إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

عين على الأحداث | داخله مفقود وخارجه مولود.. حرب "الجنرالين" تضع السودان على فوهة بركان.. والهروب من الجحيم مستمر لمن استطاع إليه سبيلا ..

 

-----------------

كل الشروط قائمة والأرضية مهيأة لاستدراج الرأي العام السوداني والدولي الى خارطة جديدة للسودان الذي انتقل قبل أحدى عشرة عاما من اكبر بلد إفريقي الى ثالث  اكبر بلد إفريقي  بعد انقسامه الى سودان شمالي مسلم وآخر جنوبي مسيحي  بعد سنوات طويلة من الاحتقان والاحتراب.

-----------------

تونس- الصباح

مع أن الصراعات المسلحة والمواجهات العسكرية ولغة السلاح في بلد مثل السودان أو بلد الانقلابات العسكرية ليست بالأمر الجديد قبل وبعد انقسام هذا البلد فان الثابت أن المشهد الراهن بات مفتوحا على كل السيناريوهات بما في ذلك مواصلة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ على حد تعبير الراحل حسنين هيكل وكل الشروط قائمة والأرضية مهيأة لاستدراج الرأي العام السوداني والدولي الى خارطة جديدة للسودان الذي انتقل قبل إحدى عشرة عاما من اكبر بلد إفريقي الى ثالث اكبر بلد إفريقي بعد انقسامه الى سودان شمالي مسلم وآخر جنوبي مسيحي بعد سنوات طويلة من الاحتقان والاحتراب والتدخلات الإقليمية والأممية التي مهدت لهذا الوضع الجديد في السودان الذي يطل على البحر الأحمر ويشترك في حدوده مع سبع دول بينها مصر وليبيا والتشاد واريتريا وأثيوبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان.. وهو ما يجعل أيضا الحقيقة الوحيدة التي يمكن اعتمادها في المشهد الراهن أنه لا أحد بإمكانه أن يتوقع متى وأين وكيف ستنتهي هذه الحرب التي بدأت قذرة مع تواتر الأنباء عن تحول المستشفيات الى مقابر مفتوحة بعد أن عجز الأطباء عن إسعاف وإيواء المصابين ولكن أيضا مع تأكيد إفلاس المجتمع الدولي والمنظمات الدولية في استباق الأحداث وإطفاء لهيب الحرب التي كانت تتأكد يوما بعد يوم مع تضارب مصالح الجنرالين أو الحليفين السابقين اللذين اجتمعا على إقصاء المدنيين من الحكم ثم افترقا من اجل طموحاتهما السياسية والعسكرية وتطلعاتهما للاستحواذ على مقدرات السودان وثرواته الطبيعية التي تحولت الى لعنة على شعب السودان..

لا هدنة في الأفق ..

تدخل الأزمة الطاحنة في السودان أسبوعها الثاني على التوالي دون مؤشرات على قرب انتهاء المواجهات العسكرية أو منع تحولها الى حرب أهلية شاملة في ظل هيمنة صوت الرصاص والمدفعية وانصراف القوتين العسكريتين الأولى بزعامة قائد المجلس العسكري الحاكم عبد الفتاح البرهان والثاني بقيادة محمد حمدان أو حميدتي زعيم قوات الدعم السريع  وانصرافهما الى تصفية بعضها البعض للتفرد بالمشهد.. وحدها صور إجلاء الأجانب من السودان تختزل حجم الأزمة وأبعادها الثقيلة والسيناريوهات المتبقية أمام السودان.. الأجانب يغادرون والدول الأجنبية العربية والغربية والآسيوية في سباق مع الزمن لإجلاء رعاياها وإنقاذهم من الجحيم المفتوح في السودان كل حسب إمكانياته.. السعودية تحملت مسؤولية إجلاء رعايا إحدى عشرة بلدا عبر البحر الأحمر.. الفلسطينيون الذين لا يمتلكون طائرات أو إمكانيات لإجلاء مواطنيهم طلبوا في بيان نشرته الخارجية الفلسطينية تدخل الرياض بعد أن انسدت المنافذ أمامهم لإنقاذ العالقين هناك وسط مخاوف من انهيار الأوضاع وانتشار الفوضى  في أي حين.. المستشفيات والأطباء يواصلون إطلاق صرخات الإغاثة بعد تعذر إمكانية مواصلة قيامهم بالمهمة الإنسانية في علاج الجرحى والمصابين والاستجابة للنداءات المتكررة للأهالي وآلاف من السودانيين شدوا الرحال هربا الى التشاد المجاور الذي يعاني بدوره من أزمات متعددة ..

