بقلم: مصدّق الشّريف(*)
بات تحديد تاريخ الثورة التونسيّة منذ السّنوات الماضية محلّ جدال بين السياسييّن ووجوه من المجتمع المدني والمنظمات الوطنية وكثير من التّونسيّات والتونسيّين. أ يكون يوم 17 ديسمبر 2010 أم يوم 14 جانفي 2011؟
هناك من يعتبر الخوض في مثل هذه المسائل إضاعة للوقت. فالأجدر بنا أن ننغمس جميعا في معالجة الوضع الاقتصادي المتدهور في بلادنا وتغيير حال التّونسيّات والتّونسيّين المزرية مادّيا ومعنويّا. ولا بدّ من وقفة حازمة حاسمة قبل أن تغرق السفينة بجميع النّاس. عندها لا ينفع النّدم ولا يسمح للسّيف أن يسبق العذل. وفي اعتقادنا أنّ في هذا الرّأي كثيرا من الصّواب. ولكنّ مردّ جزء كبير ممّا وصلنا إليه من أوضاع اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة لا نحسد عليها إلى عدم تسمية التّواريخ بأسمائها الحقيقيّة أوّلا والاستهانة بها والتّفريط فيها ثانيا.
إنّ يوم 17 ديسمبر 2010 هو، في نظرنا، تاريخ اندلاع الشّرارة الأولى للثورة وبداية الانفجار الثوري كما يحلو لرئيس الدّولة قيس سعيّد أن يسمّيه.
لقد تواصل النّضال الجماهيري في كلّ أرجاء البلاد ليلا نهارا دون التّراجع قيد أنملة عن الضّغط على النّظام الحاكم آنذاك. واتّسعت رقعة الاحتجاجات والمسيرات التي خيضت من شمال البلاد إلى جنوبها متّهمة أصهار الرّئيس بن علي بأنّهم سبب البليّة بعد أن سرقوا خيرات البلاد ونهبوها. وتواصل المدّ الجماهيري مطالبا بالشّغل والحرّية والكرامة الوطنيّة دون هوادة إلى أن جاءت مسيرة يوم 12 جانفي 2011 التي خاضها أهالي ولاية صفاقس. فقد زعزعت هذه المسيرة أركان نظام بن علي وهيّأت لما شهده شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 جانفي 2011 حيث رُفع شعار «dégage» أمام وزارة الدّاخليّة ما بين الضّحى والظّهر وكان ذلك بمثابة الضّربة القاضية على رأس السّلطة. وفي حدود السّاعة الخامسة مساء خرج بن علي من البلاد.
وفي ظرف سويعات قليلة تمّ الاستيلاء على ثورة الشّباب وطُمست مقوماتها. ففي الوقت الذي كانت تنتظر فيه الجماهير الشّعبيّة رحيل من عملوا مع النّظام وداروا في فلكه، برزت وجوه النّظام نفسه والنّظام السّابق له. أجهضت ثورة شباب تونس ووقع وأدها في المهد إذ احتلّ محمد الغنوشي وفؤاد المبزع وغيرهما مناصب عليا في الدّولة. وجاءت من خارج البلاد وجوه كانت خائفة من نظام بن علي ولم تشارك في الثّورة عليه لينصّب أصحابها أنفسهم زعماء وبدورا طلعت على سماء تونس أمثال راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي وغيرهما. وجاء أيضا من كانت لهم اليد الطولى في نظام بن علي ليسيّروا البلاد. عمل الباجي قائد السّبسي بالتّحالف مع الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك عبد السلام جراد على إخماد لهيب التّحرّكات الميدانية المطالبة بتحقيق أهداف الثّورة عبر تقديم منحة شهريّة للشّباب العاطل عن العمل قيمتها مائتي دينار وفتح شركات وهمية خسرت بسببها الخزينة العمومية أموالا طائلة. ذُرّ الرّماد على العيون. وافتكّت المناصب من الشّباب خيرة أبناء البلاد. وذهبت أرواح الشّهداء ودماء الجرحى حسرات.
كتب المفكّر والفيلسوف اللّبناني ميخائيل نعيمة:
" ليس الشباب في حاجة إلى من يوجهه. فالقوى الهائلة التي يزخر بها كيانه هي الكفيلة بتوجيهه في السبيل المعدّ له. وإنّما حاجة الشباب إلى من يحميه من موجهيه الذين يحاولون أبدا أن يكمّموا فاه، ويكبّلوا يديه ورجليه، ويكسبوا الماء البارد على الحماسة المتأججة في صدره، ويزرعوا الذعر والخنوع في فكره وقلبه. أولئك، في الغالب، هم رجال السياسة، ورجال الدّين، والآباء والأمهات، والمعلمون والمعلمات الذين يعيشون في قلقٍ دائم من ثورة الشباب على ما رثّ من تقاليدهم، وما بلى من أساليبهم، وما تعفّن من معتقداتهم. ولذلك لا ينفكون يقيمون السدود والحواجز في وجه تفتّح الشباب وانطلاقه. وهم إذ يفعلون ذلك لا يدركون إلى أيّ حدّ يجرمون بحق أنفسهم وحق الشباب […] ونحن اليوم في دنيا العرب أحوج ما نكون إلى شباب يجرؤ على أن يشكّ، ثم يجرؤ على أن يعمل للخلاص من شكّه. فالشّك إذا طال أمسى شللا. وشبابنا هو الثّروة التي أين منها ذهبنا الأسود والأصفر وكلّ ما تنتجه أرضنا من ثمار وحبوب وبقول؟ هذه للنفاد والبوار، وتلك للبقاء والازدهار. وحريّ أن نستثمر هذه الثّروة إلى أقصى حدّ، فنتاجر بها قبل أن نتاجر بالبترول، وبالخام والشّيت، ونوليها من عنايتنا أضعاف أضعاف ما توليه الدّوالي في كرومنا، والسّنابل في حقولنا، والأموال في مصارفنا، والكراسي في مجالسنا. ولا نقضي عليها بما نفرضه على الشباب من قيود وما نقيمه في وجهه من سدود، بل نطلق للشّباب حرّية القول وحرّية العمل إذا نحن شئنا أن ننعم بمواهبه وبركاته، وأن نتفادى غضباته وثوراته.
ولا يقولنّ قائل إنّ تلك الحرّية تؤدّي بنا إلى الفوضى. فالفوضى هي ما نحن فيه. ولن يخرجنا منها إلاّ الشّباب المجدّد والمتجدّد. ويقيني أنّ ما في دم شبابنا من حرارة، وما في عقله من اتّزان، وما في قلبه من إيمان بالعدل والنّظام والإخاء لكفيل بأن يقطع بنا شوطا بعيدا نحو عالم ألطف جوّا، وأفسح أفقا، وأعذب صوتا من عالم نعيش فيه الآن. فليس الشّباب كالخزانة نأتمنها على آمالنا. وليس كالشّباب مجدّدا لشباب الحياة. وليس كالحرّية غذاء للشّباب وحافزا له على الخلق والإبداع والسّير بالقافلة إلى الواحات المطمئنّة والمراعي الخصبة"(1).
1 ميخائيل نعيمة، الشّباب ثروة وثورة، مجلّة الآداب، العدد الثّامن، أوت 1954، السّنة الثّانية، ص.601-603.
• اقتطف العنوان من مقال ميخائيل نعيمة السّابق ذكره.
• أستاذ متقاعد
