تحيل الكلمات على معانٍ كثيرة في العالم الاجتماعي، يصعب فهمها إلاّ إذا ربطناها بسياقها العمليّ. ويحيل سياقها على أفعال وممارسات، قد تختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى. لكن، حين نتمعّن في دلالاتها، قد تعود بنا إلى تاريخ طويل من التراكم والتداول، فهي في ارتباط وثيق بتنشئتنا الاجتماعية، في بعديها: الايجابيّ والسلبيّ. وتُستبطن هذه الممارسات، في الأذهان والأجساد، وترسخُ. ولعلّ السياق الحاضر الذي، نعيش فيه، ونواكب، ونلاحظ، ونشارك، ونتأمّل، يسمح لنا بفهم ما يحدث حولنا، في عالمنا الاجتماعي التونسيّ من سلوكيات، قد تبرز من حين لآخر، دون وعي منا، وقد تكون مدفوعة بانفعال وانطباع وانسياق، دون رؤية وتبصّر. فتفقد الكلمات، بهذا المعنى، الكثير من معانيها في سوق التفاعل والتداول الاجتماعي. وهذا الطّمس في المعنى، قد يكون بفعل فاعل مُتحكّم فيه ومُهيمن عليه، ومُوجّه له متى شاء وحيث أراد. وقد يرتضيه الممارس عليه، طوعا.
نحاول، وقتئذ، أن نركّز في مقالنا هذا على معاني "القوى الصلبة" ودلالاتها في الواقع التونسيّ المعيش، وهي كلمة مُركّبة ومُربكة، ما فتئت تُثار باستمرار في الدولة والمجتمع، عبر وسائط كثيرة: سمعيّة وبصريّة. وتُثير فينا، بالتوازي، أسئلة كثيرة: عن المعنى، أوّلا؟ وعن الاستخدام وأغراضه وخلفيّاته، ثانيا؟ وعن تجليّات الممارسة، ثالثا؟ وضرورة فكّ الغموض عن المعنى و لبسه، رابعا؟
أوّلا، خلافا لما تحمله "القوى الصّلبة" من دلالات لها علاقة، في الغالب، بالقوى الأمنيّة والعسكريّة، فأنّنا لا نقف عندها، من حيث المعنى الواحد، تحديدا. بل للكلمة المركّبة من "القوى" في جمعها، و"الصّلبة" في مفردها، معانٍ كثيرة، لا يمكن حصرها في هذا الاتجاه، فعناوينها كثيرة ومشاربها مُتعدّدة. فحين تقترن القوّة بالصّلابة، ففي ذلك مغزى ومعنى. ولعلّنا نفهم مقتضيات القوة "الكلمة - المفهوم" ومُكوّناتها، في كثير من الأطر المعرفيّة، الفلسفيّة والسوسيولوجيّة، ودوافعها الشرعيّة، وغير الشرعيّة. لكن، حين يتعلّق الأمر بالصّلبة وما يتبعها من مفردات شبيهة، كالتّصلّب والصّلابة تتحوّل إلى دفق آخر من المعاني، تتداخل فيه مقاربات ومنظورات وعلوم مختلفة: طبيعيّة وفيزيائيّة وكيميائيّة وإنسانية... وقد يُفهم الصّلب، بالمعنى الفيزيائيّ، على انّه كتلة لا فراغ بينها، وهو الجسم الذي لا يتغيّر شكله، أي، يبقى كما هو عند التأثير بقوّة خارجيّة عليه، ولا تتغيّر المسافة بين النقطتين على الجسم. فالصّلب، كالحديد عكس اللين والمرن. والصُّلْبُ من الأرض: الشديدُ الجامد. وحين يُنظر إليه، في المعنى اللغويّ العربيّ الجامع، يُشتقّ من فعل صلَبَ يَصلُب ويَصلِب ، صَلْبًا ، فهو صالِب، والمفعول مَصْلوب وصليب. ويحيلنا هذا التسلسل في الاشتقاق اللغوي على مفردات مشابهة، قد تلتقي جميعها في الشّدة والتصلّب والبأس، في علاقة بفعل الإنسان تجاه بني جلدته، وفي علاقة وذكرتنا الجماعيّة التونسيّة، وتمثّلاتنا لهذا الاستعمال اللغويّ المشترك...
