إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: تونس في " متاهة الدساتير" وأهمية دستور قرطاج

 

 

بقلم: هشام الحاجي

لا يثير مشروع الدستور الجديد الذي سيطرحه الرئيس التونسي على الاستفتاء الشعبي موفى جويلية القادم الكثير من الاهتمام ولا يغذي امالا كبرى لأن كيفية اعداده المتسرعة والفوقية والتي لا تخلو من غموض تثير مخاوف تنمّيها تصريحات رئيس اللجنة المشرفة على عملية الصياغة الصادق بلعيد التي لا تبعث على الاطمئنان. وتضاف تجربة صياغة دستور "قيس سعيد" إلى تجربة دستور 2014 الذي كان وليد نقاش واسع ولكنه موجه لأن أهدافا خفية تحكمت فيه من أهمها عدم تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني وفرض منطق " الرئاسات الثلاث" الذي يحبذه "الراعي الأمريكي" لأنه ينقل الدول العربية من دول عاجزة ومتخلفة إلى دول مفككة وفاشلة وهو ما يجسده عراق ما بعد الغزو الأمريكي ولبنان الذي يواجه الضغوط الأمريكية. دستور 2014 قادته رغبة حركة النهضة في تفكيك أسس ودعائم دولة الاستقلال وفي وضع اليد على أجهزة الدولة. ولا يبدو الدستور المنتظر أوفر حظا في ما يتعلق بالرغبة في تحويل اللحظة الراهنة إلى "مشروع أبدي رغم غياب الحد الأدنى من مقومات الاستمرارية والتواصل. وحتى دستور الجمهورية الأولى الذي وقع وضعه سنة 1959 فقد تحول ، بعد سنوات من إعلانه، إلى معيق لتطور الحياة السياسية خاصة بعد أن وقع اخضاعه لرغبات الحبيب بورقيبة في البقاء في السلطة مدى الحياة . يمكن القول أن الفكر السياسي التونسي يعيش على وقع مفارقة تتمثل في أن "الشغف بالدساتير" و"عراقة التجربة الدستورية " في تونس لم يحل دون أن تكون الدساتير حاملة في ذاتها لاسباب فقدان دورها و" مشروعيتها. في العصر الحديث كانت تونس سبّاقة ، في محيطها العربي- الإسلامي، في وضع دستور لتنظيم العلاقة بين السلطة و" الرعايا" بما شكّل انبثاقا جنينيا لمفهوم "المواطنة" لانه كان اول نص يمنح السكان حقوقهم الأساسية في الامن على أرواحهم واملاكهم واعراضهم .ولكن "عهد الأمان" الذي وقع إعلانه يوم 10 سبتمبر 1957 لم يصمد طويلا و كان إعلانه في سياق فساد سياسي و أزمة اقتصادية حادة سببا من أسباب عدم قدرته ، رغم مضمونه الايجابي، على أن يعيش طويلا خاصة وان مضاعفة ضريبة المجبى سنة 1864 كانت وراء ثورة شعبية عارمة و أوجدت في الوجدان الشعبي ارتباطا بين "عهد الأمان" وتفقير الشعب وهو ما جعل من الغاء العمل به مطلبا شعبيا. هناك عبر تاريخ تونس الحديث ظاهرة " سطو اللصوص "على" أعلى النصوص". هناك من همّش الدستور للسطو على السلطة ومن وظّفه لوضع اليد على الثروات . وهناك ظاهرة لم ينج منها الاّ دستور 1959 وتتمثل في حضور واضح لضغوط أجنبية لفرض فصول معينة وحتى دستور الجمهورية الثالثة المنتظر فإنه من الصعب الاقتناع أن الغاء أسس " الدولة الراعية " بعيد عن محاولة ارضاء صندوق النقد الدولي.

