إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

حادثةُ الغريبة والخطاب ُ الجاهل بمحددات هويَّات الشعوب لدى 'المثقفين التونسيين'

 

*  تصور التونسيات والتونسيين لمحددات الهويات الجماعية للشعوب هو عموما تصور قاصر وخاطئ موضوعيا وعلميا             

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)           

                         

تحيُز وسائل الإعلام                                                                      

       تثير اليوم  أحداث كنيس الغريبة في جزيرة جربة لغطا واسعا في وسائل الإعلام  الخاصة وحتى العامة في المجتمع التونسي, على سبيل المثال، دعتْ إذاعةُ موزييك مثقفيْن تونسييْن  لنقاش مسألة الهوية التونسية وانصهار اليهود التونسيين فيها. وهي إذاعة تميل إلى دعوة المثقفين التونسيين الفرنكوفونيين أصحاب العلاقة الفاترة أو المستنفِرة من الانتساب القوي إلى الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي.   

يلاحَظ عموما أن وسائل الإعلام التونسية هذه تكاد  تذكر وتركز أكثر على الهوية التونسية الفينيقة والقرطاجنية والبربرية من ذكرها للهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. وهو سلوك مقلوب بالجملة ورأسا على عقب. ومنه، جاء إبراز هذه الرؤية إلى أن تاريخ تونس طويل يمتد 3000 سنة، أي بدأ قبل الفتوحات العربية الإسلامية بحوالي 1500 عاما. لكن الجهل بأبجدية المحددات الحقيقية للهويات هو الذي قاد إلى تلك الرؤية الضيقة لمسألة محددات الهوية. تعتبر تلك الرؤية أن مجرد عدد سنين وجود حضارة ما في مكان ما وفي زمن ما هو الذي يحدد الهويات الحالية للمجتمعات والأمم والشعوب.وذلك اعتقاد ضعيف المصداقية، كما سنرى. 

العوامل الحاسمة في تحديد الهويات  الجماعية

نريد أن نبين هنا وباختصار شديد بأن تصور التونسيات والتونسيين لمحددات الهويات الجماعية للشعوب هو عموما تصور قاصر وخاطئ موضوعيا وعلميا. فالبعض منهم يؤكد،مثلا، على أسبقية حضور الحضارة الفينيقية والقرطاجنية والبربرية في الأرض التونسية قبل مجيء العرب والمسلمين بحضارتهم إلى افريقية (تونس). وهذه حقيقة لا جدال في صحتها تاريخيا وأثريا.

 لكن السؤال المشروع بهذا الصدد هو : ما هي العوامل المحددة والحاسمة أكثر لهويات الشعوب والأمم: أهي العوامل المادية (الإرث المعماري والسلالة العرقية ونوع الطعام والشراب واللباس...) أو العوامل الرمزية الثقافية/غير المادية مثل اللغة والدين والفكر والأساطير... التي تحملها الحضارات البشرية عبر العصور ؟

يتجلى من التحليل الموضوعي لمسألة الهوية أن ما نسميه  الرموز الثقافية هي الأكثر حسما في تحديد هويات الأفراد والجماعات والشعوب. والأمثلة الشاهدة على ذلك عديدة. فحركة الهجرة من الجنوب إلى الشمال ،مثلا، لا تسحب  من المهاجرين هوياتهم الثقافية بمجرد أن يحلوا جغرافيا بالمجتمعات المستقبلة لهم ذات الخلفيات اللغوية والدينية/الثقافية المختلفة عنهم. ومن ثم، جاء مشكل الاندماج الثقافي للمهاجرين في قيم المجتمع المضيف في طليعة مشاكل عولمة الهجرة في الماضي والحاضر وسيكون الأمر كذلك في المستقبل.

