إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح / جدول أعمال صندوق النقد الدّولي الأخير: سحب بطعم الرّفض

بقلم: مصدّق الشّريف

*صندوق النّقد الدّولي يشترط ويُمعن في الشّروط إلى حدّ يُفقد قارضه ماء الوجه ويسلخ حياءه سلخا مبرّحا.

كنّا على مرّ الأعوام في هذه الفترة من السّنة، وبالتّحديد مع تقدّم الأيّام في فصل الشّتاء، نستعدّ لاستقبال اللّيالي البيض واللّيالي السّود. فيهما "أيّ النّار"، "الدّاخل يقول هات النّار والخارج يقول هات النّار". وأديبنا اللّبنانيّ ميخائيل نعيمة يقول: "النّار فاكهة الشّتاء".

حالة الطّقس عندنا هذه السّنة مغايرة تماما لما ألفناه. نعيش حرارة غير عاديّة تتبعها رياح تكاد تبلغ مستوى الشّهيلي يصاحبهما ارتفاع جنونيّ في أسعار كلّ المواد دون استثناء. نصبح ونمسي على تزايد لا يعرف التّوقف ولا النّظر بعين الرّحمة إلى المستهلكين متوسّطي الدّخل. أما عن محدودي الدّخل، والضّعفاء إن كان لهم دخل، فحدّث ولا حرج.

صندوق النّقد الدّولي يماطل، يسوّف، يعد ويُخلف الوعد. يشترط ويُمعن في الشّروط إلى حدّ يُفقد قارضه ماء الوجه ويسلخ حياءه سلخا مبرّحا. عشيّة يوم الأربعاء 14 ديسمبر 2022، وفي ظلّ وضع اقتصاديّ حرج يعيش موتا سريريّا بامتياز وينتظر جرعة تبعث فيه الحياة من جديد، ينزل خبر المكتب التّنفيذي لإدارة صندوق النّقد الدّولي معلنا سحب المفاوضات مع تونس من جدول أعماله.

 يزلزل النّبأ الأرض تحت أقدام المسؤولين على تسيير شؤون البلاد الاقتصاديّة والماليّة. يُدخلهم في دوّامة. يسحبهم إلى نفق مظلم وطويل فتتبخّر الأماني والآمال في وصول نسمات الإنعاش. تراهم مبهوتين حيارى أمامهم ميزانيّة 2023 ومشروع قانون ماليّتها الذي تمّ وضعه على أساس موافقة صندوق النّقد الدّوليّ على إسناد البلاد قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار يوم 19 ديسمبر 2022. قال الأوائل: "المغطّي بمتاع النّاس عريان". كيف العمل الآن؟ وهل تتحتّم إعادة إعداد مشروع قانون الماليّة للعام المقبل ووراءنا احتياطيّ العملة الذي لا يمثّل سوى 95 يوما من الواردات؟

موجة من الإضرابات في الأفق في قطاعات حسّاسة كالنّقل والصّيدلة والمخابز. أما مواقع انتاج الفسفاط القلب النّابض لاقتصاد البلاد فإنّها لا تعرف الاستقرار في الإنتاج مما حوّلها إلى عبء ثقيل بعد أن كانت رافدا من روافد الإقلاع الاقتصاديّ نحو الأفضل تحتلّ الصّدارة بين بلدان البحر الأبيض المتوسّط والمغرب العربي في التّصدير. أَضف إلى ذلك ارتفاع نسبة انتشار النّزلة الشّتائية ووباء كورونا مقابل عزوف المواطنين عن التّلقيح بسبب قلّة ذات اليد. حسبُ التونسيّين والتّونسيّات أن يسدّوا رمقهم.