ولا شك أن القراءة النصية ، التي تركز فقط على الجوانب القانونية، غالبا ما تعجز عن تحديد أسباب عدم الاستقرار الدستوري الذي تعيشه تونس والذي يمكن ارجاعه إلى محددات سوسيولوجية وانثروبولوجية . من اهم المحددات في هذا المجال طغيان منطق البداوة بما تحيل إليه من علاقة عدم استقرار مع الزمان والمكان على منطق التمدّن الذي يؤمن بالاستمرارية و باهمية المؤسسات . و يضاف إلى ذلك أن أغلب دساتير تونس وضعت في سياق علاقات تبعية مع الخارج وهو ما جعلها لا تعكس بشكل كامل رؤية الشعب التونسي وخاصة ما يحرّكه من نزوع إلى لعب دور يتجاوز حدود تونس. يبدو الجذر الكنعاني المغيّب وراء هذا النزوع وهو ما يجعل الأزمة الحالية تتساوق مع استعادة لحظة قرطاج بوصفها لحظة تأسيس تحيل إلى دولة لعبت دورا هاما في المتوسط وافريقيا وإلى ارتباط وثيق بالمشرق العربي في فلسطين ولبنان وسورية والجانب الشرقي من العراق. ورغم أنها كانت دولة مترامية الأطراف فإن قرطاج لم تكن مسكونة بالهاجس الامبراطوري الذي يؤدي إلى الاستعمار وإخضاع الشعوب بل كان في سلوك قادتها ميل إلى تكريس الحوار والتعاون بين الثقافات والشعوب .وقد يبدو هذا الاستطراد غير ذي علاقة مع الحديث عن " المتاهة الدستورية " التي تعيشها تونس ولكن لا يمكن فصل اشعاع قرطاج عن دستورها الذي اعتبره الفيلسوف أرسطو من أفضل دساتير عصره والذي كرّس مبادئ نحتاجها كالتداول على السلطة واعتماد الكفاءة معيارا لاختيار من يمثل الشعب و يخدمه إلى جانب مجالس واضحة وبمهام محددة علاوة على ظهور ما يوازي المنتديات الثقافية والمنظمات المهنية والشعبية في عصرنا الحالي. يمكن لاستعادة لحظة قرطاج و منحها بعدا مستقبليا ان يساهم في تجاوز تونس للكثير من ازماتها السياسية والثقافية و" الانتروبولوجية" الخانقة وأن يساهم في تعميق الجذور اللامرئية والفاعلة بين تونس وأحفاد الكنعانيين في المشرق.

 

 

منتدى الصباح: تونس في " متاهة الدساتير" وأهمية دستور قرطاج

 

 

بقلم: هشام الحاجي

لا يثير مشروع الدستور الجديد الذي سيطرحه الرئيس التونسي على الاستفتاء الشعبي موفى جويلية القادم الكثير من الاهتمام ولا يغذي امالا كبرى لأن كيفية اعداده المتسرعة والفوقية والتي لا تخلو من غموض تثير مخاوف تنمّيها تصريحات رئيس اللجنة المشرفة على عملية الصياغة الصادق بلعيد التي لا تبعث على الاطمئنان. وتضاف تجربة صياغة دستور "قيس سعيد" إلى تجربة دستور 2014 الذي كان وليد نقاش واسع ولكنه موجه لأن أهدافا خفية تحكمت فيه من أهمها عدم تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني وفرض منطق " الرئاسات الثلاث" الذي يحبذه "الراعي الأمريكي" لأنه ينقل الدول العربية من دول عاجزة ومتخلفة إلى دول مفككة وفاشلة وهو ما يجسده عراق ما بعد الغزو الأمريكي ولبنان الذي يواجه الضغوط الأمريكية. دستور 2014 قادته رغبة حركة النهضة في تفكيك أسس ودعائم دولة الاستقلال وفي وضع اليد على أجهزة الدولة. ولا يبدو الدستور المنتظر أوفر حظا في ما يتعلق بالرغبة في تحويل اللحظة الراهنة إلى "مشروع أبدي رغم غياب الحد الأدنى من مقومات الاستمرارية والتواصل. وحتى دستور الجمهورية الأولى الذي وقع وضعه سنة 1959 فقد تحول ، بعد سنوات من إعلانه، إلى معيق لتطور الحياة السياسية خاصة بعد أن وقع اخضاعه لرغبات الحبيب بورقيبة في البقاء في السلطة مدى الحياة . يمكن القول أن الفكر السياسي التونسي يعيش على وقع مفارقة تتمثل في أن "الشغف بالدساتير" و"عراقة التجربة الدستورية " في تونس لم يحل دون أن تكون الدساتير حاملة في ذاتها لاسباب فقدان دورها و" مشروعيتها. في العصر الحديث كانت تونس سبّاقة ، في محيطها العربي- الإسلامي، في وضع دستور لتنظيم العلاقة بين السلطة و" الرعايا" بما شكّل انبثاقا جنينيا لمفهوم "المواطنة" لانه كان اول نص يمنح السكان حقوقهم الأساسية في الامن على أرواحهم واملاكهم واعراضهم .ولكن "عهد الأمان" الذي وقع إعلانه يوم 10 سبتمبر 1957 لم يصمد طويلا و كان إعلانه في سياق فساد سياسي و أزمة اقتصادية حادة سببا من أسباب عدم قدرته ، رغم مضمونه الايجابي، على أن يعيش طويلا خاصة وان مضاعفة ضريبة المجبى سنة 1864 كانت وراء ثورة شعبية عارمة و أوجدت في الوجدان الشعبي ارتباطا بين "عهد الأمان" وتفقير الشعب وهو ما جعل من الغاء العمل به مطلبا شعبيا. هناك عبر تاريخ تونس الحديث ظاهرة " سطو اللصوص "على" أعلى النصوص". هناك من همّش الدستور للسطو على السلطة ومن وظّفه لوضع اليد على الثروات . وهناك ظاهرة لم ينج منها الاّ دستور 1959 وتتمثل في حضور واضح لضغوط أجنبية لفرض فصول معينة وحتى دستور الجمهورية الثالثة المنتظر فإنه من الصعب الاقتناع أن الغاء أسس " الدولة الراعية " بعيد عن محاولة ارضاء صندوق النقد الدولي.

