بقلم : الحبيب الذوادي(*)
*الكتاب سيق في نمط السيرة الذاتية وفي استنطاق المبادئ التي عشقها المؤلّف ولا يزال يسير على هديها
العين حظيت كما هو معروف في اللغة العربية بكتابات عديدة في أغاني الشعراء، وقصص العشاق، وفي نتاجات الكتاب والمبدعين عامة، ممّا حدا بالكاتب الكبير أحمد أمين ليقول عنها : إنها مستودع أسرار الإنسان والنافذة التي يطل منها غيره في أعماق نفسه.
وشخصيا، وفي ضوء الأيام، وفي رحلتي مع العيون كنت مفتونا بأسرار العيون، وقد لاحظت أن للعين إشارات مضيئة، وحركة عجيبة في كل ما مثل الحيرة، وما يتذكره الإنسان بعد الفراغ في قراءة كتاب شائق، كان تأثر به أو اكتشف منه عبرا ودروسا وخبرة... وحصل منّي هذا بعد إطلاعي وقراءتي للمؤلف الجديد الصادر للكاتب والأديب رشيد الذوّادي والحامل لعنوان "تونس...ومصر في أصدار الأيام... !" المتضمن 176 صفحة صادر عن اروسلان للنشر وسر إعجابي بهذا الكتاب كان لأمرين اثنين :
أولهما : أن الكتاب سيق في نمط السيرة الذاتية وفي استنطاق المبادئ التي عشقها المؤلّف ولا يزال يسير على هديها.
وثانيهما : تأكيد الكاتب في هذا الأثر وفي محفل التاريخ الواسع والممتد بين البلدين الشقيقين تونس ومصر اللذين عاشا منذ القدم على ديمومة الصفاء، والأخوة، والمحبة لبعضهما البعض، وخير شاهد على ما تقدم ذكره، هي ذكريات الأيام، وحكايات الامكنة التي تحدث عنها رشيد الذوّادي في سردياته فوجدناه في الصفحة السادسة من مقدمة هذا المؤلّف قائلا : (إني شغوف بالمكان، وشغفي هذا هو نابع من قناعاتي الشخصية، حيث وجدت فيه متعة وعوامل اجتماعية وفكرية ومناخات في محمل ما يتصل بفلسفة الذاكرة التي تنمو بالفطرة...) ويقول أيضا في الصفحة السابعة بالخصوص" إن شغفي بالمكان جعلني حريصا كل الحرص على الاهتمام بتراث الأمة العربية، وحاضرها، وخطط سيرها في مواكبة التألق والنهضة في مجريات حياتها، وبالتوازي لضعفي هذا لأشد الرحال لزيارة المكتبات الكبرى في مصر، وتركيا، والمغرب، والجزائر؛ لكي أستفيد مما طبع في حقل التراث، ولتصبح لي خبرة عمر تزداد وتنمو بالعمل وبالمراجعة".
لقد أفرد الكاتب رشيد الذوّادي المحور الأول من مؤلفه تحت عنوان (تونس ومصر.. في مرايا الحضور القوى للذات)، مبرزا للقارئ أيام المجد الذي يفاخر به العرب حينما ارتبط الفكر التونسي بفكر جديد وارد عليه من (الأزهر الشريف) فتم حينها ارتباط فكر بفكر من خلال إسهامات أعلام كبار من الذين تخرجوا من الزيتونة والأزهر فكانت الاستفادة ونمت المودة...، مؤكدا من ناحية أخرى بضرورة الافتخار بماضي الأمة العربية وبتراثها الأصيل الذي صانته الكتب وكتبته أفلام المبدعين في سائر ألوان المعارف، ومن ثمّ فعلى أجيالنا دراسة هذا التراث وتقييم أنساقه ومشاربه، لنكون بحق أوفياء لتراث الاجيال، وللرجال الذين خدموا الأمة بحق واقتدار أمثال ابن رشد والغزالي وابن خلدون... في القديم، وساطع الحصري، وعباس محمود العقاد، وعلي البلهوان، والبشير بن سلامة، والشابي... في العصر الحديث، بحيث وجدنا الأستاذ رشيد الذوّادي في هذا المحور ذو رؤية فاحصة لمطالب أجيال الغد، من خلال التعريف بنضالات الأدباء والسياسيين التي استنارت الأجيال بفكرهم، ومنوها في الآن نفسه بأصالة الشعبين التونسي والمصري على امتداد التاريخ الواسع، وكل ما يعزز جوانب الودّ والصداقة المتينة فالأرض هي الأرض والمبادئ لا تتجزأ ولم تمت بمضي الأزمان، بل بقيت صامدة في وجدان الشجعان وفي أقلام الأدباء الطيبين.
