إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح / ماذا في كتاب د. عبدالجليل بن عباس "الحركة الوطنية بجهة صفاقس" 1920-1955

 

بقلم: د. رضا القلال

*المؤتمر الاستثنائي للحزب الحر الدستوري الجديد بصفاقس (15 نوفمبر 1955) يعتبر منعرجا فارقا في تاريخ الحزب الجديد

يواصل د. عبد الجليل بن عباس نحت مساره المتميّز في مجال التاريخ بإصدار كتاب مكثف عنونه "الحركة الوطنية بجهة صفاقس" يبدأ جانبه الزماني بسنة 1920(تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي) وينتهي بسنة 1955(تاريخ انعقاد المؤتمر الاستثنائي للحزب الجديد بصفاقس).هذا الكتابقدّمه البروفسور فتحي ليسير، المفكر الذي عرف بصرامةالمؤرخ،وهجر اختصاصه إلى الكتابة الأدبية مثل بعض المؤرخين (د.عبد الواحد المكني، د. عبد الحميد الفهري...)، وهو إلى جانب ذلك مترجم أنيقللمستشرق الفرنسي أندري لوي(1838-1913) والمؤرخ البريطانيأرنولد توينبي(1889-1975).

امتلك د.عبد الجليل بن عباس بداية الخط في الكتابة التاريخية بتحقيق وتقديم كتاب: "أحمد شطورو بين سجون الاستعمار، مذكرات سجين سياسي "(2010)، ثم بنشر كتاب مشترك (2013). وقبل ذلك اشتغل سنة 2002 على "مساهمة التونسيين في المؤسسة البلدية، مثال مدينة صفاقس 1884-1914" وذلك لنيل شهادة الدراسات المعمقة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس.

وأعتقد أن المؤلف سجّل في كتابه الأخير، وهو في الأصل، رسالة دكتوراه ناقشها في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس سنة 2011، سجّل ميسما بارزا في مساره التاريخي، يتمثل في الاتكاء على 3 أعمدة بنى عليها منهجيته التاريخية في قراءة الوقائع السياسية وأحداثها التي عرفتها جهة صفاقس على مدى 35 سنة خلال القرن المنصرم(1920-1955):

  • ضخ مرجعية ثرية، تحمل كما هائلا من المعلومات
  • تجديد الأسئلة، وتشغيل محرّك الشك
  • تكريس القيمة الموضوعية والصدقيّة

وبصياغة أخرى، استأنف المؤلف الكتابة التاريخية على هذه الحقبة في ضوء معرفة جديدة لما يتداوله المؤرخون والناس، واعتماد الشك والتأويل والأسئلة الضاغطة دون ارتباك او استسلام لتواريخ قدت أو لأحداث سطرت، وإيقاظ ما/من كان نائما، وجذب ما/من كان مهمشا الى سطح دائرة الضوء. 

* استقدام أكثر من 6000 وثيقة من مدينة " نانت" الفرنسية

* إحداث "صدع" في المعرفة المألوفة

وجد د. عبد الجليل بن عباس أن لصفاقس تاريخا، وأن تاريخها لا ينفصل عن فرادة الانسان الذى سكنها، وسعى لأن يكون لصفاقس توثيقا سياسيا مغايرا من خلال تقصّي المعلومات والوثائق بالأرشيفات التونسية(الأرشيف الوطني، المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، مركز التوثيق الوطني،دار الكتب الوطنية،أرشيف بلدية صفاقس...) والأرشيفات الفرنسية (أرشيف وزارة الخارجية، الأرشيف الدبلوماسي بمدينة "نانت"...) والأرشيفات الخاصة للمناضلين الصفاقسيين (أرشيف الشيخ يوسف خماخم، والمناضل عبد العزيز بوراوي، والمناضل أحمد شطورو...) والشهادات الشفوية لمناضلين آخرين في مقدمتهم المناضل محمد بكور وأحمد دريرة وغيرهما...) إلى جانب ذلك استند إلى مقالات الصحف العربية والفرنسية، والكتب المنشورة،  والرسائل الجامعية المخطوطة....وقد مكّنه هذا الزخم من الوثائق من النظر إلى الفترة المدروسة من زاوية مغايرة، وعدم استثناء أدق التفاصيل، وفي أكثر من مرّة كتب ما سكت عنه التاريخ، وكشف في رحلة البحث العلمي عن حقائق كان يكتنفها الغياب أو النقص:

+ البورجوازية الصفاقسية وكبار الملاكين موّلوا ميزانية الحركة الوطنية بسخاء شديد وهيمنوا على الساحة السياسية بصفاقس، مما جعل الحزب القديم والجديد يتنافسان على استقطاب 'البازار الصفاقسي" والعبارة مستلّة من مقدمة البروفسور فتحي ليسير.