في المقابل يبقى الشعب السوداني في مواجهة مصيره المحتوم بين قبضتي الجيش السوداني من جهة وقوات الدعم السريع من جهة ثانية والداخل الى السودان بات في حكم المفقود  بين أمواج الحرب العاتية وخارجه مولود ...

الرئيس الأمريكي جو بايدن أعلن أنّ الجيش الأمريكي نفذ عملية لإخراج موظفين تابعين للحكومة الأمريكية من العاصمة السودانية الخرطوم، مضيفاً أن واشنطن علقت مؤقتاً العمليات في سفارتها في ظل استمرار القتال في السودان. وفرنسا كما كندا أعلنت الشيء نفسه في انتظار أن تنجلي الأمور.

بعض المصادر تشير الى  أن ست طائرات أجلت الديبلوماسيين الأمريكيين وأسرهم من مبنى السفارة بضاحية سوبا جنوب الخرطوم بطائرات هبطت في مبنى السفارة بالخرطوم، وبالتعاون مع قوات الدعم السريع التي أعلنت في بيان التنسيق مع الخارجية الأمريكية

وهو ما يؤشر الى وجود قنوات اتصال أمريكية مع طرفي النزاع في السودان.. والأرجح أن هناك دورا حاسما لكل من جيبوتي وإثيوبيا والسعودية في عمليات الإجلاء التي تعكس مخاوف واضحة من تطورات وتعقيدات جديدة في المشهد السوداني ...

المثير والمخيف فعلا انه في الوقت الذي يشكو فيه السودانيون من نقص الماء والغذاء والدواء والوقود وابسط الاحتياجات  اليومية فان ما يجري بين الجيش السوداني وقوات التدخل السريع يكشف عن وجود خزانات من السلاح  الكفيلة بتدمير السودان نهائيا والأخطر أن هذه المعارك الدموية في السودان تتزامن مع صدور تقرير معهد استوكهولم  للسلام والذي كشف عن ارتفاع غير مسبوق للإنفاق العسكري في العالم منذ الحرب الباردة، وفق ما أفاد باحثون في مجال الأمن العالمي.

فشل الهدنة

ورغم كل الدعوات الدولية وجهود الوساطة الأممية لوقف الاقتتال وإعلان هدنة العيد لمنح السودانيين فرصة استعادة الأنفاس بعد شهر الصوم فقد تجددت الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع ولم يكتب للهدنة التي ولدت ميتة أن تفرض نفسها ...

المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قال إن المؤسسات الصحية في السودان تعرضت لهجمات قاتلة، واستمرار خروج الأجانب من السودان يؤشر الى أن الأسوأ لم يحدث بعد وان السودان يتجه نحو فوضى حرب دموية مع احتدام المواجهات وتوجه قوات التدخل السريع الى اعتماد حرب المدن لتوريط قوات البرهان أمام الرأي العام السوداني والرأي العام الدولي.. أحد السيناريوهات المتداولة والتي تخيف السودانيين أن تدفع المعارك الى تقسيم المقسم لتصفية النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع اذ لا يمكن ان يستمر وجود قوتين عسكريتين في بلد واحد لشعب واحد..

