ما يزال موضوع التعددية النقابية في تونس يشكل إرباكا للعمل ولأرباب العمل، واتهامات للاتحاد العام التونسي للشغل في البلاد باحتكار النفوذ النقابي، وفي ظل الأزمة القائمة بين المركزية النقابية والسلطة يعود موضوع التعددية إلى الواجهة كورقة تلوح بها الحكومة في وجه الإتحاد، حيث تقول السلطة أن تعميم هذه الآلية على بقية المنظمات النقابية الأخرى من شأنه أن يكرس ويعزز التعددية النقابية.
وفي الوقت الذي تزداد فيه الهوة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة، تعمل بعض مراكز القرار إلى تقريب النقابات الأخرى، حيث استقبل رئيس مجلس النواب مؤخرا الأمين العام للكنفيدرالية العامة للشغل الحبيب قيزة الذي أطلعه على المبادرة التي تعتزم المنظمة طرحها والرامية إلى إنجاز عقد اجتماعي مواطني يساهم في معالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد، وتم التطرق إلى حرية العمل النقابي واستعداد مجلس النواب إلى الإصغاء إلى كل الجهات والاستنارة بآرائها، كما سبق لرئيسة الحكومة نجلاء بودن أن استقبلت الأمين العام لاتحاد عمال تونس إسماعيل السحباني وهو ما اعتبره المتابعون رسالة سياسية للاتحاد مفادها أن الحكومة ماضية في التعامل مع كل النقابات على قدم المساواة.
ويؤكد المدافعون على تعميم الاقتطاع الآلي على كل النقابات أن هذا الأمر ليس مجرد امتياز أو منة من السلط الإدارية وإنما هو تطبيق للنصوص الدستورية التي كرست بشكل صريح الحقوق النقابية، سواء الحق في بعث النقابات أو ممارسة العمل النقابي، فالتعددية النقابية تستوجب تعميم آليات العمل النقابي على جميع المنظمات، على غرار الحق في التفاوض مع سلط الإشراف والتفرغ النقابي بالنسبة لنقابيي القطاع العام، إضافة إلى الاقتطاع المباشر، وهو ما لم يتم العمل به إذ بقيت هذه الآليات أو الحقوق في أغلبها حكرا على المنظمة الكبرى والأكثر تمثيلية أي الاتحاد العام التونسي للشغل، لذلك لم يكن من المستغرب أن يقع اتهامه من طرف هذه النقابات بضرب التعددية النقابية والضغط على السلطة السياسية للحيلولة دون تفعيلها، وفي تفنيده لهذه المزاعم، يبني الإتحاد دفاعه قانونيا بالعودة لمسألة التمثيلية، والمقصود بها أن المنظمة الأكثر انتشارا بين العمال تتولى تمثيلهم في ذلك القطاع أو المؤسسة، وبالتالي يحق لها وحدها التمتع بهذه الحقوق، ومن الطبيعي أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل هو هذه المنظمة.
*الكنفيدرالية العامة التونسية للشغل: مضى عهد النقابة الواحدة
الكنفيدرالية العامة التونسية للشغل ورئيسها الحبيب قيزة أكدت على أن عهد النقابة الواحدة قد ولى وفق القانون الدولي والدستور التونسي الجديد اللذان يضمنان حق تكوين النقابات وتعددها وحرية الانضمام إليها، وتؤكد الكنفيدرالية أن عدد منخرطيها يفوق 100 ألف، وتستند إلى تقرير منظمة العمل الدولية الأخير والذي أقرت فيه للكنفيدرالية حقها النقابي في التعددية النقابية وفي حق التفاوض والمشاركة في المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وإلى حكم قضائي من المحكمة الإدارية الذي يقر حقها النقابي، وتدعو إلى تفعيل قوانين التعددية النقابية وإشراكها في مفاوضات مع الحكومة حول زيادة الأجور والسماح لها باقتطاع اشتراك العضوية من رواتب الأعضاء مباشرة، بالإضافة إلى تمكين موظفي القطاع العام من التفرغ للعمل النقابي والحصول على رواتبهم كاملة، وتتهم المركزية النقابية باحتكار التمثيل النقابي، وبالضغط على الحكومة حتى لا تفعل قوانين التعددية النقابية.