+ صالح بن يوسف يفشل (سنة1946) في إزاحة الهادي شاكر من الساحة السياسية، بعد استغلال الصراع بينه وأنصاره وبين محمد الشرقي ومؤيديه. والحبيب بورقيبة يفشل (سنة1949) في إقصاء الهادي شاكر لتمتعه بنفوذ قوي وشعبية كاسحة في صفاقس والجنوب.وبذلك أصبح الزعيم الهادي شاكر في الصف الأمامي للحركة الوطنية وأيقونة نضالية يقرأ لها ألف حساب .

+ لم يكن الحبيب عاشور ولا أحمد دريرة بقادر على أخذ مكان الزعيم الهادي شاكر بعد اغتياله(1953). وكان محمد بكور يقول: "إن الهادي شاكر كان زعيما كبيرا لم تعرف صفاقس مثله إلى يومنا ولم تنجب صفاقس مثله ولم يعوضه أحد"( "المناضل محمد بكور، الماضي يضيء الحاضر"، د.رضا القلال، مطبعة نوفا برانت، 2015) 

+ قادة الاتحاد بصفاقس(1952) يرفضون بشدّة دفن ضحايا قنطرة الفحص بمقبرة سيدي علي الكراي حيث دفن شهداء 5 أوت 1947 والتي اعتبرت "المقبرة الوطنية" بصفاقس فتمّ دفنهم بمقبرة خاصة للطيب العذار. وكان الضحايا وهم الحبيب خنفير وحسن بن عياد ونادرة كمون وحامد الكراي ومحمد الشعبوني في طريقهم إلى زيارة أقاربهم المعتقلين بمحتشد تبرسق، وهوت بهم السيارة من أعلى القنطرة التي دمرت منذ سنة 1943.

+المؤتمر الاستثنائي للحزب الحر الدستوري الجديد بصفاقس (15 نوفمبر 1955) يعتبر منعرجا فارقا في تاريخ الحزب الجديد، وتاريخ تونس المعاصر بصفة عامة. حيث رجحت صفاقس الكفّة لصالح الحبيب بورقيبة.

+ جهة صفاقس كانت تضم في الفترة الاستعمارية ثلاث قيادات/ولايات وهي صفاقس وجبنيانة والصخيرة

وهكذا فإن الوثائق المرجعية التي وفّرها د.عبد الجليل بن عباس عن الأحداث التاريخية بصفاقس، ورحلة البحث التي خاضها بين تونس وفرنسا، وحياديّة قراءته للتاريخ المحلي بيّنت أن استرجاع الغائب والمنسيّ، هو نسيان للإساءة وتصحيح للذاكرة الجمعية، حتى وإن ظلت بعض الحقائق نازفة في ذاكرة التاريخ.

أعمال قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس جديرة بالتأمل والبحث

كشف كتاب"الحركة الوطنية بجهة صفاقس" أند.عبد الجليل بن عباس باحث شغوف بالمعرفة، وبتقصّي الحقائق والمعلومات، ولا شك أن هذا العمل أنهكه فكريا، وأخذ منه حيزا واسعا من الزمن، لأن الفترة المدروسة 1920-1955 غاصّة بالشخصيات، وعامرة بالأسماء ومكتظّة بمختلف التفاعلات التاريخية. ولذا وجب التحقّق وتحتّم النّظر وفرض الاستقصاء....

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن قراءة هذا الكتاب السياسي تتيح لنا التعرّف على خطابات مجاورة تتعلق بالمسار الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.  فقد توفّرت للحركة الوطنية بجهة صفاقس روافد ثقافية داعمة مثل الصحافة والجمعيات المسرحية والرياضية والكشفية وروافد اجتماعية مساندة بانضمام العمال والمرأة والطلبة.وقد عرفت صفاقس خلال فترة ما بين الحربين العال ميتين1918-1939 طفرة ثقافية صحفية كان لها دور باهر في تغذية الحركة الوطنية بالجهة.

