ألبير بيسيس، أندري باروش، جورج وقلاديس عدة، وغيرهم، كانوا من مناضلي الرعيل الأول من أجل استقلال تونس وعزّتها. صوفي بسيس، سارج عدة، جيلبار نقاش، وغيرهم، طبعوا تاريخ تونس الحديث بنضالاتهم من أجل الديمقراطية والحرية والتقدم في بلادنا.
وبعيدا عن السياسة، نذكر جميعا، وحديثي يخصّ من ينتمون إلى جيلي، الحضور الهامّ لليهود في حياتنا اليومية. فصائغ الحي يهودي، وبائع الحلويات يهودي، وصاحب قاعة السنيما يهودي.. وكان الإقبال كبيرا على حفلات حبيبة مسيكة، ولم يكن يخلو حفل زفاف أو ختان من أغاني رؤول جورنو...ولا أخفي عنكم أنني، في سن الخامسة عشر من عمري، كنت مفتونا بجمال لاعبة تنس يهودية.
هذه الأجواء التي كانت تتّسم بالتعايش الطبيعي بين التونسيين بقطع النظر عن ديانتهم، بما فيها أحيانا من صداقات حميمية، فقدناها لسببيْن.
أولهما حرب 1967، التي انتصرت فيها إسرائيل على الدول العربية المجاورة لها بشكل مُخجل ومُهين، ممّا أدخل في أذهان العديد من أبناء شعبنا خلطا فادحا بين دولة إسرائيل والصهيونية من جهة وبين المواطنين التونسيين من ذوي الديانة اليهودية من جهة أخرى. وكانت ردة الفعل على اليهود التونسيين عنيفة، وكأنهم هم الذين احتلوا فلسطين وسيناء والجولان، وهو ما أدى إلى هروبهم من بلادهم تونس، خوفا على حياتهم.
أما السبب الثاني فهو تنامي التطرّف الديني الإسلامي الذي أدّى إلى التنكّر إلى مبدأ التسامح والتعايش السلمي مع المختلف دينيّا، حتى أن اليهودي، التونسي أبا عن جدّ، أصبح يشعر بنفسه غريبا في بلاده، ممّا جعل تواجد اليهود التونسيين في تونس يكاد يُصبح اليوم منعدما.
شريحة هامة من المجتمع التونسي، وبسبب الخلط المُشين بين الصهيونية والديانة اليهودية، كثيرا ما تتّخذ مواقف وتُعبّر عن آراء أقرب ما يكون من العنصرية.
وفي كل الحالات، فإنّ الكراهية المُعلنة إزاء اليهود لا تعني انتفاء وجود يهود تونسيينلا علاقة لهم بالصهيونية، ولا تُبرّر نكران وجودهم في الماضي القريب أو فسخ تاريخهم من بلادنا. وهذا الوجود هو جزء من تاريخ بلادنا.
فموضوع اليهودية بصفة عامّة، كدين أو كجنس، وخاصة فيما يتعلّق بالتعامل مع اليهود، أضحى موضوعا حسّاسا في بلادنا لما يكتسيه من تشنّج وحماس، ولما يتّسم به من تعصّب يُبعده عن الموضوعية وعن العقلانية، تماما مثل ما يقع في التعاطي مع موضوع الإسلام. وكما يُمكن أن تُنعت ب"الكفر" إذا أبديت رأيا في الدين الإسلامي يحتوي على تجديد واجتهاد في قراءتك للإسلام بشكل يختلف على القراءة السائدة، فإن كلامك عن اليهود يُمكن أن يُؤوّل ب"التطبيع" إن أبديت رأيا إنسانيّا بحتا لا يتضمّن شتما منهجيّا بالقول "يهودي حاشاك".
موضوع التطبيع يطرح نفسه اليوم في تونس بشكل يستوجب الدرس العاجل بطريقة عقلانية وموضوعية.
فالتطبيع مع إسرائيل هو عمل سياسي صرف، يفيد جعل العلاقة مع هذه الدولة طبيعيّا، بما يقتضي ذلك من اعتراف متبادل وإقامة علاقات دبلوماسية وتبادل للسفراء، مثلما وقع مع بعض الدول العربية، آخرها المملكة المغربية. وما عدا ذلك فإن مجرّد اللقاء مع يهود، أو حتى مع إسرائيليين، يبقى لقاءً وليس تطبيعا. فهل يُمكن القول بأن الفلسطينيين مُطبّعون مع إسرائيل، وقد شاركوا في عشرات الحوارات المباشرة؟ وهل يُمكن القول بأن ياسر عرفات خائن والجميع يذكر الصورة التاريخية التي ظهر فيها أبو عمار وهو يُصافح إسحاق رابين؟ طبعا لا، رغم أن هذه اللقاءات كانت سياسيّة بامتياز دون أن تأخذ طابع التطبيع الرسمي.
