة وتكاملها. وبذلك اكتسب الدرس الحضاري نفس القيمة ضمن مكونات الأستاذية.وهي تجربة تم للأسف إحباطها لاحقا بعنوان توحيد الاستاذيات في قالب واحد يأتي جاهزا من قبل اللجان العاملة تحت إشراف إداريي الوزارة على حساب روح المبادرة وحرية الدرس الجامعي التي ميزت الجامعة التونسية منذ نشأتها وبذلك تم تجريد الأستاذ الجامعي من سلطته الأكاديمية لفائدة سلطة الإدارة بواسطة نخبة من الجامعيين الذين برعوا في ارتداء البدلة الرسمية لعضوية "اللجان" بكل منافعها المادية والمعنوية.
5- حتى قبل إجهاض تجربة المعهد،حاول البعض من زملائنا في اللغة والأدب التقليل من أهمية الدرس الحضاري كما تصورناه إذ قررت إحدى هذه اللجان في اجتماع لها بالوزارة في عهد المرحوم الصديق الدالي الجازي حذف ساعة أسبوعيا من ساعات الوحدات الحضارية التي تم تعميمها على مختلف الكليات(3 ساعات) وما أن علمت بالأمر عن طريق الزميل المنصف بن عبد الجليل الذي كان مكلفا بمهمة بديوان الوزير، حتى كاتبت سي الدالي موضحا أبعاد المسألة وأهمية الدرس الحضاري في مقاومة سلطة المسلمات والعقليات الاطلاقية والإقصائية، وهو ما تفهمه مشكورا ولم يكتف بإعادة الساعة المحذوفة بل أضاف عليها ساعة أخرى ليصبح المجموع بين الدرس والتطبيق 4 ساعات.
6- عندما تم التحول إلى نظام "إمد" ، عاد زملاؤنا اللجانيون إلى محاولات القضم من مكانة الدرس الحضاري في إجازة العربية التي قبلوا على مضض وبعد جهد طويل تضمينها صفة الحضارة( الإجازة في اللغة والأدب والحضارة العربية). وتم ذلك القضم عبر التخفيض في ساعات التدريس وفي حجم الأرصدة المسندة، فقمت مع ثلة من الزملاء بإمضاء عريضة سلمتها الى الوزير آنذاك(25/ 6 / 2009) المرحوم الأزهر بوعوني، وهي تحمل إمضائي وإمضاء الزميلات والزملاء:
نحن أساتذة الحضارة بالجامعة التونسية الممضين أسفله:
1- نؤكد إسهام الدرس الحضاري في تجديد تدريس اللغة العربية، ونسجل باعتزاز المستوى الذي أصبح عليه هذا الدرس معرفيا وبيداغوجيا مما مكن الجامعة التونسية من مواكبة ما شهده العالم اليوم من تطور في مجال العلوم الإنسانية، وتبوئ مكانة متميزة على الساحة العربية.
2-نثمن الدور التحديثي والتنويري الذي يقوم به تدريس مادة الحضارة العربية وذلك في انسجام كامل مع التوجهات الوطنية العريقة والمتواصلة في هذا الشأن.
-3 ننبه الى خطورة توخي موقف تهميشي لمادة الحضارة في إجازة اللغة العربية،مما قد ينجر عنه التضحية بالمكاسب الجامعية والوطنية المحققة في هذا الموضوع.
-4 ندعو الهيئات المعنية إلى التعامل مع دروس مادة الحضارة في شعبة العربية على قدم المساواة مع دروس اللغة والأدب وذلك سواء من حيث حجم ساعات التدريس أو الأرصدة المسندة
وقد لقيت هذه العريضة تجاوبا إيجابيا من المرحوم بوعوني.
-5 ولكن في الوقت الذي ظننا فيه أن الدرس الحضاري قد نال أخيرا مكانته ضمن شعبة العربية،ظهرت بؤر معارضة أخرى مختلفة الحدة والجدية نابعة من مجالات جامعية أخرى غير شعبة العربية وخاصة بين أساتذة الفلسفة والعلوم الدينية والتاريخ.
ويعود ذلك، دون اعتبار الحزازات والمنافسات الشخصية، إلى ثلاثة عوامل أساسية هي :
أ- تداخل مجالات البحوث الفلسفية والتاريخية والدينية مع مركز اهتمام المبحث الحضاري الذي يهتم بالبحث في النتاج التفاعلي للتقاطع بين مختلف هذه المجالات في مستوى صياغة أشكال الوعي وإنتاج التصورات الحافزة وأنماط التعامل مع الواقع المتصور ضمن حضارة ما وبالتفاعل مع منظومات أخرى محايثة أو مجاورة أو سابقة وهو ما يتطلب اعتماد مناهج مقارنية وتحليلية تعود إلى مجالات عديدة من العلوم الإنسانية.