وفي المحصّلة، هذا الكتاب الذي يضمّ متنه 434 صفحة، حاول فيه د. عبد الجليل بن عباس استعادة زمن الحركة الوطنية بجهة صفاقس1920-1955، وإعادة الاعتبار لها. وبما أنه ليست هناك كتابة تاريخية نهائية – بما فيه هذا الكتاب-فقداستأنف رحلة الرصد والحفر والتأويل على ضوء معرفته الجديدة بوثائق نادرة حظي بأن يكون المطّلع الأوّل عليها.  ورغم ذلك واجه هذا الزخم الذي تمازجت فيه مختلف أنواع المعلومات بالشك على طريقة إبراهيم السيّار النظّام، الذي كان يقول "بضرورة الشك، وأنه لا يقين يبنى إلا على الشك، ولا يجب أن تقبل أي شيء إلا بعد أن تشك فيه، حتى تصل إلى ما يشبه اليقين" والسيار عرف الميراث العقلاني الإعتزالي(نسبة إلى المعتزلة)، وتلميذه الشهير جدا هو الجاحظ.  وذوّب المؤلف ذلك المخزون المتعدّد والعجائبي (6.000 الاف وثيقة من مدينة "نانت" الفرنسية فقط) في قالب نص تاريخي مشوق، استحوذ فيه على لقارئ، وجذبه إلى أعماق الحياة السياسية بالجهة وتفاصيلها. ولا شك أن هذا الكتاب يقبل أكثر من قراءة،وأكثر من زاوية نظر،استنادالثرائه وللصبر والمجهود الذي بذله المؤرخ د. عبد الجليل بن عباس.

وعلى سبيل المقترح، لماذا لا تتحول مثل هذا الكتب إلى إنتاج إذاعي أو تلفزيوني أو مسرحي أو إلى سلسلة وثائقية، فالكتاب الذي بين أيدينا يمتلك كل المقومات، مثلما امتلك كتاب "هذا الرجل ينبغي أن يموت" للكاتب توفيق عبد المولى"،في إشارة إلى أمر الزعيم الهادي شاكر، كل شروط العمل السينمائي؟  ثم لماذا لا يعمل قسم التاريخ بكلية الآداب والعلم الانسانية بصفاقس على تقديم مثل هذه الكتب في الفضاء الثقافي العام، وبنبض الغبار على الرسائل الجامعية التي لم تأخذ طريقها إلى النشر؟ ماذا يعرف مثقفونا والرأي العام الصفاقسي عن 20 باحثا في قسم التاريخ بالكلية، وعن أعمالهم وصبرهم وبحثهم ومجهوداتهم؟ مع تقديم شيء من الاعتذار على هذه "القسوة" لان المحيط الثقافي والعلمي لم يعد يقبل لا أفكار ولا ملاحظات ولا نقد!

منتدى الصباح / ماذا في كتاب د. عبدالجليل بن عباس "الحركة الوطنية بجهة صفاقس" 1920-1955

 

بقلم: د. رضا القلال

*المؤتمر الاستثنائي للحزب الحر الدستوري الجديد بصفاقس (15 نوفمبر 1955) يعتبر منعرجا فارقا في تاريخ الحزب الجديد

يواصل د. عبد الجليل بن عباس نحت مساره المتميّز في مجال التاريخ بإصدار كتاب مكثف عنونه "الحركة الوطنية بجهة صفاقس" يبدأ جانبه الزماني بسنة 1920(تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي) وينتهي بسنة 1955(تاريخ انعقاد المؤتمر الاستثنائي للحزب الجديد بصفاقس).هذا الكتابقدّمه البروفسور فتحي ليسير، المفكر الذي عرف بصرامةالمؤرخ،وهجر اختصاصه إلى الكتابة الأدبية مثل بعض المؤرخين (د.عبد الواحد المكني، د. عبد الحميد الفهري...)، وهو إلى جانب ذلك مترجم أنيقللمستشرق الفرنسي أندري لوي(1838-1913) والمؤرخ البريطانيأرنولد توينبي(1889-1975).

امتلك د.عبد الجليل بن عباس بداية الخط في الكتابة التاريخية بتحقيق وتقديم كتاب: "أحمد شطورو بين سجون الاستعمار، مذكرات سجين سياسي "(2010)، ثم بنشر كتاب مشترك (2013). وقبل ذلك اشتغل سنة 2002 على "مساهمة التونسيين في المؤسسة البلدية، مثال مدينة صفاقس 1884-1914" وذلك لنيل شهادة الدراسات المعمقة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس.

وأعتقد أن المؤلف سجّل في كتابه الأخير، وهو في الأصل، رسالة دكتوراه ناقشها في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس سنة 2011، سجّل ميسما بارزا في مساره التاريخي، يتمثل في الاتكاء على 3 أعمدة بنى عليها منهجيته التاريخية في قراءة الوقائع السياسية وأحداثها التي عرفتها جهة صفاقس على مدى 35 سنة خلال القرن المنصرم(1920-1955):

  • ضخ مرجعية ثرية، تحمل كما هائلا من المعلومات
  • تجديد الأسئلة، وتشغيل محرّك الشك
  • تكريس القيمة الموضوعية والصدقيّة

وبصياغة أخرى، استأنف المؤلف الكتابة التاريخية على هذه الحقبة في ضوء معرفة جديدة لما يتداوله المؤرخون والناس، واعتماد الشك والتأويل والأسئلة الضاغطة دون ارتباك او استسلام لتواريخ قدت أو لأحداث سطرت، وإيقاظ ما/من كان نائما، وجذب ما/من كان مهمشا الى سطح دائرة الضوء. 