      تتفوق عوامل اللغة والدين والثقافة... على العوامل الأخرى في تحديد هويات الأفراد والمجتمعات والشعوب بسبب ما نطلق عليه مركزية الرموز الثقافية في هوية الجنس البشري، ونعني بهذا أن الجنس البشري يتميز عن غيره من الأجناس الأخرى بطريقة فاصلة وحاسمة بالرموز الثقافية (اللغة المنطوقة والمكتوبة والفكر والمعرفة/العلم والدين والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية). أي أن الإنسان هو في المقام الأول كائن رموزي ثقافي بالطبع. وللبرهنة على مصداقية هذه المقولة نقد م شرحا مختصرا بهذا الصد د.

مركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان

تؤكد مقولتنا أن الإنسان في عمق عمقه كائن ثقافي بالطبع. يستند هذا على ملاحظات رئيسية حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من الأجناس الأخرى:

      1- يتصف النمو الجسمي لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند معظم الحيوانات.

      2- يتمتع أفراد الجنس البشري عموما بأمد حياة (سن) أطول من عمر أغلبية الحيوانات.

      3- ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة/الخلافة في هذا العالم بدون منافسة حقيقية له من طرف باقي الأجناس الأخرى.

      4-  يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة الرموز الثقافية المشار إليها سابقا.

      5- يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجسد والرموز الثقافية.

إن التساؤل المشروع لإبراز مركزية المنظومة الثقافية في هوية الإنسان هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّز بها الإنسان ؟

أولا : هناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و 2 . إذ أن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سن أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات. فالعلاقة بين الاثنين هي إذن علاقة سببية.

 ثانيا : أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الإنسان فإنها أيضا ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان  والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4).

ثالثا: عند البحث عن علاقة سيادة الجنس البشري بالمعالم الأربعة الأخرى، فإن المعلمين 1 و 2 لا يؤهلانه، على مستوى القوة المادية، لكسب رهان السيادة على بقية الأجناس الأخرى، إذ الإنسان أضعف جسديا من العديد من الكائنات الأخرى. ومن ثم، يمكن الاستنتاج بأن سيادة الجنس البشري ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلمين5و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية . والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية. و هكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الإنسان وحده من السيادة في هذا العالم.

رابعا : إن  الرموز الثقافية تسمح أيضا بتفسير المعلمين 1 و2. فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى كون أن عملية النمو عنده تشمل جبهتين : الجبهة الجسمية والجبهة الرموزية الثقافية. وهذا خلافا للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى بسبب فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد. وهكذا يتضح أن الرموز الثقافية تمثل العناصر الأساسية والحاسمة في تحد يد هوية الإنسان على المستويين الفردي والجماعي لدى المجتمعات والشعوب.

الهوية الفنيقية القرطاجنية والبربرية في ميزان الرموز الثقافية

 وعند الرجوع إلى فحص مدى مصداقية المنادين في تونس إلى تبني هوية فينيقية أو قرطاجنية أوبربرية بدل الهوية العربية الإسلامية ، فإننا نجد مثل تلك الدعوة ضعيفة الأسس في الإطار الفكري للرموز الثقافية الذي شرحنا معالمه. إذ بغياب، مثلا، لغة/لغات ودين/ديانات القرطاجنيين والفينقيين والبربر من الأرض التونسية بعد الفتوحات العربية الإسلامية على الخصوص، اندثرت منظومة الرموز الثقافية القرطاجنية والفينيقية والبربرية وعوضتها بطريقة شبه كاملة منظومة الرموز الثقافية العربية الإسلامية منذ قرون عديدة بحيث أصبحت الشخصية القاعدية  Personnalité de Base التونسية منصهرة تماما في بوتقة الرموز الثقافية العربية الإسلامية. يعكس هذا الانصهار الكبير في هذه الثقافة للمجتمع التونسي معالم كبيرة وصغيرة لا تكاد تحصى على مستويات السلوك الفردي والنظام المجتمعي والعقل الجماعي للتونسيين. وكمثال على مدى تجلى التأثر الكبير للعقل الجماعي التونسي برموز الثقافة العربية ما رُوي في حادثة من الجنوب التونسي التي تبرز، من ناحية، مدى حضور الثقافة العربية في الحياة اليومية للتونسيين وغياب أو ذبول الثقافة القرطاجنية والفينيقية والبربرية ، من ناحية ثانية. يحكي شاب من الجنوب التونسي بأن أمه عندما تغضب عليه وتريد توبيخه تصرخ قائلة : "أيّ متتعنترش (عنترة) عليّ " ولم تقل لي أبدا "أي متتحنبلش (حنبعل) عليّ". لقد أكد المرحوم هشام جعيط على انصهار الشخصية القاعدية التونسية الكامل في بوتقة الثقافة العربية الإسلامية.

