اللغة العربية هي اللغة الوطنية للمجتمع التونسي مثلها مثل اللغة الفرنسية التي هي اللغة الوطنية في كل من فرنسا ومقاطعة كيباك في كندا. هناك قوانين صارمة في فرنسا وكيباك لحماية اللغة الفرنسية وجعلها ذات المكانة الأولى في المجتمعين وبين الموطنين. ومن ثم، فانتساب فرنسا وكيباك إلى منظومة الفرنكوفونية أمر مشروع للغاية. من جهة أخرى،فاللغة العربية هي اللغة الوطنية الوحيدة في المجتمع التونسي. وبالتالي، يجب أن تحظى بالاحترام الشامل قبل أي لغة أخرى من طرف مواطني هذا المجتمع، أي أن الانتساب إلى منظمة الفرنكوفونية لا ينبغي أن يفسد علاقة هذا المجتمع مع اللغة العربية/الوطنية ومنه مع الهوية العربية. إذن ، فالتأهل الصحيح للانضمام لتلك المنظمة لا يجب أن يفسد علاقة الود الكامل مع كل من اللغة الوطنية والهوية العربية ، كما سنرى عكس ذلك في المجتمع التونسي 'المستقل'.
الوطنية اللغوية في كيباك
لا تكاد تُحصى أمثلةُ المجتمعات المتقدمة التي تُستعمل فيها اللغات الوطنية أو لغات الأم وحدها في كل شيء. على سبيل المثال، فالوطنية اللغوية في مقاطعة كيباك الناطقة بالفرنسية في كندا جعلت استعمال اللغة الفرنسية فقط في الكتابة أمرا إجباريا في كل شؤون الحياة في تلك المقاطعة وفقا لقانون 101 للسياسة اللغوية في كيباك . فاللافتات في الشوارع وغيرها تُكتب بالفرنسية فقط. مثلا، تُمنَع كتابةُ ُ كلمة ( وقوف) باللغة الانكليزية (سطوب) في الشوارع والطرقات وتُكتب هذه الكلمة بالفرنسية فقط (أراي Arrêt).
فقوانين السياسة اللغوية في هذه المقاطعة الكندية تُطبَّق بقوة الامتثال اللغوي الكامل لبنود ميثاق ذلك القانون الأمر الذي جعل معظم السكان الناطقين بالفرنسية يعتزون أكثر بالهوية الكيباكية من الهوية الكندية.
فقدان الحجر اللغوي = انتساب مغشوش للفرنكفونية
لشرح الانتساب الصحيح للفرنكفونية أكثر، نطرح فكرة لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم على الأقل : الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية في الحديث والكتابة، من جهة أخرى. يمكن تطبيق هذه الفكرة على نظام التعليم التونسي. لقد تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- تدريس المواد بلغتين هما العربية/ اللغة الوطنية والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- تدريس كل المواد بلغة واحدة هي اللغة العربية في تلك المراحل الثلاث. . تشير الملاحظات الميدانية أن خريجي هذا النوع الأخير(2) من التدريس يحترمون ويستعملون اللغة العربية ويدافعون عنها أكثر من نظرائهم الذين درسوا ويدرسون المواد باللغتين (العربية والفرنسية). وهكذا يؤهل الحجر اللغوي في نظام التعليم المعرب (2) خريجه للانضمام إلى الفرنكفونية بطريقة مستقلة منبثقة من كامل السيادة اللغوية المتمثلة في اعتبار اللغة العربية لغة وطنية واللغة الفرنسية مجرد رابط تفتح على الشعوب الناطقة بها بالكامل أو جزئيا.
بورقيبة وارتباك الهوية العربية
فالرئيس الحبيب بورقيبة هو مؤسس منظمة الفرنكفونية صحبة الرئيس السنغالي ليبول سيدار سنغور. فتحمس بورقيبة لتأسيس هذه المنظمة يفسره تعليمه في تونس الفاقد للحجر اللغوي( لصالح اللغة العربية) في المدرسة الصادقية وغيرها حيث تُدرَّس جميعُ المواد باللغة الفرنسية في نظام التعليم المشار إليه سابقا باعتباره نظام تعليم يهيئ خريجيه للتعاطف أكثر مع اللغة الفرنسية منها مع اللغة العربية/الوطنية بسبب غياب نظام الحجر اللغوي المعرَّب الذي يجعل خريجه أكثر تحمسا نفسيا واستعمالا للغة العربية. وهكذا، يتجلى أن قرار الرئيس بورقيبة تأسيس منظمة الفرنكفونية فاقد للمشروعية اللغوية الوطنية لأنه لم يكن متحمسا في المقام الأول لصالح تنظيم البيت اللغوي الداخلي بالحرص على تطوير استعمال اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية الوحيدة حسب الدستور. فقد كان يلوم السيد محمد مزالي على تبنيه سياسة التعريب. ففقدان الرئيس بورقيبة للحجر اللغوي جعله ضعيف الوطنية اللغوية كبقية معظم خريجي نظام التعليم قبل الاستقلال وبعيده. ونظرا للعلاقة المتينة بين اللغات وهويات الشعوب ، كما رأينا في كيباك، فإن نظام التعليم لابد أن يحدث ضررا وارتباكا في الانتساب إلى الهوية العربية لدى كثير من التونسيات والتونسيين على الأقل. ومن ثم، فكذب على العلم الادعاء أن الهوية العربية الإسلامية بخير عند جميع الشعب التونسي.