إن الدارس الحضاري إذا استعمل مادة تاريخية أو فقهية أو فلسفية مثلا، فإنه لا يتعامل معها لا كمؤرخ ولا كفقيه ولا كفيلسوف وإنما كباحث في مسألة حضارية. ولذلك منهجه وضوابطه التي لا يتسع المجال هنا للتوسع فيها، وإنما أحيل من يرغب في ذلك على مقدمة أطروحتي المنشورة في جزأين لدى دار الفارابي، بيروت بعنوان" المثقفون والسلطة في الحضارة العربية ".
ب- قلة إلمام عدد من أساتذة الفلسفة وخاصة أساتذة التاريخ وبالأخص أساتذة العلوم الدينية، بمختلف العلوم الإنسانية بمدارسها المنهجية المتعددة؛ خارج اختصاصاتهم الدقيقة. إضافة العقلية المشيخية التى تسيطر على بعضهم.
ج- وهو الأهم في رأيي ويعود إلى عدم تمكن عدد هام من القائمين بالدرس الحضاري من مفهوم البحث الحضاري ومناهجه مما يدفعهم إلى استسهال الخوض فيه على اعتبار أنه كما يقول بعضهم "الأخذ من كل شيء بطرف ". فيتصدون للبحث في مادة فقهية بعقلية فقيه دون أن تكون لهم كفاءة الفقهاء ويدرسون مادة تاريخية بعقلية المؤرخ دون علمه ويطرحون قضايا فلسفية لا قدرة لهم على فهم دقائقها ولا الإلمام حتى بمفاهيمها.
وفي الختام أعبر عن سروري بإثارة الزميلين محجوب وبوخداجة لمثل هذا النقاش في زمن طغت فيه الاهتمامات الاستهلاكية الغرائزية على كل ما هو فكري.
د.مصطفى التواتي
مساهمة مني في النقاش بين زميليّ الصديقين محمد محجوب،أستاذ الفلسفة، وسالم بوخداجة، أستاذ الحضارة، على صفحات التواصل الاجتماعي، حول الدرس/البحث الحضاري وجهازه المفاهيمي وحقوله المعرفية بل وحتى حول شرعية وجوده وجدواها. وباعتباري من أوائل الذين حاولوا التأصيل لهذا المبحث وتدريسه وبلورة جهازه المفاهيمي ومصطلحاته وتمييز مناهج تناوله عن غيره من المواد المتداخلة فيه،أود أن أسوق المعطيات التالية:
1- كانت أستاذية اللغة العربية تحمل اسم "أستاذية اللغة والآداب العربية" ومصطلح "حضارة " لم يكن متداولا بين مدرسيها ولا طلبتها وإنما كان بعض الأساتذة بحكم مواضيع أطروحاتهم يلقون بعض الدروس التي لا هي بالأدب ولا هي باللغة وتتموقع على هامش الاختصاص اللغوي والأدبي مثل درس أستاذنا المنصف الشنوفي حول علماء(شيوخ) عصر النهضة. ودروس الأستاذ أحمد عبد السلام الأقرب إلى الدرس التاريخي بحكم اختصاصه.
2- عرف درسا اللغة والأدب بصفة مبكرة(منذ مطلع السبعينات) رجة تجديدية عنيفة، محتوى ومنهجا، بفضل الأستاذين توفيق بكار وصالح القرمادي اللذين ووجها بمقاومة عنيفة من قبل المشايخ التقليديين(دون اعتبار العمر )، سواء في الجامعة أو في الوزارة. وقد أعلمني أستاذي وصديقي صالح القرمادي أنه كان في البداية يلقي درسه في الألسنية كما كان يسميها، تحت عنوان شرح "شرح كتاب المفصل" لابن يعيش.
وروى لي أن الأستاذ الشاذلي العياري لما كان مديرا لمركز البحوث والدراسات الاجتماعية اتصل به هاتفيا ذات ليلة وطلب منه عدم المجيء من الغد إلى المركز لأنه علم أن الوزير المسعدي سيزور المركز ذاك اليوم، وقد تمت إزالة لافتة مكتب القرمادي من بابه الذي تم غلقه وإعلام الوزير أنه مستودع أرشيف. والمعروف عن المسعدي عداوته الشديدة لعلم اللسانيات.