الرموز الثقافية تكوّن هوية جماعية رحبة

 فلو كان الأصل العرقي هو العامل الحاسم في تكوين هوية الشعوب، لما كان ممكنا تكوين أمم وشعوب تتألف من خليط السلالات والأعراق البشرية المتنوعة والمختلفة مثل الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. فرغم اختلاف الفئات المكونة لتلك الشعوب وغيرها في ألوان بشرتها وأنواع وألوان شعرها وقصر أو طول قامتها، فإن أفرادها يعتبرون أنفسهم بطريقة عفوية وجماعية أنهم ينتمون إلى شعب واحد هو الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. لقد وجد الباحثون في العلوم الاجتماعية الحديثة أن اشتراك الفئات البشرية في لغة واحدة ودين واحد يؤهلها لكي تظفر بالانتماء إلى هوية جماعية واحدة. فاللغة العربية والد ين الإسلامي واللغة الانكليزية والدين المسيحي البروتستنتي واللغة الفرنسية والدين المسيحي الكاثوليكي هما العاملان المحددان على التوالي لهوية المجتمع التونسي فالمجتمع الأمريكي فالمجتمع الفرنسي. وهكذا يتجلى أن الأرضية الصلبة لبناء الهويات الجماعية للجماعات والمجتمعات والشعوب تكمن في الاشتراك في ثقافة/رموز ثقافية واحدة لتلك الشعوب وفي طليعتها رمزا اللغة والدين. ومن ثم، فمناداة بعض التونسيات و التونسيين، الجاهلين بأبسط قواعد أبجدية الهويات الجماعية، بالانتماء إلى هوية جماعية بربرية أو قرطاجنية أوفينيقية هي دعوة ضعيفة الحجج لأنها نداء لصالح هوية جماعية فقدت أهم رموزها/عناصرها الثقافية مثل اللغة والدين في المجتمع التونسي الحالي. إنها دعوة أساسها بكل بساطة فقر معرفي بالمحددات الحقيقية للهويات الجماعية عند الشعوب، كما تطرحها بحوث ومفاهيم ونظريات العلوم الاجتماعية الحديثة.

وكما أكدنا سابقا على أن إنسانية الجنس البشري تتمثل في انفراده بمنظومة الرموز الثقافية التي مدته بمزايا عديدة مكنته من السيادة على بقية الأجناس الأخرى ، فإنها هي أيضا التي تعطيه القدرة على تجاوز الانتماءات المحدودة والضيقة بين بني البشر التي تفرضها عليهم أصولهم العرقية ولون بشرتهم وطول أو قصر قاماتهم. إن الثقافة/الرموز الثقافية لها نوع من العصا السحرية في قدرتها على إفساح الآفاق أمام الفئات والمجتمعات والشعوب ذات الأصول العرقية المختلفة وألوان البشرة المتنوعة لكي  تتجاوز حدود الانتماءات الضيقة إلى انتماءات واسعة ورحبة تكاد تكون بلا حدود.تتمثل العبرة من كل ذلك في أن الرموز الثقافية/الثقافة المشتركة تسمح للناس أن يبلغوا بواسطتها أوج إنسانيتهم في التلاحم والتحالف والتآخي مع الآخرين المختلفين عنهم في العرق واللون والنسب.إذ هي تمنحهم تأشيرة خضراء لتجاوز حدود ومضايقات الفروق والاختلافات اللونية والعرقية وغيرها التي طالما توجد بينهم في المجموعات الصغيرة والكبيرة وفي المجتمعات البشرية عبر الزمان والمكان. 