ثانيا، يبدو الاستعمال الطاغي لكلمة "القوى الصلبة" مقترنا بالتمثل الرسميّ، أي، في الدولة وأجهزتها، وبخاصّة الأمنيّة والعسكريّة، وهذا الاستعمال المتكرّر، وما يقترن به من عبارات الشّدة والحزم والصّرامة، قد يحيل، في الآن نفسه، على المعنى ونقيضه. فيُقصد به: حفظ النّظام والتخويف منه، كذلك. ونتساءل –هنا- لماذا يتكرّر فعل الصّلابة ويقترن بالقوّة؟ هل لحفظ النظام وحده؟ أم من أجل فرضه؟ أم لأجل هيمنة تتعدى ذلك إلى ما هو أعمق؟ يبدو لنا الفعل في تحوّل من الذهن إلى الجسد، وهو ملحوظ عند كثير من الأمنيين والعسكريين، حين يطغى فعل الترويع والتخويف والتسلّط على فعل الأمن وحفظه. وقد لا تقترن، في اعتقادنا، هذه الأفعال، بالبوليس "ولد الحومة الشعبية"، فردا، بشكل مخصوص، باعتباره خاضعا لأوامر ومهمّات. بل، في الغالب، هي وقائع، لها تراكمات تاريخيّة ودوافع، لا يمكن ردّها للأجهزة القاعديّة المُنفّذة لفعل الصّلابة على الميدان. فهي تتجاوز الفرد المنفّذ، إلى المنظومة المنتظمة في ذلك، أي في الجهاز قبل الأشخاص، تُمرّر ممّن هو أعلى سلطة، أي وفق تراتبيّة، يتحكّم فيها الرأسمال المُهيمن، أي الحاكم الخفيّ بأمره، الذي لا يظهر في الصورة المباشرة. يتلقى هذا الأمني كل أشكال الصّلابة لتدفعه لردّها مجتمعيّا، فحين يُجبر حافظ الأمن على أفعال كثيرة، لا تُبرّر بمنطق، ولا بوعي، يتحوّل كذلك جسده إلى صلبٍ، ويعيش بالصّلابة، دون وعي منه، ويفقد تدريجيّا علاقته بأقرانه وبمحيطه الاجتماعي، فهو يمارس الفعل كما يُمارس عليه. طبعا، لا نُعمّم، فهناك استثناءات كثيرة، وهي محلّ نظر لعلماء النفس، للبحث في الشخصيّة السويّة من دونها. لكن، يظلّ السؤال الأعمق: من يتحكّم في رجل الأمن؟ هل هي القوى الأمنيّة برتبها التصاعديّة؟ أم قوى خفيّة سياسيّة؟ أم اقتصاديّة؟ أم هي قوى متشابكة تُوظّف كلّ هذه القوى والراساميل؟ بلغة بورديو، من أجل احتكار السّلطة وممارستها والتمسّك بها، لأغراض كثيرة، للربح والنفوذ والهيمنة... وعندها يصبح عون الأمن، الحلقة الأضعف في هذه الشّبكة.