وفي الحقيقة، قد لا يُصاب المتابع الجيّد لتصريحات رئيس الجمهوريّة وأعضاء الحكومة، حول ما ينوون القيام به من إصلاحات اقتصاديّة واجتماعية، بالدّهشة من موقف صندوق النّقد الدّولي بسبب تضارب المواقف بين رئيس الدّولة والحكومة إذ من المعلوم أنّ الصّندوق لا يرتاح لهكذا أوضاع وبالتّالي لا يتشّجع على الموافقة على إسداء تونس القرض والإمضاء عليه. ويتأكّد هذا حين نرى السيّد قيس سعيّد يجيب بكثير من الضّبابيّة والتّعويم عند سؤاله حول برنامج الإصلاحات خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة في لقائه مع صحافيّي واشنطن بوست. وقد اكتفى بالقول: "سنحارب الفساد والبطالة" ولم ينبس ببنت شفة حول مسألتي رفع الدّعم والتّفويت في المؤسّسات العموميّة التي تشهد صعوبات جمّة وهما الموضوعان المهمّان والأساسيّان اللّذان يريد صندوق النّقد الدّولي موقفا صريحا من رئيس الدّولة حولهما. وهنا يبدو أنّ رئيس الجمهوريّة قد وجد نفسه بين الاستجابة لوجدانه المفعم بالعزّة والنّخوة والكبرياء وبين ما يتحتّم عليه من رضوخ للواقع الاقتصاديّ التّونسيّ المرّ المرير ووضع قدميه على التّراب بعيدا عن الشّعارات والتّحليق.

وعلى العموم، فإنّ سحب تونس من قائمة أعمال صندوق النّقد الدّولي لا يدخل، في اعتقادنا، تحت طائلة التّأجيل إلى موعد لاحق وإنّما هو سحب بطعم الرّفض فيه كثير من الإذلال والاستخفاف لا من رئيس الجمهورية ولا من حكومته فقط بل من كلّ التّونسيّات والتّونسيّين بدءا من وليد الآن.

يقول الشّاعر الشّعبي الصّوفيّ المغربيّ عبد الرّحمان المجذوب:

" تخَلْطَتْ (اختلطت) ولّا بْغَاتْ (أو أرادت) تصفى
ولعب خَزْهَا (الطفيليات الطافحة) فوق ماها (ماءها)
رَيَّاسْ (رؤساء) على غير مرتبة (دون أهلية)
هُمّا (هم) سبب خْــــــــــــلاها (ضياعها) "

منتدى الصباح / جدول أعمال صندوق النقد الدّولي الأخير: سحب بطعم الرّفض

بقلم: مصدّق الشّريف

*صندوق النّقد الدّولي يشترط ويُمعن في الشّروط إلى حدّ يُفقد قارضه ماء الوجه ويسلخ حياءه سلخا مبرّحا.

كنّا على مرّ الأعوام في هذه الفترة من السّنة، وبالتّحديد مع تقدّم الأيّام في فصل الشّتاء، نستعدّ لاستقبال اللّيالي البيض واللّيالي السّود. فيهما "أيّ النّار"، "الدّاخل يقول هات النّار والخارج يقول هات النّار". وأديبنا اللّبنانيّ ميخائيل نعيمة يقول: "النّار فاكهة الشّتاء".

حالة الطّقس عندنا هذه السّنة مغايرة تماما لما ألفناه. نعيش حرارة غير عاديّة تتبعها رياح تكاد تبلغ مستوى الشّهيلي يصاحبهما ارتفاع جنونيّ في أسعار كلّ المواد دون استثناء. نصبح ونمسي على تزايد لا يعرف التّوقف ولا النّظر بعين الرّحمة إلى المستهلكين متوسّطي الدّخل. أما عن محدودي الدّخل، والضّعفاء إن كان لهم دخل، فحدّث ولا حرج.

صندوق النّقد الدّولي يماطل، يسوّف، يعد ويُخلف الوعد. يشترط ويُمعن في الشّروط إلى حدّ يُفقد قارضه ماء الوجه ويسلخ حياءه سلخا مبرّحا. عشيّة يوم الأربعاء 14 ديسمبر 2022، وفي ظلّ وضع اقتصاديّ حرج يعيش موتا سريريّا بامتياز وينتظر جرعة تبعث فيه الحياة من جديد، ينزل خبر المكتب التّنفيذي لإدارة صندوق النّقد الدّولي معلنا سحب المفاوضات مع تونس من جدول أعماله.

