إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مسار الثورة التونسية على محك علم الاجتماع السياسي

بقلم: رشيد خشانة(*)

يعتقد أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة التونسية الدكتور عبد اللطيف الهرماسي، أن الزمن الذي يفصلنا عن حدث الثورة (2011) يكفي لتحليل أسبابها وفهم مُجرياتها واستيعاب مآلاتها. ومن صلب هذه الرؤية أتت فكرة كتابه الجديد الصادر مؤخرا عن دار "سوتيميديا" والحامل لعنوان "تونس الثورة والمحنة: مقاربة من منظور علم الاجتماع السياسي". وللوهلة الأولى قد يذهب في ظن القارئ أنه بإزاء بحث تأريخي للزمن الراهن، وهو الفرع الجديد من علم التأريخ، الذي شغف به بعض باحثينا وتوفقوا في ذلك، أسوة بالدكتور الهادي التيمومي والدكتور فتحي ليسير. غير أن الهرماسي ذهب إلى أبعد من ذلك، فوضع على المحك أسئلة وإشكالات عدة، تتعلق بالثورة والانتقال الديمقراطي والوثنيات الأيديولوجية والعصبيات الحزبية والطائفيات المهنية والخطابات الشعبوية. وعزز ذلك بقراءة نقدية لما أنتجه باحثون تونسيون في علم الاجتماع عن الثورة.

ولا يُخفي المؤلف أنه ينحدر من اليسار الماركسي، الذي يقول في مقدمة الكتاب، إنه تشبع به، والذي كان له دور كبير في تشكيل وعي النخب الشابة في سبعينات القرن الماضي. على أن الهرماسي اتخذ موقفا نقديا من الماركسية في نقطتين هما معاداتها للحريات الديمقراطية الليبرالية، بحجة كونها حريات برجوازية، والثانية رفضه الموقف الماركسي في نسخته الاختزالية من الدين . 

ويلخص الكاتب جوهر الفكر الماركسي في مقولة أن "الثورة هي ولاّدة التاريخ". لكنه يستدرك مُعتبرا أن القراءة الحصيفة للتاريخ تعلمنا أن الثورة تفتح أيضا على العفوية والفوضى والعنف وعلى المجهول، مما لا يمكن الحد من آثاره السلبية، إلا بتوافر شروط في مقدمتها، قيادةٌ للثورة تجمع بين الإنغراس الشعبي وبُعد النظر وتقديم المصلحة العامة على المصالح الفئوية والفردية، وهو شرط غاب في الحالة التونسية.

تغيير نمط الحكم

كان نجاح المسار يتطلب الإقدام على ما يسميه المؤلف إصلاحات ثورية تشمل تغيير نمط الحكم وتوزيع السلطة، وتفعيل مبدأ العدالة الاجتماعية، وتوفير سبل العيش الكريم، بفضل العمل المنتج، وإعادة هيكلة الاقتصاد. بدلا من ذلك اقتصر أمرنا في تونس، على إقامة ديمقراطية تمثيلية ليبرالية مخترقة من الفساد، وحكومات تحاصرها المطلبية، وتعجز عن قيادة المجتمع لتحقيق التنمية.

ويستعرض الهرماسي الآفات التي قال إنها ضربت التجربة الثورية والديمقراطية التونسية في الصميم، وأفرزت تيارا شعبويا كاسحا، يتوهم  ويوهم التونسيين، بأنه يمكن البُرء منها، بالقضاء على الديمقراطية التعددية نفسها، متجاهلا أنه في غياب الحريات تستحيل مكافحة الفساد بنجاح.

من هنا ركز الدكتور الهرماسي على اللحظة الحرجة التي تعيشها تونس اليوم، والتي لا يحكم عليها الكاتب، بقدر ما يحاول فهم خصائصها وتمظهراتها، والمسارات التي قادت إليها، متسلحا بنظريات ومفاهيم علم الاجتماع السياسي.