من جانبه يؤكد رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان سيطرته على أغلب المؤسسات الرسمية في السودان وقال "أنا موجود حاليا في مركز القيادة ولن أتركه إلا على نعش"، موضحا أن "الأوضاع المعيشية في تدهور ".. قائد الجيش السوداني اتهم، قوات الدعم السريع "بالتعدي على البعثات الديبلوماسية دون مراعاة للقانون الدولي"، مشيرا إلى أن "مجموعات الدعم السريع منتشرة داخل الأحياء السكنية، وتتخذ المدنيين دروعا بشرية".. البرهان يعتبر أنه لا "لا أحد يمكنه التكهن متى وكيف ستنتهي الحرب"، مضيفا أن "الحرب داخل المدن تطيل أمد المواجهة، وأنه يجب إخراج المسلحين من المناطق السكنية لإنهاء الحرب".

 

معلومات متضاربة عن فرار البشير من السجن

في خضم ذلك تتواتر الأنباء تفيد بهروب الرئيس السوداني السابق عمر البشير من سجنه في ضوء الاشتباكات القائمة في السودان على مدار الفترة الماضية، الرئيس السوداني السابق عمر البشير كان محتجزا في سجن كوبر بالخرطوم، وهو السجن الذي تعرض لهجوم في الأسبوع الماضي علما , أن البشير المطلوب لدى الجنائية الدولية من أسس قوات الدعم السريع وسمح بتحول قوات الجنجويد التي اعتمدها لمواجهة وقمع المتمردين في دارفور الى قوات شبه نظامية مستقلة عن الجيش السوداني لتتوسع هذه القوات وتتحول من خمس آلاف مقاتل من شتى القبائل الى مائة الف وفي حوار لجريدة الصباح مع السفير السوداني احمد عبد الواحد احمد اعتبر ان هذا الرقم مبالغ فيه وان البرهان من يتحكم في المشهد ...

من المستفيد؟

الأكيد ان اخر المستفيدين ان كان هناك إمكانية للحديث عن مستفيدين من هذه الحرب  ليس الشعب السوداني  ولن يكون وهو الذي يعيش الأمرين بين قبضتي حليفين عسكريين سابقين تضاربت مصالحهما واستوجبت انسحاب احدهما من المشهد حتى وإن أدى ذلك الى تصفيته ...

لمن ستكون الغلبة؟

حتى الآن الأمر غير واضح والأمر الوحيد الذي لا يقبل التشكيك ان في السودان مخازن من السلاح تفوق كل التوقعات وان لكل مصادر تمويله من وسائل القتل والدمار وان لكل نصيبه من ثروات وأموال السودان وكنوزه وجبال الذهب وآبار النفط المقبور الذي يسيل أطماع القوى الكبرى التي تتطلع الى ما ستؤول اليه المعارك قبل إعلان دعمها او مساندتها لهذا الطرف او ذاك حتى وان تعلق الأمر بقوات عسكرية يفترض ان تكون في ثكناتها وان تكون ادارة العمل السياسي للمدنيين وللنخب السياسية الغائب الأبرز في المشهد منذ الغدر بها من البرهان وحميدتي لإبعاد فريق الحمدوك من عملية الانتقال الديموقراطي.. والحديث في هذه المرحلة عن دولة مدنية ودستور مدني ومواطنة اقرب الى الأحلام في وجود رأسين في المشهد ..

الحضور الإسرائيلي وأبعاده

الحضور الإسرائيلي في السودان ليس بالجديد وقد كان للموساد دوره قبل الوصول الى تقسيم السودان بين الشمال والجنوب بعد ان تمكن من الغاء ما عرف بلاءات الخرطوم لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بعد هزيمة الـ67 ... اليوم يبدو ان لاءات الخرطوم استبدلت بعكسها وباتت تقول نعم للتطبيع نعم للاعتراف نعم للصلح.. ولكل من البرهان وحميدتي علاقاته واتصالاته ومصالحه مع تل أبيب بينها ما هو معلن وبينها ما هو خفي ويبدو ان الطريق الى المصالحة مقابل رفع واشنطن العقوبات على السودان وإخراجه من دائرة الدول الراعية للإرهاب.. وكل شيء في لعبة العلاقات الدولية له ثمنه ..