ولا شك أن القراءة النصية ، التي تركز فقط على الجوانب القانونية، غالبا ما تعجز عن تحديد أسباب عدم الاستقرار الدستوري الذي تعيشه تونس والذي يمكن ارجاعه إلى محددات سوسيولوجية وانثروبولوجية . من اهم المحددات في هذا المجال طغيان منطق البداوة بما تحيل إليه من علاقة عدم استقرار مع الزمان والمكان على منطق التمدّن الذي يؤمن بالاستمرارية و باهمية المؤسسات . و يضاف إلى ذلك أن أغلب دساتير تونس وضعت في سياق علاقات تبعية مع الخارج وهو ما جعلها لا تعكس بشكل كامل رؤية الشعب التونسي وخاصة ما يحرّكه من نزوع إلى لعب دور يتجاوز حدود تونس. يبدو الجذر الكنعاني المغيّب وراء هذا النزوع وهو ما يجعل الأزمة الحالية تتساوق مع استعادة لحظة قرطاج بوصفها لحظة تأسيس تحيل إلى دولة لعبت دورا هاما في المتوسط وافريقيا وإلى ارتباط وثيق بالمشرق العربي في فلسطين ولبنان وسورية والجانب الشرقي من العراق. ورغم أنها كانت دولة مترامية الأطراف فإن قرطاج لم تكن مسكونة بالهاجس الامبراطوري الذي يؤدي إلى الاستعمار وإخضاع الشعوب بل كان في سلوك قادتها ميل إلى تكريس الحوار والتعاون بين الثقافات والشعوب .وقد يبدو هذا الاستطراد غير ذي علاقة مع الحديث عن " المتاهة الدستورية " التي تعيشها تونس ولكن لا يمكن فصل اشعاع قرطاج عن دستورها الذي اعتبره الفيلسوف أرسطو من أفضل دساتير عصره والذي كرّس مبادئ نحتاجها كالتداول على السلطة واعتماد الكفاءة معيارا لاختيار من يمثل الشعب و يخدمه إلى جانب مجالس واضحة وبمهام محددة علاوة على ظهور ما يوازي المنتديات الثقافية والمنظمات المهنية والشعبية في عصرنا الحالي. يمكن لاستعادة لحظة قرطاج و منحها بعدا مستقبليا ان يساهم في تجاوز تونس للكثير من ازماتها السياسية والثقافية و" الانتروبولوجية" الخانقة وأن يساهم في تعميق الجذور اللامرئية والفاعلة بين تونس وأحفاد الكنعانيين في المشرق.