*عالم الاجتماع   

حادثةُ الغريبة والخطاب ُ الجاهل بمحددات هويَّات الشعوب لدى 'المثقفين التونسيين'

 

*  تصور التونسيات والتونسيين لمحددات الهويات الجماعية للشعوب هو عموما تصور قاصر وخاطئ موضوعيا وعلميا             

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)           

                         

تحيُز وسائل الإعلام                                                                      

       تثير اليوم  أحداث كنيس الغريبة في جزيرة جربة لغطا واسعا في وسائل الإعلام  الخاصة وحتى العامة في المجتمع التونسي, على سبيل المثال، دعتْ إذاعةُ موزييك مثقفيْن تونسييْن  لنقاش مسألة الهوية التونسية وانصهار اليهود التونسيين فيها. وهي إذاعة تميل إلى دعوة المثقفين التونسيين الفرنكوفونيين أصحاب العلاقة الفاترة أو المستنفِرة من الانتساب القوي إلى الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي.   

يلاحَظ عموما أن وسائل الإعلام التونسية هذه تكاد  تذكر وتركز أكثر على الهوية التونسية الفينيقة والقرطاجنية والبربرية من ذكرها للهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. وهو سلوك مقلوب بالجملة ورأسا على عقب. ومنه، جاء إبراز هذه الرؤية إلى أن تاريخ تونس طويل يمتد 3000 سنة، أي بدأ قبل الفتوحات العربية الإسلامية بحوالي 1500 عاما. لكن الجهل بأبجدية المحددات الحقيقية للهويات هو الذي قاد إلى تلك الرؤية الضيقة لمسألة محددات الهوية. تعتبر تلك الرؤية أن مجرد عدد سنين وجود حضارة ما في مكان ما وفي زمن ما هو الذي يحدد الهويات الحالية للمجتمعات والأمم والشعوب.وذلك اعتقاد ضعيف المصداقية، كما سنرى. 

العوامل الحاسمة في تحديد الهويات  الجماعية

نريد أن نبين هنا وباختصار شديد بأن تصور التونسيات والتونسيين لمحددات الهويات الجماعية للشعوب هو عموما تصور قاصر وخاطئ موضوعيا وعلميا. فالبعض منهم يؤكد،مثلا، على أسبقية حضور الحضارة الفينيقية والقرطاجنية والبربرية في الأرض التونسية قبل مجيء العرب والمسلمين بحضارتهم إلى افريقية (تونس). وهذه حقيقة لا جدال في صحتها تاريخيا وأثريا.

 لكن السؤال المشروع بهذا الصدد هو : ما هي العوامل المحددة والحاسمة أكثر لهويات الشعوب والأمم: أهي العوامل المادية (الإرث المعماري والسلالة العرقية ونوع الطعام والشراب واللباس...) أو العوامل الرمزية الثقافية/غير المادية مثل اللغة والدين والفكر والأساطير... التي تحملها الحضارات البشرية عبر العصور ؟

يتجلى من التحليل الموضوعي لمسألة الهوية أن ما نسميه  الرموز الثقافية هي الأكثر حسما في تحديد هويات الأفراد والجماعات والشعوب. والأمثلة الشاهدة على ذلك عديدة. فحركة الهجرة من الجنوب إلى الشمال ،مثلا، لا تسحب  من المهاجرين هوياتهم الثقافية بمجرد أن يحلوا جغرافيا بالمجتمعات المستقبلة لهم ذات الخلفيات اللغوية والدينية/الثقافية المختلفة عنهم. ومن ثم، جاء مشكل الاندماج الثقافي للمهاجرين في قيم المجتمع المضيف في طليعة مشاكل عولمة الهجرة في الماضي والحاضر وسيكون الأمر كذلك في المستقبل.