ويؤكد الحبيب قيزة على ضرورة احترام الحرية النقابية وتفعيل التعددية النقابية ومأسستها باعتبارها ركنا أساسيا في عملية تجديد الحركة النقابية وذلك طبقا لما نصت عليه قوانين الشغل الوطنية والدولية، داعيا إلى وضع حد لاحتكار النشاط النقابي وضمان حق الطبقة الشغيلة في حرية الانتماء النقابي دون وصاية أو إقصاء مع الالتزام بوحدة العمل وثوابت الحركة النقابية التونسية.
*اتحاد عمال تونس: الحوار الاجتماعي حق كل النقابات
من جهته وخلال مؤتمره الأخير المنعقد نهاية أفريل الفارط أكد الأمين العام لاتحاد عمال تونس إسماعيل السحباني إن اللقاء الذي جمعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن تناول موضوع تفعيل قانون التعددية النقابية، وطالبها بتفعيل القانون في ما يتعلق باحترام التعددية النقابية التي تجاهلتها الحكومات السابقة.
ويطالب السحباني الحكومة، بالتعامل مع مختلف المنظمات النقابية في الساحة والاعتراف بتمثيليتها وعدم اقتصار الحوار الاجتماعي على الاتحاد العام التونسي للشغل، وأن لا تتعامل مع التعددية بمكيالين وفق مصلحتها الخاصة، فتدعمها حين يتعلق الأمر بمجال تابع لها وترفضها في حالات أخرى فإن الأمر يصبح خطيرا ويثير العديد من الشكوك حول مدى التزامها بالقانون وحيادها تجاه الجميع.
ويعتبر اتحاد عمال تونس أن عهد التدجين والهيمنة ولى دون رجعة، ويدعو الحكومة إلى حوار بصفتهم أصحاب حق وإعطاء الفرصة للجميع للإسهام في تصور مستقبل تونس الديمقراطية وتمكين جزء هام من الطبقة العاملة، دونه لا يمكن تحقيق السلم الاجتماعية والمناخ الاجتماعي المشجع على الاستثمار وعلى خلق فرص التشغيل.
*اتحاد الشغل: لا نرفض التعددية ولا نخشاها..
الاتحاد العام التونسي للشغل اللاعب الأبرز في الساحة النقابية أكد في العديد من المناسبات أنه ليس ضد التعددية النقابية إذا كانت نابعة من إرادة العمال، ودعا إلى تحديد مقاييس للتمثيل النقابي، في المقابل يرفض الاتحاد ما يصفه بالتعددية التي تهدف إلى ضرب المنظمة وإضعاف العمل النقابي في تونس والتي تدفعها بعض الأطراف وتحرضها لضرب النضال النقابي داخل اتحاد الشغل، مشددا على أنه لا يخشى التعددية النقابية وأن المنظمة الشغيلة تواصل دورها الوطني والنقابي في تونس وأنها تحملت مسؤوليتها للدفاع عن البلاد وساهمت في إرساء حوار وطني مكن من تحقيق توافق وطني وكتابة دستور توافقي، كما حذرت المركزية النقابية مما اعتبرته سطو بعض النقابات المشبوهة على المكاسب التي تحققها نقابات الاتحاد العام التونسي للشغل، داعيا النقابات التي تريد منافسة الاتحاد إلى إبراز ما يمكن تقديمه من مكاسب للعمال وتبيان مدى تواجدها الحقيقي على أرض الواقع وداخل المؤسسات، كما طالب الاتحاد بتحديد مقاييس في التعامل وفي التمثيلية النقابية وخلق نموذج تونسي لحسم معايير التمثيلية النقابية.
*خبير في قانون الشغل: جدل حسمته المحكمة الإدارية
أكد الأستاذ مجيب عبد الرحمان الخبير في قانون الشغل والنزاعات الشغلية أن المحكمة الإدارية وبموجب حكم صادر في 2015 أن احترام التعددية النقابية يفرض على الدولة ومؤسساتها عدم تمييز نقابة على أخرى، وانتهت المحكمة الإدارية إلى فرض إسناد نقابات العمال على تعددها امتياز اقتطاع مقابل العضوية بالهيكل النقابي لموظفي الدولة والمؤسسات العمومية مباشرة من المورد، هذا الامتياز الذي كانت مؤسسات الدولة التونسية تمنحه للاتحاد العام التونسي للشغل وتمنعه عن غيره من النقابات دون مبرر، أكد الحكم القضائي مبدأ التعددية النقابية وبين ضرورة الالتزام بهذه التعددية في الممارسة الإدارية، ويكتسي هذا الحكم أهمية عملية بالغة باعتبار أنه سيؤدي لتدعيم التعددية النقابية وإنهاء كل أشكال تمييز الدولة للاتحاد العام التونسي للشغل عن غيره من النقابات في التعامل.