الإعاقة اللغوية النفسية
لا تقتصر آثارُ فقدان الحجر اللغوي على إعاقة اللغة العربية في المجتمع التونسي على الجانب الشفوي والكتابي فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقة المواطنات والمواطنين بلغتهم بحيث تصبح مكانة هذه الأخيرة عندهم ليست هي المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم.فتراهم في كثير من الحالات غير مرتاحين نفسيا في استعمالها على المستويين الشفوي والكتابي.ومن ثم، طالما يقترن هذا الوضع بسلوكيات فردية وجماعية تعبر على الشعور بمركب النقص إزاء استعمال اللغات الوطنية مما يؤدي إلى ضعف الغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. فكل تلك المعالم السلوكية إزاء اللغة الوطنية/العربية تشير إلى وجود أعراض إعاقة نفسية عند أهلها الناطقين بها، وهو ما نسميه إعاقة التعريب النفسي بالنسبة لمن يعتبرون اللغة العربية لغة وطنية أو لغة الأم. فخبراء اللغة العربية المكلفون بإرساء خطة لتحسين وضع اللغة العربية في المجتمع التونسي مطالبون بتجاوز المنظور التقليدي التربوي لتعلّم اللغة العربية وتبني بدل ذلك سياسة لغوية كاملة تشمل الجوانب النفسية والاجتماعية التي تعمل لصالح تعلم ومعرفة اللغة العربية واستعمالها لا إلى إعاقة تعلمها ومعرفتها واستعمالها.
تعلّمُ اللغة في الصغر كالنقش في الحجر
فتعلم لغة المجتمع واستعمالها وحدها في الصغر وفي مرحلة الشباب المبكر يشبهان النقش في الحجر، أي أنهما يُكسبان اللغة الوطنية المناعة المتينة و القوية ضد انتشار فيروس اللغات الأجنبية في الاستعمال في الحديث والكتابة في المجتمع. فبسبب فقدان الحجر اللغوي في نظام التعليم تسير السياسة اللغوية للبلاد التونسية في الماضي والحاضر في الاتجاه المعاكس: يتعلم الأطفال التونسيون اليوم في الروضات اللغة الفرنسية وغيرها ويدرسونها في المراحل اللاحقة أسبوعيا لمدة ثماني ساعات بينما يدرسون اللغة العربية/الوطنية لمدة ست ساعات في الأسبوع، ثم يدرسون العلوم بالفرنسية فقط في مرحلة التعليم الثانوي. يفيد التحليل العلمي للموضوع أنه شبه مستحيل أن تكون علاقة معظم خريجي هذا التعليم سليمة مع لغتهم الوطنية/العربية ( أي يستعملونها ويعتزون بها ويدافعون عنها في المقام الأول قبل أي لغة أجنبية أخرى). فأغلبية خريجي المدارس التونسية بعد الاستقلال شاهدة بقوة على ذلك. تتمثل العلاقة السليمة مع اللغات الوطنية أو لغات الأم في استعمال أي منهما فقط شفويا وكتابيا في كل شيء. فالمجتمعات الأوروبية، مثلا، تُدرّس جميعَ المواد العلمية وغيرها بلغاتها الوطنية حتى نهاية مرحلة التعليم الثانوي على الأقل. أي أن طبيعة الأشياء تنادي بصوت عال باستعمال لغة الأم أو اللغة الوطنية وأن استعمال غيرهما أمر غير طبيعي:أي أنه عبارة عن إقامة علاقة غير سليمة مع اللغة الوطنية أو لغة الأم. وبالتالي، يمكن اعتباره سلوك غش نحوها و أيضا بالنسبة للوطنية اللغوية العربية والهوية العربية نفسهما بالذات. لقد أكد المفكرون في الشأن اللغوي على الخصوص أن الحضور الطبيعي في الاستعمال الشفوي والكتابي الكاملين للغات الشعوب بين أهلها هو أفضل ضامن لحماية حدودها وهوياتها من الجبال والغابات والأنهار والبحار.