ولكن رياح التجديد الآتية إلى تونس من الغرب والتجاوب الكبير من قبل الطلبة، مكنا هذه الحركة من الثبات والتوسع حتى أصبحت أحد عوامل الريادة الأساسية للجامعة التونسية في المنطقة العربية.
3- لم يبق الدرس الحضاري بمعزل عن هذه الحركة التجديدية خاصة بعد انتشار كتب عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري والطيب تيزيني وصادق جلال العظم وغيرهم.
لذلك بدأت مساحة الدرس الحضاري تتوسع وأخذ الاهتمام البحثي بمسائله يتزايد بين صفوف طلبة المرحلة الثالثة ويفتح منهجيا على علوم إنسانية أخرى بعضها غريب عن السجل المعرفي العربي التقليدي مثل الانتروبولوجيا والمناهج المقارنية وكان للأستاذ عبد المجيد الشرفي فضل كبير في ذلك، ولكن مقاومة الزملاء في اختصاصي اللغة والأدب ظلت قائمة حتى وإن اتخذت أشكالا صامتة وكانت تتم عبر التهميش وفي عمل اللجان وخاصة في لجان الانتداب.
وهو ما حكم على الدرس الحضاري في قسم العربية بالبقاء في وضع الربيب الثقيل الذي يواجه بالتحقير والريبة والخوف من إمكانية الاشتراك يوما في " الإرث التليد ".
4- كانت لي ولزملائي في معهد بورقيبة للغات الحية الفرصة للمساهمة في هذا الجهد التأسيسي الطويل للدرس الحضاري وذلك عندما شرعنا في سنة 1993 في بعث أستاذية جديدة في العربية، ضمن مشروع متكامل لبعث أستاذات في مختلف اللغات الحية، وقد استفدنا من خصوصية المعهد آنذاك لتأسيس أستاذية في "اللغة والآداب والحضارة العربية" مختلفة عن الأستاذات التقليدية في بقية الكليات. من ذلك أننا وزعنا المادة المدروسة إلى وحدات متساوية القيمة في الأدب واللغويات والحضارة والمناهج، القديم منها والحديث.وقسمنا الأستاذية إلى مرحلتين بدل التوزيع السنوي التقليدي فيكون الارتقاء من مرحلة إلى أخرى وليس من سنة إلى أخرى بحسب عدد الوحدات المحرزة وتكاملها. وبذلك اكتسب الدرس الحضاري نفس القيمة ضمن مكونات الأستاذية.وهي تجربة تم للأسف إحباطها لاحقا بعنوان توحيد الاستاذيات في قالب واحد يأتي جاهزا من قبل اللجان العاملة تحت إشراف إداريي الوزارة على حساب روح المبادرة وحرية الدرس الجامعي التي ميزت الجامعة التونسية منذ نشأتها وبذلك تم تجريد الأستاذ الجامعي من سلطته الأكاديمية لفائدة سلطة الإدارة بواسطة نخبة من الجامعيين الذين برعوا في ارتداء البدلة الرسمية لعضوية "اللجان" بكل منافعها المادية والمعنوية.
5- حتى قبل إجهاض تجربة المعهد،حاول البعض من زملائنا في اللغة والأدب التقليل من أهمية الدرس الحضاري كما تصورناه إذ قررت إحدى هذه اللجان في اجتماع لها بالوزارة في عهد المرحوم الصديق الدالي الجازي حذف ساعة أسبوعيا من ساعات الوحدات الحضارية التي تم تعميمها على مختلف الكليات(3 ساعات) وما أن علمت بالأمر عن طريق الزميل المنصف بن عبد الجليل الذي كان مكلفا بمهمة بديوان الوزير، حتى كاتبت سي الدالي موضحا أبعاد المسألة وأهمية الدرس الحضاري في مقاومة سلطة المسلمات والعقليات الاطلاقية والإقصائية، وهو ما تفهمه مشكورا ولم يكتف بإعادة الساعة المحذوفة بل أضاف عليها ساعة أخرى ليصبح المجموع بين الدرس والتطبيق 4 ساعات.
