إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

صباح الجمعة.. بائع الملصوقة الذي أصبح كاتبا (2)

 

يكتبها: محمد معمري

 

 

لم يكن أحد يتوقع أن ذلك الصبي الذي يقف يوميا في السوق يراقب حركة المشترين وهو يصوب نظره في صوبهم باحثا عمن يشتري بضاعته، لم يكن يتوقع أن يرى ذلك الصبي يوما ما وصورته تزين الشاشة يشارك في النقاش والحديث في قضايا سياسية هامة، فالتلفزيون كان لسكان بلدته بمثابة ذلك اللغز الكبير من يدخله فكأنه ملك الدنيا ودخل دهاليز الحياة التي لا يعلمها إلا أُولى الألباب والصفوة من القوم. وهنا لعل نبوة مدب الحومة (مؤدب الصبيان) صدقت فقد أخذه والده يوما إلى مدب الحومة وكان رجلا ضخما يرتدي دائما جبة من النوع الرديء ويحب المال حبّا جمّا، أخذه والده راغبا في استكشاف مستقبل هذا الطفل من خلال طلبه من مدب الحومة أن يحلّ (يفتح) الكتاب عنه علّه يطلعه عن بعض مما تخبئه له الأيام. تحرك الشيخ مزهوا بما طُلب منه، فهو عنوان لقدرته على اكتشاف الغيب ومكانته التي تجلب له بعض الدنانير، تحرك نحو حقيبة ملقاة على الأرض اخرج منها كتابا أصفر وفتحه وقد امتلأ برسوم وجداول لم يفهمها الصغير، ثم أمسك دواة حبر وقلم وورقة وسأل عن اسم أم الصبي وعن تاريخ ولادته وأخذ يرسم جدولا وأرقاما ،ثمّ أخذ ينظر بإمعان في عيني الصبي الذي انكمش محتميا بذراع والده واسترسل في الكلام، هذا الطفل ذكي وفطن وستكون له في مقبل الأيام مثل غيره من الناس بعض المحن لكنه سيفوز في نهاية الطريق بما يريد وسيسعدك يا رجل بالإكرام حيّا وبدعوة الخير ميتا، وسيكون له شأن ويجالس الحكام والولاة. كان الشيخ يسرد ما يقول وكأنه يقرأ من جريدة القدر ووالده ينظر إليه مبتسما ويداعب شعره بكل فخر. أغدق الأب على الشيخ بعض المال الذي يبدو أن مقداره كان غير متوقع فقد أخذه الشيخ ومرر عليه أصابعه دون أن ينظر إليه لكنه توقع قيمته فانهمرت شلالات الدعاء بالخير والصلاح للصبي وبالصحة والرزق الوفير لوالده .

عاد ووالده إلى المنزل وقد بدا الأب منتشيا بما ستحمله الأيام لطفله فأصبح ذلك الصبي من يومها ملكا متوجا على عرش العناية الأسرية، بعد أن روى لأمه ما قاله كتاب الشيخ عن مستقبله القادم وما يُنتظر منه من مفازات وغنائم ستشمل الجميع. عندما يذكر ذلك اليوم يبتسم ويتساءل هل كان ذلك الشيخ على حق؟ فمن توقع دونه لبائع الملصوقة الصغير هذا الشرف العظيم، فاليوم عندما يذكر تلك الأيام يتنهد بعمق ويكرر نفس ما يقول دائما: كانت أيام جميلة تلك الأيام رغم ما فيها من بعض المعاناة وأقول بعضا لأن ذلك الصبي يعتبر من المحظوظين حينها في الوسط الذي يعيش فيه فقد كان يرتدي أفضل الثياب ويأكل أحسن الطعام ويعتبر من الميسورين نوعا ما .

هذا الطفل بائع الملصوقة اللطيف والبريء ارتبط كل تاريخه بالكتاب، فهو كاتب الآن واستبشر والده بما قاله عنه الشيخ يوما وهو يقرأ كتاب الأيام، ونجح في دراسته بفضل اجتهاده في قراءة الكتاب، وقد كان صغيرا يقبع وراء نصبته وهو يمسك الكتاب يقرأ منه في بعض الأحيان ويمزق من ورقه في أحيان أخرى ليضع فيه ورق الملصوقة لمن يشتريها أو كأس الحمص وحارة البيض، فالكتاب لا يغادره يوما، وعندما كبر زاد هذا اليقين عندما عرف أنه أيضا من أهل الكتاب .

نظر إلى أيامه الماضية وهو يجلس في هذا المقهى الباريسي وقد انبعث صوت منه رغما عنه "ملصوقة دياري" فالتفت له الجميع البعض ابتسم وآخرون نظروا له باشمئزاز، لكنه كان سعيدا بما بدر منه .