* عالم الاجتماع
بقلم: د.محمود الذوادي(*)
مفهوم التأهل الصحيح للفرنكوفونية
اللغة العربية هي اللغة الوطنية للمجتمع التونسي مثلها مثل اللغة الفرنسية التي هي اللغة الوطنية في كل من فرنسا ومقاطعة كيباك في كندا. هناك قوانين صارمة في فرنسا وكيباك لحماية اللغة الفرنسية وجعلها ذات المكانة الأولى في المجتمعين وبين الموطنين. ومن ثم، فانتساب فرنسا وكيباك إلى منظومة الفرنكوفونية أمر مشروع للغاية. من جهة أخرى،فاللغة العربية هي اللغة الوطنية الوحيدة في المجتمع التونسي. وبالتالي، يجب أن تحظى بالاحترام الشامل قبل أي لغة أخرى من طرف مواطني هذا المجتمع، أي أن الانتساب إلى منظمة الفرنكوفونية لا ينبغي أن يفسد علاقة هذا المجتمع مع اللغة العربية/الوطنية ومنه مع الهوية العربية. إذن ، فالتأهل الصحيح للانضمام لتلك المنظمة لا يجب أن يفسد علاقة الود الكامل مع كل من اللغة الوطنية والهوية العربية ، كما سنرى عكس ذلك في المجتمع التونسي 'المستقل'.
الوطنية اللغوية في كيباك
لا تكاد تُحصى أمثلةُ المجتمعات المتقدمة التي تُستعمل فيها اللغات الوطنية أو لغات الأم وحدها في كل شيء. على سبيل المثال، فالوطنية اللغوية في مقاطعة كيباك الناطقة بالفرنسية في كندا جعلت استعمال اللغة الفرنسية فقط في الكتابة أمرا إجباريا في كل شؤون الحياة في تلك المقاطعة وفقا لقانون 101 للسياسة اللغوية في كيباك . فاللافتات في الشوارع وغيرها تُكتب بالفرنسية فقط. مثلا، تُمنَع كتابةُ ُ كلمة ( وقوف) باللغة الانكليزية (سطوب) في الشوارع والطرقات وتُكتب هذه الكلمة بالفرنسية فقط (أراي Arrêt).
فقوانين السياسة اللغوية في هذه المقاطعة الكندية تُطبَّق بقوة الامتثال اللغوي الكامل لبنود ميثاق ذلك القانون الأمر الذي جعل معظم السكان الناطقين بالفرنسية يعتزون أكثر بالهوية الكيباكية من الهوية الكندية.
فقدان الحجر اللغوي = انتساب مغشوش للفرنكفونية
لشرح الانتساب الصحيح للفرنكفونية أكثر، نطرح فكرة لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم على الأقل : الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية في الحديث والكتابة، من جهة أخرى. يمكن تطبيق هذه الفكرة على نظام التعليم التونسي. لقد تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- تدريس المواد بلغتين هما العربية/ اللغة الوطنية والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- تدريس كل المواد بلغة واحدة هي اللغة العربية في تلك المراحل الثلاث. . تشير الملاحظات الميدانية أن خريجي هذا النوع الأخير(2) من التدريس يحترمون ويستعملون اللغة العربية ويدافعون عنها أكثر من نظرائهم الذين درسوا ويدرسون المواد باللغتين (العربية والفرنسية). وهكذا يؤهل الحجر اللغوي في نظام التعليم المعرب (2) خريجه للانضمام إلى الفرنكفونية بطريقة مستقلة منبثقة من كامل السيادة اللغوية المتمثلة في اعتبار اللغة العربية لغة وطنية واللغة الفرنسية مجرد رابط تفتح على الشعوب الناطقة بها بالكامل أو جزئيا.
بورقيبة وارتباك الهوية العربية
فالرئيس الحبيب بورقيبة هو مؤسس منظمة الفرنكفونية صحبة الرئيس السنغالي ليبول سيدار سنغور. فتحمس بورقيبة لتأسيس هذه المنظمة يفسره تعليمه في تونس الفاقد للحجر اللغوي( لصالح اللغة العربية) في المدرسة الصادقية وغيرها حيث تُدرَّس جميعُ المواد باللغة الفرنسية في نظام التعليم المشار إليه سابقا باعتباره نظام تعليم يهيئ خريجيه للتعاطف أكثر مع اللغة الفرنسية منها مع اللغة العربية/الوطنية بسبب غياب نظام الحجر اللغوي المعرَّب الذي يجعل خريجه أكثر تحمسا نفسيا واستعمالا للغة العربية. وهكذا، يتجلى أن قرار الرئيس بورقيبة تأسيس منظمة الفرنكفونية فاقد للمشروعية اللغوية الوطنية لأنه لم يكن متحمسا في المقام الأول لصالح تنظيم البيت اللغوي الداخلي بالحرص على تطوير استعمال اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية الوحيدة حسب الدستور. فقد كان يلوم السيد محمد مزالي على تبنيه سياسة التعريب. ففقدان الرئيس بورقيبة للحجر اللغوي جعله ضعيف الوطنية اللغوية كبقية معظم خريجي نظام التعليم قبل الاستقلال وبعيده. ونظرا للعلاقة المتينة بين اللغات وهويات الشعوب ، كما رأينا في كيباك، فإن نظام التعليم لابد أن يحدث ضررا وارتباكا في الانتساب إلى الهوية العربية لدى كثير من التونسيات والتونسيين على الأقل. ومن ثم، فكذب على العلم الادعاء أن الهوية العربية الإسلامية بخير عند جميع الشعب التونسي.
