استعرت عنوان هذه الإطلالة الأسبوعية من فيلم هنري بركات الذي أخرجه سنة 1977 بعنوان "أفواه وأرانب" وقامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة والفنان فريد شوقي ومحمود ياسين وغيرهم من النجوم، استعارة العنوان من هذا الفيلم تستمد مشروعيتها من المسألة التي سنتحدث عنها وهي مسألة الغذاء وهي مسألة تؤرق الأسر التونسية يوميا أمام ارتفاع الأسعار وندرة بعض البضائع وأهمها الخبز، وللخبز تاريخ كبير في الذاكرة الشعبية التونسية فقد ارتبط إضافة إلى أنه المصدر الأساسي للغذاء في تونس باعتبارنا من شعوب العالم الفقيرة التي تسد رمق أبنائها بالخبز أساسا وبعض الكماليات الأخرى إن توفرت على عكس الدول الغنية التي يكون فيها الخبز أمرا ثانويا أمام كثرة الخضر والفواكه واللحوم لكن هذه المواد في تونس أصبحت من علامات الرفاهة لمن استطاع إليها سبيلا، ارتبطت بثورة شعبية في جانفي 1984 كادت تطيح بنظام الحبيب بورقيبة بعد الترفيع في أسعار الخبز ورفع الدعم عنه. أعلم أنني من المولعين بالاستطرادات في واقع استطرادي ولنعد إلى موضوعنا الأساسي وهو الخبز أو الحبوب التي ينتج من خلالها. فتونس تعد من البلدان العاجزة عن تحقيق سيادتها الغذائية منذ سنوات وبقيت رهينة تقلبات الطقس وتحولات المشهد العالمي في مسألة الحبوب، فنحن لا نحقق اكتفاءنا من إنتاج الحبوب بمختلف أصنافها ونضطر إلى استيراد الكثير منها وفقا للمحصول الذي نحققه سنويا، فمن المنتظر مثلا سنة 2024 بعد الجفاف الذي عرفته بلادنا أن نضطر إلى استيراد أكثر من 80 بالمائة من حاجياتنا من الحبوب الصلبة واللينة، بمعنى أن البشر والدواب التي تشاركنا هذه الحبوب ستبقى رهينة تقلبات السوق العالمية في مجال الحبوب ورهينة قدرتنا على توفير العملة الصعبة لاستيراد هذه المادة الحيوية، لكن من أين نستورد؟ وماهي العوامل المحددة في السوق العالمية لتجارة الحبوب؟
يقدر استهلاك تونس من الحبوب سنويا بـ3.2 مليون طن لن ننجح في توفير أكثر من 250 ألف طن منها هذه السنة أي أن تونس ستضطر إلى استيراد أكثر من 80 بالمائة من حاجياتها ،فمن أين سنستورد هذه الحبوب؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب إلقاء نظرة على سوق الحبوب العالمية. وفقا لإحصائيات سنة 2022 تحتكر عشرة دول في العالم من أهمها روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا والصين واستراليا 85 بالمائة من الإنتاج العالمي للحبوب، فدولتان مثل فرنسا وألمانيا تصدران سنويا ما يعادل 13.4 مليون طن، أما المرتبة العالمية الأولى من حيث تصدير الحبوب فتحتكرها روسيا منذ سنوات، وبالتالي فالخارطة العالمية لمنتجي الحبوب واضحة وإذا أرادت تونس استيراد الحبوب فلن تخرج من هذه الدوائر النافذة والفاعلة علما وأن تونس تستورد أساسا من فرنسا لكن سنة 2023 عانت فرنسا هي الأخرى من الجفاف ومن المنتظر أن يتراجع إنتاجها.
أما العوامل المحددة لتوفير الحبوب فهي عوامل جيوسياسية بالأساس ونذكر هنا مثلا أن روسيا توظف الحبوب لبسط هيمنتها العالمية ففي سنة 2015 وعندما كان النظام السوري يتهاوى أسرعت روسيا بنجدته من خلال أمرين تمثلا في غطاء جوي لحمايته وفى تقديم مساعدات كبيرة من الحبوب للمناطق التي يسيطر عليها بعد أن سيطرت داعش في مرحلة أولى ثم تركيا في مرحلة ثانية على منطقة الجنوب الغربي السوري أين توجد حقول الحبوب السورية.
في ظل هذه الوضعية لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية في غياب سيادة غذائية علما وأن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي كانت قبل الحرب العالمية الثانية من الدول التي لا يعتد بها في إنتاج الحبوب لكنها في إطار سياق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي ارتأت اعتماد سياسة فلاحية ارتكزت على إنتاج الحبوب جعلتها تتمتع بفائض من إنتاج الحبوب في زمن قياسي وهو ما لم تنتبه إليه أو تجاهلته الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال في تونس.
اليوم الآن وهنا للخروج من هذه الأزمة على المستوى القريب يجب على الدولة التونسية أن تعيد تنظيم مسالك توزيع الحبوب وعلى المستوى المتوسط والبعيد يجب التفكير في ضرورة إيجاد حلول للترفيع من إنتاج الحبوب باعتماد سياسة إنتاجية واضحة تمنح امتيازات تفاضلية للمنتجين وإلا ستبقى أفواه الأرانب رهينة ما يقدمه التنين المنتج لهذه الحبوب أو أن تبات على الخواء.
