إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

التنمية لن تتحقَّق بدون تغيير جذري وكُلِّي للإدارة التونسية

بقلم: خديجة توفيق معلَّى(*)

*سوف يحاسب التاريخ أي مسؤول مهما كانت رُتبته على عدم تحمله للمسؤولية ولخيانته للأمانة

"حين يكون المُستهدف وَطناً، يُصبح الحِيادُ خيانة والصَمت تواطئاً"(الدغباجي).

كُلَّما نُفكر في الأزمة الإقتصادية الحادَّة التي تمُرُّ بها تونس، نادراً ما نَلتفت إلى رأس الأفعى وهي البيروقراطية الخانقة في كل المجالات وعلى كل الأصعدة. فلقد ورث الجهاز الإداري التونسي بيروقراطية المُحتل في الستينيات. وفي حين أن هذا المحتل طوَّر نفسه على مرِّ السنين، ولم ينفك في تحديث تشريعاته وتسهيل إجراءاته، إلاَّ أن الجهاز الإداري التونسي لم يَقم بنفس المجهود.

والغريب في الأمر أن كل الحكومات والبرلمانات المُتعاقبة، خلال العشرية الأخيرة، لم تفهم أهمية القيام بتطوير الجهاز الإداري الذي أصبح نقمة على كل مواطن أو مستثمر يحاول القيام بأي إجراء، أو إنشاء أي مؤسسة، أو تنفيذ أي مشروع. وأصبحت البيروقراطية تُمثِّل ذلك الوحش الذي يَتلذذ بتعطيل مصالح المواطنين الذين يكرهون التعامل مع أي إدارة لِيقينِهم أنه لا فائدة يُمكن أن تُجنَى من وراء التعامل مع هذا الجهاز البيروقراطي. على العكس تماما، فهي مضيعة لوقتهم ولجهدهم علاوة على مالهم. فلو يقوم الجهاز الوطني للإحصاء بدراسة للتكلفة التي يتكبدها المجتمع والإقتصاد التونسي من جراء الإجرءات المُعقدة للإدارة التونسية، لأكتشف أرقاما خيالية لهاته الخسارة المالية. زيادة على كتلة أجور من أكبر الكتل عالميا حين أُغرِقت الإدارة بأكثر من 200 ألف موظف جدد بعد 2011، في حين أن الإدارة كانت في حاجة إلى العكس تماما.

وبالتالي، هل يُمكن تَخيل أنه لم يوجد، منذ إستقلال بلدنا مسؤول عاقل وشجاع يفهم أنه من أهم القرارات التي يجب أن تُأخذ،هي إلغاء الكمية الهائلة من الإجراءات المُعطلة للحركة الاجتماعية والإقتصادية، إلى حدِّ الشلل. ومن بين هاته الإجراءات، كمثال، هو تعطيل البنك المركزي لأي مقدار مالي يأتي من الخارج، بالعملة الصعبة، لأي مواطن تونسي. فبقدر ما يُمكنني تَفَهُم أن يَتَحَرى البنك من أي تحويل مشبوه من جهة مجهولة، فأنا لا أتفهم لماذا يُعطِّل البنك أي تحويل، لمدَّة تصل إلى أسبوعين، حتى لو كانت الجهة التي تُرسل والتي تتلقى، معروفة ومعترف بها. بيروقراطية تتسبب في عزوف الأغلبية عن تحويل أي مقدار مالي عن طريق البنوك والبحث عن حلول بديلة. وبالتالي، علاوة على الأزمة الاقتصادية، يجب تفسير تدهور مخزون تونس من العملة الصعبة إلى بيروقراطية البنك المركزي المُعطلة وغير المُثمرة.

ولا يمرُّ يوم واحد بدون أن أقرأ أو أنصت إلى قصص تفوق الخيال العلمي، تصف تعطيل الإدارة التونسية لعمل ومجهودات المواطنين الذي لا حول لهم ولا قوة أمام هؤلاء الأشخاص الجالسين وراء مكاتبهم. وكم أتمنى أن يتساءل أحدهم أو إحداهن عن القيمة المضافة لعملهم؟ بل أكثر من ذلك هل يُفكرون، ولو لِلَحظة واحدة، حين يطلبون للمرة الألف كمية هائلة من الأوراق، لا فائدة منها، أو يطبقون إجراءات لا مغزى منها، عن كل التداعيات لتلك المطالب على حياة المواطنين. أم أنهم يكتفون بإقناع أنفسهم أنهم يُطبقون القانون، وأن المُشرِّع هو فقط المسؤول على مأساة ومُعاناة المواطنين.