* استقدام أكثر من 6000 وثيقة من مدينة " نانت" الفرنسية

* إحداث "صدع" في المعرفة المألوفة

وجد د. عبد الجليل بن عباس أن لصفاقس تاريخا، وأن تاريخها لا ينفصل عن فرادة الانسان الذى سكنها، وسعى لأن يكون لصفاقس توثيقا سياسيا مغايرا من خلال تقصّي المعلومات والوثائق بالأرشيفات التونسية(الأرشيف الوطني، المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، مركز التوثيق الوطني،دار الكتب الوطنية،أرشيف بلدية صفاقس...) والأرشيفات الفرنسية (أرشيف وزارة الخارجية، الأرشيف الدبلوماسي بمدينة "نانت"...) والأرشيفات الخاصة للمناضلين الصفاقسيين (أرشيف الشيخ يوسف خماخم، والمناضل عبد العزيز بوراوي، والمناضل أحمد شطورو...) والشهادات الشفوية لمناضلين آخرين في مقدمتهم المناضل محمد بكور وأحمد دريرة وغيرهما...) إلى جانب ذلك استند إلى مقالات الصحف العربية والفرنسية، والكتب المنشورة،  والرسائل الجامعية المخطوطة....وقد مكّنه هذا الزخم من الوثائق من النظر إلى الفترة المدروسة من زاوية مغايرة، وعدم استثناء أدق التفاصيل، وفي أكثر من مرّة كتب ما سكت عنه التاريخ، وكشف في رحلة البحث العلمي عن حقائق كان يكتنفها الغياب أو النقص:

+ البورجوازية الصفاقسية وكبار الملاكين موّلوا ميزانية الحركة الوطنية بسخاء شديد وهيمنوا على الساحة السياسية بصفاقس، مما جعل الحزب القديم والجديد يتنافسان على استقطاب 'البازار الصفاقسي" والعبارة مستلّة من مقدمة البروفسور فتحي ليسير.

+ صالح بن يوسف يفشل (سنة1946) في إزاحة الهادي شاكر من الساحة السياسية، بعد استغلال الصراع بينه وأنصاره وبين محمد الشرقي ومؤيديه. والحبيب بورقيبة يفشل (سنة1949) في إقصاء الهادي شاكر لتمتعه بنفوذ قوي وشعبية كاسحة في صفاقس والجنوب.وبذلك أصبح الزعيم الهادي شاكر في الصف الأمامي للحركة الوطنية وأيقونة نضالية يقرأ لها ألف حساب .

+ لم يكن الحبيب عاشور ولا أحمد دريرة بقادر على أخذ مكان الزعيم الهادي شاكر بعد اغتياله(1953). وكان محمد بكور يقول: "إن الهادي شاكر كان زعيما كبيرا لم تعرف صفاقس مثله إلى يومنا ولم تنجب صفاقس مثله ولم يعوضه أحد"( "المناضل محمد بكور، الماضي يضيء الحاضر"، د.رضا القلال، مطبعة نوفا برانت، 2015) 

+ قادة الاتحاد بصفاقس(1952) يرفضون بشدّة دفن ضحايا قنطرة الفحص بمقبرة سيدي علي الكراي حيث دفن شهداء 5 أوت 1947 والتي اعتبرت "المقبرة الوطنية" بصفاقس فتمّ دفنهم بمقبرة خاصة للطيب العذار. وكان الضحايا وهم الحبيب خنفير وحسن بن عياد ونادرة كمون وحامد الكراي ومحمد الشعبوني في طريقهم إلى زيارة أقاربهم المعتقلين بمحتشد تبرسق، وهوت بهم السيارة من أعلى القنطرة التي دمرت منذ سنة 1943.

+المؤتمر الاستثنائي للحزب الحر الدستوري الجديد بصفاقس (15 نوفمبر 1955) يعتبر منعرجا فارقا في تاريخ الحزب الجديد، وتاريخ تونس المعاصر بصفة عامة. حيث رجحت صفاقس الكفّة لصالح الحبيب بورقيبة.