أما اللقاءات غير الرسمية، مثل مقابلة أنس جابر مع فتاة إسرائيلية في دورة عالمية لرياضة التنس، فالقول بأنها تطبيع مع الصهيونية أو خيانة يدخل في باب قصر النظر السياسي أو التعصّب المرضي.
نفس الشيء بالنسبة للمقابلات التي تجمع عربا بيهود، حتى ولو كانوا من إسرائيل، طالما أنها ليست سياسية ولا رسميّة، مثل تلك الندوة المزمع عقدها قريبا في باريس حول تاريخ اليهود في البلاد التونسية، والتي أثارتجدلا غريبا في بعض جوانبه. إذ هناك من اعتبر أن مشاركة تونسيين في لقاء أكاديمي علمي يُؤثّثه بالخصوص مُؤرّخون من مختلف أرجاء العالم، وخاصة منهم من هم تونسيّو الأصل، هي من قبيل التطبيع مع إسرائيل ومع الصهيونية، بسبب وجود من يحمل الجنسية الإسرائيلية من بين المشاركين.
هذا النوع من التعصّب وصل إلى حدّ جعل مجرّد التعبير عن الرغبة في الصلاة في جامع القدس غير مسموح به خوفا من أن نُنعت بالتطبيع وبالخيانة.
موضوع التطبيع سيُوضع قريبا على طاولة الحوار بمناسبة طرحه في مجلس نواب الشعب. وقد يُطرح في نفس السياق ضمن حوارات مختلف وسائل الإعلام. مع الأمل أن يتمّ تناوله بعقلانية ودون تعصّب، بالاعتماد على التفريق بين الصهيونية كسياسة تسلّطية مستبدّة وظالمة لا بدّ من التنديد بها ومقاومتها، واليهودية كدين سماوي اعتنقه العديد من مواطني شعبنا.
بقلم:منير الشرفي
ألبير بيسيس، أندري باروش، جورج وقلاديس عدة، وغيرهم، كانوا من مناضلي الرعيل الأول من أجل استقلال تونس وعزّتها. صوفي بسيس، سارج عدة، جيلبار نقاش، وغيرهم، طبعوا تاريخ تونس الحديث بنضالاتهم من أجل الديمقراطية والحرية والتقدم في بلادنا.
وبعيدا عن السياسة، نذكر جميعا، وحديثي يخصّ من ينتمون إلى جيلي، الحضور الهامّ لليهود في حياتنا اليومية. فصائغ الحي يهودي، وبائع الحلويات يهودي، وصاحب قاعة السنيما يهودي.. وكان الإقبال كبيرا على حفلات حبيبة مسيكة، ولم يكن يخلو حفل زفاف أو ختان من أغاني رؤول جورنو...ولا أخفي عنكم أنني، في سن الخامسة عشر من عمري، كنت مفتونا بجمال لاعبة تنس يهودية.
هذه الأجواء التي كانت تتّسم بالتعايش الطبيعي بين التونسيين بقطع النظر عن ديانتهم، بما فيها أحيانا من صداقات حميمية، فقدناها لسببيْن.
أولهما حرب 1967، التي انتصرت فيها إسرائيل على الدول العربية المجاورة لها بشكل مُخجل ومُهين، ممّا أدخل في أذهان العديد من أبناء شعبنا خلطا فادحا بين دولة إسرائيل والصهيونية من جهة وبين المواطنين التونسيين من ذوي الديانة اليهودية من جهة أخرى. وكانت ردة الفعل على اليهود التونسيين عنيفة، وكأنهم هم الذين احتلوا فلسطين وسيناء والجولان، وهو ما أدى إلى هروبهم من بلادهم تونس، خوفا على حياتهم.
أما السبب الثاني فهو تنامي التطرّف الديني الإسلامي الذي أدّى إلى التنكّر إلى مبدأ التسامح والتعايش السلمي مع المختلف دينيّا، حتى أن اليهودي، التونسي أبا عن جدّ، أصبح يشعر بنفسه غريبا في بلاده، ممّا جعل تواجد اليهود التونسيين في تونس يكاد يُصبح اليوم منعدما.