ثالثا، ليس من العدل، أن نختزل "القوى الصّلبة" في القوى الأمنيّة والعسكريّة فحسب، أو بمعنى آخر، نردّها إلى الدولة وأجهزتها لوحدها، فنحن كذلك نمارس "القوى الصّلبة" في أنفسنا، وفي علاقاتنا، وتفاعلاتنا اليوميّة؟ ولعلّنا نتحمّل مسؤوليّة كبيرة في صلابة الأمنيّ، أي، من صَلّبهُ؟ ومن دفعه إلى التصلّب؟ هذا ليس دفاعا عن منطق القوّة والشدّة والتصلّب، في غير موضعه. ولكن، بمعنى آخر، وبموضوعيّة النظر، إلى ما يحيط بنا من أفعال وسلوكيات غريبة، يأتيها الأفراد كما الجماعات، وتُربك توازننا الاجتماعيّ، وتُفسد اندماجنا، وتُعطّل أدوارنا، وتُحدث خللا وتمزّقا في نسيجنا المجتمعيّ، فالأزمة تتغذّى، كما نعتقد، في الكلّ الاجتماعي، وتنعكس على الفرديّ والجماعيّ، في آن معا، المنظّم وغير المنظّم، المؤسّس وغير المؤسّس، والمهيكل وغير المهيكل... وبهذا المعنى، تأتينا القوى الصلبة، من كلّ حدب وصوب، وتباغتنا. وهي مبثوثة، في السياسيّ، والتربويّ، والثقافيّ، والاقتصاديّ...وقد يتحوّل رجل الأمن إلى ضحيّة، حين يصبح في صراع مع الكلّ. إننّا نمارس القوّة الصّلبة دون مُبرّر عقلانيّ لذلك، ونردّ الفعل بقوّة و"الصّاع صاعين"...وهذا يحيلنا على منطق التخلّف برمّته، وغياب الحوار، والمحاورة، في الدولة والمجتمع، وهو ملحوظ في كلّ قطاعاتها. ونمارس هذا- أيضا- في الأسرة والمؤسّسة والشارع وفي فضاءات عديدة موازية: إدارية، وعموميّة، وخاصّة... ولعلّنا نُرجع هذه الأفعال، في تراكماتها التاريخيّة، إلى ترسّباتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، التي حالت، ولعقود طويلة، نحو ممارسة فعل الديمقراطية ومتطلباتها،، في الأسرة التونسيّة، وفي مجتمعنا بكلّ مكوّناته، فبقيت مؤسساتنا وسياساتنا وخططنا، تسير في اتجاه فرض الرأي الواحد، والشخصنة، والسّلطة الأبويّة المتشدّدة، وما ترتّب عنها، من حجب لمعاني الحريّة والعدالة، وخوف من الانفتاح على المختلف، وقتل المبدع فينا، بصلابة القوّة واحتكارها. لذلك، تحوّلنا، رغما عنّا، إلى شخصيّات مستنفرة وعنيفة، لا وئام بينها، ولا ثقة، ولا تراحم.
رابعا، إن القوى الصّلبة، كما نتمثّلها، ليست بريئة في الاستخدام، ولا في التداول، والتكرار، فهي تحيل غلى خطاب ملغوم، غير بريء، يُوظّف في اتجاهات كثيرة. أغلب الظن، أنّها تسير نحو إحكام السيطرة والهيمنة على من تمارس عليهم. وتُغيّب بفعل هذه "القوى الصّلبة"، حقوق الناس: الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والسياسيّة، وحقّ التعبير، وحتى حقّ الكلام، فكم من صوت خُمد، وأصوات كثيرة تموت قبل وقتها. لكن، الذي يتحمّل المسؤولية الأكبر، في اعتقادنا، هو من يُسوّق لمثل هكذا مقولات لها أغراضها ودوافعها العلنيّة والخفيّة. عندما نشاهد مثلا ما يُمرّر، في الإعلام العموميّ أو الخاص، في جزء كبير منه، من خطب وصور وفيديوهات، نستنتج أنّ أغلبها "كلمات حقّ أريد بها باطل"، فهي تتجه نحو مزيد الهيمنة وتركيع النّاس، أكثر مما تتجه إلى توعيتهم وتثقيفهم. وطبعا، نحن نستثني الأصوات الوطنيّة الحرّة والنزيهة، من هذه الغطرسة. لقد أفقنا منذ 2011، على معجم لغويّ تونسيّ، غزير بكلّ المعاني، تبرز فيه مقولات الحريّة والكرامة والعدالة والديمقراطيّة والاعتراف، وتفرض نفسها، بالتوازي، مقولات التظلّم والاستبداد والحقرة والتهميش والتمييز... ولا تشذّ مقولة "القوى الصلبة" عن هذين الاتجاهين، فهي قابلة للتوظيف في المنحيين: سلبا أو إيجابا.