 يزلزل النّبأ الأرض تحت أقدام المسؤولين على تسيير شؤون البلاد الاقتصاديّة والماليّة. يُدخلهم في دوّامة. يسحبهم إلى نفق مظلم وطويل فتتبخّر الأماني والآمال في وصول نسمات الإنعاش. تراهم مبهوتين حيارى أمامهم ميزانيّة 2023 ومشروع قانون ماليّتها الذي تمّ وضعه على أساس موافقة صندوق النّقد الدّوليّ على إسناد البلاد قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار يوم 19 ديسمبر 2022. قال الأوائل: "المغطّي بمتاع النّاس عريان". كيف العمل الآن؟ وهل تتحتّم إعادة إعداد مشروع قانون الماليّة للعام المقبل ووراءنا احتياطيّ العملة الذي لا يمثّل سوى 95 يوما من الواردات؟

موجة من الإضرابات في الأفق في قطاعات حسّاسة كالنّقل والصّيدلة والمخابز. أما مواقع انتاج الفسفاط القلب النّابض لاقتصاد البلاد فإنّها لا تعرف الاستقرار في الإنتاج مما حوّلها إلى عبء ثقيل بعد أن كانت رافدا من روافد الإقلاع الاقتصاديّ نحو الأفضل تحتلّ الصّدارة بين بلدان البحر الأبيض المتوسّط والمغرب العربي في التّصدير. أَضف إلى ذلك ارتفاع نسبة انتشار النّزلة الشّتائية ووباء كورونا مقابل عزوف المواطنين عن التّلقيح بسبب قلّة ذات اليد. حسبُ التونسيّين والتّونسيّات أن يسدّوا رمقهم.

وفي الحقيقة، قد لا يُصاب المتابع الجيّد لتصريحات رئيس الجمهوريّة وأعضاء الحكومة، حول ما ينوون القيام به من إصلاحات اقتصاديّة واجتماعية، بالدّهشة من موقف صندوق النّقد الدّولي بسبب تضارب المواقف بين رئيس الدّولة والحكومة إذ من المعلوم أنّ الصّندوق لا يرتاح لهكذا أوضاع وبالتّالي لا يتشّجع على الموافقة على إسداء تونس القرض والإمضاء عليه. ويتأكّد هذا حين نرى السيّد قيس سعيّد يجيب بكثير من الضّبابيّة والتّعويم عند سؤاله حول برنامج الإصلاحات خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة في لقائه مع صحافيّي واشنطن بوست. وقد اكتفى بالقول: "سنحارب الفساد والبطالة" ولم ينبس ببنت شفة حول مسألتي رفع الدّعم والتّفويت في المؤسّسات العموميّة التي تشهد صعوبات جمّة وهما الموضوعان المهمّان والأساسيّان اللّذان يريد صندوق النّقد الدّولي موقفا صريحا من رئيس الدّولة حولهما. وهنا يبدو أنّ رئيس الجمهوريّة قد وجد نفسه بين الاستجابة لوجدانه المفعم بالعزّة والنّخوة والكبرياء وبين ما يتحتّم عليه من رضوخ للواقع الاقتصاديّ التّونسيّ المرّ المرير ووضع قدميه على التّراب بعيدا عن الشّعارات والتّحليق.

وعلى العموم، فإنّ سحب تونس من قائمة أعمال صندوق النّقد الدّولي لا يدخل، في اعتقادنا، تحت طائلة التّأجيل إلى موعد لاحق وإنّما هو سحب بطعم الرّفض فيه كثير من الإذلال والاستخفاف لا من رئيس الجمهورية ولا من حكومته فقط بل من كلّ التّونسيّات والتّونسيّين بدءا من وليد الآن.

يقول الشّاعر الشّعبي الصّوفيّ المغربيّ عبد الرّحمان المجذوب:

" تخَلْطَتْ (اختلطت) ولّا بْغَاتْ (أو أرادت) تصفى
ولعب خَزْهَا (الطفيليات الطافحة) فوق ماها (ماءها)
رَيَّاسْ (رؤساء) على غير مرتبة (دون أهلية)
هُمّا (هم) سبب خْــــــــــــلاها (ضياعها) "