 ويؤكد في هذا السياق على أهمية إعمال العقل وتحليل مجريات الأمور تحليلا رصينا وموضوعيا، بعيدا عن خطابات التشنج والتعصب. بتعبير آخر أتى الكتاب لمحاولة الجواب، وإن جزئيا، على السؤال التالي: لماذا تعطلت الإصلاحات الجذرية والشاملة، التي كانت تونس وما تزال في حاجة إليها؟ بل ذهب إلى أبعد من ذلك، سابحا ضد التيار العام، عندما اعتبر أن تونس لم تكن تحتاج إلى ثورة بل إلى إصلاحات. وهذا موقف يستفز كثيرين لأنه يمسُ ما يعتبرونه مقدسا. وتوقع المؤلف في هذا السياق أيضا، أن نقده للنزعة الحداثوية سيلقى استنكارا ممن يفهمُه كهجوم على الحداثة في ذاتها، أو على الحداثة التونسية ومكتسباتها.

وكان يتوقع أن نقده لتقديس الثورة، كنقده لتقديس الحداثة وتجلياتها، سيثيران الامتعاض، سواء في صفوف الأحزاب والجمعيات، التي ما زالت تمجد الثورة ورموزها، أو من قبل النخب، الرافعة منذ زمن لشعارات التقدم والتنوير ومواجهة "الظلامية"، ومن الهيئات المُبشرة بحداثة "بلا حدود".

بورقيبة وبن علي وقائد السبسي

لذا كان مفيدا أن  يستعرض المؤلف العهود الثلاثة لبورقيبة وبن علي وقائد السبسي، مُميزا بين "حداثة اللّب وحداثة القشور"، فاللّحظة الأولى (بورقيبة) كانت لحظة مركبة. فيها توليفة فريدة بين علمانية لا تعادي الدين ولا تفصله عن الدولة، وعقلانية مكافحة، لكن ضمن الأفق الديني الإسلامي، وبهدف إحداث ثورة دينية عجز عن القيام بها أهل الدين، فتولى أمرها أهل الدولة. هي لا محالة لحظة التميّز بالحداثة وبالعقلانية، كما تلقاها الزعيم الحبيب بورقيبة عن فلاسفة الأنوار، والمدرسة الوضعية لأوغست كونت، ونقد الموروث الديني فكرا ومؤسسة ورجالا، بسبب تكلسهم وانغلاقهم على متطلبات التطور. لكنها أيضا مشروعٌ لتجديد وتوسيع الأفق الديني الإسلامي، وتوظيف النص القرآني والسنّة المحمدية في معركة الخروج من التخلّف، ضمن قراءة عصرية وثورية. ولذلك لم تكن معركة بورقيبة ضد الدين، خلافا لمصطفى كمال أتاتورك، يقول الهرماسي، بقدر ما كانت معركة ضد إسلام "محنط" وإسلام الطرق الصوفية "المغيّب للعقل". هي ثورة كانت تونس، وكل العالم العربي والإسلامي في حاجة إليها. وقد نادى بها دعاة الإصلاح الراديكاليون أمثال محمد عبده وعبد الرحمان الكواكبي في المشرق العربي، وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد في تونس، وعبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، وعلاّل الفاسي في المغرب. ولكن بورقيبة ذهب بهذا الإصلاح الثوري إلى أبعد مداه، بل وقع في مبالغات وتجاوزات، منها إبراز غير متوازن لسلبيات الموروث، ومنها احتقار المؤسسة الزيتونية ورجالها، إلى حدّ الإهانة والإقصاء، ومنها أيضا تقديس الجديد والحطّ من كل ما هو تقليدي وقديم، بدءا بالفكر ومرورا بالسياسة، والحزب الذي انتمى إليه وانتهاء بالهيئة واللباس، رجاليا كان أم نسائيا.