      تتفوق عوامل اللغة والدين والثقافة... على العوامل الأخرى في تحديد هويات الأفراد والمجتمعات والشعوب بسبب ما نطلق عليه مركزية الرموز الثقافية في هوية الجنس البشري، ونعني بهذا أن الجنس البشري يتميز عن غيره من الأجناس الأخرى بطريقة فاصلة وحاسمة بالرموز الثقافية (اللغة المنطوقة والمكتوبة والفكر والمعرفة/العلم والدين والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية). أي أن الإنسان هو في المقام الأول كائن رموزي ثقافي بالطبع. وللبرهنة على مصداقية هذه المقولة نقد م شرحا مختصرا بهذا الصد د.

مركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان

تؤكد مقولتنا أن الإنسان في عمق عمقه كائن ثقافي بالطبع. يستند هذا على ملاحظات رئيسية حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من الأجناس الأخرى:

      1- يتصف النمو الجسمي لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند معظم الحيوانات.

      2- يتمتع أفراد الجنس البشري عموما بأمد حياة (سن) أطول من عمر أغلبية الحيوانات.

      3- ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة/الخلافة في هذا العالم بدون منافسة حقيقية له من طرف باقي الأجناس الأخرى.

      4-  يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة الرموز الثقافية المشار إليها سابقا.

      5- يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجسد والرموز الثقافية.

إن التساؤل المشروع لإبراز مركزية المنظومة الثقافية في هوية الإنسان هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّز بها الإنسان ؟

أولا : هناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و 2 . إذ أن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سن أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات. فالعلاقة بين الاثنين هي إذن علاقة سببية.

 ثانيا : أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الإنسان فإنها أيضا ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان  والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4).

ثالثا: عند البحث عن علاقة سيادة الجنس البشري بالمعالم الأربعة الأخرى، فإن المعلمين 1 و 2 لا يؤهلانه، على مستوى القوة المادية، لكسب رهان السيادة على بقية الأجناس الأخرى، إذ الإنسان أضعف جسديا من العديد من الكائنات الأخرى. ومن ثم، يمكن الاستنتاج بأن سيادة الجنس البشري ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلمين5و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية . والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية. و هكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الإنسان وحده من السيادة في هذا العالم.

رابعا : إن  الرموز الثقافية تسمح أيضا بتفسير المعلمين 1 و2. فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى كون أن عملية النمو عنده تشمل جبهتين : الجبهة الجسمية والجبهة الرموزية الثقافية. وهذا خلافا للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى بسبب فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد. وهكذا يتضح أن الرموز الثقافية تمثل العناصر الأساسية والحاسمة في تحد يد هوية الإنسان على المستويين الفردي والجماعي لدى المجتمعات والشعوب.

الهوية الفنيقية القرطاجنية والبربرية في ميزان الرموز الثقافية

 وعند الرجوع إلى فحص مدى مصداقية المنادين في تونس إلى تبني هوية فينيقية أو قرطاجنية أوبربرية بدل الهوية العربية الإسلامية ، فإننا نجد مثل تلك الدعوة ضعيفة الأسس في الإطار الفكري للرموز الثقافية الذي شرحنا معالمه. إذ بغياب، مثلا، لغة/لغات ودين/ديانات القرطاجنيين والفينقيين والبربر من الأرض التونسية بعد الفتوحات العربية الإسلامية على الخصوص، اندثرت منظومة الرموز الثقافية القرطاجنية والفينيقية والبربرية وعوضتها بطريقة شبه كاملة منظومة الرموز الثقافية العربية الإسلامية منذ قرون عديدة بحيث أصبحت الشخصية القاعدية  Personnalité de Base التونسية منصهرة تماما في بوتقة الرموز الثقافية العربية الإسلامية. يعكس هذا الانصهار الكبير في هذه الثقافة للمجتمع التونسي معالم كبيرة وصغيرة لا تكاد تحصى على مستويات السلوك الفردي والنظام المجتمعي والعقل الجماعي للتونسيين. وكمثال على مدى تجلى التأثر الكبير للعقل الجماعي التونسي برموز الثقافة العربية ما رُوي في حادثة من الجنوب التونسي التي تبرز، من ناحية، مدى حضور الثقافة العربية في الحياة اليومية للتونسيين وغياب أو ذبول الثقافة القرطاجنية والفينيقية والبربرية ، من ناحية ثانية. يحكي شاب من الجنوب التونسي بأن أمه عندما تغضب عليه وتريد توبيخه تصرخ قائلة : "أيّ متتعنترش (عنترة) عليّ " ولم تقل لي أبدا "أي متتحنبلش (حنبعل) عليّ". لقد أكد المرحوم هشام جعيط على انصهار الشخصية القاعدية التونسية الكامل في بوتقة الثقافة العربية الإسلامية.