صباح الجمعة.. بائع الملصوقة الذي أصبح كاتبا (2)

 

يكتبها: محمد معمري

 

 

لم يكن أحد يتوقع أن ذلك الصبي الذي يقف يوميا في السوق يراقب حركة المشترين وهو يصوب نظره في صوبهم باحثا عمن يشتري بضاعته، لم يكن يتوقع أن يرى ذلك الصبي يوما ما وصورته تزين الشاشة يشارك في النقاش والحديث في قضايا سياسية هامة، فالتلفزيون كان لسكان بلدته بمثابة ذلك اللغز الكبير من يدخله فكأنه ملك الدنيا ودخل دهاليز الحياة التي لا يعلمها إلا أُولى الألباب والصفوة من القوم. وهنا لعل نبوة مدب الحومة (مؤدب الصبيان) صدقت فقد أخذه والده يوما إلى مدب الحومة وكان رجلا ضخما يرتدي دائما جبة من النوع الرديء ويحب المال حبّا جمّا، أخذه والده راغبا في استكشاف مستقبل هذا الطفل من خلال طلبه من مدب الحومة أن يحلّ (يفتح) الكتاب عنه علّه يطلعه عن بعض مما تخبئه له الأيام. تحرك الشيخ مزهوا بما طُلب منه، فهو عنوان لقدرته على اكتشاف الغيب ومكانته التي تجلب له بعض الدنانير، تحرك نحو حقيبة ملقاة على الأرض اخرج منها كتابا أصفر وفتحه وقد امتلأ برسوم وجداول لم يفهمها الصغير، ثم أمسك دواة حبر وقلم وورقة وسأل عن اسم أم الصبي وعن تاريخ ولادته وأخذ يرسم جدولا وأرقاما ،ثمّ أخذ ينظر بإمعان في عيني الصبي الذي انكمش محتميا بذراع والده واسترسل في الكلام، هذا الطفل ذكي وفطن وستكون له في مقبل الأيام مثل غيره من الناس بعض المحن لكنه سيفوز في نهاية الطريق بما يريد وسيسعدك يا رجل بالإكرام حيّا وبدعوة الخير ميتا، وسيكون له شأن ويجالس الحكام والولاة. كان الشيخ يسرد ما يقول وكأنه يقرأ من جريدة القدر ووالده ينظر إليه مبتسما ويداعب شعره بكل فخر. أغدق الأب على الشيخ بعض المال الذي يبدو أن مقداره كان غير متوقع فقد أخذه الشيخ ومرر عليه أصابعه دون أن ينظر إليه لكنه توقع قيمته فانهمرت شلالات الدعاء بالخير والصلاح للصبي وبالصحة والرزق الوفير لوالده .

عاد ووالده إلى المنزل وقد بدا الأب منتشيا بما ستحمله الأيام لطفله فأصبح ذلك الصبي من يومها ملكا متوجا على عرش العناية الأسرية، بعد أن روى لأمه ما قاله كتاب الشيخ عن مستقبله القادم وما يُنتظر منه من مفازات وغنائم ستشمل الجميع. عندما يذكر ذلك اليوم يبتسم ويتساءل هل كان ذلك الشيخ على حق؟ فمن توقع دونه لبائع الملصوقة الصغير هذا الشرف العظيم، فاليوم عندما يذكر تلك الأيام يتنهد بعمق ويكرر نفس ما يقول دائما: كانت أيام جميلة تلك الأيام رغم ما فيها من بعض المعاناة وأقول بعضا لأن ذلك الصبي يعتبر من المحظوظين حينها في الوسط الذي يعيش فيه فقد كان يرتدي أفضل الثياب ويأكل أحسن الطعام ويعتبر من الميسورين نوعا ما .

هذا الطفل بائع الملصوقة اللطيف والبريء ارتبط كل تاريخه بالكتاب، فهو كاتب الآن واستبشر والده بما قاله عنه الشيخ يوما وهو يقرأ كتاب الأيام، ونجح في دراسته بفضل اجتهاده في قراءة الكتاب، وقد كان صغيرا يقبع وراء نصبته وهو يمسك الكتاب يقرأ منه في بعض الأحيان ويمزق من ورقه في أحيان أخرى ليضع فيه ورق الملصوقة لمن يشتريها أو كأس الحمص وحارة البيض، فالكتاب لا يغادره يوما، وعندما كبر زاد هذا اليقين عندما عرف أنه أيضا من أهل الكتاب .

نظر إلى أيامه الماضية وهو يجلس في هذا المقهى الباريسي وقد انبعث صوت منه رغما عنه "ملصوقة دياري" فالتفت له الجميع البعض ابتسم وآخرون نظروا له باشمئزاز، لكنه كان سعيدا بما بدر منه .