ولكل البيروقراطيين الذين قضوا ثلاثين أو أربعين سنة على ذلك الكرسي أن يتخيلوا، اليوم الذي سوف يحتفل أبناءهم وأحفادهم بعيد ميلادهم الثمانين أو التسعين عما عساهم يقولون لهم. هل يريدون أن يشكروهم على تعطيل مصالح كل المواطنين والمستثمرين والسائحين؟ هل يتصوّرون للحظة واحدة أن يشكرهم أي أحد على تسببهم في تعطيل حركة التنمية لعشرات السنين مكتفين بتطبيق قانون غبي، بطريقة عمياء، ومُخمدين فيها أي إعمال للعقل وللذكاء الوجداني؟ كما يجب أن يَعُوا أن عَملهم المُدمِّر للتنمية يُؤثر أيضا على قُدرتهم الشرائية وحياتهم عموما. وكلما يُوقفون أي مستثمر ويكبلونه بالعديد من الإجراءات غير المفيدة، فهم يساهمون في هروبه من أرض الوطن والتوجه لدول أكثر ذكاء وفطنة ومسؤولية. كما أن تعطيلهملأي مشروع ثقافي، فهو يُساهم في تجهيل شعب بأسره.

التخلف ليس فقط مسألة إقتصادية أو مالية، هو أولا وبالأساس إفتقاد للضمير المهني وإحساس بالتبلُّد الفكري والذهني والعاطفي والوجداني. وسوف يحاسب التاريخ أي مسؤول مهما كانت رُتبته على عدم تحمله للمسؤولية ولخيانته للأمانة التي أصبحت في رقبته بمجرَّد قبوله لأي وظيفة، أو سلطة.

وفي الختام، يبقى السؤال مطروحا، متى تَفُكُّ البيروقراطية خناقها على الشعب التونسي كي تتحول من عائق للتنمية إلى مُحرِّك لها وقاطرة نحو الازدهار؟

  • خبيرة أممية
التنمية لن تتحقَّق بدون تغيير جذري وكُلِّي للإدارة التونسية

بقلم: خديجة توفيق معلَّى(*)

*سوف يحاسب التاريخ أي مسؤول مهما كانت رُتبته على عدم تحمله للمسؤولية ولخيانته للأمانة

"حين يكون المُستهدف وَطناً، يُصبح الحِيادُ خيانة والصَمت تواطئاً"(الدغباجي).

كُلَّما نُفكر في الأزمة الإقتصادية الحادَّة التي تمُرُّ بها تونس، نادراً ما نَلتفت إلى رأس الأفعى وهي البيروقراطية الخانقة في كل المجالات وعلى كل الأصعدة. فلقد ورث الجهاز الإداري التونسي بيروقراطية المُحتل في الستينيات. وفي حين أن هذا المحتل طوَّر نفسه على مرِّ السنين، ولم ينفك في تحديث تشريعاته وتسهيل إجراءاته، إلاَّ أن الجهاز الإداري التونسي لم يَقم بنفس المجهود.

والغريب في الأمر أن كل الحكومات والبرلمانات المُتعاقبة، خلال العشرية الأخيرة، لم تفهم أهمية القيام بتطوير الجهاز الإداري الذي أصبح نقمة على كل مواطن أو مستثمر يحاول القيام بأي إجراء، أو إنشاء أي مؤسسة، أو تنفيذ أي مشروع. وأصبحت البيروقراطية تُمثِّل ذلك الوحش الذي يَتلذذ بتعطيل مصالح المواطنين الذين يكرهون التعامل مع أي إدارة لِيقينِهم أنه لا فائدة يُمكن أن تُجنَى من وراء التعامل مع هذا الجهاز البيروقراطي. على العكس تماما، فهي مضيعة لوقتهم ولجهدهم علاوة على مالهم. فلو يقوم الجهاز الوطني للإحصاء بدراسة للتكلفة التي يتكبدها المجتمع والإقتصاد التونسي من جراء الإجرءات المُعقدة للإدارة التونسية، لأكتشف أرقاما خيالية لهاته الخسارة المالية. زيادة على كتلة أجور من أكبر الكتل عالميا حين أُغرِقت الإدارة بأكثر من 200 ألف موظف جدد بعد 2011، في حين أن الإدارة كانت في حاجة إلى العكس تماما.