حداثة مواجهة؟

من محاذير الكتابة عن تاريخ مازلنا نعيش في خضمه يوميا، أننا قد نغفل عن معلومات مهمة، لا تطفو على السطح إلا بعد فترة، من ذلك رؤية المؤلف الايجابية نسبيا، لحصاد حكومة يوسف الشاهد (2016-2020)، وخاصة في مجال الإصلاحات الكبرى، الذي اعتبر المؤلف أنه "يبقى على أهميته دون المطلوب، وهو مراجعة منوال التنمية"، بينما يتفق معظم الخبراء الاقتصاديين على أن الفساد لم يبلغ، منذ 2011، المدى الذي وصل إليه في عهد الشاهد، وخاصة العبث بالأملاك المُصادرة. كما أن تلك الفترة اتسمت بتدخلات فظة في سلك القضاء لتطويعه وإخضاعه للسلطة السياسية. لهذا السبب اتخذ المؤلف موقفا إيجابيا من حكومة الشاهد، عندما طرحت مشاريع إصلاح للجباية ومقاومة الفساد، وهذا في فترتها الأولى أي إلى نهاية 2017، لكنه انتقد، في رسالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة، تراجعها تحت ضغط البرلمانيين من النهضة والنداء. وفي إطار الحزب الجمهوري وفي وثيقة موجهة لرئيس الحكومة (أرسل لاحقا مستشارين برتبة وزير لمناقشتها) اعتبر الهرماسي أن إصلاح التوازنات المالية لا يمكن بحال أن يعوض الإصلاحات الهيكلية التي كان حزبه طالب بها، ومنها إصلاح الجباية وتطهير مسالك التوزيع. وهو يُقر بأن الفساد عاد بقوة في الفترة الثانية من حكومة الشاهد، مع الإشارة إلى أن وصفه لمرحلة 2012 -2021 بأنها "ديمقراطية فاسدة" (الفصل الأخير من الكتاب وهو بعنوان: من الديمقراطية الفاسدة إلى الاستبداد الشعبوي) هو حكم يشمل كل المرحلة، ولم يستثن حكومة الشاهد. 

ومن المهم أن الدكتور الهرماسي، ضرب أمثلة من ثورات تحولت إلى فوضى، وسُفكت فيها دماء غزيرة، خاصة في الثورتين الفرنسية والروسية، بينما كان ممكنا الوصول إلى أهداف الثورة عن طريق مسار سلمي يحقن الدماء ويُجنب البلد الصراعات العقيمة. وهنا استعار الكاتب مصطلح "الثورة الهادئة"، التي انخرطت فيها الديمقراطيات الغربية، بعد مرحلة الزوابع، لكي يقول إن تونس كانت ولا تزال في حاجة إلى "إصلاحات ثورية"، أي إصلاحات "عميقة وشاملة مدروسة ومتوافق بشأنها". لكن بدلا من الإصلاحات المستوجبة أو المأمولة، عاش التونسيون طوال السنوات السبع الماضية، مسلسلا لا ينتهي من المزايدات، على التحدث باسم الثورة واستحقاقاتها، أو الوطن ورموزه أو الحرية ومتطلباتها، أو الدين ومقدساته أو الحداثة وأيقوناتها، وفقا للدكتور الهرماسي. ويُحدد المؤلف العوائق التي مازالت تحول دون التقدّم في طريق الإصلاح وإنجاح المسار الانتقالي، مُلخصا إياها في ثلاثة مُعوقات، هي عائق إيديولوجي- ثقافي وعائق سياسي وأخيرا  عائق اجتماعي وثقافي مزدوج. على هذه الخلفية اعتبر الكاتب أن الشعب التونسي كان بحاجة إلى أسطورة الثورة لمحو عقدين من الصمت والخوف من آلة القمع ومنظومة الفساد النوفمبرية. غير أن عدّة قوى سياسية واجتماعية، بوعي أو دون وعي، حوّلت رمزية الثورة إلى حدث مقدّس لا يقبل التشكيك فيه أو التساؤل حوله، كما حوّلت ضحاياها جميعهم إلى "شهداء وجرحى الثورة" من دون التساؤل عن ظروف وأسباب إصابتهم.

توافق انتهازي

يُقر الهرماسي بأن التوافق هو الطريق المؤدية للاستقرار والرفاه، لكنه يعتقد أن التوافق الذي حصل كان توافقا انتهازيا داس على كل القيم النبيلة ومقتضيات إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي، وهو صفقة سياسية تحققت بابتزاز "حركة النهضة" في مقابل تطمينات بشأن عدم محاسبتها على التجاوزات التي حصلت في فترة حكمها. وكان من أولى ثمارها المصادقة على قانون المصالحة الإدارية والعفو عمن ارتكبوا جرائم سياسية أو اقتصادية في حق تونس والتونسيين، من دون مساءلة لهم ولا اعتذار منهم.