الإعاقة اللغوية النفسية
لا تقتصر آثارُ فقدان الحجر اللغوي على إعاقة اللغة العربية في المجتمع التونسي على الجانب الشفوي والكتابي فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقة المواطنات والمواطنين بلغتهم بحيث تصبح مكانة هذه الأخيرة عندهم ليست هي المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم.فتراهم في كثير من الحالات غير مرتاحين نفسيا في استعمالها على المستويين الشفوي والكتابي.ومن ثم، طالما يقترن هذا الوضع بسلوكيات فردية وجماعية تعبر على الشعور بمركب النقص إزاء استعمال اللغات الوطنية مما يؤدي إلى ضعف الغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. فكل تلك المعالم السلوكية إزاء اللغة الوطنية/العربية تشير إلى وجود أعراض إعاقة نفسية عند أهلها الناطقين بها، وهو ما نسميه إعاقة التعريب النفسي بالنسبة لمن يعتبرون اللغة العربية لغة وطنية أو لغة الأم. فخبراء اللغة العربية المكلفون بإرساء خطة لتحسين وضع اللغة العربية في المجتمع التونسي مطالبون بتجاوز المنظور التقليدي التربوي لتعلّم اللغة العربية وتبني بدل ذلك سياسة لغوية كاملة تشمل الجوانب النفسية والاجتماعية التي تعمل لصالح تعلم ومعرفة اللغة العربية واستعمالها لا إلى إعاقة تعلمها ومعرفتها واستعمالها.
تعلّمُ اللغة في الصغر كالنقش في الحجر
فتعلم لغة المجتمع واستعمالها وحدها في الصغر وفي مرحلة الشباب المبكر يشبهان النقش في الحجر، أي أنهما يُكسبان اللغة الوطنية المناعة المتينة و القوية ضد انتشار فيروس اللغات الأجنبية في الاستعمال في الحديث والكتابة في المجتمع. فبسبب فقدان الحجر اللغوي في نظام التعليم تسير السياسة اللغوية للبلاد التونسية في الماضي والحاضر في الاتجاه المعاكس: يتعلم الأطفال التونسيون اليوم في الروضات اللغة الفرنسية وغيرها ويدرسونها في المراحل اللاحقة أسبوعيا لمدة ثماني ساعات بينما يدرسون اللغة العربية/الوطنية لمدة ست ساعات في الأسبوع، ثم يدرسون العلوم بالفرنسية فقط في مرحلة التعليم الثانوي. يفيد التحليل العلمي للموضوع أنه شبه مستحيل أن تكون علاقة معظم خريجي هذا التعليم سليمة مع لغتهم الوطنية/العربية ( أي يستعملونها ويعتزون بها ويدافعون عنها في المقام الأول قبل أي لغة أجنبية أخرى). فأغلبية خريجي المدارس التونسية بعد الاستقلال شاهدة بقوة على ذلك. تتمثل العلاقة السليمة مع اللغات الوطنية أو لغات الأم في استعمال أي منهما فقط شفويا وكتابيا في كل شيء. فالمجتمعات الأوروبية، مثلا، تُدرّس جميعَ المواد العلمية وغيرها بلغاتها الوطنية حتى نهاية مرحلة التعليم الثانوي على الأقل. أي أن طبيعة الأشياء تنادي بصوت عال باستعمال لغة الأم أو اللغة الوطنية وأن استعمال غيرهما أمر غير طبيعي:أي أنه عبارة عن إقامة علاقة غير سليمة مع اللغة الوطنية أو لغة الأم. وبالتالي، يمكن اعتباره سلوك غش نحوها و أيضا بالنسبة للوطنية اللغوية العربية والهوية العربية نفسهما بالذات. لقد أكد المفكرون في الشأن اللغوي على الخصوص أن الحضور الطبيعي في الاستعمال الشفوي والكتابي الكاملين للغات الشعوب بين أهلها هو أفضل ضامن لحماية حدودها وهوياتها من الجبال والغابات والأنهار والبحار.