ويتجاوز نطاق المعاملة التمييزية التي أضحت الحكومة التونسية ملزمة بإنهائها مسألة اقتطاع الأجور ليؤدي لإعادة النظر في مسائل ذات أثر أكبر على العمل النقابي بتونس. فالحكم يطرح السؤال حول التفرغ النقابي أي تمكين أعوان الدولة من التفرغ الوظيفي للعمل النقابي مقابل تكفل النقابة بخلاص أجورهم مع احتفاظهم بحقهم في العودة لسالف عملهم بمجرد إنهاء تفرغهم وتمتعهم بالتدرج الوظيفي خلاله، هذا إضافة إلى مسألة تمثيل أعوان الدولة والمؤسسات العمومية في المفاوضات الاجتماعية، وهي امتيازات كان يتمتع بها الاتحاد العام التونسي للشغل دون سواه.
وجاء الحكم ليرفع الحرج عن الحكومة التونسية التي منعتها الشرعية التاريخية والنضالية للمنظمة النقابية الأعرق بتونس من تصحيح معاملتها معها بشكل يؤدي لاحترام الاتفاقات الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية والتي تمنع كل الأشكال التمييزية في التعامل مع النقابات، وقد يؤدي تنفيذ الحكومة لحكم المحكمة الإدارية التونسية لقطع الطريق أمام مؤاخذة الحكومة من قبل منظمة العمل الدولية التي تتعهد بتتبعات ضدها من أجل اتهامها بالتمييز بين النقابات.
تحول المشهد العام في تونس فصارت هناك تعددية سياسية حقيقية ولا شيء الآن يمنع وجود تعددية نقابية فالقانون والتشريعات تتيح ذلك، لكن بصرف النظر عن القانون فإن للعبة التعددية النقابية قواعدها وأول شروط النجاح هي أن تكون التعددية نابعة من إرادة عمالية حقيقية، فالتعددية وإن كان القانون يتيحها ويضمنها إلا أنه لا يمكن اعتبارها نقطة قوة، في تونس لا يمكننا أن نحكم على تجربة التعددية النقابية فالأمر يحتاج إلى مدة أخرى وربما إلى سنوات، لكن السؤال الذي يطرح الآن هل أن عمال تونس بحاجة إلى هذه التعددية؟
*أستاذ التاريخ ماهر الهمامي لـ"الصباح": التعددية سلاح ذو حدين
في تعليقه على جدل التعددية النقابية في تونس يقول أستاذ التاريخ ماهر الهمامي:"ليس خافيا الآن على أحد أن التعددية النقابية في تونس بنيت بوجوه قديمة وبأسماء ترعرعت في الاتحاد العام التونسي للشغل وتعلمت في هياكله أصول النضال والعمل النقابي ثم خرجت منه لسبب من الأسباب مما يعني أن التجربة التعددية النقابية لن تكون في كل الأحوال أمام آليات جديدة وأمام تراكمات جديدة قد تؤسس لمدارس نقابية أخرى تكون مختلفة عن مدرسة الاتحاد العام التونسي للشغل.
صحيح أن هناك مؤاخذات ونقائص داخل الاتحاد العام التونسي للشغل لكن لا أحد ينكر أن الاتحاد يبقى اللاعب الأبرز في الساحة النقابية وفي الساحة الوطنية، بفضل تجربته وبكل النقابيين والعمال الذين مروا به عبر كل مراحله، ويحسب للاتحاد العام التونسي للشغل أنه على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن نجح في المحافظة على وحدة عمال تونس، إذ أن أي تجربة نقابية تحتاج إلى التراكمات كي تنضج ولكن يبقى الهدف الأول لكل نقابي هو وحدة العمال.
التعددية في قانون العمل
تعرضت مجلة الشغل في البعض من فصولها إلى التمثيلية النقابية بصفة عامة مما يقيم الدليل على أن التعددية النقابية ضمنها القانون منذ إحداث مجلة الشغل سنة 1966 إلا أن بعث منظمات نقابية لتجسيم ذلك لم يكن في السابق بالأمر الهين لعدة اعتبارات سياسية وحتى نقابية ولم تبرز جليا التعددية النقابية على الساحة الوطنية إلا بعد الثورة التي شهدتها بلادنا منذ 14 جانفي 2011 فكان أن تم إحداث اتحاد عمال تونس إلى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل والجامعة العامة للشغل فأصبحت بذلك التعددية النقابية حقيقة.