شريحة هامة من المجتمع التونسي، وبسبب الخلط المُشين بين الصهيونية والديانة اليهودية، كثيرا ما تتّخذ مواقف وتُعبّر عن آراء أقرب ما يكون من العنصرية.
وفي كل الحالات، فإنّ الكراهية المُعلنة إزاء اليهود لا تعني انتفاء وجود يهود تونسيينلا علاقة لهم بالصهيونية، ولا تُبرّر نكران وجودهم في الماضي القريب أو فسخ تاريخهم من بلادنا. وهذا الوجود هو جزء من تاريخ بلادنا.
فموضوع اليهودية بصفة عامّة، كدين أو كجنس، وخاصة فيما يتعلّق بالتعامل مع اليهود، أضحى موضوعا حسّاسا في بلادنا لما يكتسيه من تشنّج وحماس، ولما يتّسم به من تعصّب يُبعده عن الموضوعية وعن العقلانية، تماما مثل ما يقع في التعاطي مع موضوع الإسلام. وكما يُمكن أن تُنعت ب"الكفر" إذا أبديت رأيا في الدين الإسلامي يحتوي على تجديد واجتهاد في قراءتك للإسلام بشكل يختلف على القراءة السائدة، فإن كلامك عن اليهود يُمكن أن يُؤوّل ب"التطبيع" إن أبديت رأيا إنسانيّا بحتا لا يتضمّن شتما منهجيّا بالقول "يهودي حاشاك".
موضوع التطبيع يطرح نفسه اليوم في تونس بشكل يستوجب الدرس العاجل بطريقة عقلانية وموضوعية.
فالتطبيع مع إسرائيل هو عمل سياسي صرف، يفيد جعل العلاقة مع هذه الدولة طبيعيّا، بما يقتضي ذلك من اعتراف متبادل وإقامة علاقات دبلوماسية وتبادل للسفراء، مثلما وقع مع بعض الدول العربية، آخرها المملكة المغربية. وما عدا ذلك فإن مجرّد اللقاء مع يهود، أو حتى مع إسرائيليين، يبقى لقاءً وليس تطبيعا. فهل يُمكن القول بأن الفلسطينيين مُطبّعون مع إسرائيل، وقد شاركوا في عشرات الحوارات المباشرة؟ وهل يُمكن القول بأن ياسر عرفات خائن والجميع يذكر الصورة التاريخية التي ظهر فيها أبو عمار وهو يُصافح إسحاق رابين؟ طبعا لا، رغم أن هذه اللقاءات كانت سياسيّة بامتياز دون أن تأخذ طابع التطبيع الرسمي.
أما اللقاءات غير الرسمية، مثل مقابلة أنس جابر مع فتاة إسرائيلية في دورة عالمية لرياضة التنس، فالقول بأنها تطبيع مع الصهيونية أو خيانة يدخل في باب قصر النظر السياسي أو التعصّب المرضي.
نفس الشيء بالنسبة للمقابلات التي تجمع عربا بيهود، حتى ولو كانوا من إسرائيل، طالما أنها ليست سياسية ولا رسميّة، مثل تلك الندوة المزمع عقدها قريبا في باريس حول تاريخ اليهود في البلاد التونسية، والتي أثارتجدلا غريبا في بعض جوانبه. إذ هناك من اعتبر أن مشاركة تونسيين في لقاء أكاديمي علمي يُؤثّثه بالخصوص مُؤرّخون من مختلف أرجاء العالم، وخاصة منهم من هم تونسيّو الأصل، هي من قبيل التطبيع مع إسرائيل ومع الصهيونية، بسبب وجود من يحمل الجنسية الإسرائيلية من بين المشاركين.
هذا النوع من التعصّب وصل إلى حدّ جعل مجرّد التعبير عن الرغبة في الصلاة في جامع القدس غير مسموح به خوفا من أن نُنعت بالتطبيع وبالخيانة.
موضوع التطبيع سيُوضع قريبا على طاولة الحوار بمناسبة طرحه في مجلس نواب الشعب. وقد يُطرح في نفس السياق ضمن حوارات مختلف وسائل الإعلام. مع الأمل أن يتمّ تناوله بعقلانية ودون تعصّب، بالاعتماد على التفريق بين الصهيونية كسياسة تسلّطية مستبدّة وظالمة لا بدّ من التنديد بها ومقاومتها، واليهودية كدين سماوي اعتنقه العديد من مواطني شعبنا.