عموما فان إسرائيل عنصر فاعل في السودان بدأت عندما استفردت بلقاء جمع عبد الفتاح البرهان برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في فيفري 2020 في مدينة عنتيبي الأوغندية، من دون معرفة شركائه في الحكم أو مشاركتهم أو مشورتهم وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو(حميدتي). في 25 جانفي 2021، قام وزير المخابرات الإسرائيلي إيلي كوهين، بزيارة أولى من نوعها إلى السودان، التقى حينها البرهان، ووزير الدفاع السوداني السابق ياسين إبراهيم، ولم يُدعَ حميدتي إلى حضور اللقاء. قبل وقوع الاشتباكات الدائرة بشهرين تقريباً تكرر شد الأطراف ممثلاً في زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين الأخيرة إلى الخرطوم في 3 فيفري الماضي، التي تزامنت مع اشتداد الصراع والتنافس بين البرهان وحميدتي، وفي دعم إسرائيلي غير معلن، حرص كوهين الذي رافقه وفد كبير من مديري وزارة الخارجية الإسرائيلية وضباط كبار من "الموساد"، على عقد لقاء في مقر الجيش السوداني مع كل من البرهان ووزير الخارجية السوداني علي الصادق، ثم انضم إليهما وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم والمدير العام للمخابرات السودانية أحمد إبراهيم مفضل ومدير الاستخبارات العسكرية السودانية أحمد علي صبير.

تركز النقاش على التوسع في التعاون الأمني والعسكري، لمجابهة التحديات الأمنية وكيفية التعاطي مع التوتر في الحدود بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى ومراقبة الأوضاع في الساحل الأفريقي والبحر الأحمر. تم اللقاء من دون مشاركة حميدتي وحضوره، والذي نفى في 3 فيفري  الماضي، في بيان صحافي، أنه "لا علم له بالزيارة المعنية وأنه لم يلتق الوفد الزائر"....

على ان هذا التقارب الإسرائيلي من البرهان لا ينفي وجود علاقة بين إسرائيل وحميدتي الذي زار "إسرائيل" مرتين في عامي 2020 و2021 أفضت إلى تطور التعاون الأمني بينهما، في نهاية نوفمبر 2022، وهو ما سربته  صحيفة "هآرتس" العبرية التي أعلنت منح "الموساد" لحميدتي أجهزة تجسس وتقنيات إلكترونية متطورة، بغرض اختراق اتصالات قادة في الجيش السوداني...

احد السيناريوهات المحتملة في الصراع الدائر في السودان ان ينتهي المشهد الحالي كما انتهى المشهد في 2011 بعد تقسيم السودان الى سودان شمالي مسلم وسودان جنوبي مسيحي اجتمعت فيه كل الثروات النفطية وان يكون الانفصال هذه المرة لدارفور...

اغلب القراءات تتجه الى ان ما يحدث هو "صراع جنرال ضد جنرال وكلاهما ضد الشعب واعتبرت أن كليهما متعطش للسلطة من أجل السيطرة، أما الديموقراطية فلا موقع لها بينهما ..

في مرحلة أولى اجتمع عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي على الرئيس السوداني السابق عمر البشير عندما انتفض الشعب السوداني عليه، ثم انقلبا على السياسيين المدنيين الذين وصلوا إلى السلطة بعد ذلك، والآن ينقلبان على بعضهما البعض.. لكل أنصاره وداعميه في المنطقة وفي العالم ولكن سيكون من الصعب استقراء ما سيؤول إليه المشهد إذا أمكن إخماد صوت القنابل والرصاص.. في الأثناء يواصل الشعب السوداني تسديد فاتورة الحرب من دماء أبنائه وعلى حساب أمنه واستقراره وحقه المؤجل في الكرامة والحرية..