الرموز الثقافية تكوّن هوية جماعية رحبة

 فلو كان الأصل العرقي هو العامل الحاسم في تكوين هوية الشعوب، لما كان ممكنا تكوين أمم وشعوب تتألف من خليط السلالات والأعراق البشرية المتنوعة والمختلفة مثل الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. فرغم اختلاف الفئات المكونة لتلك الشعوب وغيرها في ألوان بشرتها وأنواع وألوان شعرها وقصر أو طول قامتها، فإن أفرادها يعتبرون أنفسهم بطريقة عفوية وجماعية أنهم ينتمون إلى شعب واحد هو الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. لقد وجد الباحثون في العلوم الاجتماعية الحديثة أن اشتراك الفئات البشرية في لغة واحدة ودين واحد يؤهلها لكي تظفر بالانتماء إلى هوية جماعية واحدة. فاللغة العربية والد ين الإسلامي واللغة الانكليزية والدين المسيحي البروتستنتي واللغة الفرنسية والدين المسيحي الكاثوليكي هما العاملان المحددان على التوالي لهوية المجتمع التونسي فالمجتمع الأمريكي فالمجتمع الفرنسي. وهكذا يتجلى أن الأرضية الصلبة لبناء الهويات الجماعية للجماعات والمجتمعات والشعوب تكمن في الاشتراك في ثقافة/رموز ثقافية واحدة لتلك الشعوب وفي طليعتها رمزا اللغة والدين. ومن ثم، فمناداة بعض التونسيات و التونسيين، الجاهلين بأبسط قواعد أبجدية الهويات الجماعية، بالانتماء إلى هوية جماعية بربرية أو قرطاجنية أوفينيقية هي دعوة ضعيفة الحجج لأنها نداء لصالح هوية جماعية فقدت أهم رموزها/عناصرها الثقافية مثل اللغة والدين في المجتمع التونسي الحالي. إنها دعوة أساسها بكل بساطة فقر معرفي بالمحددات الحقيقية للهويات الجماعية عند الشعوب، كما تطرحها بحوث ومفاهيم ونظريات العلوم الاجتماعية الحديثة.

وكما أكدنا سابقا على أن إنسانية الجنس البشري تتمثل في انفراده بمنظومة الرموز الثقافية التي مدته بمزايا عديدة مكنته من السيادة على بقية الأجناس الأخرى ، فإنها هي أيضا التي تعطيه القدرة على تجاوز الانتماءات المحدودة والضيقة بين بني البشر التي تفرضها عليهم أصولهم العرقية ولون بشرتهم وطول أو قصر قاماتهم. إن الثقافة/الرموز الثقافية لها نوع من العصا السحرية في قدرتها على إفساح الآفاق أمام الفئات والمجتمعات والشعوب ذات الأصول العرقية المختلفة وألوان البشرة المتنوعة لكي  تتجاوز حدود الانتماءات الضيقة إلى انتماءات واسعة ورحبة تكاد تكون بلا حدود.تتمثل العبرة من كل ذلك في أن الرموز الثقافية/الثقافة المشتركة تسمح للناس أن يبلغوا بواسطتها أوج إنسانيتهم في التلاحم والتحالف والتآخي مع الآخرين المختلفين عنهم في العرق واللون والنسب.إذ هي تمنحهم تأشيرة خضراء لتجاوز حدود ومضايقات الفروق والاختلافات اللونية والعرقية وغيرها التي طالما توجد بينهم في المجموعات الصغيرة والكبيرة وفي المجتمعات البشرية عبر الزمان والمكان. 

*عالم الاجتماع