أخيرا، ليس هنالك أخطر على وجودنا من أن تفقد الكلمات معانيها، ونصبح في حضرة اللامعنى والفراغ والتيه، فيغيب الإحساس بالكرامة والحريّة والإنسانيّة. نحن، نرى التصلّب في العقول والأفكار قبل الممارسات، فعندما تُستبطن الفكرة وتلتبس بالجسد وتعشّش فيه، تتحوّل فينا إلى دغمائية، وننتهي إلى التكلّس والتحجّر... أقول، ولي أمل كبير، في نخبنا المثقفة والمفكّرة والصادقة، وبالأخصّ، إعلاميينا وإعلامياتنا، الأحرار والشرفاء، نحن بحاجة إلى قواكم الحوارية في الحق دائما، وإلى رؤاكم، بعيدا عن التصلّب أو التطرّف، بحاجة إلى قواكم السلسة والمرنة، الكاشفة للحقيقة، الدافعة للغطرسة والتضليل. نحتاجكم لقول الحقيقة، بكل قواكم الصلبة، ولا لخدمة القوى الصلبة المتسلّطة، مهما كان شكلها أو مصدرها. ونحتاج هذا في كلّ ممارساتنا، وفي كلّ قطاعاتنا، ونحتاج "القوى الصلبة" في صلابة صدقها وردّ العداء عن وطنها أولا وأخيرا، لا على رقاب أبنائها وبناتها. فالقوى المتحجرة، لا تدفع نحو الرقيّ، ولا نحو التنمية المنشودة، ولا تصلح للتربية على المواطنة الحقيقيّة، والفاعلة. نحتاج- قولا وفعلا- أن نربي أنفسنا دائما، ونمرر لأطفالنا وشبابنا قيم التسامح والاختلاف واحترام الرأي المخالف والتعدد، وعلينا أن لا نحتكر السيادة، أو نسوّقها في اتجاه واحد، لا باسم القوى الصلبة، ولا تبعاتها، إن كان في الدولة أو المجتمع، كما يُروج لنا، في وزارات تحتكرها دون غيرها، وهذا ليس من الصّواب، فالسيادة كلّ لا يمكن تجزئتها، الكلّ يمثّلها: الأمن، والتربية، والثقافة، والشباب، والفلاحة، والتجارة، وكلّ الوزارات... والسيادة على الوطن نتقاسمها جميعا بلا تمييز ولا استثناء...
• باحث في علم الاجتماع
بقلم: علي الظاهري(*)
تحيل الكلمات على معانٍ كثيرة في العالم الاجتماعي، يصعب فهمها إلاّ إذا ربطناها بسياقها العمليّ. ويحيل سياقها على أفعال وممارسات، قد تختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى. لكن، حين نتمعّن في دلالاتها، قد تعود بنا إلى تاريخ طويل من التراكم والتداول، فهي في ارتباط وثيق بتنشئتنا الاجتماعية، في بعديها: الايجابيّ والسلبيّ. وتُستبطن هذه الممارسات، في الأذهان والأجساد، وترسخُ. ولعلّ السياق الحاضر الذي، نعيش فيه، ونواكب، ونلاحظ، ونشارك، ونتأمّل، يسمح لنا بفهم ما يحدث حولنا، في عالمنا الاجتماعي التونسيّ من سلوكيات، قد تبرز من حين لآخر، دون وعي منا، وقد تكون مدفوعة بانفعال وانطباع وانسياق، دون رؤية وتبصّر. فتفقد الكلمات، بهذا المعنى، الكثير من معانيها في سوق التفاعل والتداول الاجتماعي. وهذا الطّمس في المعنى، قد يكون بفعل فاعل مُتحكّم فيه ومُهيمن عليه، ومُوجّه له متى شاء وحيث أراد. وقد يرتضيه الممارس عليه، طوعا.