أما فيما يتعلق بمعرفة الجهة النقابية المعنية بالتفاوض لإبرام اتفاقية مشتركة فقد تم التعرض إليه ضمن أحكام الفصل 39 من مجلة الشغل حيث جاء فيه ما يلي: في صورة الخلاف في معرفة أية منظمة من المنظمات النقابية التي لها أفضلية التمثيل فإن قرارا من كاتب الدولة للشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية يعين المنظمة التي تتولى إبرام الاتفاقية المشتركة في نطاق فرع النشاط وفي المنطقة الترابية المعنية وذلك بعد استشارة اللجنة الوطنية للحوار الاجتماعي وربما يتخذ هذا القرار في السنة القادمة قبل انطلاق المفاوضات الاجتماعية.
وبما أن للهياكل النقابية دورا دفاعيا عن منخرطيها ودورا تفاوضيا فإن موضوع الدفاع عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية ليس معنيا بمسألة التمثيلية النقابية ذلك أن حق ممارسة الإضراب مثلا ليس حكرا على المنظمة النقابية الأكثر تمثيلا بل يمكن أن تمارسه الأقلية لاسيما وأن أحكام مجلة الشغل المتعلقة بتسوية النزاعات الجماعية للشغل لم تتعرض في فصولها إلى التمثيلية النقابية ضمن اللجان الجهوية أو المركزية للتصالح حيث يكفي أن تتم المصادقة على برقية التنبيه بالإضراب من قبل المنظمة النقابية المركزية حتى يكون الإضراب مستوفيا للشروط القانونية (دون التعرض إلى الأكثر تمثيلا) عملا بأحكام الفصل 376 من نفس المجلة علاوة على الأعضاء الممثلين للمؤجر ممثلان اثنان عن نقابة العملة المعنية أحدهما يمثل المنظمة النقابية المركزية وبالتالي يجب التعامل في هذا الباب مع كل منظمة دون تمييز بين هذه وتلك.
التعددية النقابية بين الواقع والمأمول
من ناحية أخرى، يرى المعارضون لفكرة التنظيم النقابي الواحد أن التعددية النقابية هي أقوى حافز للنقابة على العمل، وأن التعددية النقابية فيها إثراء للعمل النقابي وضمان لفاعليته وحماية له من الانضواء تحت سيطرة جهة ما من خارج الطبقة العاملة، ولكن عندما يتعلق الأمر بمصلحة مشتركة لجميع العاملين في منشأة ما أو مهنة ما أو قطاع على الصعيد الوطني، فإن التنسيق ووحدة الإرادة يصبحان ضرورة، وهو الأمر الذي يجرى في كثير من الدول التي تأخذ بالتعددية النقابية، حيث نجدها تشارك في الكثير من الأعمال النقابية الموحدة مثل الإضرابات العمالية المشتركة عندما يتعلق الأمر بمصالح مشتركة مثل مواجهة سياسة تقشف اقتصادي لحكومة تعتمد أساسا على الانتقاص من الحقوق والمزايا العمالية.
وأخيرا، فإن المعارضين لفكرة التنظيم النقابي الواحد يبررون دعوتهم للتعددية النقابية بالتفسير الصحيح لاتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 لسنة 1948 الخاصة بالحرية النقابية، التي تعد معيارا للحريات النقابية.
ويعنى هذا أن إطلاق الحريات النقابية منذ الثورة وسعي القوى السياسية والاجتماعية بما فيها الاتحاد لتقديم قانون الحريات النقابية الذي يتيح سبل آليات المفاوضة الجماعية والحوار الاجتماعي.. وواكب هذا تعديل قواعد وإجراءات تشكيل المنظمات النقابية وفروعها في قانون النقابات العمالية عبر إبرام العقد الاجتماعي "رغم المؤاخذات والانتقادات الصادرة في شأنه" يدشن مرحلة جديدة ديمقراطية من الأهمية أن تستحوذ على اهتمامات مراكز الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتقنين وترشيد مشروع ميثاق تونسي للحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تونس – الصباح
إعداد: وجيه الوافي
ما يزال موضوع التعددية النقابية في تونس يشكل إرباكا للعمل ولأرباب العمل، واتهامات للاتحاد العام التونسي للشغل في البلاد باحتكار النفوذ النقابي، وفي ظل الأزمة القائمة بين المركزية النقابية والسلطة يعود موضوع التعددية إلى الواجهة كورقة تلوح بها الحكومة في وجه الإتحاد، حيث تقول السلطة أن تعميم هذه الآلية على بقية المنظمات النقابية الأخرى من شأنه أن يكرس ويعزز التعددية النقابية.