باختصار أثمرت الثورة أوسع مجال لممارسة الحرية، وحققت خطوات مهمّة في مجال العمل المشترك مع الخصوم والمخالفين. بيد أن هذه النتيجة الإيجابية لا تلغي الحقيقة الثانية والمكملة، وهي أن مسار الثورة والانتقال الديمقراطي كلّف تونس الكثير. كلّفها ابتداء ضحايا الانتفاضة وضحايا الإرهاب، وكلفها الانزلاق إلى صراعات عقائدية ومواجهات سياسية جعلتها أكثر من مرة على حافة الحرب الأهلية. وكلفها وقتا ثمينا وطاقات كبيرة كان يمكن، نظريا، أن تصرف لمعالجة الأسباب العميقة المولّدة للثورة. وكلفها أيضا تصدّع كيان الدولة وتفكك أجهزتها وضياع هيبتها أمام تعدّد الاختراقات وتصاعد الاحتجاجات. وكلفها كذلك تراجعات خطرة بل كارثة اقتصادية، بسبب تعطيل إنتاج الفسفاط والبترول وتفكك جزء كبير من النسيج الصناعي وهروب الرساميل. وكلفها في ذات الوقت تغوّل أباطرة التهريب وكبار الفاسدين واختراقهم لعالم السياسة والأجهزة الأمنية والديوانية التي من مهمتها أن تقاومهم. وكل هذا بالتوازي مع تفاقم مظاهر التهرّب الجبائي، وازدهار السوق السوداء والاحتكار، ممّا فاقم مصاعب العيش، وألغى أي أثر  للزيادات في الأجور على تحسين القدرة الشرائية لغالبية التونسيين.

يمكن القول إجمالا، إن اللعبة السياسية كما أدارتها زعامتا "نداء تونس" و"حركة النهضة" شكّلت أحد أبرز العوائق، أمام البحث عن حلول للقضايا المزمنة، التي تعيشها تونس، والتي أدّى تراكمها وتفاقمها إلى الانتفاضة الشعبية، إذ كان هاجس قيادة كل من الحزبين هو الوصول إلى الحكم والاستئثار به. من هنا فإن لعبة التوافق، بحيلولتها دون الإصلاحات الجذرية المطلوبة، فتحت المجال لصعود التيار الشعبوي، وهو المناوئ على طول الخط للديمقراطية الليبرالية.  

مسار الثورة التونسية على محك علم الاجتماع السياسي

بقلم: رشيد خشانة(*)

يعتقد أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة التونسية الدكتور عبد اللطيف الهرماسي، أن الزمن الذي يفصلنا عن حدث الثورة (2011) يكفي لتحليل أسبابها وفهم مُجرياتها واستيعاب مآلاتها. ومن صلب هذه الرؤية أتت فكرة كتابه الجديد الصادر مؤخرا عن دار "سوتيميديا" والحامل لعنوان "تونس الثورة والمحنة: مقاربة من منظور علم الاجتماع السياسي". وللوهلة الأولى قد يذهب في ظن القارئ أنه بإزاء بحث تأريخي للزمن الراهن، وهو الفرع الجديد من علم التأريخ، الذي شغف به بعض باحثينا وتوفقوا في ذلك، أسوة بالدكتور الهادي التيمومي والدكتور فتحي ليسير. غير أن الهرماسي ذهب إلى أبعد من ذلك، فوضع على المحك أسئلة وإشكالات عدة، تتعلق بالثورة والانتقال الديمقراطي والوثنيات الأيديولوجية والعصبيات الحزبية والطائفيات المهنية والخطابات الشعبوية. وعزز ذلك بقراءة نقدية لما أنتجه باحثون تونسيون في علم الاجتماع عن الثورة.

ولا يُخفي المؤلف أنه ينحدر من اليسار الماركسي، الذي يقول في مقدمة الكتاب، إنه تشبع به، والذي كان له دور كبير في تشكيل وعي النخب الشابة في سبعينات القرن الماضي. على أن الهرماسي اتخذ موقفا نقديا من الماركسية في نقطتين هما معاداتها للحريات الديمقراطية الليبرالية، بحجة كونها حريات برجوازية، والثانية رفضه الموقف الماركسي في نسخته الاختزالية من الدين . 

