قراءة أوليّة في نص الدستور المُقترح للاستفتاء، الذي ستصل تكلفته إلى حوالي 50 مليارا حسب رئيس هيئة الانتخابات، يُمكن أن نستنتج منها بكل وضوح أن هذا النص هو دستور الرئيس قيس سعيّد. فالتوطئة وحدها تُذكّر في العديد من الجمل بالخطب التي يُلقيها علينا من حين لآخر، من حيث الأسلوب ومن حيث المضمون. ناهيك أن ارتباط الثورة بتاريخ 17 ديسمبر، وهو ارتباط لم أسمع بمن قام به من التونسيين غير الرئيس سعيّد، مذكور في ثلاث مناسبات في التوطئة التي لا تزيد عن الصفحة ونصف، وكذلك التنصيص في مناسبتين على تاريخ 25 جويلية، تاريخ "حركة التصحيح"، والإشارة إلى "الاستشارة الوطنية" التي نظّمها الرئيس، وإلى "المجلس الوطني للجهات والأقاليم" الذي يُحيل على "البناء القاعدي" الذي يدعو إليه الرئيس...وهي أيضا تعبيرات عن تطابق رؤية الرئيس مع الدستور المُقترح، نصّا وروحا. أما عن السّلطة التي يضمنها النص إلى رئيس الجمهورية، فحدّث ولا حرج. ويكفي الانتباه إلى أن عبارة "رئيس الجمهورية" ذُكرت 70 مرة في نص الدستور، منها 16 مرّة في باب "الوظيفة التشريعيّة"!
وما يهمنا اليوم هو نزع صفة المدنية عن الدولة التونسية. وهي الصفة التي كانت تُميّز دستور 2014 وتُمثّل أهمّ مكسب للتونسيين. ومدنية الدولة التي خطونا بعض الخطوات الإيجابية في اتّجاهها قبل الاستقلال وبعده، وناضل من أجلها ومن أجل دعمها عديد المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، ها نحن نفقدها في دستور 2022، وكأنّ عجلة التاريخ أخذت تدور نحو الوراء.
وإذا اقتصر الأمر على نسيان مدنية الدولة، أو تناسيها، لهانت المسألة. لكنّ المُتمعّن في مختلف فصول هذا الدستور يلاحظ بأننا خطونا خطوات كبيرة وسريعة وخطيرة في الاتّجاه المعاكس لمدنية الدولة.
فالفصل الخامس من الدستور المُقترح يُمثّل قنبلة موقوتة لما يتضمّنه من قراءات وتأويلات وامكانيات التطبيق المُتعدّدة، كل واحدة منها أخطر من الأخرى.
يبدأ الفصل الخامس بعبارة "تونس جزء من الأمّة الإسلامية". وهو تعبير يُحيلنا مباشرة إلى دولة الخلافة التي تفقد دولتنا التونسية فيها سيادتها لتُصبح في مرحلة قادمة مجرّد ولاية أو إمارة إلى جانب طالبان وداعش والحوثيين. وما علينا الآن إلّا أن نترحّم على "الإسلام دينها"، تلك العبارة التي تتناقض مع مبدأ مدنية الدولة، إلّا أنها لا تنفي على الدولة كيانها وسيادتها باستقلال تام عن مجموعة إمارات أخرى.
ويُضيف الفصل الخامس: "على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف". فبالإضافة إلى أن هذا التعبير ينفي وجود غير المسلمين في تونس وتنزع عنهم صفة المواطنين، فإن عبارة "مقاصد" هي عبارة فضفاضة وحمّالة لعديد القراءات والتأويلات حسب "اجتهادات الفقهاء"، وهي "اجتهادات" يُمكن أن تنسف كل المكاسب الحداثية والتقدمية التي حقّقها التونسيات والتونسيون طيلة العقود الماضية، بل يُمكن أن تتقهقر بواسطتها حقوق خلنا أنه كان من المستحيل التراجع عنها.