نحاول، وقتئذ، أن نركّز في مقالنا هذا على معاني "القوى الصلبة" ودلالاتها في الواقع التونسيّ المعيش، وهي كلمة مُركّبة ومُربكة، ما فتئت تُثار باستمرار في الدولة والمجتمع، عبر وسائط كثيرة: سمعيّة وبصريّة. وتُثير فينا، بالتوازي، أسئلة كثيرة: عن المعنى، أوّلا؟ وعن الاستخدام وأغراضه وخلفيّاته، ثانيا؟ وعن تجليّات الممارسة، ثالثا؟ وضرورة فكّ الغموض عن المعنى و لبسه، رابعا؟
أوّلا، خلافا لما تحمله "القوى الصّلبة" من دلالات لها علاقة، في الغالب، بالقوى الأمنيّة والعسكريّة، فأنّنا لا نقف عندها، من حيث المعنى الواحد، تحديدا. بل للكلمة المركّبة من "القوى" في جمعها، و"الصّلبة" في مفردها، معانٍ كثيرة، لا يمكن حصرها في هذا الاتجاه، فعناوينها كثيرة ومشاربها مُتعدّدة. فحين تقترن القوّة بالصّلابة، ففي ذلك مغزى ومعنى. ولعلّنا نفهم مقتضيات القوة "الكلمة - المفهوم" ومُكوّناتها، في كثير من الأطر المعرفيّة، الفلسفيّة والسوسيولوجيّة، ودوافعها الشرعيّة، وغير الشرعيّة. لكن، حين يتعلّق الأمر بالصّلبة وما يتبعها من مفردات شبيهة، كالتّصلّب والصّلابة تتحوّل إلى دفق آخر من المعاني، تتداخل فيه مقاربات ومنظورات وعلوم مختلفة: طبيعيّة وفيزيائيّة وكيميائيّة وإنسانية... وقد يُفهم الصّلب، بالمعنى الفيزيائيّ، على انّه كتلة لا فراغ بينها، وهو الجسم الذي لا يتغيّر شكله، أي، يبقى كما هو عند التأثير بقوّة خارجيّة عليه، ولا تتغيّر المسافة بين النقطتين على الجسم. فالصّلب، كالحديد عكس اللين والمرن. والصُّلْبُ من الأرض: الشديدُ الجامد. وحين يُنظر إليه، في المعنى اللغويّ العربيّ الجامع، يُشتقّ من فعل صلَبَ يَصلُب ويَصلِب ، صَلْبًا ، فهو صالِب، والمفعول مَصْلوب وصليب. ويحيلنا هذا التسلسل في الاشتقاق اللغوي على مفردات مشابهة، قد تلتقي جميعها في الشّدة والتصلّب والبأس، في علاقة بفعل الإنسان تجاه بني جلدته، وفي علاقة وذكرتنا الجماعيّة التونسيّة، وتمثّلاتنا لهذا الاستعمال اللغويّ المشترك...
ثانيا، يبدو الاستعمال الطاغي لكلمة "القوى الصلبة" مقترنا بالتمثل الرسميّ، أي، في الدولة وأجهزتها، وبخاصّة الأمنيّة والعسكريّة، وهذا الاستعمال المتكرّر، وما يقترن به من عبارات الشّدة والحزم والصّرامة، قد يحيل، في الآن نفسه، على المعنى ونقيضه. فيُقصد به: حفظ النّظام والتخويف منه، كذلك. ونتساءل –هنا- لماذا يتكرّر فعل الصّلابة ويقترن بالقوّة؟ هل لحفظ النظام وحده؟ أم من أجل فرضه؟ أم لأجل هيمنة تتعدى ذلك إلى ما هو أعمق؟ يبدو لنا الفعل في تحوّل من الذهن إلى الجسد، وهو ملحوظ عند كثير من الأمنيين والعسكريين، حين يطغى فعل الترويع والتخويف والتسلّط على فعل الأمن وحفظه. وقد لا تقترن، في اعتقادنا، هذه الأفعال، بالبوليس "ولد الحومة الشعبية"، فردا، بشكل مخصوص، باعتباره خاضعا لأوامر ومهمّات. بل، في الغالب، هي وقائع، لها تراكمات تاريخيّة ودوافع، لا يمكن ردّها للأجهزة القاعديّة المُنفّذة لفعل الصّلابة على الميدان. فهي تتجاوز الفرد المنفّذ، إلى المنظومة المنتظمة في ذلك، أي في الجهاز قبل الأشخاص، تُمرّر ممّن هو أعلى سلطة، أي وفق تراتبيّة، يتحكّم فيها الرأسمال المُهيمن، أي الحاكم الخفيّ بأمره، الذي لا يظهر في الصورة المباشرة. يتلقى هذا الأمني كل أشكال الصّلابة لتدفعه لردّها مجتمعيّا، فحين يُجبر حافظ الأمن على أفعال كثيرة، لا تُبرّر بمنطق، ولا بوعي، يتحوّل كذلك جسده إلى صلبٍ، ويعيش بالصّلابة، دون وعي منه، ويفقد تدريجيّا علاقته بأقرانه وبمحيطه الاجتماعي، فهو يمارس الفعل كما يُمارس عليه. طبعا، لا نُعمّم، فهناك استثناءات كثيرة، وهي محلّ نظر لعلماء النفس، للبحث في الشخصيّة السويّة من دونها. لكن، يظلّ السؤال الأعمق: من يتحكّم في رجل الأمن؟ هل هي القوى الأمنيّة برتبها التصاعديّة؟ أم قوى خفيّة سياسيّة؟ أم اقتصاديّة؟ أم هي قوى متشابكة تُوظّف كلّ هذه القوى والراساميل؟ بلغة بورديو، من أجل احتكار السّلطة وممارستها والتمسّك بها، لأغراض كثيرة، للربح والنفوذ والهيمنة... وعندها يصبح عون الأمن، الحلقة الأضعف في هذه الشّبكة.