ويلخص الكاتب جوهر الفكر الماركسي في مقولة أن "الثورة هي ولاّدة التاريخ". لكنه يستدرك مُعتبرا أن القراءة الحصيفة للتاريخ تعلمنا أن الثورة تفتح أيضا على العفوية والفوضى والعنف وعلى المجهول، مما لا يمكن الحد من آثاره السلبية، إلا بتوافر شروط في مقدمتها، قيادةٌ للثورة تجمع بين الإنغراس الشعبي وبُعد النظر وتقديم المصلحة العامة على المصالح الفئوية والفردية، وهو شرط غاب في الحالة التونسية.

تغيير نمط الحكم

كان نجاح المسار يتطلب الإقدام على ما يسميه المؤلف إصلاحات ثورية تشمل تغيير نمط الحكم وتوزيع السلطة، وتفعيل مبدأ العدالة الاجتماعية، وتوفير سبل العيش الكريم، بفضل العمل المنتج، وإعادة هيكلة الاقتصاد. بدلا من ذلك اقتصر أمرنا في تونس، على إقامة ديمقراطية تمثيلية ليبرالية مخترقة من الفساد، وحكومات تحاصرها المطلبية، وتعجز عن قيادة المجتمع لتحقيق التنمية.

ويستعرض الهرماسي الآفات التي قال إنها ضربت التجربة الثورية والديمقراطية التونسية في الصميم، وأفرزت تيارا شعبويا كاسحا، يتوهم  ويوهم التونسيين، بأنه يمكن البُرء منها، بالقضاء على الديمقراطية التعددية نفسها، متجاهلا أنه في غياب الحريات تستحيل مكافحة الفساد بنجاح.

من هنا ركز الدكتور الهرماسي على اللحظة الحرجة التي تعيشها تونس اليوم، والتي لا يحكم عليها الكاتب، بقدر ما يحاول فهم خصائصها وتمظهراتها، والمسارات التي قادت إليها، متسلحا بنظريات ومفاهيم علم الاجتماع السياسي.

 ويؤكد في هذا السياق على أهمية إعمال العقل وتحليل مجريات الأمور تحليلا رصينا وموضوعيا، بعيدا عن خطابات التشنج والتعصب. بتعبير آخر أتى الكتاب لمحاولة الجواب، وإن جزئيا، على السؤال التالي: لماذا تعطلت الإصلاحات الجذرية والشاملة، التي كانت تونس وما تزال في حاجة إليها؟ بل ذهب إلى أبعد من ذلك، سابحا ضد التيار العام، عندما اعتبر أن تونس لم تكن تحتاج إلى ثورة بل إلى إصلاحات. وهذا موقف يستفز كثيرين لأنه يمسُ ما يعتبرونه مقدسا. وتوقع المؤلف في هذا السياق أيضا، أن نقده للنزعة الحداثوية سيلقى استنكارا ممن يفهمُه كهجوم على الحداثة في ذاتها، أو على الحداثة التونسية ومكتسباتها.

وكان يتوقع أن نقده لتقديس الثورة، كنقده لتقديس الحداثة وتجلياتها، سيثيران الامتعاض، سواء في صفوف الأحزاب والجمعيات، التي ما زالت تمجد الثورة ورموزها، أو من قبل النخب، الرافعة منذ زمن لشعارات التقدم والتنوير ومواجهة "الظلامية"، ومن الهيئات المُبشرة بحداثة "بلا حدود".