ودائما بخصوص الفصل الخامس، فإن تحقيق مقاصد الإسلام التي "تُعنى بالحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية" فيه إحالة واضحة إلى أدبيات ابن تيمية وابن قيّم الجوزية التي تعود إلى القرن الثامن هجري وكما عرّفها الشاطبي في كتاب "الموافقات في أصول الشريعة". ولسنا ندري ما دخل الدولة مثلا من "حفظ العرض"؟ هل يعني ذلك أن الدولة ستتدخّل في الحياة الخاصّة جدا للتونسيات والتونسيين وسنعود إلى القصاص والحدود والجلد؟ ثم ما هي مقاصد الإسلام بخصوص "الحرية"، والحال أن كلمة "الحرية" لا وجود لأيّ أثر لها في القرآن، ما عدا التعرّض إلى تحرير العبيد في بعض الحالات؟ كما أن "حفظ العرض" من طرف الدولة يُؤكّده أيضا الفصل 55 الذي ينصّ على أن القيود على الحقوق والحريات "لا تُوضع إلّا (...) لحماية الآداب العامّة". و"حماية الآداب العامة" تكون عادة من مشمولات هيئات "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر"، عافانا الله. ولنا أن نتساءل هل أن عدم ارتداء اللباس الأفغاني للرجال والحجاب للنساء، مثلا، يُعتبران تعدّيا على الآداب العامّة؟
من ناحية أخرى، تُوجد العديد من التناقضات بخصوص مدنية الدولة وبخصوص الحقوق بصفة خاصّة، من ذلك أن الدولة تضمن "حرية المعتقد وحرية الضمير"، وأن "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والحريات وهم سواء أمام القانون"، وذلك في ظل دولة "الأمة الإسلامية" التي تكون قوانينها مطابقة لمقاصد الإسلام. والدليل على أن تلك القوانين غير عادلة، فإن هذه المساواة تم الحرص على التنصيص عليها "أمام القانون" وليس "في القانون"، أي أن القوانين التي لا تضمن المساواة الحقيقية تبقى هي المعمول بها ولا شيء يدلّ على أنها ستتغيّر.
ومن المظاهر الأخرى بخصوص التناقض حول عدم المساواة، لابدّ من الإشارة أيضا إلى الفصل 51 الذي ينصّ على أن "الدولة تضمن تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات"، ونجد من ناحية أخرى في الفصلين 88 و89 أن "رئيس الجمهورية (...) دينه الإسلام" وأن "الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل تونسي...". وفي ذلك استبعاد للتونسيات، واستبعاد لغير المسلمين من رئاسة الجمهورية. فالمرأة وغير المسلم ليس لهما في واقع الأمر، حسب هذا الدستور، نفس حقوق الرجل المسلم.
(*) رئيس المرصد الوطني للدفاع عن الدولة المدنية
بقلم: منير الشرفي(*)
قراءة أوليّة في نص الدستور المُقترح للاستفتاء، الذي ستصل تكلفته إلى حوالي 50 مليارا حسب رئيس هيئة الانتخابات، يُمكن أن نستنتج منها بكل وضوح أن هذا النص هو دستور الرئيس قيس سعيّد. فالتوطئة وحدها تُذكّر في العديد من الجمل بالخطب التي يُلقيها علينا من حين لآخر، من حيث الأسلوب ومن حيث المضمون. ناهيك أن ارتباط الثورة بتاريخ 17 ديسمبر، وهو ارتباط لم أسمع بمن قام به من التونسيين غير الرئيس سعيّد، مذكور في ثلاث مناسبات في التوطئة التي لا تزيد عن الصفحة ونصف، وكذلك التنصيص في مناسبتين على تاريخ 25 جويلية، تاريخ "حركة التصحيح"، والإشارة إلى "الاستشارة الوطنية" التي نظّمها الرئيس، وإلى "المجلس الوطني للجهات والأقاليم" الذي يُحيل على "البناء القاعدي" الذي يدعو إليه الرئيس...وهي أيضا تعبيرات عن تطابق رؤية الرئيس مع الدستور المُقترح، نصّا وروحا. أما عن السّلطة التي يضمنها النص إلى رئيس الجمهورية، فحدّث ولا حرج. ويكفي الانتباه إلى أن عبارة "رئيس الجمهورية" ذُكرت 70 مرة في نص الدستور، منها 16 مرّة في باب "الوظيفة التشريعيّة"!
وما يهمنا اليوم هو نزع صفة المدنية عن الدولة التونسية. وهي الصفة التي كانت تُميّز دستور 2014 وتُمثّل أهمّ مكسب للتونسيين. ومدنية الدولة التي خطونا بعض الخطوات الإيجابية في اتّجاهها قبل الاستقلال وبعده، وناضل من أجلها ومن أجل دعمها عديد المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، ها نحن نفقدها في دستور 2022، وكأنّ عجلة التاريخ أخذت تدور نحو الوراء.