+ جهة صفاقس كانت تضم في الفترة الاستعمارية ثلاث قيادات/ولايات وهي صفاقس وجبنيانة والصخيرة

وهكذا فإن الوثائق المرجعية التي وفّرها د.عبد الجليل بن عباس عن الأحداث التاريخية بصفاقس، ورحلة البحث التي خاضها بين تونس وفرنسا، وحياديّة قراءته للتاريخ المحلي بيّنت أن استرجاع الغائب والمنسيّ، هو نسيان للإساءة وتصحيح للذاكرة الجمعية، حتى وإن ظلت بعض الحقائق نازفة في ذاكرة التاريخ.

أعمال قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس جديرة بالتأمل والبحث

كشف كتاب"الحركة الوطنية بجهة صفاقس" أند.عبد الجليل بن عباس باحث شغوف بالمعرفة، وبتقصّي الحقائق والمعلومات، ولا شك أن هذا العمل أنهكه فكريا، وأخذ منه حيزا واسعا من الزمن، لأن الفترة المدروسة 1920-1955 غاصّة بالشخصيات، وعامرة بالأسماء ومكتظّة بمختلف التفاعلات التاريخية. ولذا وجب التحقّق وتحتّم النّظر وفرض الاستقصاء....

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن قراءة هذا الكتاب السياسي تتيح لنا التعرّف على خطابات مجاورة تتعلق بالمسار الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.  فقد توفّرت للحركة الوطنية بجهة صفاقس روافد ثقافية داعمة مثل الصحافة والجمعيات المسرحية والرياضية والكشفية وروافد اجتماعية مساندة بانضمام العمال والمرأة والطلبة.وقد عرفت صفاقس خلال فترة ما بين الحربين العال ميتين1918-1939 طفرة ثقافية صحفية كان لها دور باهر في تغذية الحركة الوطنية بالجهة.

وفي المحصّلة، هذا الكتاب الذي يضمّ متنه 434 صفحة، حاول فيه د. عبد الجليل بن عباس استعادة زمن الحركة الوطنية بجهة صفاقس1920-1955، وإعادة الاعتبار لها. وبما أنه ليست هناك كتابة تاريخية نهائية – بما فيه هذا الكتاب-فقداستأنف رحلة الرصد والحفر والتأويل على ضوء معرفته الجديدة بوثائق نادرة حظي بأن يكون المطّلع الأوّل عليها.  ورغم ذلك واجه هذا الزخم الذي تمازجت فيه مختلف أنواع المعلومات بالشك على طريقة إبراهيم السيّار النظّام، الذي كان يقول "بضرورة الشك، وأنه لا يقين يبنى إلا على الشك، ولا يجب أن تقبل أي شيء إلا بعد أن تشك فيه، حتى تصل إلى ما يشبه اليقين" والسيار عرف الميراث العقلاني الإعتزالي(نسبة إلى المعتزلة)، وتلميذه الشهير جدا هو الجاحظ.  وذوّب المؤلف ذلك المخزون المتعدّد والعجائبي (6.000 الاف وثيقة من مدينة "نانت" الفرنسية فقط) في قالب نص تاريخي مشوق، استحوذ فيه على لقارئ، وجذبه إلى أعماق الحياة السياسية بالجهة وتفاصيلها. ولا شك أن هذا الكتاب يقبل أكثر من قراءة،وأكثر من زاوية نظر،استنادالثرائه وللصبر والمجهود الذي بذله المؤرخ د. عبد الجليل بن عباس.

وعلى سبيل المقترح، لماذا لا تتحول مثل هذا الكتب إلى إنتاج إذاعي أو تلفزيوني أو مسرحي أو إلى سلسلة وثائقية، فالكتاب الذي بين أيدينا يمتلك كل المقومات، مثلما امتلك كتاب "هذا الرجل ينبغي أن يموت" للكاتب توفيق عبد المولى"،في إشارة إلى أمر الزعيم الهادي شاكر، كل شروط العمل السينمائي؟  ثم لماذا لا يعمل قسم التاريخ بكلية الآداب والعلم الانسانية بصفاقس على تقديم مثل هذه الكتب في الفضاء الثقافي العام، وبنبض الغبار على الرسائل الجامعية التي لم تأخذ طريقها إلى النشر؟ ماذا يعرف مثقفونا والرأي العام الصفاقسي عن 20 باحثا في قسم التاريخ بالكلية، وعن أعمالهم وصبرهم وبحثهم ومجهوداتهم؟ مع تقديم شيء من الاعتذار على هذه "القسوة" لان المحيط الثقافي والعلمي لم يعد يقبل لا أفكار ولا ملاحظات ولا نقد!