وبالتالي، هل يُمكن تَخيل أنه لم يوجد، منذ إستقلال بلدنا مسؤول عاقل وشجاع يفهم أنه من أهم القرارات التي يجب أن تُأخذ،هي إلغاء الكمية الهائلة من الإجراءات المُعطلة للحركة الاجتماعية والإقتصادية، إلى حدِّ الشلل. ومن بين هاته الإجراءات، كمثال، هو تعطيل البنك المركزي لأي مقدار مالي يأتي من الخارج، بالعملة الصعبة، لأي مواطن تونسي. فبقدر ما يُمكنني تَفَهُم أن يَتَحَرى البنك من أي تحويل مشبوه من جهة مجهولة، فأنا لا أتفهم لماذا يُعطِّل البنك أي تحويل، لمدَّة تصل إلى أسبوعين، حتى لو كانت الجهة التي تُرسل والتي تتلقى، معروفة ومعترف بها. بيروقراطية تتسبب في عزوف الأغلبية عن تحويل أي مقدار مالي عن طريق البنوك والبحث عن حلول بديلة. وبالتالي، علاوة على الأزمة الاقتصادية، يجب تفسير تدهور مخزون تونس من العملة الصعبة إلى بيروقراطية البنك المركزي المُعطلة وغير المُثمرة.

ولا يمرُّ يوم واحد بدون أن أقرأ أو أنصت إلى قصص تفوق الخيال العلمي، تصف تعطيل الإدارة التونسية لعمل ومجهودات المواطنين الذي لا حول لهم ولا قوة أمام هؤلاء الأشخاص الجالسين وراء مكاتبهم. وكم أتمنى أن يتساءل أحدهم أو إحداهن عن القيمة المضافة لعملهم؟ بل أكثر من ذلك هل يُفكرون، ولو لِلَحظة واحدة، حين يطلبون للمرة الألف كمية هائلة من الأوراق، لا فائدة منها، أو يطبقون إجراءات لا مغزى منها، عن كل التداعيات لتلك المطالب على حياة المواطنين. أم أنهم يكتفون بإقناع أنفسهم أنهم يُطبقون القانون، وأن المُشرِّع هو فقط المسؤول على مأساة ومُعاناة المواطنين.

ولكل البيروقراطيين الذين قضوا ثلاثين أو أربعين سنة على ذلك الكرسي أن يتخيلوا، اليوم الذي سوف يحتفل أبناءهم وأحفادهم بعيد ميلادهم الثمانين أو التسعين عما عساهم يقولون لهم. هل يريدون أن يشكروهم على تعطيل مصالح كل المواطنين والمستثمرين والسائحين؟ هل يتصوّرون للحظة واحدة أن يشكرهم أي أحد على تسببهم في تعطيل حركة التنمية لعشرات السنين مكتفين بتطبيق قانون غبي، بطريقة عمياء، ومُخمدين فيها أي إعمال للعقل وللذكاء الوجداني؟ كما يجب أن يَعُوا أن عَملهم المُدمِّر للتنمية يُؤثر أيضا على قُدرتهم الشرائية وحياتهم عموما. وكلما يُوقفون أي مستثمر ويكبلونه بالعديد من الإجراءات غير المفيدة، فهم يساهمون في هروبه من أرض الوطن والتوجه لدول أكثر ذكاء وفطنة ومسؤولية. كما أن تعطيلهملأي مشروع ثقافي، فهو يُساهم في تجهيل شعب بأسره.

التخلف ليس فقط مسألة إقتصادية أو مالية، هو أولا وبالأساس إفتقاد للضمير المهني وإحساس بالتبلُّد الفكري والذهني والعاطفي والوجداني. وسوف يحاسب التاريخ أي مسؤول مهما كانت رُتبته على عدم تحمله للمسؤولية ولخيانته للأمانة التي أصبحت في رقبته بمجرَّد قبوله لأي وظيفة، أو سلطة.

وفي الختام، يبقى السؤال مطروحا، متى تَفُكُّ البيروقراطية خناقها على الشعب التونسي كي تتحول من عائق للتنمية إلى مُحرِّك لها وقاطرة نحو الازدهار؟

  • خبيرة أممية