بورقيبة وبن علي وقائد السبسي

لذا كان مفيدا أن  يستعرض المؤلف العهود الثلاثة لبورقيبة وبن علي وقائد السبسي، مُميزا بين "حداثة اللّب وحداثة القشور"، فاللّحظة الأولى (بورقيبة) كانت لحظة مركبة. فيها توليفة فريدة بين علمانية لا تعادي الدين ولا تفصله عن الدولة، وعقلانية مكافحة، لكن ضمن الأفق الديني الإسلامي، وبهدف إحداث ثورة دينية عجز عن القيام بها أهل الدين، فتولى أمرها أهل الدولة. هي لا محالة لحظة التميّز بالحداثة وبالعقلانية، كما تلقاها الزعيم الحبيب بورقيبة عن فلاسفة الأنوار، والمدرسة الوضعية لأوغست كونت، ونقد الموروث الديني فكرا ومؤسسة ورجالا، بسبب تكلسهم وانغلاقهم على متطلبات التطور. لكنها أيضا مشروعٌ لتجديد وتوسيع الأفق الديني الإسلامي، وتوظيف النص القرآني والسنّة المحمدية في معركة الخروج من التخلّف، ضمن قراءة عصرية وثورية. ولذلك لم تكن معركة بورقيبة ضد الدين، خلافا لمصطفى كمال أتاتورك، يقول الهرماسي، بقدر ما كانت معركة ضد إسلام "محنط" وإسلام الطرق الصوفية "المغيّب للعقل". هي ثورة كانت تونس، وكل العالم العربي والإسلامي في حاجة إليها. وقد نادى بها دعاة الإصلاح الراديكاليون أمثال محمد عبده وعبد الرحمان الكواكبي في المشرق العربي، وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد في تونس، وعبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، وعلاّل الفاسي في المغرب. ولكن بورقيبة ذهب بهذا الإصلاح الثوري إلى أبعد مداه، بل وقع في مبالغات وتجاوزات، منها إبراز غير متوازن لسلبيات الموروث، ومنها احتقار المؤسسة الزيتونية ورجالها، إلى حدّ الإهانة والإقصاء، ومنها أيضا تقديس الجديد والحطّ من كل ما هو تقليدي وقديم، بدءا بالفكر ومرورا بالسياسة، والحزب الذي انتمى إليه وانتهاء بالهيئة واللباس، رجاليا كان أم نسائيا.

حداثة مواجهة؟

من محاذير الكتابة عن تاريخ مازلنا نعيش في خضمه يوميا، أننا قد نغفل عن معلومات مهمة، لا تطفو على السطح إلا بعد فترة، من ذلك رؤية المؤلف الايجابية نسبيا، لحصاد حكومة يوسف الشاهد (2016-2020)، وخاصة في مجال الإصلاحات الكبرى، الذي اعتبر المؤلف أنه "يبقى على أهميته دون المطلوب، وهو مراجعة منوال التنمية"، بينما يتفق معظم الخبراء الاقتصاديين على أن الفساد لم يبلغ، منذ 2011، المدى الذي وصل إليه في عهد الشاهد، وخاصة العبث بالأملاك المُصادرة. كما أن تلك الفترة اتسمت بتدخلات فظة في سلك القضاء لتطويعه وإخضاعه للسلطة السياسية. لهذا السبب اتخذ المؤلف موقفا إيجابيا من حكومة الشاهد، عندما طرحت مشاريع إصلاح للجباية ومقاومة الفساد، وهذا في فترتها الأولى أي إلى نهاية 2017، لكنه انتقد، في رسالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة، تراجعها تحت ضغط البرلمانيين من النهضة والنداء. وفي إطار الحزب الجمهوري وفي وثيقة موجهة لرئيس الحكومة (أرسل لاحقا مستشارين برتبة وزير لمناقشتها) اعتبر الهرماسي أن إصلاح التوازنات المالية لا يمكن بحال أن يعوض الإصلاحات الهيكلية التي كان حزبه طالب بها، ومنها إصلاح الجباية وتطهير مسالك التوزيع. وهو يُقر بأن الفساد عاد بقوة في الفترة الثانية من حكومة الشاهد، مع الإشارة إلى أن وصفه لمرحلة 2012 -2021 بأنها "ديمقراطية فاسدة" (الفصل الأخير من الكتاب وهو بعنوان: من الديمقراطية الفاسدة إلى الاستبداد الشعبوي) هو حكم يشمل كل المرحلة، ولم يستثن حكومة الشاهد. 