وفي الوقت الذي تزداد فيه الهوة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة، تعمل بعض مراكز القرار إلى تقريب النقابات الأخرى، حيث استقبل رئيس مجلس النواب مؤخرا الأمين العام للكنفيدرالية العامة للشغل الحبيب قيزة الذي أطلعه على المبادرة التي تعتزم المنظمة طرحها والرامية إلى إنجاز عقد اجتماعي مواطني يساهم في معالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد، وتم التطرق إلى حرية العمل النقابي واستعداد مجلس النواب إلى الإصغاء إلى كل الجهات والاستنارة بآرائها، كما سبق لرئيسة الحكومة نجلاء بودن أن استقبلت الأمين العام لاتحاد عمال تونس إسماعيل السحباني وهو ما اعتبره المتابعون رسالة سياسية للاتحاد مفادها أن الحكومة ماضية في التعامل مع كل النقابات على قدم المساواة.
ويؤكد المدافعون على تعميم الاقتطاع الآلي على كل النقابات أن هذا الأمر ليس مجرد امتياز أو منة من السلط الإدارية وإنما هو تطبيق للنصوص الدستورية التي كرست بشكل صريح الحقوق النقابية، سواء الحق في بعث النقابات أو ممارسة العمل النقابي، فالتعددية النقابية تستوجب تعميم آليات العمل النقابي على جميع المنظمات، على غرار الحق في التفاوض مع سلط الإشراف والتفرغ النقابي بالنسبة لنقابيي القطاع العام، إضافة إلى الاقتطاع المباشر، وهو ما لم يتم العمل به إذ بقيت هذه الآليات أو الحقوق في أغلبها حكرا على المنظمة الكبرى والأكثر تمثيلية أي الاتحاد العام التونسي للشغل، لذلك لم يكن من المستغرب أن يقع اتهامه من طرف هذه النقابات بضرب التعددية النقابية والضغط على السلطة السياسية للحيلولة دون تفعيلها، وفي تفنيده لهذه المزاعم، يبني الإتحاد دفاعه قانونيا بالعودة لمسألة التمثيلية، والمقصود بها أن المنظمة الأكثر انتشارا بين العمال تتولى تمثيلهم في ذلك القطاع أو المؤسسة، وبالتالي يحق لها وحدها التمتع بهذه الحقوق، ومن الطبيعي أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل هو هذه المنظمة.
*الكنفيدرالية العامة التونسية للشغل: مضى عهد النقابة الواحدة
الكنفيدرالية العامة التونسية للشغل ورئيسها الحبيب قيزة أكدت على أن عهد النقابة الواحدة قد ولى وفق القانون الدولي والدستور التونسي الجديد اللذان يضمنان حق تكوين النقابات وتعددها وحرية الانضمام إليها، وتؤكد الكنفيدرالية أن عدد منخرطيها يفوق 100 ألف، وتستند إلى تقرير منظمة العمل الدولية الأخير والذي أقرت فيه للكنفيدرالية حقها النقابي في التعددية النقابية وفي حق التفاوض والمشاركة في المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وإلى حكم قضائي من المحكمة الإدارية الذي يقر حقها النقابي، وتدعو إلى تفعيل قوانين التعددية النقابية وإشراكها في مفاوضات مع الحكومة حول زيادة الأجور والسماح لها باقتطاع اشتراك العضوية من رواتب الأعضاء مباشرة، بالإضافة إلى تمكين موظفي القطاع العام من التفرغ للعمل النقابي والحصول على رواتبهم كاملة، وتتهم المركزية النقابية باحتكار التمثيل النقابي، وبالضغط على الحكومة حتى لا تفعل قوانين التعددية النقابية.