آسيا العتروس

عين على الأحداث |  داخله مفقود وخارجه مولود.. حرب "الجنرالين" تضع السودان على فوهة بركان.. والهروب من الجحيم مستمر لمن استطاع إليه سبيلا  ..

 

-----------------

كل الشروط قائمة والأرضية مهيأة لاستدراج الرأي العام السوداني والدولي الى خارطة جديدة للسودان الذي انتقل قبل أحدى عشرة عاما من اكبر بلد إفريقي الى ثالث  اكبر بلد إفريقي  بعد انقسامه الى سودان شمالي مسلم وآخر جنوبي مسيحي  بعد سنوات طويلة من الاحتقان والاحتراب.

-----------------

تونس- الصباح

مع أن الصراعات المسلحة والمواجهات العسكرية ولغة السلاح في بلد مثل السودان أو بلد الانقلابات العسكرية ليست بالأمر الجديد قبل وبعد انقسام هذا البلد فان الثابت أن المشهد الراهن بات مفتوحا على كل السيناريوهات بما في ذلك مواصلة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ على حد تعبير الراحل حسنين هيكل وكل الشروط قائمة والأرضية مهيأة لاستدراج الرأي العام السوداني والدولي الى خارطة جديدة للسودان الذي انتقل قبل إحدى عشرة عاما من اكبر بلد إفريقي الى ثالث اكبر بلد إفريقي بعد انقسامه الى سودان شمالي مسلم وآخر جنوبي مسيحي بعد سنوات طويلة من الاحتقان والاحتراب والتدخلات الإقليمية والأممية التي مهدت لهذا الوضع الجديد في السودان الذي يطل على البحر الأحمر ويشترك في حدوده مع سبع دول بينها مصر وليبيا والتشاد واريتريا وأثيوبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان.. وهو ما يجعل أيضا الحقيقة الوحيدة التي يمكن اعتمادها في المشهد الراهن أنه لا أحد بإمكانه أن يتوقع متى وأين وكيف ستنتهي هذه الحرب التي بدأت قذرة مع تواتر الأنباء عن تحول المستشفيات الى مقابر مفتوحة بعد أن عجز الأطباء عن إسعاف وإيواء المصابين ولكن أيضا مع تأكيد إفلاس المجتمع الدولي والمنظمات الدولية في استباق الأحداث وإطفاء لهيب الحرب التي كانت تتأكد يوما بعد يوم مع تضارب مصالح الجنرالين أو الحليفين السابقين اللذين اجتمعا على إقصاء المدنيين من الحكم ثم افترقا من اجل طموحاتهما السياسية والعسكرية وتطلعاتهما للاستحواذ على مقدرات السودان وثرواته الطبيعية التي تحولت الى لعنة على شعب السودان..

لا هدنة في الأفق ..

تدخل الأزمة الطاحنة في السودان أسبوعها الثاني على التوالي دون مؤشرات على قرب انتهاء المواجهات العسكرية أو منع تحولها الى حرب أهلية شاملة في ظل هيمنة صوت الرصاص والمدفعية وانصراف القوتين العسكريتين الأولى بزعامة قائد المجلس العسكري الحاكم عبد الفتاح البرهان والثاني بقيادة محمد حمدان أو حميدتي زعيم قوات الدعم السريع  وانصرافهما الى تصفية بعضها البعض للتفرد بالمشهد.. وحدها صور إجلاء الأجانب من السودان تختزل حجم الأزمة وأبعادها الثقيلة والسيناريوهات المتبقية أمام السودان.. الأجانب يغادرون والدول الأجنبية العربية والغربية والآسيوية في سباق مع الزمن لإجلاء رعاياها وإنقاذهم من الجحيم المفتوح في السودان كل حسب إمكانياته.. السعودية تحملت مسؤولية إجلاء رعايا إحدى عشرة بلدا عبر البحر الأحمر.. الفلسطينيون الذين لا يمتلكون طائرات أو إمكانيات لإجلاء مواطنيهم طلبوا في بيان نشرته الخارجية الفلسطينية تدخل الرياض بعد أن انسدت المنافذ أمامهم لإنقاذ العالقين هناك وسط مخاوف من انهيار الأوضاع وانتشار الفوضى  في أي حين.. المستشفيات والأطباء يواصلون إطلاق صرخات الإغاثة بعد تعذر إمكانية مواصلة قيامهم بالمهمة الإنسانية في علاج الجرحى والمصابين والاستجابة للنداءات المتكررة للأهالي وآلاف من السودانيين شدوا الرحال هربا الى التشاد المجاور الذي يعاني بدوره من أزمات متعددة ..