ومن المهم أن الدكتور الهرماسي، ضرب أمثلة من ثورات تحولت إلى فوضى، وسُفكت فيها دماء غزيرة، خاصة في الثورتين الفرنسية والروسية، بينما كان ممكنا الوصول إلى أهداف الثورة عن طريق مسار سلمي يحقن الدماء ويُجنب البلد الصراعات العقيمة. وهنا استعار الكاتب مصطلح "الثورة الهادئة"، التي انخرطت فيها الديمقراطيات الغربية، بعد مرحلة الزوابع، لكي يقول إن تونس كانت ولا تزال في حاجة إلى "إصلاحات ثورية"، أي إصلاحات "عميقة وشاملة مدروسة ومتوافق بشأنها". لكن بدلا من الإصلاحات المستوجبة أو المأمولة، عاش التونسيون طوال السنوات السبع الماضية، مسلسلا لا ينتهي من المزايدات، على التحدث باسم الثورة واستحقاقاتها، أو الوطن ورموزه أو الحرية ومتطلباتها، أو الدين ومقدساته أو الحداثة وأيقوناتها، وفقا للدكتور الهرماسي. ويُحدد المؤلف العوائق التي مازالت تحول دون التقدّم في طريق الإصلاح وإنجاح المسار الانتقالي، مُلخصا إياها في ثلاثة مُعوقات، هي عائق إيديولوجي- ثقافي وعائق سياسي وأخيرا  عائق اجتماعي وثقافي مزدوج. على هذه الخلفية اعتبر الكاتب أن الشعب التونسي كان بحاجة إلى أسطورة الثورة لمحو عقدين من الصمت والخوف من آلة القمع ومنظومة الفساد النوفمبرية. غير أن عدّة قوى سياسية واجتماعية، بوعي أو دون وعي، حوّلت رمزية الثورة إلى حدث مقدّس لا يقبل التشكيك فيه أو التساؤل حوله، كما حوّلت ضحاياها جميعهم إلى "شهداء وجرحى الثورة" من دون التساؤل عن ظروف وأسباب إصابتهم.

توافق انتهازي

يُقر الهرماسي بأن التوافق هو الطريق المؤدية للاستقرار والرفاه، لكنه يعتقد أن التوافق الذي حصل كان توافقا انتهازيا داس على كل القيم النبيلة ومقتضيات إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي، وهو صفقة سياسية تحققت بابتزاز "حركة النهضة" في مقابل تطمينات بشأن عدم محاسبتها على التجاوزات التي حصلت في فترة حكمها. وكان من أولى ثمارها المصادقة على قانون المصالحة الإدارية والعفو عمن ارتكبوا جرائم سياسية أو اقتصادية في حق تونس والتونسيين، من دون مساءلة لهم ولا اعتذار منهم.

باختصار أثمرت الثورة أوسع مجال لممارسة الحرية، وحققت خطوات مهمّة في مجال العمل المشترك مع الخصوم والمخالفين. بيد أن هذه النتيجة الإيجابية لا تلغي الحقيقة الثانية والمكملة، وهي أن مسار الثورة والانتقال الديمقراطي كلّف تونس الكثير. كلّفها ابتداء ضحايا الانتفاضة وضحايا الإرهاب، وكلفها الانزلاق إلى صراعات عقائدية ومواجهات سياسية جعلتها أكثر من مرة على حافة الحرب الأهلية. وكلفها وقتا ثمينا وطاقات كبيرة كان يمكن، نظريا، أن تصرف لمعالجة الأسباب العميقة المولّدة للثورة. وكلفها أيضا تصدّع كيان الدولة وتفكك أجهزتها وضياع هيبتها أمام تعدّد الاختراقات وتصاعد الاحتجاجات. وكلفها كذلك تراجعات خطرة بل كارثة اقتصادية، بسبب تعطيل إنتاج الفسفاط والبترول وتفكك جزء كبير من النسيج الصناعي وهروب الرساميل. وكلفها في ذات الوقت تغوّل أباطرة التهريب وكبار الفاسدين واختراقهم لعالم السياسة والأجهزة الأمنية والديوانية التي من مهمتها أن تقاومهم. وكل هذا بالتوازي مع تفاقم مظاهر التهرّب الجبائي، وازدهار السوق السوداء والاحتكار، ممّا فاقم مصاعب العيش، وألغى أي أثر  للزيادات في الأجور على تحسين القدرة الشرائية لغالبية التونسيين.

يمكن القول إجمالا، إن اللعبة السياسية كما أدارتها زعامتا "نداء تونس" و"حركة النهضة" شكّلت أحد أبرز العوائق، أمام البحث عن حلول للقضايا المزمنة، التي تعيشها تونس، والتي أدّى تراكمها وتفاقمها إلى الانتفاضة الشعبية، إذ كان هاجس قيادة كل من الحزبين هو الوصول إلى الحكم والاستئثار به. من هنا فإن لعبة التوافق، بحيلولتها دون الإصلاحات الجذرية المطلوبة، فتحت المجال لصعود التيار الشعبوي، وهو المناوئ على طول الخط للديمقراطية الليبرالية.