ويؤكد الحبيب قيزة على ضرورة احترام الحرية النقابية وتفعيل التعددية النقابية ومأسستها باعتبارها ركنا أساسيا في عملية تجديد الحركة النقابية وذلك طبقا لما نصت عليه قوانين الشغل الوطنية والدولية، داعيا إلى وضع حد لاحتكار النشاط النقابي وضمان حق الطبقة الشغيلة في حرية الانتماء النقابي دون وصاية أو إقصاء مع الالتزام بوحدة العمل وثوابت الحركة النقابية التونسية.
*اتحاد عمال تونس: الحوار الاجتماعي حق كل النقابات
من جهته وخلال مؤتمره الأخير المنعقد نهاية أفريل الفارط أكد الأمين العام لاتحاد عمال تونس إسماعيل السحباني إن اللقاء الذي جمعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن تناول موضوع تفعيل قانون التعددية النقابية، وطالبها بتفعيل القانون في ما يتعلق باحترام التعددية النقابية التي تجاهلتها الحكومات السابقة.
ويطالب السحباني الحكومة، بالتعامل مع مختلف المنظمات النقابية في الساحة والاعتراف بتمثيليتها وعدم اقتصار الحوار الاجتماعي على الاتحاد العام التونسي للشغل، وأن لا تتعامل مع التعددية بمكيالين وفق مصلحتها الخاصة، فتدعمها حين يتعلق الأمر بمجال تابع لها وترفضها في حالات أخرى فإن الأمر يصبح خطيرا ويثير العديد من الشكوك حول مدى التزامها بالقانون وحيادها تجاه الجميع.
ويعتبر اتحاد عمال تونس أن عهد التدجين والهيمنة ولى دون رجعة، ويدعو الحكومة إلى حوار بصفتهم أصحاب حق وإعطاء الفرصة للجميع للإسهام في تصور مستقبل تونس الديمقراطية وتمكين جزء هام من الطبقة العاملة، دونه لا يمكن تحقيق السلم الاجتماعية والمناخ الاجتماعي المشجع على الاستثمار وعلى خلق فرص التشغيل.
*اتحاد الشغل: لا نرفض التعددية ولا نخشاها..
الاتحاد العام التونسي للشغل اللاعب الأبرز في الساحة النقابية أكد في العديد من المناسبات أنه ليس ضد التعددية النقابية إذا كانت نابعة من إرادة العمال، ودعا إلى تحديد مقاييس للتمثيل النقابي، في المقابل يرفض الاتحاد ما يصفه بالتعددية التي تهدف إلى ضرب المنظمة وإضعاف العمل النقابي في تونس والتي تدفعها بعض الأطراف وتحرضها لضرب النضال النقابي داخل اتحاد الشغل، مشددا على أنه لا يخشى التعددية النقابية وأن المنظمة الشغيلة تواصل دورها الوطني والنقابي في تونس وأنها تحملت مسؤوليتها للدفاع عن البلاد وساهمت في إرساء حوار وطني مكن من تحقيق توافق وطني وكتابة دستور توافقي، كما حذرت المركزية النقابية مما اعتبرته سطو بعض النقابات المشبوهة على المكاسب التي تحققها نقابات الاتحاد العام التونسي للشغل، داعيا النقابات التي تريد منافسة الاتحاد إلى إبراز ما يمكن تقديمه من مكاسب للعمال وتبيان مدى تواجدها الحقيقي على أرض الواقع وداخل المؤسسات، كما طالب الاتحاد بتحديد مقاييس في التعامل وفي التمثيلية النقابية وخلق نموذج تونسي لحسم معايير التمثيلية النقابية.
*خبير في قانون الشغل: جدل حسمته المحكمة الإدارية
أكد الأستاذ مجيب عبد الرحمان الخبير في قانون الشغل والنزاعات الشغلية أن المحكمة الإدارية وبموجب حكم صادر في 2015 أن احترام التعددية النقابية يفرض على الدولة ومؤسساتها عدم تمييز نقابة على أخرى، وانتهت المحكمة الإدارية إلى فرض إسناد نقابات العمال على تعددها امتياز اقتطاع مقابل العضوية بالهيكل النقابي لموظفي الدولة والمؤسسات العمومية مباشرة من المورد، هذا الامتياز الذي كانت مؤسسات الدولة التونسية تمنحه للاتحاد العام التونسي للشغل وتمنعه عن غيره من النقابات دون مبرر، أكد الحكم القضائي مبدأ التعددية النقابية وبين ضرورة الالتزام بهذه التعددية في الممارسة الإدارية، ويكتسي هذا الحكم أهمية عملية بالغة باعتبار أنه سيؤدي لتدعيم التعددية النقابية وإنهاء كل أشكال تمييز الدولة للاتحاد العام التونسي للشغل عن غيره من النقابات في التعامل.