في المحور الثاني من كتابه تدرج الكاتب رشيد الذوّادي ليتناول بالحديث عن وطنه الأم تونس بحيث أفرد هذا المحور عنوان "تونس والذكريات لا تنتهي"، مؤكدا بأن تونس وطن فريد عاش فيه البربر متفرقين وقبائل وعلى صلة دائمة بمصر وأهلها بواسطة قوافلهم التجارية ومن أشهر قبائلها هنتاتة، لواته، صنهاجة.. ولباسها كان من نسيج الصوف، ومن صناعات البربر الفنقيين الريادي في تونس على إثر قدومهم في العهد القرطاجني فكان لهم أفضال على البلاد والعباد، فقد أسسوا أول حكومة مركزية، ونشأت ملوكية في البداية ثم أصبحت جمهورية وتعتمد على دستور ذي نظام نيابي الذي يعتبر من أقدم الدساتير في العالم، أما بخصوص الحقبة الرومانية فأبرز الكاتب أن تونس في العهد الروماني أمست ولاية رومانية وعاصمتها "أوتيك" القريبة من بنزرت وذلك فيما بين 146 و 126 ق م مشيدا في الآن نفسه ببطولات حنبعل، وبمعارف الرومان في غراسة الأشجار والزياتين تحديدا.
وعن تأسيس القيروان على يد عقبة بن نافع سنة 2050 (670م) أكد الأديب رشيد الذوّادي في الخصوص بأنّها أصبحت عاصمة لكامل المغرب العربي، بعد أن لعبت دورها في مجال الغزو والفتوحات لنشر الإسلام، واستمرت لاحقا بمجالسها العلمية تألق شعراء ونقاد، وأطباء... ومنها تاقت نفوس التونسيين للمرحلة في طلب العلم إلى المشرق العربي وخصوصا إلى مصر، أمّا بخصوص جامع الزيتونة الأعظم فقد تطرق إليه صاحب هذا المؤلف بالحديث مبرزا أفضال التعليم الزيتوني، وأيادي خريبيه في سبيل الحفاظ على الهوية على منهج الأجداد بعد تأسيسه سنة 698م بأمر من حسان بن النعمان، بحيث كان لهذا الجامع إسهامات وافرة من إشاعة الدين الإسلامي في هذه الديار، و في انتشار المذهب المالكي، وإحياء اللغة العربية، حيث تخرج منه أعلام وأدباء كبار أمثال ابن خلدون، وابن عرفة، ومحمد الطاهر بن عاشور...، أمّا في العصر الحديث فأبرز الكاتب رشيد الذوّادي أن تونس أنجبت كوكبة من المفكرين والسياسيين والعلماء وأهل الفن وفي مقدمتهم محمد الفاضل بن عاشور، والشابي، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، وأحمد بن صالح، وأحمد المستيري، والبشير بن سلامة، ومحمد العروسي المطوي، والحبيب طليبة، وحسيب بن عمار، والهادي الجويني، ولطفي بوشناق... وأضرابهم، حيث وجدناه في الصفحة 43 من مؤلفه يشيد بهؤلاء، قائلا "إنهم قادة فكر، وأدباء، وسياسيون، لهم تجربة ولهم زاد معرفي وخبرة... وتونس تألقت بفضل وجودهم عربيا ودوليا".