ثالثا، ليس من العدل، أن نختزل "القوى الصّلبة" في القوى الأمنيّة والعسكريّة فحسب، أو بمعنى آخر، نردّها إلى الدولة وأجهزتها لوحدها، فنحن كذلك نمارس "القوى الصّلبة" في أنفسنا، وفي علاقاتنا، وتفاعلاتنا اليوميّة؟ ولعلّنا نتحمّل مسؤوليّة كبيرة في صلابة الأمنيّ، أي، من صَلّبهُ؟ ومن دفعه إلى التصلّب؟ هذا ليس دفاعا عن منطق القوّة والشدّة والتصلّب، في غير موضعه. ولكن، بمعنى آخر، وبموضوعيّة النظر، إلى ما يحيط بنا من أفعال وسلوكيات غريبة، يأتيها الأفراد كما الجماعات، وتُربك توازننا الاجتماعيّ، وتُفسد اندماجنا، وتُعطّل أدوارنا، وتُحدث خللا وتمزّقا في نسيجنا المجتمعيّ، فالأزمة تتغذّى، كما نعتقد، في الكلّ الاجتماعي، وتنعكس على الفرديّ والجماعيّ، في آن معا، المنظّم وغير المنظّم، المؤسّس وغير المؤسّس، والمهيكل وغير المهيكل... وبهذا المعنى، تأتينا القوى الصلبة، من كلّ حدب وصوب، وتباغتنا. وهي مبثوثة، في السياسيّ، والتربويّ، والثقافيّ، والاقتصاديّ...وقد يتحوّل رجل الأمن إلى ضحيّة، حين يصبح في صراع مع الكلّ. إننّا نمارس القوّة الصّلبة دون مُبرّر عقلانيّ لذلك، ونردّ الفعل بقوّة و"الصّاع صاعين"...وهذا يحيلنا على منطق التخلّف برمّته، وغياب الحوار، والمحاورة، في الدولة والمجتمع، وهو ملحوظ في كلّ قطاعاتها. ونمارس هذا- أيضا- في الأسرة والمؤسّسة والشارع وفي فضاءات عديدة موازية: إدارية، وعموميّة، وخاصّة... ولعلّنا نُرجع هذه الأفعال، في تراكماتها التاريخيّة، إلى ترسّباتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، التي حالت، ولعقود طويلة، نحو ممارسة فعل الديمقراطية ومتطلباتها،، في الأسرة التونسيّة، وفي مجتمعنا بكلّ مكوّناته، فبقيت مؤسساتنا وسياساتنا وخططنا، تسير في اتجاه فرض الرأي الواحد، والشخصنة، والسّلطة الأبويّة المتشدّدة، وما ترتّب عنها، من حجب لمعاني الحريّة والعدالة، وخوف من الانفتاح على المختلف، وقتل المبدع فينا، بصلابة القوّة واحتكارها. لذلك، تحوّلنا، رغما عنّا، إلى شخصيّات مستنفرة وعنيفة، لا وئام بينها، ولا ثقة، ولا تراحم.