ويتجاوز نطاق المعاملة التمييزية التي أضحت الحكومة التونسية ملزمة بإنهائها مسألة اقتطاع الأجور ليؤدي لإعادة النظر في مسائل ذات أثر أكبر على العمل النقابي بتونس. فالحكم يطرح السؤال حول التفرغ النقابي أي تمكين أعوان الدولة من التفرغ الوظيفي للعمل النقابي مقابل تكفل النقابة بخلاص أجورهم مع احتفاظهم بحقهم في العودة لسالف عملهم بمجرد إنهاء تفرغهم وتمتعهم بالتدرج الوظيفي خلاله، هذا إضافة إلى مسألة تمثيل أعوان الدولة والمؤسسات العمومية في المفاوضات الاجتماعية، وهي امتيازات كان يتمتع بها الاتحاد العام التونسي للشغل دون سواه.
وجاء الحكم ليرفع الحرج عن الحكومة التونسية التي منعتها الشرعية التاريخية والنضالية للمنظمة النقابية الأعرق بتونس من تصحيح معاملتها معها بشكل يؤدي لاحترام الاتفاقات الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية والتي تمنع كل الأشكال التمييزية في التعامل مع النقابات، وقد يؤدي تنفيذ الحكومة لحكم المحكمة الإدارية التونسية لقطع الطريق أمام مؤاخذة الحكومة من قبل منظمة العمل الدولية التي تتعهد بتتبعات ضدها من أجل اتهامها بالتمييز بين النقابات.
تحول المشهد العام في تونس فصارت هناك تعددية سياسية حقيقية ولا شيء الآن يمنع وجود تعددية نقابية فالقانون والتشريعات تتيح ذلك، لكن بصرف النظر عن القانون فإن للعبة التعددية النقابية قواعدها وأول شروط النجاح هي أن تكون التعددية نابعة من إرادة عمالية حقيقية، فالتعددية وإن كان القانون يتيحها ويضمنها إلا أنه لا يمكن اعتبارها نقطة قوة، في تونس لا يمكننا أن نحكم على تجربة التعددية النقابية فالأمر يحتاج إلى مدة أخرى وربما إلى سنوات، لكن السؤال الذي يطرح الآن هل أن عمال تونس بحاجة إلى هذه التعددية؟
*أستاذ التاريخ ماهر الهمامي لـ"الصباح": التعددية سلاح ذو حدين
في تعليقه على جدل التعددية النقابية في تونس يقول أستاذ التاريخ ماهر الهمامي:"ليس خافيا الآن على أحد أن التعددية النقابية في تونس بنيت بوجوه قديمة وبأسماء ترعرعت في الاتحاد العام التونسي للشغل وتعلمت في هياكله أصول النضال والعمل النقابي ثم خرجت منه لسبب من الأسباب مما يعني أن التجربة التعددية النقابية لن تكون في كل الأحوال أمام آليات جديدة وأمام تراكمات جديدة قد تؤسس لمدارس نقابية أخرى تكون مختلفة عن مدرسة الاتحاد العام التونسي للشغل.
صحيح أن هناك مؤاخذات ونقائص داخل الاتحاد العام التونسي للشغل لكن لا أحد ينكر أن الاتحاد يبقى اللاعب الأبرز في الساحة النقابية وفي الساحة الوطنية، بفضل تجربته وبكل النقابيين والعمال الذين مروا به عبر كل مراحله، ويحسب للاتحاد العام التونسي للشغل أنه على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن نجح في المحافظة على وحدة عمال تونس، إذ أن أي تجربة نقابية تحتاج إلى التراكمات كي تنضج ولكن يبقى الهدف الأول لكل نقابي هو وحدة العمال.