في المقابل يبقى الشعب السوداني في مواجهة مصيره المحتوم بين قبضتي الجيش السوداني من جهة وقوات الدعم السريع من جهة ثانية والداخل الى السودان بات في حكم المفقود  بين أمواج الحرب العاتية وخارجه مولود ...

الرئيس الأمريكي جو بايدن أعلن أنّ الجيش الأمريكي نفذ عملية لإخراج موظفين تابعين للحكومة الأمريكية من العاصمة السودانية الخرطوم، مضيفاً أن واشنطن علقت مؤقتاً العمليات في سفارتها في ظل استمرار القتال في السودان. وفرنسا كما كندا أعلنت الشيء نفسه في انتظار أن تنجلي الأمور.

بعض المصادر تشير الى  أن ست طائرات أجلت الديبلوماسيين الأمريكيين وأسرهم من مبنى السفارة بضاحية سوبا جنوب الخرطوم بطائرات هبطت في مبنى السفارة بالخرطوم، وبالتعاون مع قوات الدعم السريع التي أعلنت في بيان التنسيق مع الخارجية الأمريكية

وهو ما يؤشر الى وجود قنوات اتصال أمريكية مع طرفي النزاع في السودان.. والأرجح أن هناك دورا حاسما لكل من جيبوتي وإثيوبيا والسعودية في عمليات الإجلاء التي تعكس مخاوف واضحة من تطورات وتعقيدات جديدة في المشهد السوداني ...

المثير والمخيف فعلا انه في الوقت الذي يشكو فيه السودانيون من نقص الماء والغذاء والدواء والوقود وابسط الاحتياجات  اليومية فان ما يجري بين الجيش السوداني وقوات التدخل السريع يكشف عن وجود خزانات من السلاح  الكفيلة بتدمير السودان نهائيا والأخطر أن هذه المعارك الدموية في السودان تتزامن مع صدور تقرير معهد استوكهولم  للسلام والذي كشف عن ارتفاع غير مسبوق للإنفاق العسكري في العالم منذ الحرب الباردة، وفق ما أفاد باحثون في مجال الأمن العالمي.

فشل الهدنة

ورغم كل الدعوات الدولية وجهود الوساطة الأممية لوقف الاقتتال وإعلان هدنة العيد لمنح السودانيين فرصة استعادة الأنفاس بعد شهر الصوم فقد تجددت الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع ولم يكتب للهدنة التي ولدت ميتة أن تفرض نفسها ...

المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قال إن المؤسسات الصحية في السودان تعرضت لهجمات قاتلة، واستمرار خروج الأجانب من السودان يؤشر الى أن الأسوأ لم يحدث بعد وان السودان يتجه نحو فوضى حرب دموية مع احتدام المواجهات وتوجه قوات التدخل السريع الى اعتماد حرب المدن لتوريط قوات البرهان أمام الرأي العام السوداني والرأي العام الدولي.. أحد السيناريوهات المتداولة والتي تخيف السودانيين أن تدفع المعارك الى تقسيم المقسم لتصفية النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع اذ لا يمكن ان يستمر وجود قوتين عسكريتين في بلد واحد لشعب واحد..