يكتبها: محمد معمري
استعرت عنوان هذه الإطلالة الأسبوعية من فيلم هنري بركات الذي أخرجه سنة 1977 بعنوان "أفواه وأرانب" وقامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة والفنان فريد شوقي ومحمود ياسين وغيرهم من النجوم، استعارة العنوان من هذا الفيلم تستمد مشروعيتها من المسألة التي سنتحدث عنها وهي مسألة الغذاء وهي مسألة تؤرق الأسر التونسية يوميا أمام ارتفاع الأسعار وندرة بعض البضائع وأهمها الخبز، وللخبز تاريخ كبير في الذاكرة الشعبية التونسية فقد ارتبط إضافة إلى أنه المصدر الأساسي للغذاء في تونس باعتبارنا من شعوب العالم الفقيرة التي تسد رمق أبنائها بالخبز أساسا وبعض الكماليات الأخرى إن توفرت على عكس الدول الغنية التي يكون فيها الخبز أمرا ثانويا أمام كثرة الخضر والفواكه واللحوم لكن هذه المواد في تونس أصبحت من علامات الرفاهة لمن استطاع إليها سبيلا، ارتبطت بثورة شعبية في جانفي 1984 كادت تطيح بنظام الحبيب بورقيبة بعد الترفيع في أسعار الخبز ورفع الدعم عنه. أعلم أنني من المولعين بالاستطرادات في واقع استطرادي ولنعد إلى موضوعنا الأساسي وهو الخبز أو الحبوب التي ينتج من خلالها. فتونس تعد من البلدان العاجزة عن تحقيق سيادتها الغذائية منذ سنوات وبقيت رهينة تقلبات الطقس وتحولات المشهد العالمي في مسألة الحبوب، فنحن لا نحقق اكتفاءنا من إنتاج الحبوب بمختلف أصنافها ونضطر إلى استيراد الكثير منها وفقا للمحصول الذي نحققه سنويا، فمن المنتظر مثلا سنة 2024 بعد الجفاف الذي عرفته بلادنا أن نضطر إلى استيراد أكثر من 80 بالمائة من حاجياتنا من الحبوب الصلبة واللينة، بمعنى أن البشر والدواب التي تشاركنا هذه الحبوب ستبقى رهينة تقلبات السوق العالمية في مجال الحبوب ورهينة قدرتنا على توفير العملة الصعبة لاستيراد هذه المادة الحيوية، لكن من أين نستورد؟ وماهي العوامل المحددة في السوق العالمية لتجارة الحبوب؟
يقدر استهلاك تونس من الحبوب سنويا بـ3.2 مليون طن لن ننجح في توفير أكثر من 250 ألف طن منها هذه السنة أي أن تونس ستضطر إلى استيراد أكثر من 80 بالمائة من حاجياتها ،فمن أين سنستورد هذه الحبوب؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب إلقاء نظرة على سوق الحبوب العالمية. وفقا لإحصائيات سنة 2022 تحتكر عشرة دول في العالم من أهمها روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا والصين واستراليا 85 بالمائة من الإنتاج العالمي للحبوب، فدولتان مثل فرنسا وألمانيا تصدران سنويا ما يعادل 13.4 مليون طن، أما المرتبة العالمية الأولى من حيث تصدير الحبوب فتحتكرها روسيا منذ سنوات، وبالتالي فالخارطة العالمية لمنتجي الحبوب واضحة وإذا أرادت تونس استيراد الحبوب فلن تخرج من هذه الدوائر النافذة والفاعلة علما وأن تونس تستورد أساسا من فرنسا لكن سنة 2023 عانت فرنسا هي الأخرى من الجفاف ومن المنتظر أن يتراجع إنتاجها.
أما العوامل المحددة لتوفير الحبوب فهي عوامل جيوسياسية بالأساس ونذكر هنا مثلا أن روسيا توظف الحبوب لبسط هيمنتها العالمية ففي سنة 2015 وعندما كان النظام السوري يتهاوى أسرعت روسيا بنجدته من خلال أمرين تمثلا في غطاء جوي لحمايته وفى تقديم مساعدات كبيرة من الحبوب للمناطق التي يسيطر عليها بعد أن سيطرت داعش في مرحلة أولى ثم تركيا في مرحلة ثانية على منطقة الجنوب الغربي السوري أين توجد حقول الحبوب السورية.
في ظل هذه الوضعية لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية في غياب سيادة غذائية علما وأن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي كانت قبل الحرب العالمية الثانية من الدول التي لا يعتد بها في إنتاج الحبوب لكنها في إطار سياق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي ارتأت اعتماد سياسة فلاحية ارتكزت على إنتاج الحبوب جعلتها تتمتع بفائض من إنتاج الحبوب في زمن قياسي وهو ما لم تنتبه إليه أو تجاهلته الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال في تونس.
اليوم الآن وهنا للخروج من هذه الأزمة على المستوى القريب يجب على الدولة التونسية أن تعيد تنظيم مسالك توزيع الحبوب وعلى المستوى المتوسط والبعيد يجب التفكير في ضرورة إيجاد حلول للترفيع من إنتاج الحبوب باعتماد سياسة إنتاجية واضحة تمنح امتيازات تفاضلية للمنتجين وإلا ستبقى أفواه الأرانب رهينة ما يقدمه التنين المنتج لهذه الحبوب أو أن تبات على الخواء.