التعددية في قانون العمل
تعرضت مجلة الشغل في البعض من فصولها إلى التمثيلية النقابية بصفة عامة مما يقيم الدليل على أن التعددية النقابية ضمنها القانون منذ إحداث مجلة الشغل سنة 1966 إلا أن بعث منظمات نقابية لتجسيم ذلك لم يكن في السابق بالأمر الهين لعدة اعتبارات سياسية وحتى نقابية ولم تبرز جليا التعددية النقابية على الساحة الوطنية إلا بعد الثورة التي شهدتها بلادنا منذ 14 جانفي 2011 فكان أن تم إحداث اتحاد عمال تونس إلى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل والجامعة العامة للشغل فأصبحت بذلك التعددية النقابية حقيقة.
أما فيما يتعلق بمعرفة الجهة النقابية المعنية بالتفاوض لإبرام اتفاقية مشتركة فقد تم التعرض إليه ضمن أحكام الفصل 39 من مجلة الشغل حيث جاء فيه ما يلي: في صورة الخلاف في معرفة أية منظمة من المنظمات النقابية التي لها أفضلية التمثيل فإن قرارا من كاتب الدولة للشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية يعين المنظمة التي تتولى إبرام الاتفاقية المشتركة في نطاق فرع النشاط وفي المنطقة الترابية المعنية وذلك بعد استشارة اللجنة الوطنية للحوار الاجتماعي وربما يتخذ هذا القرار في السنة القادمة قبل انطلاق المفاوضات الاجتماعية.
وبما أن للهياكل النقابية دورا دفاعيا عن منخرطيها ودورا تفاوضيا فإن موضوع الدفاع عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية ليس معنيا بمسألة التمثيلية النقابية ذلك أن حق ممارسة الإضراب مثلا ليس حكرا على المنظمة النقابية الأكثر تمثيلا بل يمكن أن تمارسه الأقلية لاسيما وأن أحكام مجلة الشغل المتعلقة بتسوية النزاعات الجماعية للشغل لم تتعرض في فصولها إلى التمثيلية النقابية ضمن اللجان الجهوية أو المركزية للتصالح حيث يكفي أن تتم المصادقة على برقية التنبيه بالإضراب من قبل المنظمة النقابية المركزية حتى يكون الإضراب مستوفيا للشروط القانونية (دون التعرض إلى الأكثر تمثيلا) عملا بأحكام الفصل 376 من نفس المجلة علاوة على الأعضاء الممثلين للمؤجر ممثلان اثنان عن نقابة العملة المعنية أحدهما يمثل المنظمة النقابية المركزية وبالتالي يجب التعامل في هذا الباب مع كل منظمة دون تمييز بين هذه وتلك.
التعددية النقابية بين الواقع والمأمول
من ناحية أخرى، يرى المعارضون لفكرة التنظيم النقابي الواحد أن التعددية النقابية هي أقوى حافز للنقابة على العمل، وأن التعددية النقابية فيها إثراء للعمل النقابي وضمان لفاعليته وحماية له من الانضواء تحت سيطرة جهة ما من خارج الطبقة العاملة، ولكن عندما يتعلق الأمر بمصلحة مشتركة لجميع العاملين في منشأة ما أو مهنة ما أو قطاع على الصعيد الوطني، فإن التنسيق ووحدة الإرادة يصبحان ضرورة، وهو الأمر الذي يجرى في كثير من الدول التي تأخذ بالتعددية النقابية، حيث نجدها تشارك في الكثير من الأعمال النقابية الموحدة مثل الإضرابات العمالية المشتركة عندما يتعلق الأمر بمصالح مشتركة مثل مواجهة سياسة تقشف اقتصادي لحكومة تعتمد أساسا على الانتقاص من الحقوق والمزايا العمالية.
وأخيرا، فإن المعارضين لفكرة التنظيم النقابي الواحد يبررون دعوتهم للتعددية النقابية بالتفسير الصحيح لاتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 لسنة 1948 الخاصة بالحرية النقابية، التي تعد معيارا للحريات النقابية.
ويعنى هذا أن إطلاق الحريات النقابية منذ الثورة وسعي القوى السياسية والاجتماعية بما فيها الاتحاد لتقديم قانون الحريات النقابية الذي يتيح سبل آليات المفاوضة الجماعية والحوار الاجتماعي.. وواكب هذا تعديل قواعد وإجراءات تشكيل المنظمات النقابية وفروعها في قانون النقابات العمالية عبر إبرام العقد الاجتماعي "رغم المؤاخذات والانتقادات الصادرة في شأنه" يدشن مرحلة جديدة ديمقراطية من الأهمية أن تستحوذ على اهتمامات مراكز الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتقنين وترشيد مشروع ميثاق تونسي للحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.