من جانبه يؤكد رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان سيطرته على أغلب المؤسسات الرسمية في السودان وقال "أنا موجود حاليا في مركز القيادة ولن أتركه إلا على نعش"، موضحا أن "الأوضاع المعيشية في تدهور ".. قائد الجيش السوداني اتهم، قوات الدعم السريع "بالتعدي على البعثات الديبلوماسية دون مراعاة للقانون الدولي"، مشيرا إلى أن "مجموعات الدعم السريع منتشرة داخل الأحياء السكنية، وتتخذ المدنيين دروعا بشرية".. البرهان يعتبر أنه لا "لا أحد يمكنه التكهن متى وكيف ستنتهي الحرب"، مضيفا أن "الحرب داخل المدن تطيل أمد المواجهة، وأنه يجب إخراج المسلحين من المناطق السكنية لإنهاء الحرب".

 

معلومات متضاربة عن فرار البشير من السجن

في خضم ذلك تتواتر الأنباء تفيد بهروب الرئيس السوداني السابق عمر البشير من سجنه في ضوء الاشتباكات القائمة في السودان على مدار الفترة الماضية، الرئيس السوداني السابق عمر البشير كان محتجزا في سجن كوبر بالخرطوم، وهو السجن الذي تعرض لهجوم في الأسبوع الماضي علما , أن البشير المطلوب لدى الجنائية الدولية من أسس قوات الدعم السريع وسمح بتحول قوات الجنجويد التي اعتمدها لمواجهة وقمع المتمردين في دارفور الى قوات شبه نظامية مستقلة عن الجيش السوداني لتتوسع هذه القوات وتتحول من خمس آلاف مقاتل من شتى القبائل الى مائة الف وفي حوار لجريدة الصباح مع السفير السوداني احمد عبد الواحد احمد اعتبر ان هذا الرقم مبالغ فيه وان البرهان من يتحكم في المشهد ...

من المستفيد؟

الأكيد ان اخر المستفيدين ان كان هناك إمكانية للحديث عن مستفيدين من هذه الحرب  ليس الشعب السوداني  ولن يكون وهو الذي يعيش الأمرين بين قبضتي حليفين عسكريين سابقين تضاربت مصالحهما واستوجبت انسحاب احدهما من المشهد حتى وإن أدى ذلك الى تصفيته ...

لمن ستكون الغلبة؟

حتى الآن الأمر غير واضح والأمر الوحيد الذي لا يقبل التشكيك ان في السودان مخازن من السلاح تفوق كل التوقعات وان لكل مصادر تمويله من وسائل القتل والدمار وان لكل نصيبه من ثروات وأموال السودان وكنوزه وجبال الذهب وآبار النفط المقبور الذي يسيل أطماع القوى الكبرى التي تتطلع الى ما ستؤول اليه المعارك قبل إعلان دعمها او مساندتها لهذا الطرف او ذاك حتى وان تعلق الأمر بقوات عسكرية يفترض ان تكون في ثكناتها وان تكون ادارة العمل السياسي للمدنيين وللنخب السياسية الغائب الأبرز في المشهد منذ الغدر بها من البرهان وحميدتي لإبعاد فريق الحمدوك من عملية الانتقال الديموقراطي.. والحديث في هذه المرحلة عن دولة مدنية ودستور مدني ومواطنة اقرب الى الأحلام في وجود رأسين في المشهد ..

الحضور الإسرائيلي وأبعاده

الحضور الإسرائيلي في السودان ليس بالجديد وقد كان للموساد دوره قبل الوصول الى تقسيم السودان بين الشمال والجنوب بعد ان تمكن من الغاء ما عرف بلاءات الخرطوم لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بعد هزيمة الـ67 ... اليوم يبدو ان لاءات الخرطوم استبدلت بعكسها وباتت تقول نعم للتطبيع نعم للاعتراف نعم للصلح.. ولكل من البرهان وحميدتي علاقاته واتصالاته ومصالحه مع تل أبيب بينها ما هو معلن وبينها ما هو خفي ويبدو ان الطريق الى المصالحة مقابل رفع واشنطن العقوبات على السودان وإخراجه من دائرة الدول الراعية للإرهاب.. وكل شيء في لعبة العلاقات الدولية له ثمنه ..