وإذا اقتصر الأمر على نسيان مدنية الدولة، أو تناسيها، لهانت المسألة. لكنّ المُتمعّن في مختلف فصول هذا الدستور يلاحظ بأننا خطونا خطوات كبيرة وسريعة وخطيرة في الاتّجاه المعاكس لمدنية الدولة.
فالفصل الخامس من الدستور المُقترح يُمثّل قنبلة موقوتة لما يتضمّنه من قراءات وتأويلات وامكانيات التطبيق المُتعدّدة، كل واحدة منها أخطر من الأخرى.
يبدأ الفصل الخامس بعبارة "تونس جزء من الأمّة الإسلامية". وهو تعبير يُحيلنا مباشرة إلى دولة الخلافة التي تفقد دولتنا التونسية فيها سيادتها لتُصبح في مرحلة قادمة مجرّد ولاية أو إمارة إلى جانب طالبان وداعش والحوثيين. وما علينا الآن إلّا أن نترحّم على "الإسلام دينها"، تلك العبارة التي تتناقض مع مبدأ مدنية الدولة، إلّا أنها لا تنفي على الدولة كيانها وسيادتها باستقلال تام عن مجموعة إمارات أخرى.
ويُضيف الفصل الخامس: "على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف". فبالإضافة إلى أن هذا التعبير ينفي وجود غير المسلمين في تونس وتنزع عنهم صفة المواطنين، فإن عبارة "مقاصد" هي عبارة فضفاضة وحمّالة لعديد القراءات والتأويلات حسب "اجتهادات الفقهاء"، وهي "اجتهادات" يُمكن أن تنسف كل المكاسب الحداثية والتقدمية التي حقّقها التونسيات والتونسيون طيلة العقود الماضية، بل يُمكن أن تتقهقر بواسطتها حقوق خلنا أنه كان من المستحيل التراجع عنها.
ودائما بخصوص الفصل الخامس، فإن تحقيق مقاصد الإسلام التي "تُعنى بالحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية" فيه إحالة واضحة إلى أدبيات ابن تيمية وابن قيّم الجوزية التي تعود إلى القرن الثامن هجري وكما عرّفها الشاطبي في كتاب "الموافقات في أصول الشريعة". ولسنا ندري ما دخل الدولة مثلا من "حفظ العرض"؟ هل يعني ذلك أن الدولة ستتدخّل في الحياة الخاصّة جدا للتونسيات والتونسيين وسنعود إلى القصاص والحدود والجلد؟ ثم ما هي مقاصد الإسلام بخصوص "الحرية"، والحال أن كلمة "الحرية" لا وجود لأيّ أثر لها في القرآن، ما عدا التعرّض إلى تحرير العبيد في بعض الحالات؟ كما أن "حفظ العرض" من طرف الدولة يُؤكّده أيضا الفصل 55 الذي ينصّ على أن القيود على الحقوق والحريات "لا تُوضع إلّا (...) لحماية الآداب العامّة". و"حماية الآداب العامة" تكون عادة من مشمولات هيئات "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر"، عافانا الله. ولنا أن نتساءل هل أن عدم ارتداء اللباس الأفغاني للرجال والحجاب للنساء، مثلا، يُعتبران تعدّيا على الآداب العامّة؟
من ناحية أخرى، تُوجد العديد من التناقضات بخصوص مدنية الدولة وبخصوص الحقوق بصفة خاصّة، من ذلك أن الدولة تضمن "حرية المعتقد وحرية الضمير"، وأن "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والحريات وهم سواء أمام القانون"، وذلك في ظل دولة "الأمة الإسلامية" التي تكون قوانينها مطابقة لمقاصد الإسلام. والدليل على أن تلك القوانين غير عادلة، فإن هذه المساواة تم الحرص على التنصيص عليها "أمام القانون" وليس "في القانون"، أي أن القوانين التي لا تضمن المساواة الحقيقية تبقى هي المعمول بها ولا شيء يدلّ على أنها ستتغيّر.
ومن المظاهر الأخرى بخصوص التناقض حول عدم المساواة، لابدّ من الإشارة أيضا إلى الفصل 51 الذي ينصّ على أن "الدولة تضمن تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات"، ونجد من ناحية أخرى في الفصلين 88 و89 أن "رئيس الجمهورية (...) دينه الإسلام" وأن "الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل تونسي...". وفي ذلك استبعاد للتونسيات، واستبعاد لغير المسلمين من رئاسة الجمهورية. فالمرأة وغير المسلم ليس لهما في واقع الأمر، حسب هذا الدستور، نفس حقوق الرجل المسلم.