6- عندما تم التحول إلى نظام "إمد" ، عاد زملاؤنا اللجانيون إلى محاولات القضم من مكانة الدرس الحضاري في إجازة العربية التي قبلوا على مضض وبعد جهد طويل تضمينها صفة الحضارة( الإجازة في اللغة والأدب والحضارة العربية). وتم ذلك القضم عبر التخفيض في ساعات التدريس وفي حجم الأرصدة المسندة، فقمت مع ثلة من الزملاء بإمضاء عريضة سلمتها الى الوزير آنذاك(25/ 6 / 2009) المرحوم الأزهر بوعوني، وهي تحمل إمضائي وإمضاء الزميلات والزملاء:
نحن أساتذة الحضارة بالجامعة التونسية الممضين أسفله:
1- نؤكد إسهام الدرس الحضاري في تجديد تدريس اللغة العربية، ونسجل باعتزاز المستوى الذي أصبح عليه هذا الدرس معرفيا وبيداغوجيا مما مكن الجامعة التونسية من مواكبة ما شهده العالم اليوم من تطور في مجال العلوم الإنسانية، وتبوئ مكانة متميزة على الساحة العربية.
2-نثمن الدور التحديثي والتنويري الذي يقوم به تدريس مادة الحضارة العربية وذلك في انسجام كامل مع التوجهات الوطنية العريقة والمتواصلة في هذا الشأن.
-3 ننبه الى خطورة توخي موقف تهميشي لمادة الحضارة في إجازة اللغة العربية،مما قد ينجر عنه التضحية بالمكاسب الجامعية والوطنية المحققة في هذا الموضوع.
-4 ندعو الهيئات المعنية إلى التعامل مع دروس مادة الحضارة في شعبة العربية على قدم المساواة مع دروس اللغة والأدب وذلك سواء من حيث حجم ساعات التدريس أو الأرصدة المسندة
وقد لقيت هذه العريضة تجاوبا إيجابيا من المرحوم بوعوني.
-5 ولكن في الوقت الذي ظننا فيه أن الدرس الحضاري قد نال أخيرا مكانته ضمن شعبة العربية،ظهرت بؤر معارضة أخرى مختلفة الحدة والجدية نابعة من مجالات جامعية أخرى غير شعبة العربية وخاصة بين أساتذة الفلسفة والعلوم الدينية والتاريخ.
ويعود ذلك، دون اعتبار الحزازات والمنافسات الشخصية، إلى ثلاثة عوامل أساسية هي :
أ- تداخل مجالات البحوث الفلسفية والتاريخية والدينية مع مركز اهتمام المبحث الحضاري الذي يهتم بالبحث في النتاج التفاعلي للتقاطع بين مختلف هذه المجالات في مستوى صياغة أشكال الوعي وإنتاج التصورات الحافزة وأنماط التعامل مع الواقع المتصور ضمن حضارة ما وبالتفاعل مع منظومات أخرى محايثة أو مجاورة أو سابقة وهو ما يتطلب اعتماد مناهج مقارنية وتحليلية تعود إلى مجالات عديدة من العلوم الإنسانية.
إن الدارس الحضاري إذا استعمل مادة تاريخية أو فقهية أو فلسفية مثلا، فإنه لا يتعامل معها لا كمؤرخ ولا كفقيه ولا كفيلسوف وإنما كباحث في مسألة حضارية. ولذلك منهجه وضوابطه التي لا يتسع المجال هنا للتوسع فيها، وإنما أحيل من يرغب في ذلك على مقدمة أطروحتي المنشورة في جزأين لدى دار الفارابي، بيروت بعنوان" المثقفون والسلطة في الحضارة العربية ".
ب- قلة إلمام عدد من أساتذة الفلسفة وخاصة أساتذة التاريخ وبالأخص أساتذة العلوم الدينية، بمختلف العلوم الإنسانية بمدارسها المنهجية المتعددة؛ خارج اختصاصاتهم الدقيقة. إضافة العقلية المشيخية التى تسيطر على بعضهم.
ج- وهو الأهم في رأيي ويعود إلى عدم تمكن عدد هام من القائمين بالدرس الحضاري من مفهوم البحث الحضاري ومناهجه مما يدفعهم إلى استسهال الخوض فيه على اعتبار أنه كما يقول بعضهم "الأخذ من كل شيء بطرف ". فيتصدون للبحث في مادة فقهية بعقلية فقيه دون أن تكون لهم كفاءة الفقهاء ويدرسون مادة تاريخية بعقلية المؤرخ دون علمه ويطرحون قضايا فلسفية لا قدرة لهم على فهم دقائقها ولا الإلمام حتى بمفاهيمها.
وفي الختام أعبر عن سروري بإثارة الزميلين محجوب وبوخداجة لمثل هذا النقاش في زمن طغت فيه الاهتمامات الاستهلاكية الغرائزية على كل ما هو فكري.