عموما فان إسرائيل عنصر فاعل في السودان بدأت عندما استفردت بلقاء جمع عبد الفتاح البرهان برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في فيفري 2020 في مدينة عنتيبي الأوغندية، من دون معرفة شركائه في الحكم أو مشاركتهم أو مشورتهم وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو(حميدتي). في 25 جانفي 2021، قام وزير المخابرات الإسرائيلي إيلي كوهين، بزيارة أولى من نوعها إلى السودان، التقى حينها البرهان، ووزير الدفاع السوداني السابق ياسين إبراهيم، ولم يُدعَ حميدتي إلى حضور اللقاء. قبل وقوع الاشتباكات الدائرة بشهرين تقريباً تكرر شد الأطراف ممثلاً في زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين الأخيرة إلى الخرطوم في 3 فيفري الماضي، التي تزامنت مع اشتداد الصراع والتنافس بين البرهان وحميدتي، وفي دعم إسرائيلي غير معلن، حرص كوهين الذي رافقه وفد كبير من مديري وزارة الخارجية الإسرائيلية وضباط كبار من "الموساد"، على عقد لقاء في مقر الجيش السوداني مع كل من البرهان ووزير الخارجية السوداني علي الصادق، ثم انضم إليهما وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم والمدير العام للمخابرات السودانية أحمد إبراهيم مفضل ومدير الاستخبارات العسكرية السودانية أحمد علي صبير.

تركز النقاش على التوسع في التعاون الأمني والعسكري، لمجابهة التحديات الأمنية وكيفية التعاطي مع التوتر في الحدود بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى ومراقبة الأوضاع في الساحل الأفريقي والبحر الأحمر. تم اللقاء من دون مشاركة حميدتي وحضوره، والذي نفى في 3 فيفري  الماضي، في بيان صحافي، أنه "لا علم له بالزيارة المعنية وأنه لم يلتق الوفد الزائر"....

على ان هذا التقارب الإسرائيلي من البرهان لا ينفي وجود علاقة بين إسرائيل وحميدتي الذي زار "إسرائيل" مرتين في عامي 2020 و2021 أفضت إلى تطور التعاون الأمني بينهما، في نهاية نوفمبر 2022، وهو ما سربته  صحيفة "هآرتس" العبرية التي أعلنت منح "الموساد" لحميدتي أجهزة تجسس وتقنيات إلكترونية متطورة، بغرض اختراق اتصالات قادة في الجيش السوداني...

احد السيناريوهات المحتملة في الصراع الدائر في السودان ان ينتهي المشهد الحالي كما انتهى المشهد في 2011 بعد تقسيم السودان الى سودان شمالي مسلم وسودان جنوبي مسيحي اجتمعت فيه كل الثروات النفطية وان يكون الانفصال هذه المرة لدارفور...

اغلب القراءات تتجه الى ان ما يحدث هو "صراع جنرال ضد جنرال وكلاهما ضد الشعب واعتبرت أن كليهما متعطش للسلطة من أجل السيطرة، أما الديموقراطية فلا موقع لها بينهما ..

في مرحلة أولى اجتمع عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي على الرئيس السوداني السابق عمر البشير عندما انتفض الشعب السوداني عليه، ثم انقلبا على السياسيين المدنيين الذين وصلوا إلى السلطة بعد ذلك، والآن ينقلبان على بعضهما البعض.. لكل أنصاره وداعميه في المنطقة وفي العالم ولكن سيكون من الصعب استقراء ما سيؤول إليه المشهد إذا أمكن إخماد صوت القنابل والرصاص.. في الأثناء يواصل الشعب السوداني تسديد فاتورة الحرب من دماء أبنائه وعلى حساب أمنه واستقراره وحقه المؤجل في الكرامة والحرية..

آسيا العتروس