في المحور الثالث من هذا المؤلف تناول الكاتب رشيد الذوادي الحديث عن وطنه الثاني مصر، حيث أفرد لهذا المحور عنوان (مصر... بلد ساحر ووطن عجيب) .. فمصر بالنسبة لصاحب الكتاب وطن عجيب حماه الله ؛ ليكون دائما داعيا إلى المحبة والإخاء والتقارب... فهي أرضا غالية وذات شهرة واسعة بتميزها باتساع رقعتها الجغرافية، وبمركزها الحضاري في المنطقة، إلى جانب نيلها ؛ الذي يعتبر الأم الوقور بحيث تم التسليم بأن مصر "هبة النيل"، أما بخصوص الشعب المصري فنوه الكاتب رشيد الذوادي بعظمته، فهو شعب أصيل حارب الغزاة، وقاوم التتار، والصلبيين، والفرنسيين، والبريطانيين... وعن دور مصر الثقافي فبالإضافة لتشجيع حكامها لعلمائها عبر عصورها المتعاقبة أمثال كيلوباترا السابعة، والفلكي بطليموس... ثمن الأديب رشيد الذوّادي في هذا المجال بأن مصر ؛ هي بلد العطاء من خلال إقراره بأن أبناءها صنعوا تاريخها وحملوا على أكتافهم قدرها منوها بالخصوص بما ذكره الأديب المصري وعميد الأدب العربي طه حسين (بأن مصر حمت العقل الإنسان مرتين". حمته يوم أوت فلسفة اليونان وحضارته أكثر من عشر قرون... وحمته حين أوت الحضارة الإسلامية إلى العصر الحديث) ؛ لذا فيستخلص مما تقدم أن الكاتب رشيد الذوادي بأننا وافنا بوجود اليوم كوكبة من هؤلاء الأعلام، والأدباء الكبار، أمثال توفيق الحكيم، ووديع فلسطين، ونجيب محفوظ، عباس محمود العقاد...
أمّا بخصوص التكريم الذي خطى به الطلبة التونسيون على إثر التقارب الحاصل بين البلدين بعد دراستهم بالأزهر؛ فثمن الكاتب بالخصوص الروابط التاريخية ؛ التي تجمع البلدين من خلال استضافة البعض منهم أمثال : محمد القزاز، ويحي بن عمر...، كما تعرض لمساندة مصر لعدد من الشيوخ والعلماء والسياسيين نذكر من بينهم عبد الرحمان بن خلدون، ومحمد الخصر حسين ؛ الذي تولى مشيخة الأزهر عند قيام الثورة المصرية سنة 1952م. ومحمد بيرم الخامس... كما أكرمت مصر عددا كبيرا من السياسيين التونسيين أمثال : عبد العزيز الثعالبي، والحبيب ثامر، والحبيب بورقيبة، وعلي البلهوان، وصالح بن يوسف، ومحمد علي الحامي...، وفيما يتعلق بأصداء الكتابات الأدبية فقد أبرز الكاتب رشيد الذوّادي أن عددا من أدباء مصر أشادوا ببعض أدباء تونس كمحمود المسعدي، ومحمد الفاضل بن عاشور، ومحمد مزالي، والبشير بن سلامة، ورشيد الذوّادي، ونور الدين صمود، وعبد الجبار الشريف... وهذا التكريم كان من طرف أدباء مصر الكبار أمثال توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وأنيس منصور والدكتور عبد العزيز شرف والدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، ورابح لطفي جمعة وغيرهم...
وفي الختام فإن هذا الإصدار (تونس ومصر.. في أصداء الأيام) يكتشف فيه قارئه أن للكاتب رؤى فكرية، وقضايا فيما يشده إلى وطنه وإلى الأوطان العربية خصوصا حصر التي كان لها حضور قوي في دراساته الأدبية عنها ... ولا نعجب من هذا لأن مصر وتونس شقيقتان جمعهما التراحم والإخاء ... ولا نعجب إذا ما قيل عنهما منذ القدم :
هما شعب واحد ... وعاشا على الودّ
وكلما انطلق الفرح في مدائن وادي النيل
انطلق الهتاف في مدائن وادي مجردة
*باحث وناشط في الحقل الجمعياتي بمدينة بنزرت