رابعا، إن القوى الصّلبة، كما نتمثّلها، ليست بريئة في الاستخدام، ولا في التداول، والتكرار، فهي تحيل غلى خطاب ملغوم، غير بريء، يُوظّف في اتجاهات كثيرة. أغلب الظن، أنّها تسير نحو إحكام السيطرة والهيمنة على من تمارس عليهم. وتُغيّب بفعل هذه "القوى الصّلبة"، حقوق الناس: الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والسياسيّة، وحقّ التعبير، وحتى حقّ الكلام، فكم من صوت خُمد، وأصوات كثيرة تموت قبل وقتها. لكن، الذي يتحمّل المسؤولية الأكبر، في اعتقادنا، هو من يُسوّق لمثل هكذا مقولات لها أغراضها ودوافعها العلنيّة والخفيّة. عندما نشاهد مثلا ما يُمرّر، في الإعلام العموميّ أو الخاص، في جزء كبير منه، من خطب وصور وفيديوهات، نستنتج أنّ أغلبها "كلمات حقّ أريد بها باطل"، فهي تتجه نحو مزيد الهيمنة وتركيع النّاس، أكثر مما تتجه إلى توعيتهم وتثقيفهم. وطبعا، نحن نستثني الأصوات الوطنيّة الحرّة والنزيهة، من هذه الغطرسة. لقد أفقنا منذ 2011، على معجم لغويّ تونسيّ، غزير بكلّ المعاني، تبرز فيه مقولات الحريّة والكرامة والعدالة والديمقراطيّة والاعتراف، وتفرض نفسها، بالتوازي، مقولات التظلّم والاستبداد والحقرة والتهميش والتمييز... ولا تشذّ مقولة "القوى الصلبة" عن هذين الاتجاهين، فهي قابلة للتوظيف في المنحيين: سلبا أو إيجابا.
أخيرا، ليس هنالك أخطر على وجودنا من أن تفقد الكلمات معانيها، ونصبح في حضرة اللامعنى والفراغ والتيه، فيغيب الإحساس بالكرامة والحريّة والإنسانيّة. نحن، نرى التصلّب في العقول والأفكار قبل الممارسات، فعندما تُستبطن الفكرة وتلتبس بالجسد وتعشّش فيه، تتحوّل فينا إلى دغمائية، وننتهي إلى التكلّس والتحجّر... أقول، ولي أمل كبير، في نخبنا المثقفة والمفكّرة والصادقة، وبالأخصّ، إعلاميينا وإعلامياتنا، الأحرار والشرفاء، نحن بحاجة إلى قواكم الحوارية في الحق دائما، وإلى رؤاكم، بعيدا عن التصلّب أو التطرّف، بحاجة إلى قواكم السلسة والمرنة، الكاشفة للحقيقة، الدافعة للغطرسة والتضليل. نحتاجكم لقول الحقيقة، بكل قواكم الصلبة، ولا لخدمة القوى الصلبة المتسلّطة، مهما كان شكلها أو مصدرها. ونحتاج هذا في كلّ ممارساتنا، وفي كلّ قطاعاتنا، ونحتاج "القوى الصلبة" في صلابة صدقها وردّ العداء عن وطنها أولا وأخيرا، لا على رقاب أبنائها وبناتها. فالقوى المتحجرة، لا تدفع نحو الرقيّ، ولا نحو التنمية المنشودة، ولا تصلح للتربية على المواطنة الحقيقيّة، والفاعلة. نحتاج- قولا وفعلا- أن نربي أنفسنا دائما، ونمرر لأطفالنا وشبابنا قيم التسامح والاختلاف واحترام الرأي المخالف والتعدد، وعلينا أن لا نحتكر السيادة، أو نسوّقها في اتجاه واحد، لا باسم القوى الصلبة، ولا تبعاتها، إن كان في الدولة أو المجتمع، كما يُروج لنا، في وزارات تحتكرها دون غيرها، وهذا ليس من الصّواب، فالسيادة كلّ لا يمكن تجزئتها، الكلّ يمثّلها: الأمن، والتربية، والثقافة، والشباب، والفلاحة، والتجارة، وكلّ الوزارات... والسيادة على الوطن نتقاسمها جميعا بلا تمييز ولا استثناء...